كلمة صريحة فى التصوف , إبراهيم عوض

إنضم
18/03/2005
المشاركات
203
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
[FONT=AF_Quseem][FONT=AF_Quseem]كلمة صريحة فى التصوف[/FONT][/FONT]
[FONT=AF_Quseem][FONT=AF_Quseem]إبراهيم عوض[/FONT][/FONT]
ما معنى التصوف؟ ومن أين اشْتُقَّ هذا المصطلح؟ فأما فى الجواب عن السؤال الأول فيقول مثلا عبد الهادى رضوان نجا الإبيارى فى كتابه: "فن التصوف" (نشرة م. آرنو M. Arnaud, Etude sur le Sufisme, Adolphe Jourdan, Alger, 1888, P. 3- 4) نقلا عن المتصوفة، الذين يسميهم: أهل الحقيقة، إنه "التخلق بأخلاق الصوفية والتوسل بأوصافهم إلى الانتظام فى سلكهم. وقيل: هو الخروج عن كل خُلُقٍ دَنِىّ، والدخول فى كل خلق سَنِىّ. وقال الجنيد: هو أن يميتك الحقُّ عنك ويحيك به. وقال الشيخ قاسم الخانى: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا. وقيل: هو كمال الإنسان بالإسلام والإيمان والإحسان. وقيل: إرسال النفس مع الله على ما يريد. وقيل: التمسك بالفقر والافتقار، والتخقق بالذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار. وقيل: التوجه بالعبادة وطلب الحسنى وزيادة... قال الآلوسى فى "الفيض الوارد": والذى يميل إليه كثير من السادة ما يفهم من هذين البيتين:
تنازع الناس فى الصوفىّ واختلفوا * فيـــه، وظنــوه مشتقا من الصــــوفِ
ولست أمنــح هـــذا الاســم غـير فـتًى * صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِى
وعليه فوجه تسمية السالك بذلك صفاء قلبه وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفة ربه... وقيل: هو العلم الذى يُبْحَث فيه عما يلزم فى التصوف من المقامات والأحوال والمحبة والعشق والفرق والجمع وما أشبه ذلك".
وبشىء من الجهد فى التوفيق بين هذه التعاريف التى لا يخلو بعضها من تهويم، وبعضها الآخر من تخالف، أن نقول إن التصوف، لدى أصحابه، معناه أن يزهد الإنسان فى طيبات الحياة وأن يقبل على الله بقلب سليم مجتهدا بكل قواه فى الابتعاد عن المعاصى والالتزام بالواجبات والفروض الدينية. فأما الاجتهاد فى مرضاة الله بتنفيذ أوامره وتجنب نواهيه فهو أمر طيب لا يمكن أحدا أن يماحك فيه، وهو ما يعنى أن المتصوف هو إنسان مسلم يتمتع بدفء القلب وحرارة الشعور وعمق الإخلاص. ولكن هل الزهد فى طيبات الحياة مطلوب، أو مرحَّب به على الأقل فى الدين؟ أما أنا فلا أظن ذلك، وإلا فلم خلق الله هذه الطيبات؟ ولمن؟ أوقد خلقها للحيوانات مثلا؟ ذلك أن الحيوانات لا تعرف دعوى الافتقار ولا تفكر فيها. أم تراه خلقها سبحانه للكفار دون المؤمنين؟ ولكن هل يعقل هذا؟ ثم أين يمكننا أن نجد مثل ذلك الكلام فى كتاب الله أو فى سنة رسول الله؟ بل هل يقول العقل بهذا؟ ولم يا ترى؟
أفهم أن يقال إن المسلم إذا وجد نفسه فى ظروف مادية صعبة وجب عليه التماسك وعدم الجزع أو مد بصره أو يده للمال الحرام إلى أن تنتهى المحنة، سواء كانت محنة فردية مقصورة عليه كما يحدث لكل منا فى أى وقت لسبب أو لآخر، أو كانت محنة عامة تشمل الأمة أو الشعب كله فى أى ظرف من الظروف الوطنية التى يمكن أن تمر بها الأمة. ففى هذه الحالة يجب على الأمة أن تتماسك وتصبر وتشد الأحزمة على البطون حتى تعبر المأزق بسلام وعزة وكرامة ولا تنهار أو تستسلم للظروف أو للقوى الدولية المعادية التى تريد تركيعها بالحصار أو مصادرة الممتلكات التى لها عندها أو ما إلى ذلك. أما أن يَكْلَف المسلم بالفقر لوجه الفقر، أو كما قيل: بالافتقار، فهذا ما لا أفهمه ولا أظن الله يرضى به. ولقد مر المسلمون الأوائل بظروف صعبة بسبب محاصرة الكفار لهم فى مكة فى شِعْب أبى طالب أو بسبب مصادرتهم أموالهم وبيوتهم بمكة عند الهجرة، وأثبت الصحابة أوانئذ أنهم على قدر المسؤولية والظروف الصعبة التى مرت بها الأمة آنذاك، وأثبت أغنياؤهم أنهم أوفياء لتعاليم دينهم حرصاء على مرضاة ربهم ورسولهم فتبرع كل منهم بقسط كبير من ممتلكاته لإخوانه فى الدين ممن لم يُرْزَقُوا مثله اليسار، وبهذا خرجوا من عنق الزجاجة على أحسن حال، وفى أسرع وقت. إن الغِنَى ليس إثما ينبغى أن يتجنبه المسلم، بل هو نعمة وبركة، لأن الأمم لا يمكن أن تقوى وتَكْرُم وتَعِزّ وتنال احترام الأمم الأخرى إلا إذا كانت غنية. ذلك أن الغنى ليس معناه أن يمتلخ الإنسان حق الآخرين دون وجه حق، بل معناه أن يُقْبِل كل فرد فى الأمة على العمل والإنتاج والإبداع والبحث عن مصادر إيجابية للثروة، فتنشط الأحوال وتتحول الدولة إلى خلية نحل يبذل كل فرد فيها أقصى جهده لإغناء نفسه وأمته، وبهذا تُثْرِى الأمةُ وتصير أمة قوية مهيبة الجانب يحترمها الآخرون ويعملون لها ألف حساب. وإذا كان هناك من يزهد فى الدنيا رغم ذلك فلْيُحْرِز المالَ أوّلاً ثم لْيُوَزِّعْ ما يزهد فيه من ذلك المال على إخوانه فى الدين والوطن، فيكسب بهذا أجرين: أجر العمل، وأجر التصدق. إن كثيرا منا، على المستوى النظرى فقط للأسف، يزعمون أن الجرى وراء المال أمر معيب لا يليق، مع أنه ما من واحد منهم إلا ويلهث وراء المال لهثا، ولكنه التظاهر الكاذب بالزهد فى الدنيا. الحق أن السعار وراء المال شىء، والاغتناء شىء آخر. السعار وراء المال معناه أن ينسى الإنسان واجباته نحو ربه ونحو أبناء دينه ووطنه فلا يفكر فى شكر الله وأداء حقه سبحانه من العبادة، ولا يفكر فى مد يد العون إلى المحتاجين من إخوانه فى الدين أو فى الوطن، ولا يفكر فى حلال أو حرام، بل كل همه هو كسب المال فحسب من أى طريق. وهذا شىء غير الغنى، الذى يقوم على بذل الجهد من أجل ترقية النفس والأسرة والوطن والأمة كما أشرنا آنفا، وهو ما سوف يحاسبنا الله عليه إن قَصَّرْنا فيه. وحتى تتضح الأمور لا ينبغى أن تزهد أمة الإسلام فى تحصيل أسباب القوة والثراء، وإلا ضاعت وفشلت فى سباق الحياة وتخلفت عن الصفوف الأولى وديست من ثم بالأقدام والأحذية. فَلْتَنْظُر الأمة لنفسها وَلْتَتَصَرَّف بمقتضى ما يقوله لها العقل والدين وما تستلزمه الأوضاع الدولية. أما تعامى المسلم عن رؤية خريطة الحياة بتعقيداتها فإثم سوف يحاسبه الله عليه. والمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأقوياء والنبهاء. والعجيب أن كثيرا من هؤلاء المتظاهرين بالزهد فى الدنيا كانوا يحرصون على الالتحاق بالخوانق حتى يأكلوا ويشربوا ويسكنوا ويلبسوا دون مقابل من عمل أو تعب. فهل هذا هو الزهد فى الدنيا؟ إن كان فأنا أول الزاهدين، ومعى أسرتى كلها بزوجتى وأولادى وأحفادى الموجودين الآن والذين سوف يهلّون على الدنيا فى المستقبل، وبهذا أضمن لى ولهم حياة مستريحة ليس فيها معاناة من الغلاء أو من قلة المرتب أو من التفكير فى التوفيق بين الداخل والمنصرف فى ظروف تطيّر عقل أحلم الحلماء وتُعْجِز أعتى المدبّرين الماليين.
هذا عن جواب السؤال الأول، أما بالنسبة إلى جواب السؤال الثانى فيقول مثلا الشيخ مصطفى عبد الرازق (فى مقال له بمجلة "المعرفة"/ يونيه 1931م، وأشار إليه الدكاترة زكى مبارك فى كتابه: "التصوف فى الدين والأخلاق"/ مطبعة الرسالة/ 1357هـ- 1938م/ 1/ 51) إنه يحتمل أربعة فروض: أن يكون "الصوفى" منسوبا إلى صُوفَة، أو إلى الصوف، أو إلى كلمة "سوفيا" اليونانية، أى الحكمة، أو مشتقا من الصفاء. وصُوفَة قبيلة عربية كانت تقوم بإجازة الحج، أى إعطاء إشارة البدء بالتحرك من عرفة. لكن يبدو لى غريبا ألا يجد المتصوفون إلا تلك القبيلة الجاهلية الوثنية ينتسبون إليها، وهم المسلمون الذين يحرصون على ألا يرتبط اسمهم بشىء من أمور الجاهلية. ثم إن تلك القبيلة كانت قد اختفت من مسرح التاريخ منذ زمن موغل فى القدم ولم يعد أحد يذكرها، فكيف تذكَّرها المتصوفة فجأة وعلى غير انتظار أو توقع؟ علاوة على أن قريشا قد تولت منذ زمن بعيد أمر البيت الحرام كله، وبخاصة بنو هاشم، فكيف نصدّق أن المتصوفة يمكن أن يتجاهلوا هذه الحقيقة ويذهبوا فيبحثوا لهم عن أصل مجهول لا يعرفه أحد تقريبا ويتركوا قريشا وبنى هاشم أهل نبيهم؟ كذلك لم نقرأ هذا التفسير لأحد من القدماء الذين كتبوا عن الصوفية والمتصوفة، اللهم إلا أبا نعيم فى "حلية الأولياء" (ط. القاهرة/ 1351هـ- 1932م/ 1/ 17)، وهو الوحيد الذى ربط بين التصوف والتشيع كما لاحظ د. كامل الشيبى فى مقال له بعنوان "رأى فى اشتقاق كلمة صوفى" (مجلة كلية الآداب العراقية/ العدد 5/ نيسان 1963م/ 232). بل إن المتصوفة لم يفكروا أن ينسبوا أنفسهم أو ينسبهم أحد إلى النبى ذاته، فكيف يصح أن نتخيل أنهم ينتسبون إلى صوفة، ذلك الرجل الجاهلى الوثنى الذى كانت تُسَمَّى باسمه القبيلة المذكورة؟ إلا أن د. كامل الشيبى يهمل هذا الاعتبار ويذهب فيرجّح أن يكون هذا هو الاشتقاق الصحيح للمصطلح مستندا إلى أن الصوفية لم يكونوا وحدهم الذين يلبسون الصوف ولا كانوا كلهم يلبسونه (انظر مقال د. الشيبى بالمرجع السابق/ 233- 234)، ناسيا أن هناك فرقا بين المعنى اللغوى للكلمة والمعنى الاصطلاحى لها، فالأول ينطبق عليها تماما بخلاف الثانى، الذى يكفى أن يكون بينه وبين المعنى اللغوى صلة ما. ومعروف أن العبرة فى مثل تلك التسميات هى الغلبة لا الاستغراق، إذ يكفى أن يشيع ارتداء الصوف بين القوم رغبة فى التقشف والتخشن كى تصح نسبتهم إلى الصوف حتى لو لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك. بل لو أن عددا منهم ارتدى شيئا آخر من خشن الملابس غير الصوف لكان يكفى أن يكون الصوف أكثر التصاقا من غيره بالخشونة حتى يُنْسَبوا إلى الصوف إلحاقا لهم بلابسيه من أهل طريقتهم.
أما نسبة الصوفية والمتصوفة إلى الصفاء فبعيد لأن "الصفاء" مشتق من مادة "ص ف و"، على حين أن "الصوفية" مأخوذة من مادة "ص و ف". ولو كان هذا الفرض صحيحا لألفيناهم يقولون: "الصَّفْوِيّة" أو "الصَّفَائية" مثلا. أما "الصوفية" فلا يصح اشتقاقها من "الصفاء" كما هو واضح لكل ذى عينين. وإذا كان شهاب الدين الآلوسى في "الفيض الوارد" يرى رغم ذلك أن "الصوفية" مشتقة من "الصفاء" مع تقديم الفاء على الواو فليس رأيه هذا بوجيه، إذ لماذا قدموا الواو على الفاء، وهذا التقديم يربك العقول ويبعدها عن التنبه إلى ما يريدون الاتصاف به؟ كذلك ليس هناك أى سبب لهذا التقديم كالثقل فى النطق مثلا ولا هو مما نطقت به العرب على الوجهين مثل "جَذَب" و"جَبَذ" مثلا. وفوق هذا وذاك فإن كلمة "الصوفى" لا تصلح أن تكون منقلبة عن "صفوى" لأن ضبط الكلمتين مختلف غاية الاختلاف. ومع هذا فبعض الصوفية يقولون إن التصوف مشتق من "الصفاء" لصفاء قلوب هؤلاء في معاملتهم مع الله، إذ إنَّ باطنهم كظاهرهم غاية في النقاء. واشتهر في ذلك قول أبي الفتح البُسْتِيّ:
تنازع الناس فى الصوفىّ واختلفوا * فيـــه، وظنــوه مشتقا من الصــــوفِ
ولست أمنــح هـــذا الاســم غـير فـتًى * صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِى
ومن ثم قال شهاب الدين الآلوسي في كتاب "الفيض الوارد": إنّ الذي يميل إليه كثير من السادة الصوفية ما يُفْهَم من هذين البيتين. ولا يخفى أنّ النسبة إلى "الصفاء": "صَفَوِيّ" وبعد تقديم الواو على الفاء صار "صُوفِيًّا"، وعلى هذا يكون في اللفظة قلبٌ، والله أعلم. وقد أشار إلى رأى الآلوسى هذا الشيخ عبد الهادى بن رضوان نجا الإبيارى المصرى فى الصفحة الثانية من كتابه: "فن التصوف".
وعلى نفس الشاكلة نقول إن "التصوف" لا يمكن أن يكون نسبة إلى "الصُّفَّة"، التى كان يعيش فيها بعض الصحابة فى مسجد رسول الله بالمدنية باعتبارهم فقراء لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، وهو المعنى الذى يحرص الصوفية على وصف أنفسهم به. وكان يطلق على هذه الطائفة من الصحابة اسم "أصحاب الصُّفّة". وسر استبعادى لهذا التفسير هو أن اشتقاق "الصُّفّة" إنما يرجع إلى مادة "ص ف ف"، وهى شىء مختلف تمام الاختلاف عن "ص و ف". ولو كان هذا صحيحا لقالوا: "صُفِّيُّون". وبالمثل لا أظنها مأخوذة من "سوفيا" اليونانية لعدة أسباب: فقد عرب العرب كلمة "فلسفة"، وفيها "سوفيا"، أى الحكمة، (إذ إن "الفلسفة" هى "محبة الحكمة": من "فيلو" أى محب، و"سوفيا" أى الحكمة)، فلو كان "التصوف" مأخوذا من "سوفيا" لكانت بالسين لا بالصاد. كما أن الصوفية لم يشتهروا بالحكمة بوصفها شيئا يميزهم عن سواهم من الفرق والمذاهب ولم يحاولوا أن يقولوا عن أنفسهم إنهم حكماء، بل قالوا وقيل عنهم إنهم زُهَّاد أو عُبَّاد أو عُشَّاق لله. والشىء الوحيد الذى تظهر فيه كلمة"الحكمة" مرتبطة بالصوفية هو كتاب ابن عطاء الله السكندرى الممسى: "الحكم العطائية"، وهو شىء خاص به ولا صلة له مخصوصة بالتصوف. وبالإضافة إلى هذا لا نعرف عن الصوفية أنهم استعاروا أيا من مصطلحاتهم من اللغات الأجنبية حتى بعدما تعقد التصوف وتأثر بعضهم ببعض الأفكار الأجنبية الغريبة عن الإسلام. ومثلما نبذنا القول باشتقاق المصطح من "الصُّفَّة" نستبعد القول باشتقاقه من "الصَّفّ" لأن اشتقاق الكلمة الأخيرة يعود إلى مادة "ص ف ف" مثل "الصُّفَّة" سواء بسواء. كما أنه لا علاقة بين الصوفية والصف، فهم لم يكونوا جنودا ينتظمون فى صفوف مثلا. وهذان الفرضان قد أوردهما د. زكى مبارك ضمن كلامه فى مناقشة الفروض الأربعة التى نناقشها الآن.
ويبقى أن التصوف مشتق من الصوف، وهو أوجه التفسيرات فى نظر د. زكى مبارك، وفى رأى د. محمد بشار الفيضي العراقى فى مقال له على المشباك بعنوان "مباحث مهمة في علم التصوف". ويعرض د. الفيضى هذا الرأى ووجهة نظره فيه على أساس أن نسبة التصوف واشتقاقه يرجعان إلى ما كان عليه كثير من الصوفية، من لبس الصوف زهدًا واخشيشانًا. وعلى هذا يكون هذا الاسم هو مصدر الفعل: "تَصَوَّف"، فهو متصوف: من "ص و ف" للدلالة على لبس الصوف، وذلك لجملة أسباب منها: أولاً أن النبي وأصحابه كانوا يلبسون الصوف. وقد وردت في ذلك أحاديث وآثار منها أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار ويلبس الصوف..."، وعن أبي موسى الأشعري قال: "يا بني، لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم لحسبت أنما ريحنا ريح الضأن. إنما لباسنا الصوف، وطعامنا الأسودان: التمر والماء"، وأُثِر عن الحسن البصري قال: "والله لقد أدركت سبعين بدريًّا كان لباسهم الصوف". ثانيًا أن لبس الصوف يعلِّم صاحبه الاخشيشان ومجافاة الدنيا وعدم الركون إلى الترف. وهذا ما كان يهدف إليه الصوفية بسلوكهم، فاتخذوه شعارا لهم. ثالثًا أن لبس الصوف كان سُنّة الأوائل من كبار الصوفية في العصور الأولى بعد ازدهار دولة الإسلام وانفتاح الدنيا على المسلمين وما تبع ذلك من انشغال الناس بزخرف الحياة، وتولعهم بالترف إلى الحد الذي أنساهم آخرتهم. فلبس الصوفية هذا اللباس مخالفة للناس في ترفهم الذي جاوز الحلال إلى البغي بغير الحق، وكان صنيعهم هذا أشبه ما يكون بوثيقة الاحتجاج الصامتة التي يدل حالها على مقالها، فهي إذن وسيلة اتخذها الصوفية لردع الناس وكبح جماحهم. ولذا لبس الصوفَ أغنياءُ الصوفية أيضا. ولا يخفى ما لهذا الفعل من أثر في النفوس، فإنَّ قيام غني بارتداء الصوف وهو قادر على لبس أفخر الثياب، يثير فضول الناس، ويدفعهم للوقوف على ما وراء هذا الأمر من سر. وحين يدركون أنَّ هذا الرجل إنما فعل ذلك زهدا في الدنيا، واحتجاجا على مترفيها، فستكون رسالة الصوفية، والحالة هذه، قد بلغت أوعية الناس من قلوب وعقول بأخصر طريق، وأنجح وسيلة. وقد رجّح ابن خلدون هذا التفسير فقال في مقدمته: "إنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف. فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم". ويرى الباحث أنَّ لباس الصوف لم يكن حالة ملازمة للصوفية على مرّ الزمان، بل كان في مرحلة معينة، ولأهداف مقصودة كما قال. لكن هذا اللباس قد ظلّ رمزا لهذه الجماعة يذكّر بجهادها المميز في سبيل إصلاح الأمة وتربيتها روحيا، حتى إنّ كثيرا من الناس صار يلبس الصوف تشبهًا بهم، ومحاكاةً لهم.
وكذلك يرى د. زكى مبارك أن هذا التفسير هو أوجه التفسيرات، وهو ما أوافقه عليه، وإن كنت أرى أن لبس الصوف ليس شرفا فى حد ذاته، وأنه ليس علاجا لما ذكره د. الفيضى من الترف الذى انغمست فيه الأمة عقب الفتوح، إذ إن لبسى أنا مثلا الصوف لا يعالج ترف زيد أو عمرو من الناس، بل يعالجه أن يكف زيد أو عمرو عن الترف الذى انغمس فيه. ثم إن إصلاح السيئين لا يتم بتقشف الصالحين، بل بتغيير هؤلاء الفاسدين لأنفسهم. وفوق هذا فلبس الصوف ليس أفضل أسلوب للفت أنظار الناس إلى طيب السريرة وطهارة السلوك، بل أفضل طريقة هى المعاملة الكريمة والسماحة والرقة والخلق الطيب وطول البال والتعاون والألفة والمسارعة إلى المساعدة. كما أن الإسلام لا يرتاح إلى تشديد الإنسان على نفسه، وإلا فلمن خلق الله طيبات الدنيا وسخرها؟ وما الذى يفعله الله بعذابنا إن شَكَرْنا وآمَنَّا؟ ولهذا قال رسولنا الكريم: لا رهبانية فى الإسلام. ولم يُعْرَف عن النبى أنه داوم على لبس الصوف، بل كان يلبس ما تيسر من الثياب مثلما كان يأكل مما يتيسر من الطعام، لا يتكلف فى هذا ولا فى ذاك.
كذلك فالقول بأن الصوفى هو دائما فى حالة صفاء روحى أو أن صلته بربه تقوم دَوْمًا على الصفاء هو كلام يخلط أصحابه بين الفرض النظرى والواقع العملى، إذ المفروض (المفروض فقط) فى الصوفية، وحسب دعاواهم ليس إلا، أنهم هم أهل الصفاء والنقاء، أما على أرض الواقع فكثيرا ما يكون المتصوفة من أسفل الناس خلقا وسلوكا. ولست أقصد الحط من شأنهم بوصفهم صوفية، بل كل ما أقول هو أنهم، مثل سواهم من البشر، فيهم وفيهم.
وبالمثل يقول ماسينيون ومصطفى عبد الرازق فى كتاب "التصوف" إن "التصوف مصدر الفعل الخماسى الـمَصُوغ من "ص و ف" للدلالة على لبس الصوف، ومن ثم كان المتجرد لحياة الصوفية يسمى فى الإسلام: صوفيا. وينبغى رفض ما عدا ذلك من الأقوال التى قال بها القدماء والمحدثون فى أصل الكلمة كقولهم إن الصوفية نسبة إلى "أهل الصُّفَّة"، وهم فرقة من النساك كانوا يجلسون فى صفة المسجد النبوى بالمدينة لعهد الرسول عليه السلام، أو إنهم من الصف الأول من صفوف المسلمين فى الصلاة، أو من بنى صوفة، وهى قبيلة بدوية، أو إلى "صوفة القفا"، وهى الشعرات النابتة عليه، أو إن اللفظ مشتق من "صُوفِىَ": مطاوع "صَافَى"، والأصل: "صفا". وقد استُعْمِل هذا اللفظ المطاوِع منذ القرن الثامن الميلادى للتورية مع كلمة "صوفىّ" ومع الكلمة اليونانية: "سوفوس"، التى حاولوا فيها المحال بالمعادلة بين "ثيوسوفيا" (Theosophie) و"تصوف". وقد رد نولدكه (Noeldeke) هذا المذهب الأخير فى أصل كلمة "صوفىّ"، مبينا أن السين اليونانية تكتب باطراد فى العربية "سينا" لا "صادا"، وأنْ ليس فى الآرامية كلمة متوسطة للانتقال من "سوفوس" اليونانية إلى "صوفىّ" العربية" (ماسينيون ومصطفى عبد الرازق/ التصوف/ ترجمة خورشيد ويونس وعثمان/ دار الكتاب اللبنانى ومكتبة المدرسة/ سلسلة "كتب دائرة المعارف الإسلامية"/ العدد 16/ 6).
ويقول د. الفيضى: "والملاحظ أن ابن خلدون يحدد القرن الثاني بداية لظهور مصطلح ‘الصوفية’. وفي أخبار التاريخ ما يؤيد ذلك، فقد نقل الشيخ الغماري ما ذكره الكندي، وكان من أهل القرن الرابع، في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة المائتين ‘أنه ظهر في الإسكندرية طائفة يُسَمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف’. ونقل أيضًا عن المسعودي في "مروج الذهب" حاكيًا عن يحيى ابن أكثم قوله: ‘إنّ المأمون يومًا لجالسٌ إذ دخل عليه عليّ بن صالح الحاجب فقال: ياأمير المؤمنين، رجل واقف بالباب عليه ثيابٌ بيضٌ غلاظ يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية’. ويبدو لي، والله أعلم، أنّ ظهور المصطلح سابق على هذه الفترة، فإن الجماعة الذين ذكرهم الكندي لا يمكن أن يظهروا فجأة، وإنما حصلت الشهرة للمصطلح في القرن الثاني. ويؤيد هذا ما أُثِر عن الحسن البصري أنه قال: ‘فأعطيته شيئًا فلم يأخده، وقال: معي أربعة دوانق، فيكفيني ما معي’ وما رُوِيَ عن سفيان الثوري أنه قال: ‘لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفتُ دقيق الرياء’. والمعروف في تاريخ الوَفَيَات أن الحسن البصري تُوُفِّيَ سنة 110 من الهجرة، وتوفي أبو هاشم الصوفي سنة 150 من الهجرة. وعلى كل حال فالحسن البصري رحمه الله يُعَدّ أول من فَتَقَ هذا العلم وخصه في الحديث، فكان ينطق بمعانيه، ويبدي أسراره، ويتكلم فيه بكلام لم يُسْمَع به حتى قال له بعض مجالسيه: يا أبا سعيد، إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، فممن أخذت هذا العلم؟ قال: من حُذَيْفة بن اليَمَان. وحذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خصه بعلم المنافقين، وأُفْرِد بفهم خفايا الفتن. وهو الذي كان يقول: ‘كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني’ حتى إن أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه عن الفتن العامة والخاصة، ويرجعون إليه في العلم الذي خُصَّ به، وكانوا يسألونه عن أهل النفاق فيخبر بأعدادهم ولا يذكر أسماءهم. وكان عمر يستكشفه عن نفسه: هل يعلم فيه شيئًامن النفاق؟ فبرّأه عنه. ولعظم ثقة عمر به كان إذا دُعِيَ إلى جنازة يصلي عليها نظر: فإن حضر حذيفة صلى عليها، وإن لم يحضر حذيفة لم يصل عليها. ونعود إلى الإمام حسن البصري لنقول: لقد كانت له مجالس للذكر يخلو فيها مع إخوانه ومحبيه من النساك والعبّاد في بيته، مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السختياني ومحمد بن واسع وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد، ويقول لهم: ‘هاتوا انشروا النور’، فيتكلم عليهم من هذا العلم في علم اليقين والقدرة، وفي خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساوس النفوس. ومن هنا يمكن القول: إن أول مدرسة كانت للتصوف بدأت بعد الصحابة هي مدرسة نُسّاك البصرة، وأول من نطق بهذا العلم أستاذها الحسن البصري. ثم تتابعت من بعدها المدارس، وظهر من بعد الحسن رجال لا يُحْصَوْن عددًا متخصصون في هذا العلم المبارك.
أما بالنسبة إلى موقع التصوف من العلوم الإسلامية فيقول: "تُعْرَف الشريعة الإسلامية بأنها ما شرع الله لعباده من الأحكام المختلفة، وهي ذاتها ما يعرف بالملة والدين... والناظر في هذه الأحكام يجدها على ثلاثة أقسام: القسم الأول أحكام متعلقة بأصول العقائد كالإيمان بالله واليوم الآخر. القسم الثاني أحكام متعلقة بأقوال الإنسان وأفعاله: في علاقته التعبدية مع الله عز وجل كالصلاة والصوم، والعملية مع الناس كالبيع والشراء والنكاح. القسم الثالث أحكام متعلقة بالأخلاق كوجوب الإخلاص والصدق، وسلامة الصدر من الضغينة، وترك الكِبْر والعُجْب والرياء.... فالأحكام المتعلقة بالعقيدة انفصلت بعد الصدر الأول عن قَسِيمَيْها، ودعا إلى هذا الفصل ما أثاره المعتنقون للإسلام في هذه الفترة من شبهات حول أمور العقيدة عن قصد أو غير قصد كان لها أثر خطير في زعزعة طمأنينة الإيمان في قلوب كثير من الناس، الأمر الذي حدا بعلماء المسلمين إلى دخول المعترك ومناقشة ذوي الشبهات بالطرق العقلية والنقلية حتى تمكنوا من نقضها وإعادة الطمأنينة إلى القلوب. وكانت الحاجة قائمة إلى تدوين هذه المناقشات بغية تعميم نشرها والحفاظ عليها، فأخذت هذه الأحكام وما أثير حولها من شبهات وما سُجِّل على الشبهات من ردود طريقَها إلى الاستقلال على هذا النحو، فصارت علمًا مستقلاًّ يُعْرَف بـ‘علم الكلام’، ويُعْرَف العلماء المتخصصون به بـ‘المتكلمين’. والأحكام المتعلقة بأقوات الناس وأفعالهم من عبادات ومعاملات انفصلت أيضًا بعد الصدر الأول في علم مستقل... ونجم عن ذلك استقلال هذا الفن بعلمٍ عُرِف باسم ‘الفقه’، واختص برجال يبحثون فيه سُمُّوا بـ‘الفقهاء’. والأحكام المتعلقة بالأخلاق انفصلت هي الأخرى بعد الصدر الأول في علم مستقل. ودعا إلى هذا الفصل ضعف الوازع الديني في النفوس وتضاؤل التأثير الروحي لديها، فقد فُتِحَت الدنيا على الناس فشغفوا بها حُبًّا ونسوا آخرتهم، وبدأ الطغيان واضحًا في سلوكهم من الركون إلى المجون والانشغال برغبات الجسد شهوات ونزوات، فأحس علماء المسلمين بخطورة المأزق. وكان هذا الجانب لم يُعْنَ به بعد، فانْبَرَوْا لاستدراك الحال وسد النقص، فسَعَوْا لإحياء المفاهيم الأخلاقية في الإسلام وإعادة الروح إلى ما كان عليه السلف الصالح من الزهد والعبادة والتسامي على المحرمات والمنكرات، فأَصَّلوا في ذلك الأصول، ودوَّنوا الكتب والفصول، فكانت المحصلة أَنِ استقل هذا الجانب بعلمٍ حالُه في ذلك حالُ قَسِيمَيْه: علم الكلام وعلم الفقه، وسمي: ‘علم التصوف’، وصار له رجال متخصصون في مباحثه عُرِفوا باسم ‘الصوفية’. ومن هذا العرض يتضح لنا أنّ التصوف هو ‘علم الأخلاق في الإسلام’".
وليس فى كلام الدكتور الفيضى ما يحتاج إلى تعقيب، إلا أن يكون تكريرا لما قلناه آنفا من أن الكلام النظرى شىء، والواقع العملى شىء آخر، إذ من المتصوفة ناسٌ أخلاقهم فى غاية السوء والانحطاط، وناس آخرون أخلاقهم فى منتهى السمو والسموق. وهذا شىء لا يختص به المتصوفة وحدهم، بل هو شائع مشاهَد فى كل أصحاب نحلة أو مذهب.
ثم يمضى د. الفيضى فيورد عددا من تعريفات التصوف قائلا: "والحق أنّ التصوف عُرِّف بتعريفات كثيرة جدًا بلغت المئات. وهي، فيما أرى، لا تخرج على ما ذكرته. وكل ما في الأمر أنّ المعرِّفين له نظروا إليه من جهات مختلفة: فمن نظر إلى التصوف على سبيل المثال من جهة الزهد عرَّفه بأنه الزهد، ومن نظر إليه من جهة العبادة عرَّفه بها، ومن نظر إليه من جهة السلوك عَدَّه سلوكًا، تمامًا مثل فئة تحلقت حول مبنى تتوخى وصفه: فمَنْ وقف من جانبه الشرقي وصف منه ما بدا له، ومن وقف من جانبه الغربي وصف منه ما بدا له... وهكذا الآخرون. وقد تختلف هنا أوصاف الواصفين، لكنهم في المحصلة يصفون مبنًى واحدًا. ومما لا شك فيه أن الوصف كلما كثر وتعددت أطرافه كلما وضحت معالم الموصوف، وازدادت جلاءً. والجدير بالذكر أنّ بعض التعريفات كانت تعبر عن مشاعر قائليها وتجاربهم الروحية، وتشير إلى الأحوال التي هم فيها أو المقامات التي وصلوا إليها وقت إطلاقهم تلك التعريفات. وفي كل الأحوال فإنّ جميع التعريفات تندرج تحت مظلة التعريف الذي بينتُه، وهو كونه علم الأخلاق في الإسلام لأنه القواعد التي انطلق منها رجال التصوف، والخارطة التي ساروا عليها في مجاهداتهم، والضابط الذي يحكم سلوكهم، وتُقَيَّم من خلاله نتاجاتهم. ومن التعريفات التي صرَّحتْ بذكر الأخلاق ما يأتي: عرفه أبو محمد الجريري: ‘الدخول في كل خُلُقٍ سَنِيّ، والخروج من كل خلق دَنِيّ’. وعرفه أبو بكر الكتاني: ‘التصوف خلق. فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف’. وعرفه أبو حامد الغزالي: ‘هو قَطْع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يُتَوَصَّل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله’. وعرفه الشيخ عبد القادر الكيلاني قَدَّس الله سِرّه: ‘الصدق مع الحق، وحسن الخُلُق مع الخَلْق’... وعرفه أبو حفص الحداد: ‘التصوف كله أدب: لكل وقت أدب، ولكل مقام أدب، ولكل حال أدب. فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يظن القبول’. وعرفه أبو محمد رويم: ‘التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار’. وعرفه السيد الجرجاني: ‘التصوف: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا فيُرَى حكمها من الظاهر في الباطن، وباطنًا فيُرَى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال’.
وبناءً على ما تقدم أقول: حين يكون التصوف علم الأخلاق في الإسلام فهذا يعني أن ثلث الإسلام تصوف، وأن من لا تصوف له فقد أخل بركن من أركان الدين. يقول الشيخ زروق: ‘نسبة التصوف في الدين نسبة الروح من الجسد لأنه مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: أن تعبد الله كأنك تراه... الحديث، إذ لا معنى له سوى ذلك’. ومن هنا شَرَفُ هذا العلم، وكانت نسبته من العلوم أنه كليٌّ لها وشَرْطٌ فيها، إذ لا وزن لعلم أو عمل إلا بصدق النية والإخلاص... ومن ناحية أخرى فإن العلوم توجد في الخارج من دون التصوف، لكنها، والحالة هذه، ستكون ناقصة أو ساقطة. ولذلك ذكر السيوطي رحمه الله أن نسبة التصوف من العلوم كعلم البيان مع النحو. يقصد أنه كامل فيها، ومحسِّن لها. كما أن كل علم من العلوم قد يتأتى حفظه ونشره لمنافق ومبتدع ومشرك إذا رغب فيه وحرص عليه لأنه نتيجة الذهن وثمرة العقل، إلا هذا العلم، علم الإيمان واليقين، فإنه لا يتأتى ظهور مشاهدته والكلام في حقائقه إلا لمؤمنٍ مُوقِنٍ من قبل. والجدير بالتنبيه قبل أن نأتي على نهاية هذا المبحث أن التصوف إنما يعدل ثلث الإسلام من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فيبدو، على ضوء ما بيناه، أنه يمتد إلى الدين كله، إذ جملته الإخلاص. ومعلوم لدى كل ذي بصيرة أن هذا الأمر لا ينفك، لقبول الأعمال، عن الأحكام العقدية والأحكام العملية، بله الأخلاقية. ومن دونه يكون إسلام المسلم جسدًا بلا روح، وشكلا بلا مضمون.
وُضِعَت الأسماء للدلالة على العلوم، وبين العلم والاسم الدال عليه تقوم عادةً علاقةٌ ظاهرةٌ أو خفيةٌ، قويةٌ أوضعيفةٌ... ونحن إذا نظرنا إلى العلوم الثلاثة لأحكام الشريعة الإسلامية سنجد لكل علم منها اسمًا مشتهرًا، ووراء كل اسم علاقة أو أكثر بالعلم الذي وقع عليه: فالأحكام المتعلقة بالعقيدة بعد أن استقلت بعلمٍ اشتهر لها اسم ‘علم الكلام’... واختلف علماء الفن في سبب هذه التسمية على أقوالٍ أشهرُها أن مسألة الكلام، أي كلام الله عز وجل، كانت أشهر مباحث هذا العلم وأكثرها نزاعًا وجدالاً. والأحكام المتعلقة بالعبادات والمعاملات طغى عليها اسم ‘علم الفقه’. والباحثون في هذا الفن يذكرون في سبب اصطلاحه أنّ الفقه في اللغة العلم بالشيء والفهم له. ولأنّ العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية يحتاج فهمًا دقيقًا، فقد أُطْلِق على هذه الأحكام مصطلح ‘الفقه’. والأحكام المتعلقة بالأخلاق غلب عليها اسم ‘علم التصوف’".
هذا ما قاله د. الفيضى، وتعليقى على هذا الكلام أن فيه مبالغة وغلوا شديدا إذ جعل من التصوف الدين كله. ليس ذلك فحسب، بل إننا حتى لو اكتفينا بجعل التصوف روح الدين، الذى بدونه يبقى الدين جسدا بلا روح، لكان ثم مبالغة، إذ الإسلام لا يصلح دون فقه أو عقيدة، ومن ثم فالتصوف دون فقه أو عقيدة لا يصلح بتاتا لشىء. ذلك أن التصوف لا يشكل إلا جزءا من الإسلام، جزءا فقط، هو الجانب النفسى الذى يتمثل فى أداء العبادات وفعل الخيرات بقلب حار وإخلاص وتجرد. ثم من قال إن المتكلمين أو الفقهاء يفتقرون بالضرورة إلى الإخلاص وحرارة القلب؟ ومن قال إن المتصوفة هم بالضرورة مخلصون متجردون؟ هل المتصوفة الذين يزعمون أنهم بلغوا نهاية الطريق، ومن ثم سقطت عنهم التكاليف، هم مسلمون صالحون؟ هل المتصوفة الذين يزعمون أنهم اتحدوا مع الله أو حل الله فيهم هم مسلمون مستقيمون؟ هل المتصوفة الذي يعيشون عالة على الآخرين فيأكلون ويشربون ويلبسون ويسكنون ويعالَجون على حساب غيرهم بحجة أنهم قد فرّغوا أنفسهم للعبادة وأنهم زاهدون فى الدنيا، فلهذا لا يعنّون أنفسهم بالجرى وراء متطلباتها، هم مسلمون صادقون؟ هل ذلك الشيخ الصوفى الذى وقف أمام إبليس يقول له: ‘إنك، فى سماحتك وتواضعك، تذكرنى بالنبى فلان’ هو ممن يخافون الله ويقولون كلمة الحق ولا يبالى بأمور الدنيا؟ وهل ذلك المتصوف الآخر الذى يدين له من الأتباع من لا يُحْصَوْن عددا، ومع هذا تحبه أمريكا كارهة الإسلام وتحرص على أن تكون صلتها به قوية محكمة، ولا يجد هو من يكرّمه ويخلع عليه الدروع والنياشين إلا من يحارب الإسلام ويشجع على شتم الرسول، وفوق ذلك ليس مسلما أصلا، أهذا الشيخ الصوفى يبعث على الثقة؟ لو أن الكاتب قال إن المفترض فى الصوفى أنه يركز على الباطن كما يركز الفقيه فى فتاواه على الجانب الظاهرى لما كان بيننا وبينه خلاف كبير رغم أن الفقيه قد يكون مشغولا أيضا بالباطن، إلا أن تخصصه من الناحية العلمية ينصبّ على مراعاة القواعد الظاهرية، ورغم أن الصوفى قد يهمل الباطن رغم أن همه من الناحية الافتراضية هو التركيز على ذلك الباطن.
هذا، ويوجد فى التصوف ما يسمى بـ"المقامات" والأحوال"، التى يقول السيوطى فى الأوليات إن أول من تكلم فى مصر عنها هو ذو النون المصرى (انظر "فن التصوف" لعبدالوهاب رضوان نجا الإبيارى/ 4). ولو شئنا أن نعرّف المقامات بطريقة مبسَّطة فلربما جاز لنا أن نقول إنها محطات على طريق المتصوف تحدد كل منها المرحلة التى بلغها من المجاهدة الروحية. أما الأحوال فهى الحالات الروحية التى يكون عليها المتصوف كلما بلغ مقاما من المقامات. أما بالنسبة إلى تعريف الصوفية أنفسهم للمقامات والأحوال فيقول ابن عربى مثلا فى "الفتوحات المكية": "المقام عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام، والحال هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب. ومن شرطه أن يزول ويعقبه المِثْل، وأن يبقى ولا يعقبه المِثْل. فمن أعقبه المثل قال بدوامه، ومن لم يعقبه المثل قال بعدم دوامه. وقد قيل: الحال تغير الأوصاف على العبد". وهو، كما يرى القارئ، كلام مبهم يصلح لأى شىء تقريبا. وقد عرّف الجرجاني الحال في كتاب "التعريفات" بقوله: "معنًى يَرِد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو هيبة"، وعند عبد الكريم الجيلى أن "كل حال فهو موهوبوغير مكتسب غير ثابت إنما هو مِثْلُ بارقٍ بَرَق. فإذا برق إما أن يزول لنقيضه وإما أنتتوالى أمثاله. فإن توالت أمثاله فصاحبه خاسر". ويقول د. أسعد السحمراني فى كتابه: "التصوف منشؤه ومصطلحاته": "المقام والحال: اصطلاحان يستخدمهما الصوفيون للتدليل على تدرج السالك للطريق الصوفي من مكانة الى أخرى ولما يتعرض له في تدرجه هذا في المقامات من أحوال تأتيه من نسمات الرحمة الإلهية. المقامات هي مكاسب تحصل للإنسان المؤمن ببذل المجهود، وهي مراحل يرتقي فيها المريد في طريقه الى التمكين والاطمئنان القلبي لتتحقق له مكانة بين الخاصة من المصطفَيْنَ الأخيار. ويقول السراج الطوسي في "اللُّمَع": "إنْ قيل: مامعنى المقامات؟ يقال: معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله عز وجل". وقال الله تعالى: ‘ذلك لمن خاف مقامي وخاف وَعِيدِ’ (إبراهيم/ 14)، وقال : ‘وما مِنَّا إلا له مقامٌ معلومٌ’ (الصافات/ 164). ومن المقامات عند الطوسي: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، الرضا، التوكل... إلخ. أما الحال فهي معنًى يَرِدُ على القلب من غير تصنع ولا اكتساب. والأحوال هي المذاهب الفائضة على العبد من ربه، وهي تكون ميراثًا يلي العمل الصالح المقترن بصفاء القلب، أو امتنانًا من الله تعالى على العبد، ولكنها لا تدوم، وإذا دامت تحولت من حال الى مقام. وقد جاء في "اللُّمَع": ‘وأما معنى الأحوال فهو ما يَحُلّ بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار. وقد حُكِيَ عن الـجُنَيْد رحمه الله أنه قال: الحال نازلةٌ تنزل بالقلوب فلا تدوم... وليس الحال من طريق المجاهدات والعبادات والرياضيات كالمقامات’. ومن الأحوال: المراقبة، القرب، المحبة، الخوف، الرجاء، الشوق، الأنس، الطمأنينة، المشاهدة، اليقين... إلخ. المقام إذن هو مقام الإنسان بظاهره وباطنه في حقائق الطاعات، وأما الحال فهي ما يتعرض له القلب من نسمات الرحمة الإلهية، والصدر من الشرح، ولا يدوم".
أما في "الرسالة القشيرية" فنجد أن المقام هو "ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب مما يتوصل اليه بنوعِ تصرُّف، ويتحقق به بضَرْبِ تطلُّب، ومقاساةِ تكلُّف. فمقام كل أحدٍ موضعُ إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل بالرياضة له. وشرطه ألا يرتقي من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكامَ ذلك المقام، فإنّ مَنْ لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم. وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد. والمقام هو الإقامة، كالمدخل بمعنى الإدخال، والمخرج بمعنى الإخراج. ولا يصح لأحدٍ منازلةُ مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة". أما الحال فهي "معنى يَرِد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم... فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب. وقالوا: الأحوال كاسمها. يعني أنها كما تحلّ بالقلب تزول في الوقت".
وجاء في تعريف للدكتور قاسم غني: "مقامات التصوف إنما هي من الأمور الاكتسابية والاجتهادية، ومن جملة الأعمال التي هي باختيار السالك وإرادته، بينما الأحوال من مقولة الإحساسات والانفعالات الروحية، ومن الحالات والكيفيات النفسية الخاصة مما ليس باختيار الإنسان، بل هو من جملة المواهب والأفضال النازلة على قلب السالك من لدن الله من غير أن يكون للسالك أدنى تأثير في نزوله على قلبه أو محوه عن خاطره". وفى "الرسالة القشيرية" أن هناك من يرى الأحوال كالبروق، فإذا دامت فحديثُ نفسٍ، ومن يرى على العكس أنها لا بد من دوامها، وإلا كانت لوائح وبواده، أى أمورا عارضة تلوح ثم تزول ولا تبقى.
والواقع أن هناك عدة ملاحظات على هذه التقسيمات والتصنيفات: فأولا من ذا الذى يمكنه يا ترى تحديد المرحلة الروحية التى بلغها فى تدينه؟ وكيف يمكن تصنيف تلك المقامات والأحوال بتعقيداتها ودقائقها؟ وهل هذا أصلا أمر ممكن بالنسبة للبشر؟ إن هذا، لو عقلنا الأمر جيدا، معناه أننا نقوم بمحاسبة أنفسنا بأنفسنا، وهى مهمة لم يوكل الله أحدا من البشر للقيام بها بدلا منه. أليس كذلك؟ ثم لماذا كان ذلك الاختلاف فى تقسيم المقامات والأحوال؟ بل لماذا يبلغ التناقض بين المتصوفة أنفسهم الحد الذى يعكس بعضهم الأمر عنده فيجعل المقامات أحوالا، والأحوال مقامات؟ كذلك هل يصح القول بأن طريق الصوفى، أو مقاماته وأحواله، تكون دائما متصاعدة لا تعرف التراجع والتقهقر كما يُفْهَم من كلام القوم؟ الحق أن الحالة الروحية لأى إنسان تمر بكثير من التراجعات مثلما تكتسب مواقع متقدمة بين الحين والحين، ولم يحدث قط أن اتخذت حالة أى إنسان اتجاها واحدا هو اتجاه التقدم إلى الأمام والصعود إلى الأعلى على الدوام، بل مثلما يتقدم فكذلك يتراجع ويتقهقر. وفوق ذلك فالإنسان إذا ما ظن أنه تقدم وأصبح أعلى مستوى روحيا مما سبق فقد يكون ذلك الظن نفسه سببا فى التأخر عما كان قد وصل إليه فعلا، إن كان قد أحرز تقدما حقا ولم يكن ظنا فى غير محله. كما أن شرح الصوفية للأحوال والمقامات شرح معقد، وفيه أحيانا بهلوانيات مضحكة، ومبالغات لا تصح أبدا.
خذ مثلا ما قاله القشيرى عن مقام "التمكين" من أن أصحابه "مَحْوٌ فى وجود العَيْن". ترى هل فهم القارئ شيئا؟ ثم ما الحكمة فى هذه اللغة التى تجلب الصداع دون أن يخرج الإنسان منها بطائل، اللهم إلا إذا تكلف شرحها بكلام معسلط مما يبرع فيه الصوفية ويزيد الأمور تعقيدا وتشابكا؟ أما المبالغة فاقرأ ما قاله القشيرى أيضا عن صاحب مقام "الأُنْس" من أن "أدنى محلّ الأنس أنه لو طُرِح فى لَظًى لم يتكدر عليه أنسه. قال الجنيد: كنت أسمع السرىّ يقول: يبلغ العبد إلى حد لو ضُرِب وجهه بالسيف لم يشعر. وكان فى قلبى منه شىء حتى بان لى أن الأمر كذلك". ترى هل هذا معقول؟ ألم يكن الأَوْلى بذلك رسول الله حين مرض فكان يتألم كما نتألم نحن البشر الطبيعيين؟ أما موت المشاعر على هذا النحو فلست أدرى كيف يكون. ولو حدث فعلا كما يقولون فهو أمر شاذ مخيف لا أظنه يحدث لإنسان لم يتعاط شيئا يوقف شعوره بالألم كالذى سمعته مؤخرا من أن بعض ذوى السوابق حين يُسْتَدْعَوْن إلى قسم الشرطة ويعرفون أنهم سوف يُضْرَبون ضربا مبرِّحا لا يطيقونه فإنهم يتعاطَوْن نوعا من الحبوب يمنعهم من الإحساس بالألم مهما كانت درجته. ولا ننس أن مواد التخدير الطبى تمنع المخدَّر من الشعور بأى شىء، بل تنقله من حالة اليقظة والوعى إلى حالة ينعدم فيها كل إحساس تقريبا إلى أن تنتهى العملية الجراحية ويكون الألم قد مضى أو خَفَّتْ حِدّته إلى حد بعيد. ثم إن النبى على شدة قربه من ربه لم يحدث أن غاب عن الوجود على هذا النحو الغريب لا فى صلاة ولا فى دعاء ولا فى تأمل. فمن أين إذن أتى المتصوفة بهذا الكلام العجيب؟ أتراهم مخلوقات خارقة لا تخضع لسنن الكون فى الشعور بالألم؟ إننى لا أعادى التصوف مبدأً كما بينتُ، بل دافعى هو أن يعيش المسلم وفق ما يريده منه دينه لا وفق ما يسمعه من كل من هب ودب! ولو قال فقيه شيئا ما أنزل الله به من سلطان ولا قاله رسول الله لكان لى منه نفس الموقف. ونفس الشىء يقال عن المعتزلى أو الخارجى... إلخ. وأنا، حين أفعل هذا، لا أدعى أننى بالضرورة على الصواب، بل هو اجتهاد منى قد يصح، وقد يطيش. ولكن لا بد من التحدث مع ذلك بما أعتقد أنه هو الصواب، أما أن يكون صوابا على وجه القطع فهو ما لا أجرؤ على ادعائه.
وعلى أية حال فإن تعريف المقامات والأحوال على النحو الذى نراه لدى المتصوفة من شأنه أن يحول المجاهدة الروحية إلى شىء مادى، وكأننا إزاء بيت نبنيه ونرتفع به طَبَقًا بعد طَبَقٍ، فهو لا يعرف النزول بل الزيادة والارتفاع على الدوام إلى أن يصل البناء منتهاه فيتوقف عندئذ. ولا ننس أن كثيرا من المتصوفة، بسبب من هذا المفهوم الخاطئ للمقامات والأحوال، يسقطون فى فخ الغرور، إذ يظنون أنهم قد بلغوا منتهى الطريق، وأنهم من ثم صاروا مُعْفَيْنَ من أداء الواجبات وألوان العبادات، أى سقط عنهم التكليف. وهذا من وسوسة الشيطان، والعياذ بالله. من هنا فإنى أقترح أن يقال بدلا من ذلك إن المسلم عليه أن يظل طول الوقت فى مجاهدةٍ لنفسه وشهواته لا يتوقف أبدا ولا يتوانى عن العمل المنتج النافع له ولأمته حسب تخصصه ومجاله، وإنه معرَّض فى كل وقت للصعود والهبوط، وإنه ليس من اختصاصه الحكم على نفسه وإعطاؤها الدرجة التى يظن أنها تستحقها، بل يترك ذلك لله سبحانه، فالحساب والتقويم من شأنه هو وحده جل وعلا. ولا بد لنا من التنبيه إلى أنه ما من إنسان يستطيع الزعم بأنه قد بلغ الغاية على طريق السمو الروحى، إذ يوم يضع فى حسبانه أنه قد بلغ ذلك المبلغ يكون هذا بداية السقوط والفشل والبَوْء بسخط الله. بل إنه، من الناحية المبدئية، لا توجد نقطة متى بلغها الإنسان يكون قد بلغ الغاية التى ليس بعدها غاية، بل الغاية فى حقيقة الأمر هى شىء وهمى أكثر منه حقيقيا يتصور الإنسان أنه عند الأفق، لكنه إذا صار إلى هناك وجده قد ابتعد عنه وأن عليه مواصلة الرحلة والسعى من جديد... وهلم جرا. ولا بد أن نعرف فى ذات الوقت أن الله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، وأنه سبحانه كريم يغفر الذنوب جميعا، وأنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
وكان الإمام أبو حامد الغزالى ينغمر فى الحياة يدرّس ويكتب ويناقش ويتولى المناصب، ثم تحول بعد ذلك إلى التصوف فتحمس لأصحابه وكبّر من شأنهم وأكد أن طريقتهم هى وحدها الطريقة الصحيحة الواجبة الانتهاج. قال: "ثم إني لما فرغتُ من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يُتَوَصَّل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل "قوت القلوب" لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الـجُنَيْد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدَّس الله أرواحهم وغيرهم من المشايخ، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصّلت ما يمكن أن يحصَّل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصّهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما وبين أن تكون صحيحا وشبعان، وبين أن تعرف حد السُّكْر وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر وبين أن تكون سكران! بل السكران لا يعرف حد السُّكْر وعلمه وهو سكران، وما معه من علمه شيء. والصَّاحي يعرف حدّ السُّكْر وأركانه، ومَا معهمن السُّكْر شيء. والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد الصحة. فكذلك فَرْقٌ بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه وبين أن تكون حالُكَ الزُّهْدَ وعزوفَ النفس عن الدنيا! فعلمتُ يقينا أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصَّلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك. وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر.
فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسختْ في نفسي، لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها. وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكَفّ النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق. ثم لاحظتُ أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب. ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرتُ في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جُرُفٍ هارٍ، وأني قد أَشْفَيْتُ على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بَعْدُ على مقام الاختيار: أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأَحُلّ العزم يوما، وأقدم فيه رجلا، وأؤخر عنه أخرى. لا تَصْدُق لي رغبة في طلب الآخرة بُكْرَةً إلا ويحمل عليها جَلَد الشهوة حملة فيفتِّرها عَشِيّةً، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار! ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالٌ عارضةٌ إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال. فإن أذعنتَ لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمرَ المسلَّمَ الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة".
هذا ما قاله الغزالى. ورغم احترامى لأبى حامد ولعقليته الجبارة وعلمه الجم وغزارة كتاباته وعمق تحليلاته بوجه عام فإنى أحب أن أسمح لنفسى بالاختلاف معه، إذ أرى أنه ما من طريقة إلا وفيها الصالح النافع، وفيها الفاسد الضار، ومن ثم فلا المتصوفة هم أحسن الناس ولا هم أسوؤهم، بل هم بشر من البشر: فيهم الطيب، وفيهم الخبيث، وأسلوبهم فى الحياة لا يخلو من الحسن ولا القبح. وبالمناسبة فكل أصحاب طريقة يَرَوْن أن طريقتهم هى الطريقة الوحيدة الصحيحة. وترتب على ذلك أن كل أصحاب طريقة يجتهدون فى تقبيح الطرق الأخرى، مضيقين بذلك على العباد أمرهم، فكأن الدنيا ثَقْب إبرةٍ بالغُ الضيق وليست براحا واسعا يسع من الحبائب ألفا بل مليونا بل ملايين بل مليارات وديشيليونات... إلى ما شاء الله مما لا يمكننا إحصاؤه من أعداد البشر فى كل الأزمنة والبلاد. وكل ما هنالك أن الناس تتفاوت فى الطباع والأمزجة والعقول والأذواق والميول والقدرات والمواهب والبيئات والأساليب التى رُبُّوا عليها ونشأوا على أساسها، فترى هذا يفضل مذهب أهل السنة، وآخر يؤثر الاعتزال، وثالث يرى أن التصوف أفضل له، ورابع يعتقد أن التشيع هو الخطة الأوفق... وهكذا. ولو أن كل واحد فهم ما قلناه من أن الإسلام أوسع من كل هذه الطرق، وبالتالى فلا يمكن أن يتطابق وأية طريقة منها، بل يحتويها جميعا احتواء الكل على الأجزاء، وأن كل جزء منها قد يشتمل على ما يتعارض والإسلام لأراح واستراح ولما ضيع عمره فى الجدالات والمعارك المذهبية التى لا تأتى فى الغالب بخير، بل تزيد الأمة انقساما وخصاما، وقد تفتِّتُ كيانها. وعلى هذا فإنى أقول: فليختر كل منا ما يوافق طبعه ومشاربه وفهمه، على أن يضع نصب عينيه دائما مبادئ الإسلام وروحه بحيث إذا لمح فى الطريقة التى يسلكها ما يتعارض وهذه المبادئ أو ذلك الجوهر أصلح أمره فى الحال ولم يتعصب لمذهبه تعصب من يراه هو الأصل، والإسلام هو الفرع.
لنأخذ مثلا التشيع، فكل إنسان حر فى أن يؤمن بأن عليًّا، كرم الله وجهه، كان ينبغى أن يتولى الخلافة بعد رسول الله ثم يتولاها أولاده ثم أحفاده ثم باقى ذريته من بعد، لكنى لا أفهم تصوُّر الشيعى أن إيمانه بحق علىٍّ هذا لا يكتمل إلا إذا سَبَّ أبا بكر وعمر وثَلَبَ عِرْض أم المؤمنين الصِّدّيقة بنت الصديق. ذلك أنه لا علاقة بين الأمرين، بل من الممكن جدا أن نقول فى حق علىٍّ فى الولاية ما نقول، وفى ذات الوقت نحترم زوجة نبينا ووالدها مثلا، أو على الأقل: أن نسكت فلا نحاول الإساءة إليهما، إن لم نستطع الثناء عليهما. كذلك يمكن أن يكون الإنسان متصوفا حار القلب متوهج الإيمان يركز على المشاعر الباطنة، لكنْ دون أن يهمل الشعائر والرسوم كما يفعل بعضهم حين يزعم أنه قد بلغ نهاية الطريق وكملت له أخلاقه وصفت نفسه صفاء تاما فلم يعد بحاجة إلى تأدية العبادات مثلا، أو يزعم حصول الكرامات على يديه، أو يتصور إمكان اتحاده بالله أو حلول الذات الإلهية فيه... وهكذا. صحيح أننى أعلم أن ما أكتبه الآن ليس إلا أمانىَّ طيبةً لا يصدّقها الواقع، لكن لا بد أن أقول ما عندى، إذ لست أستطيع شيئا آخر سوى التذكير والنصح إن كان لى أن أدعى الحق فى التذكير والنصح، إذ أنا بدورى محتاج إلى من يذكّرنى وينصحنى مثلما أذكّر الآخرين وأنصحهم... وهكذا دواليك. وبتلك الطريقة تسير سفينة الحياة، فتستقيم مرة، وتتلاعب بها الأمواج أخرى، إلى أن تصل إلى غايتها باستيفائنا أجلنا. وهذه هى طبيعة الحياة، وتلك قدراتنا، التى لا يكلفنا الله أكثر منها؟
كذلك لست أفهم هذا الاستقطاب الذى يقيمه الغزالى بين الدنيا والآخرة بما يفيد أنك لا تستطيع أن تجمع بينهما، بل إما الدنيا فتخسر الآخرة، وإما الآخرة فلا بد لك حينئذ من نبذ الدنيا بالكلية، وليس من طريق ثالث. والعجيب أننى كنت دائما ما أسمع خطيب الجمعة الريفى يقول إن الدنيا مزرعة الآخرة. أى أن الدنيا لا تتعارض مع الآخرة بل تشكل الطريق الذى يؤدى إليها. وهو كلام صحيح مائة فى المائة، وإلا فكيف يمكن أن يكسب الإنسان معركة الآخرة إذا نبذ الدنيا؟ إن نبذ الدنيا الحقيقى هو أن ينتحر الإنسان بحيث لا يعود يربطه بها أى رابط، فهل هذا مما يرتضيه الدين؟ ثم كيف يصح أن ينبذ الإنسان الدنيا، والله إنما خلقها لنستمتع بها؟ أليس قد ذكر سبحانه فى القرآن مرارا أنه سخر لنا ما فى السماوات والأرض جميعا منه؟ أبهذه الطريقة ينبغى أن نقابل نعمة الله؟ لو أن هذا وقع منا تجاه شخص مثلنا لكانت قلة لياقة وإساءة لا يسهل اغتفارها، فما بالنا إذا كانت قلة اللياقة مع الله عز شأنه؟ ثم إننا لكى نكسب الآخرة لا بد لنا من العمل والتعاون مع الآخرين والقيام بواجباتنا تجاه أنفسنا وأسرنا وأقاربنا وجيراننا ووطننا، وهو ما يستلزم مغامسة الدنيا والضرب فيها وخوض صراعاتها؟ فما معنى نبذنا إياها وإدارة ظهرنا لها إذن؟
قد يقول الغزالى إن مغامسة الدنيا معناه ارتكاب الذنوب والآثام. وأنا معه فى أن هذا سوف يقع، لكنى أضيف أنه ليس متوقعا منا نحن بنى البشر أن نتنزه كل التنزه عن الأخطاء، وإلا فما معنى قول الرسول الكريم: "كل بنى آدم خَطّاء، وخير الخطائين التوابون"؟ وما معنى قوله جل وعز: "وخُلِق الإنسانُ ضعيفا"؟ وما معنى قوله سبحانه: "قل: يا عبادىَ الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم"؟ وما معنى قول نبينا صلى الله عليه وسلم على لسان رب العزة والجلال: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم"؟ وعلى أية حال فليس معنى أننا سوف نرتكب أخطاء فى الدنيا أن ننبذ الدنيا، بل معناه أن نعمل دائما على تصحيح مسارنا ونحاول تجنب ارتكاب الأخطاء مرة أخرى، مع علمنا أننا مهما نبذل من جهد ونخلص النية والعمل فإن الخطأ سوف يتسرب إلى ما نعمله من خلال هذه الثغرة أو تلك، وما أكثر الثغرات التى تنفذ منها الأخطاء!
إننى، حين أقرأ آيات سورة "البقرة" التى يتحدث فيها الله عن خلق آدم والاستغراب الذى قابل به الملائكة ذلك الخبر حين سمعوا به من ربهم، أجد أن الإنسان لم يُخْلَق منزَّها عن الخطإ، بل لا يُنْتَظَر منه ألا يخطئ مثلما ظنت الملائكة فاستغربت أن يخلقه الله ما دامت هى تسبحه سبحانه وتقدسه ليل نهار ولا تجترح الشر أبدا، بل خلقه الله لكى يعمر الأرض مسلَّحا بالعقل والإرادة، متوقَّعا منه الإفساد وسفك الدماء كما قالت الملائكة فلم ينف الله ما قالت، بل لفت نظرها إلى شىء آخر لم تلتفت إليه، ألا وهو ما يتفرد به الإنسان من القدرة على تعلم الجديد كل يوم وتطوير الدنيا من حوله. ثم لا ينبغى أن ننسى رحمة الله لنا وبره بنا وكرمه معنا وغفرانه لذنوبنا. إن الله لن يؤاخذنا بقسوة كما يظن بعض الناس، بل برحمة منه وفضل، ما دمنا نؤمن به ونبذل جهدنا فى سبيل عمل الخير، ولا علينا بعد هذا إن فَرَطَتْ منا أخطاءٌ ما دامت لم تُجْتَرَح عن عناد وجبروت وإصرار. وحتى لو ارتُكِبَتْ على هذا النحو فإن توبة الله واسعة ولا يُغْلَق بابها أبدا لا ليلا ولا نهارا، وما من ذنب إلا والإنسان يستطيع أن يستغفر منه فيغفره الله له. ولقد أخطأ آدم فى أول الطريق، فهل ألقى به الله فى قعر جهنم؟ أبدا، بل استغفره آدم فغفر له وتاب عليه. إنه هو التواب الرحيم. وفى النهاية فإن البشر كلهم أجمعين لا يمكن أن يكونوا أطهارا خالصى الطهارة، بل هم بوجه عام يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا، والعبرة بأن تكون الحسنات أكثر من السيئات، أو على الأقل: أن تكون نياتهم خيرة وأن يعملوا بكل ما أُوتُوا من قوة على تنفيذ ما انْتَوَوْه لا يَأْلُون فى ذلك أى جهد حتى لو لم ينجحوا بسبب من هذه العقبة أو تلك.
لقد ذكر الغزالى أنه كان يزدهيه ما كان قد اكتسبه من علم، فرأى أن مثل هذا الشعور من شأنه أن يحبط أجره عند الله على التدريس، فكانت النتيجة أن ترك التدريس جملة. ولو كنت مكانه ما تركت التدريس لأن هذا الشعور لا يخامر المدرسين فقط، بل يخامر قلوب البشر جميعا، فكلنا تأتى علينا أوقات وحالات نحس فيها بالزهو لنجاحنا فى عملنا وتصورنا أن غيرنا ما كان ليحسن أن يعمل مثله. ولو أن كلا منا ترك عمله لهذه العلة لقد يجب على كل الناس أن يتركوا أعمالهم ويعتزلوا الدنيا. وعمر بن الخطاب ذاته على جلال قدره وتقواه قد أعجبته نفسه ذات مرة حين رأى أنه قد صار خليفة للمسلمين أجمعين بعدما كان يعمل برعى الغنم، فهل ترك الخلافة علاجا لهذا الازدهاء؟ لا طبعا، بل عالج نفسه وقمعها فى الحال وأعلن ذلك على الناس.
يقول ابن منظور فى "مختصر تاريخ دمشق": "نادى عمر بن الخطاب بــ‘الصلاة جامعة’، فلما اجتمع الناس وكبّروا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: أيها الناس، لقد رأيتُني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبّضن لي القبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي، وأيّ يوم! ثم نزل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زِدْتَ على أن قَمَيْتَ نفسك (يعني: عِبْتَ). فقال: ويحك يا ابن عوف! إني خَلَوْتُ، فحدثتني نفسي قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردتُ أن أعرّفها نفسها. وقال عبد الرحمن بن حاطب: كنت مع عمر بن الخطاب بضجنان، فقال: كنت أرعى للخَطّاب بهذا المكان، فكان فظا غليظا، فكنت أرعى أحيانا، وأحتطب أحيانا، فأصبحت أضرب الناس، ليس فوقي أحد إلا الله ربّ العالمين. ثم قال:
لا شيء مما تــرى يبقى بشــــاشته * يبقى الإلهُ، ويفنــى المـــال والوَلَدُ
لم تُغْنِ عن هــــــــــــرمزٍ يوما خزائنُــــــــه * والخُلْدَ قد حاولتْ عادٌ فمـا خَلَدوا
ولا سليمان إذ تجــــــري الريـــاح له * والإنس والجنّ فيمـــا بينهــــا بُرُدُ
أين الملـــوك التي كــــــانت نواهلهـــــا * من كلّ أَوْبٍ إليهـــا راكبٌ يَفِدُ؟
حوضًــــا هنالك مورودًا بلا كَذِبٍ * لا بدّ من وِرْدِه يومــا كما وردوا"
ولقد وقع فى إحدى الغزوات على عهد النبى شىءٌ من خالد أغضبه صلى الله عليه وسلم، فهل تخلص من خالد أو أمره بترك عمله واعتزال الدنيا؟ لقد رأى أنه اجتهد فأخطأ، فنبهه إلى خطئه وشدد على أنه لا ينبغى أن يصنع ذلك مرة أخرى. كما ضُبِطَت امرأة قبيل فتح مكة وهى تحمل رسالة من أحد الصحابة البدريين ينبه فيها أهل مكة إلى نية الرسول فى غزوهم وفتح مدينتهم. فماذا صنع الرسول حين عرف بالأمر؟ لقد أراد عمر أن يقتل الرجل، إلا أن الرسول قال له: وما يدريك؟ لعل الله اطَّلَع على أهل بدر فقال لهم: "اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". وأنا أفهم الحديث على أن الرسول قد وازن بين اشتراك الصحابى فى بدر، تلك المعركة الفاصلة فى تاريخ الإسلام والبشرية والتى يُوزَن فيها عمل من اشترك فيها من الصحابة بميزان استثنائى، وبين ما أقدم عليه الصحابى بطيب نية واجتهاد خاطئ وجهل بأوضاع الدين والدولة الجديدين، فضلا عن خوفه أن تضارّ مصالحه فى مكة وتصوُّره أنه بهذه الرسالة سوف ينقذها، فتركه عليه الصلاة والسلام دون عقاب، سيما وأن الرسالة لم تصل لغايتها فلم يضرّ المسلمين شىء، وأنه يعلم أن إيمان الرجل إيمان صحيح، وإِنْ غَشِيَتْه غبشة عارضة وقتية لا تنال منه منالا، وأنه متى نُبِّه تنبه واستقام على الطريقة لا يلتوى بعدها أبدا.
والعبد لله أحيانا ما يخامره مثل هذا الشعور إذا وضع دراسة أو اشترك فى ندوة ورأى نفسه قد وُفِّق فيها، فيجد لزاما عليه أن ينبه نفسه إلى أن ما يعلمه فى جنب ما يجهله لا يعدو أن يكون قطرة من محيط لا سواحل له، وأن ما توصل له من علم أو ألفه من كتاب أو ألقاه من محاضرة إنما هو هبة من الله أفاضها الله عليه، فيقف فى المحاضرة التالية ويعلن للطلاب أنه مثلهم جاهل، إلا أن جهله يختلف عن جهلهم فى أنه جهل بسيط لأنه لا يكف عن محاربة هذا الجهل والعمل على إزالة غشاواته غير المتناهية عن عينيه واحدة واحدة رغم كل شىء. لو أن الغزالى قد اعتزل التدريس والتأليف لأنه رأى مثلا أن عليه ضغوطا عاتية من السلطان لا يمكنه مواجهتها لقول ما لا يرضاه ضميره لفهمتُ موقفه وقدَّرْتُه ووافقتُه على الاعتزال. أما، وهو لم يتحدث عن شىء من ذلك أو ما يشبهه، فلا أجد ما أستند إليه فى الموافقة على ما صنع. ولو افترضنا أن هذا قد حدث فعندئذ ما كان له أن يعتزل الناس وتيار الحياة الصاخب فى صومعة مثلا، بل كان ينبغى أن يجد لنفسه عملا آخر يتعيش منه هو وأسرته بعيدا عن التدريس بضغوطه. أما ترك كل شىء، كما يُفْهَم من كلامه فى هذا الشأن، فكلا وألف كلا، مع إجلالى الشديد له رغم كل ذلك.
لقد كنت، وأنا صغير لم يصلب عودى ولا استحكمت تجاريبى ولا نضج فهمى للحياة بعد، أتصور أنه سيأتى يوم أتخلص فيه من كل عيوبى فأعيش بعده عيشة كلها سعادة وسكينة ورضا وبُعْد عن الخطإ والتقصير. ثم تكشفت لى الحياة عن حقيقتها، فإذا هى تتلخص فى أن واجبنا الأول والأخير هو بذل الجهد دون توقف بهدف الوصول إلى الكمال، الذى لا ولن نصل إليه أبدا، ورغم ذلك لا ينبغى أن نتوقف عن السعى لدركه يوما مع يقيننا أن هذا هو المستحيل بعينه، وأن هذا هو قَدَرنا وواجبنا فى الحياة، وأنه على أساس من القيام بذلك الواجب أو التفريط فيه سوف ندخل الجنة أو لا.
ومما قاله الإمام أبو حامد الغزالى أيضا عن التصوف ويحتاج إلى النظر فيه لنرى مدى إصابته للحق بشأنه ما كتبه رحمه الله فى الجزء الثانى من كتاب "إحياء علوم الدين" أثناء كلامه عن بعض الأمور المتصلة بالمتصوفة، إذ قال: "سُئِل عن مال أُوصِيَ به للصوفية، فمن الذي يجوز أن يُصْرَف إليه؟ فقلت: التصوف أمر باطن لا يُطَّلَع عليه ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته بل بأمور ظاهرة يعوِّل عليها أهل العرف في إطلاق اسم "الصوفي". والضابط الكلي أن كل من هو بصفةٍ إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكرا عندهم، فهو داخل في غمارهم. والتفصيل أن يلاحَظ فيه خمس صفات: الصلاح والفقر وزي الصوفية وألا يكون مشتغلا بحرفة وأن يكون مخالطا لهم بطريق المساكنة في الخانقاه. ثم بعض هذه الصفات مما يوجب زوالُها زوالَ الاسم، وبعضها ينجبر بالبعض. فالفسق يمنع هذا الاستحقاق لأن الصوفي بالجملة عبارة عن رجل من أهل الصلاح بصفة مخصوصة. فالذي يظهر فسقه، وإن كان على زيهم، لا يستحق ما أُوصِيَ به للصوفية. ولسنا نعتبر فيه الصغائر. وأما الحرفة والاشتغال بالكسب فإنه يمنع هذا الاستحقاق. فالدهقان والعامل والتاجر والصانع في حانوته أو داره والأجير الذي يخدم بأجرةٍ، كل هؤلاء لا يستحقون ما أُوصِيَ به للصوفية ولا ينجبر هذا بالزي والمخالطة. فأما الوراقة والخياطة وما يقرب منهما مما يليق بالصوفية تعاطيها، فإذا تعاطاها لا في حانوت ولا على جهة اكتسابٍ وحرفةٍ فذلك لا يمنع الاستحقاق، وكان ذلك ينجبر بمساكنته إياهم مع بقية الصفات. وأما القدرة على الحِرَف من غير مباشرة فلا تمنع، وأما الوعظ والتدريس فلا ينافى اسم "التصوف" إذا وجدت بقية الخصال من الزي والمساكنة والفقر، إذ لا يتناقض أن يقال: ‘صوفي مقرئ، وصوفي واعظ، وصوفي عالم أو مدرس’، ويتناقض أن يقال: ‘صوفي دهقان، وصوفي تاجر، وصوفي عامل’. وأما الفقر فإن زال بغِنًى مُفْرِطٍ ينسب الرجل إلى الثروة الظاهرة فلا يجوز معه أخذ وصية الصوفية. وإن كان له مال ولا يفي دَخْلُه بخَرْجه لم يبطل حقه، وكذا إذا كان له مال قاصر عن وجوب الزكاة، وإن لم يكن خرج. وهذه أمور لا دليل لها إلا العادات. وأما المخالطة لهم ومساكنتهم فلها أثر، ولكن من لا يخالطهم وهو في داره أو في مسجد على زيهم ومتخلق بأخلاقهم فهو شريك في سهمهم، وكأن ترك المخالطة يجبرها ملازمة الزي. فإن لم يكن على زيهم ووُجِد فيه بقية الصفات فلا يستحق إلا إذا كان مساكنا لهم في الرباط فينسحب عليه حكمهم بالتبعية. فالمخالطة والزي ينوب كل واحد منهما عن الآخر. والفقيه الذي ليس على زيهم هذا حكمه: فإن كان خارجا لم يُعَدّ صوفيا، وإن كان ساكنا معهم ووُجِدت بقية الصفات لم يبعد أن ينسحب بالتبعية عليه حكمهم. وأما لبس المرقَّعة من يد شيخ من مشايخهم فلا يشترط ذلك في الاستحقاق. وعدمه لا يضره مع وجود الشرائط المذكورة. وأما المتأهل المتردد بين الرباط والمسكن فلا يخرج بذلك عن جملتهم".
هذا ما قاله الغزالى فى تعريف "المتصوف" وضبط مصطلح "التصوف"، وهو ضابط غريب، وبخاصة من عالم كبير كالغزالى رضى الله عنه. إذ كيف فاته أن الإسلام لا يرحب بهذا الذى يقوله عن المتصوفة من أنهم يؤثرون الفقر وترك العمل والسعى وراء الرزق، اعتمادا (بطبيعة الحال) على أن هناك من يطعمهم ويكسوهم ويرزقهم وهم نائمون فى العسل بحجة أنهم مشغولون بعبادة الله، ناسين أو بالأحرى: متناسين أن العمل عبادة، وأن الإسلام لا يعرف مثل هذا الكسل والتبلد وانتظار الأكل والشرب من الآخرين بعدما صار هؤلاء الصوفية أعضاءً شَلاَّءَ فى المجتمع لا يُرْجَى منهم نفع ولا جدوى. ثم ما معنى تَسَاكُن المتصوفة؟ أليس معناه أنهم يسكنون خانقاها يجرى عليهم فيه الرزق دون أن يتعبوا فى تحصيله وكأنهم نساء يعتمدن على كفالة أقربائهن؟ وهل هذا مما يجوز فى الإسلام؟ بل هل هذا من الرجولة والكرامة والشهامة فى شىء؟ ألم يقل الرسول لمن رآه يبقى فى المسجد بعد انتهاء الصلاة اعتمادا على أن له أخا يقوم بأمر طعامه وشرابه وكسائه إن أخاه أَعْبَدُ منه؟ ألم يكره الرسول من المسلمين أن يمد أحدهم يده بالسؤال، وهو يستطيع أن يحصّل رزقه بنفسه؟ ألم يأمر الرجلَ الذى أتاه سائلا أن يذهب إلى بيته ويحضر ما يمكن بيعه، ثم باعه له بدرهمين واشترى له بهما قدوما ليحتطب ويبيع ما يحتطبه، ثم أمره ألا يريه وجهه مدة من الزمان عاد إليه بعدها وقد كسب مالا ينفقه فى إشباع حاجياته، فقال له إن هذا خير من أن يأتى يوم القيامة وقد نُكِتَتْ فى وجهه نكتة سوداء؟
ثم من قال إن الإسلام يرضى لأتباعه بالفقر، فضلا عن أن يرحب به، فضلا عن أن يوجبه عليهم؟ أليس الله هو الغنىّ؟ أليس لله المثل الأعلى فى السماوات والأرض؟ وكما أن الله عليم، ومن ثم فعلينا أن نبذل نحن البشر جهدنا كى نحصل العلم ونكون علماء، وكما أن الله قوى، ومن ثم فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف بما يعنى أن المسلم عليه أن يبذل كل جهده كى يكون قويا فيرضى عنه الله ورسوله، وكما أن الله جميل يحب الجمال، ومن ثم ينبغى أن يحرص المسلم على الجمال فى كل ما يعمل، وكما أن الله نظيف يحب النظافة، ومن ثم كان واجبا على المسلم أن يكون نظيفا حتى ليؤكد الرسول الكريم أن النظافة من الإيمان، كذلك فَكَوْن الغِنَى من صفات الله سبحانه وتعالى معناه أن علينا نحن المسلمين العمل بكل قوانا على أن نكون أغنياء. ولم يترك الرسول الأمر غائما دون تحديد، بل قال لأحد صحابته حين أراد أن يتبرع بماله كله: "إنك إِنْ تَذَرْ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تَذَرَهم عالةً يتكففون الناس". وبالإضافة إلى ذلك ألم يبين صلى الله عليه وسلم أن اليد العليا خير من اليد السفلى، بما يفيد أن الغِنَى أفضل من الفقر، وأن من يعمل فيغتنى خير ممن لا يعمل فيظل فقيرا، إذ إن علو اليد يقتضى أن يكون صاحبها غنيا يُعْطِى لا فقيرا يأخذ؟ على أن هناك فرقا لا يَخْفَى بين قوتنا وغنانا مثلا وبين قوة الله وغناه سبحانه، وهو أن صفات الله مطلقة لا تحدها حدود، أما صفاتنا فمحدودة، فضلا عن أنها مستمَدّة منه جل وعلا وليست من عند أنفسنا، إذ نحن مِنْ خَلْقه، وما من شىء نملكه أو نتصف به إلا وهو من عطاياه وكرمه.
وأغرب من ذلك أن الغزالى يتناول التصوف وكأنه حرفة من الحرف، إذ هو لا يتصور أن يجمع أحدهم بين التصوف والدهقنة مثلا، أو التصوف والتجارة، أو التصوف والصناعة. وما دام المتصوف لا يمكن أن يزاول حرفة أو تكون له مهنة يأكل منها، وكأن التصوف هو وظيفته فى الحياة لا يمكن أن يزاول وظيفة سواها، فمعنى هذا أن يتولى الآخرون إطعامه وسقيه وكسوته وإسكانه، لأنه ليس له عمل ولا يشعر بالحرج جراء عدم العمل، بل كل ما يفعله هو أن يعيش فى خانقاه يأتيه فيها طعامه وشرابه وكساؤه دون أن يقوم فى مقابل ذلك بأى عمل، وهو ما لا يتسق مع الإسلام فى شىء. ذلك أن التصوف كما أفهمه إنما هو التوهج الروحى بحيث إن المتصوف إذا أقبل على عمل شىء من عبادة أو سعى دنيوى فإنما يقبل عليه ويؤديه بحرارة وإخلاص باذلا كل ما لديه من جهد لا يعرف الفتور ولا الكلل، فى حدود الاستطاعة البشرية بطبيعة الحال. وعلى هذا فمن الممكن أن يكون المتصوف صاحب عمل كأن يكون تاجرا أو زارعا أو صانعا أو مدرسا أو ضابطا أو خبازا أو سباكا أو بوابا... إلخ. لا بل لا بد أن يكون صاحب عمل، وإلا فمن أين يأكل ويشرب ويلبس ويكون له بيت يسكنه؟ إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما قال الفاروق رضى الله عنه، ولا ينبغى للمسلم أن يكون عالة على الناس، بل يجب عليه أن يسعى على معاشه هو وأسرته.
ونحن فى عصرنا هذا نعرف أكثر مما كان يعرف من مَضَوْا من أسلافنا أن الأمم إنما تَعِزّ وتقوى بغناها، وأن هذا الغنى لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل، والعمل الشاق المتصل. أما الفقر فهو باب الضعف والهلاك ووقوع الأمة فى فخ الحاجة ومد اليد لأخذ المعونة أو الاستدانة، التى تؤدى إلى التدخل الأجنبى والاستعمار. أم سيقال إن المتصوف لا يشغل نفسه بمثل تلك الأمور الدنيوية؟ إذن فهو متصوف منافق يتظاهر بحب دينه وبالإخلاص فى ممارسته بينما هو فى الحقيقة لا يمارس منه شيئا، أو لا يمارس منه شيئا نافعا، ظنا منه أن القشور التى يمارسها هى الدين، فى حين أنها ليست من الدين فى قليل أو كثير، أو هو متصوف جاهل لا يعرف دينه ولا يفهم حقيقة أمره. لكن لا بد أن نضيف إلى ذلك أن الغنى المقصود ليس هو غنى المال فقط بل غنى النفس أيضا. فكما ترى فإن الغنى أفضل من الفقر فى كل حال: فى حال الغنى المادى وفى حال الغنى النفسى جميعا.
ولا يقول بأفضلية الفقر إلا من لا يعرف حقيقة الإسلام، فالفقر مذلة وحاجة وضعف، ومن ثم فهو مذموم بكل لسان. ومع هذا ينبغى أن نوضح أن الفقر إذا كان نتيجة تمسك بالمبدإ الحلقى أو العقيدى فهو شرف يزين صاحبه، وكذلك إذا كان نتيجة عجز عن العمل أو عن العثور عن العمل فليس على صاحبه من حرج، إذ هو أمر خارج الطوق، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لكن لا بد للشخص المفتقر حينئذ ألا يستسلم للفقر، بل عليه البحث عما يخرجه من هذا النفق المظلم لا يكفّ عن ذلك أبدا. وقد تمر الأمة بظروف صعبة من حصار ظالم أو جائحة طبيعية مثلا، فعندئذ لا عيب فى الفقر الذى تعانى منه جماهيرها، إذ الأمر ليس بأيديهم بل هو مفروض عليهم. ولكنهم، فى هذه الحالة أيضا، مطالبون بالسعى لتجاوز الأزمة لا بالرضا بها، فضلا عن استدامتها.
ولا ينبغى أن يقال إن المتصوف رجل زاهد فى الدنيا، فهو من ثم لا يفكر فيها ولا يشغل نفسه بها. ذلك أنى أخشى أن يكون فى هذا سوء أدب مع رب العالمين، الذى سخَّر لنا الدنيا بكل ما فيها من أرض وسماء ونجوم ورياح وشمس وقمر وبحار وأنهار كما يؤكد القرآن مرارا وتكرارا فى سوره المختلفة: المكى منها والمدنى على السواء بما يدل على أهمية الأمر، إذ ليس من حسن الإيمان فى هذه الحالة أن يقول الإنسان إنه عازف عن هذه النعم التى سخرها الله له. أَفْهَم أن يقال: لا ينبغى أن يكون الإنسان مسعورا وراء المال بحيث ينسى بقية واجباته ولا يراعى حراما ولا حلالا. لكنى لا أفهم أن يدعو مسلم إلى كراهية الغنى لا لشىء إلا لحبه للفقر والحاجة وما يترتب على الفقر والحاجة من مقاساة الذل والهم والكرب العظيم بالليل والنهار. ثم إن المتصوف لا يعيش وحده فى الدنيا حتى يقول إنه لا يحتاج منها إلا أقل القليل، بل هو فى أغلب الأحيان مسؤول عن زوجة وأولاد وأبوين كبيرين، وربما عن بعض الأقارب المساكين العاجزين أيضا. فكيف يقوم بواجبه نحو هؤلاء إذا كان فقيرا لا يملك ما ينفقه عليهم أو يعطيه إياهم؟ وفى الأيام الأولى للدولة الإسلامية حين لم يكن هناك مالٌ كافٍ لإدارة شؤونها وتعبئة جيشها والإنفاق على الفقراء فيها، ألم يكن أغنياؤها يسارعون إلى إنجادها؟ فكيف بالله كانت تستطيع الدولة الإسلامية تجاوز تلك الشدة لو لم يكن هناك أغنياء يقومون بهذا الواجب؟ أم ترى الدول يمكنها أن تعيش فى فقر، وتنجح رغم هذا فتكون دولا قوية مرهوبة الجانب؟ هذا ما لا يمكن أن يكون.
ثم إن الضابط الذى اعتبره الغزالى فى تحديد معنى "المتصوف" إنما هو ضابط شكلى من فقر وارتداء لزى الصوفية ومساكنة لهم مما لا يدل بالضرورة على شىء وراءه، مع أن الصوفية يقولون إنهم من أهل الباطن، الذين ينشغلون بالجوهر ولا يعبأون بالأشكال، ويعيبون الفقهاء من أجل ذلك بأنهم يركزون فى أمور العبادة على الظاهر فيتحدثون مثلا عن حركات الصلاة وسكناتها وأقوالها وأفعالها ثم لا يشغلون أنفسهم بالكلام عما ينبغى أن يتحلى به المصلى من خشوع وإخلاص وإخبات وما إلى هذا، وهو ما أشار إليه د. محمد عبد المنعم خفاجى بقوله: "الفقه علم بأحكام الشريعة، والتصوف عمل بها. والفقه من علوم الظاهر، والتصوف من علوم الباطن. ومصادر الفقيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهى وإن كانت مصادر التصوف إلا أنه يستمد مع ذلك من الوجدان والذوق والروح والإلهام مادة فهمه لهذه المصادر، بينما يستمدها الفقيه من عقله. والعمل والعبادة اللذان توجبهما معرفة الأحكام الشرعية هما وقوف عند حدود الظاهر، أما العمل والعبادة اللذان يوجبهما التصوف فهما لا يقفان عند غاية ولا عند حد" (د. محمد عبد المنعم خفاجى/ الأدب فى التراث الصوفى/ مكتبة غريب/ 1980م/ 9). فهل التصوف هو أن يكون الإنسان لابسا زى الصوفية ومساكنا لهم وفقيرا مثلهم كما يفهم من كلام الغزالى، ثم لا شىء آخر؟ ما أسهل إذن أن يكون كل من هب ودب صوفيا ما دام هذا هو التصوف!
 
أخي الكريم : وفقني الله وإياك لاتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم .
مسألة التصوف أشبعت بحثا في آلاف المجلدات ؛ وليس فيها من جديد يبحث إلا ما استجد من طرق ونحل فرخها التصوف ورعاها حتى نبتت ومدت جذورها في هذه الأمة .
إن تلخيص التصوف عند المحققين من أهل العلم الذين درسوه حق دراسته ووقفوا على حقائقه يمكن إيجازها في كلمة واحدة :
التصوف = الإلحاد ، وأن تتصوف معناها على الحقيقة بعيدا عن المجاملات ، وتحميل الكلام ما لا يتحمل أن تصبح ملحدا في الدين .
إن التصوف - أخي الفاضل - يقوم على ركائز أساسية كل واحدة منها تفضي إلى الكفر الصريح ، ومنها :
- وحدة الوجود .
- الشريعة والحقيقة .
- ادعاء العصمة للمشايخ .
ولم يسلم منها متصوف بدءا من أبي هاشم الصوفي ، ومرورا بالجنيد والحلاج والغزالي وابن عربي وانتهاء بالمواليد الجدد كل يوم من نقشبندي ورفاعي وبدوي وتيجاني إلى آخر القائمة .
ومن عنده برهان أن واحدا من المتصوفة المعروفين سلم من هذه العقائد المكفرة فليأت به ؟
ولا يعني هذا أننا نكفر أيا واحد من هؤلاء كما هو معلوم في مسألة تكفير المعين والعذر بالجهل والتأويل ونحو ذلك .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
 
رابعة العدوية
د. إبراهيم عوض​
فى الجزء الثانى من كتاب د. يوسف القرضاوى: "من هدى الإسلام- فتاوى معاصرة" سؤال عن رابعة العدوية: هل هى شخصية حقيقية أم هل هى من اختراع الصوفية؟ وهذا هو السؤال: "سمعت أحد الخطباء المعروفين يحمل على السيدة رابعة العدوية الزاهدة الصالحة المشهورة ويقول إنها أسطورة اخترعتها الصوفية لينسبوا إليها ما لا يُقْبَل ولا يُعْقَل من الأقوال والأشعار مثل قولها فى مناجاة الله تعالى:
فليتك تحـــــلو، والحيــــاة مـــــريــــرة
وليت الذى بينى وبينك عــــــــامرٌ
وليتك ترضى، والأنام غضـــابُ
وبينى وبين العـــــالمين خــــــــرابُ
وقولها:
كلـــهـــــم يعبــــدوك من خـــوف نارٍ
أو لأن يدخلــــوا الجِنَـــــان فيَحْظَوْا
ليس لى فى الجنــــان والنـــار حظ
*
فـــــأمـــّـا الذى هــــو حب الهــــوى
وأمــــــا الـــــذى أنت أهــــــــل لـــــه
ومـــــــــا الحــمد فى ذا ولا ذاك لى



*
ويــَــرَوْنَ النجاة حظــــا جـــــزيلا
بنعيمٍ و يشـــــربـــوا ســـلسبيــــلا
أنـــــا لا أبــتــــغى بحبِّــــى بــــديلا
*
فشُغْـِــــلى بذِكْــــرِكَ عمــا سواكَ
فكَشْفُك لِى الحُجْبَ حتى أراكَ
ولكــــنْ لك الحمـد فى ذا وذاكَ
وأطال الخطيب فى إنكار هذه الأشعار وماتضمنته من كفر وضلال حسب قوله. فهل ما ذكر هذا الخطيب صحيحٌ ومُسَلَّم، ولا وجود لهذه المرأة الصالحة؟ وهل هذه الأشعار تتضمن ضلالا و كفرا حقا؟
نرجو بيان رأيكم الذى عرفنا فيه الاعتدال، مبينا الأدلة من القران والسنة". فأجاب الدكتور بكلام كثير تناول فيه أشياء متعددة سوف نكتفى منها بما يهمنا هنا مع بعض التصرف، وهو أن الخطيب المذكور، إن صح ماذكره السائل عنه، أخطأ خطأين كبيرين: أنه اتخذ مجرد الجحود و الإنكار سلاحا فى نفى الوقائع التاريخية، وهذا أمر مرفوض فى منطق العلم، وإلا لقال من شاء ما شاء. ولكن يُقْبَل منه ومن مثله فى هذا المقام أن يقول إنه رجع إلى كتب التاريخ وكتب التراجم والطبقات التى عُنِيَتْ بالأعلام عامة، وبالزُّهّاد والعُبّاد خاصة، فلم يجد ذكرا لهذه العابدة الصالحة التى اخترعوها وسَمَّوْها: رابعة العدوية، بل يوجد من ثقات المؤرخين من أنكر وجودها وعاب على الصوفية ذكر أخبارها فى كتبهم. لكن الخطيب لم يقل هذا، ولايستطيع أن يقوله لأن الحقائق العلمية تكذبه، والوقائع التاريخية تصدمه. فكتب التاريخ والتراجم تثبت وجود رابعة العدوية وتترجم لها وتذكر بعض أقوالها وأعمالها وأشعارها، فضلا عن كتب الصوفية أنفسهم: ترجم لها أبو نعيم فى "حلية الأولياء"، وابن الجوزى فى "صفة الصفوة"، وابن خلكان فى "وَفَيَات الأعيان"، والذهبى فى "سِيَر أعلام النبلاء"، وابن كثير فى "البداية والنهاية"، وابن العماد فى "شَذَرات الذهب"، وصاحبة "الدُّرّ المنثور فى طبقات ربات الخدور"، والزِّرِكْلى فى"الأعلام". كما ذكرها القُشَيْرى فى "الرسالة"، وأبو طالب المكى فى "قوت القلوب"، والغزالى فى "الإحياء"، والسهروردى فى "عوارف المعارف"، والشعرانى فى "طبقاته"، وغيرهم. و ذكر ابن الجوزى فى "صفة الصفوة" أنه أفرد لها كتابا جمع فيه كلامها وأخبارها.

والخطأ الثانى أن الخطيب عالج الموضوع الذى يريد معالجة تعتمد على الإثارة والتهييج لا على التنوير والتحقيق. والإثارة قد تعجب بعض سامعيه المعجبين به والذين تستهويهم الجرأة فى النقد أو النقض والهجوم والخروج على المسلَّمات عند الناس، ولكنها لا تعجب خاصةَ المثقفين و المستنيرين ممن يزنون الأمور بعقولهم ولا يأخذون كل مايقال قضيةً مسلَّمة. وقد كان حَسْبُ الخطيب هنا طريقين لا يملك ذو علم أو فكر أن ينكرهما أو أحدهما عليه: الطريق الأول التحقيق فيما يُنْسَب إلى رابعة العدوية أو غيرها من أقوال ومواقف، فليس كل ما نُسِب اليها صحيحا موثقا، بل قد يكون مقطوعا بنفيه عنها. من ذلك أنهم نسبوا اليها هذه الأبيات المشهورة تناجى بها ربها سبحانه:
فليتك تحـــــلو، والحيـــــاةُ مـــــريـــرةٌ
وليت الذى بينى و بينك عــــــامرٌ
إذا صـــــح منك الــــوُدُّ فالكُلُّ هينٌ
وليتك ترضى، والأنام غِضَـــابُ
وبينى وبين العـــــالمين خــــــــرابُ
وكل الذى فوق الــــتراب تــــرابُ
و الأبيات ليست لرابعة بل البيتان الأول و الثانى من شعر أبى فراس الـحَمْدانى فى خطاب ابن عمه الأمير المشهور سيف الدولة، وهما مذكوران فى ديوانه من قصيدة مطلعها:
أَمَـــــا لجميـــــلٍ عنـــــدكـــــنّ ثــوابُ
لقد ضَلَّ من تَحْوِى هــواه خـــريدةٌ

ولا لمسئٍ عنــــدكـــــن متـــابُ؟
وقد ذَلَّ من تَقْضىِ عليه كَعَابُ
وأبو فراس كان فى القرن الرابع الهجرى، ورابعة فى القرن الثانى. أما البيت الأخير فهو من قصيدة المتنبى فى مدح كافور، وفيه "المال" مكان "الكُلّ". وكل مافى الأمر أن الصالحين وجدوا أن هذا الشعر لا يجوز أن يخاطَب به إلا الله جل جلاله فنسبوا الخطاب فيه لمن هو أهله. ولا أدرى من نسب الشعر إلى رابعة، خاصة ولم أقرأ هذا فى كتاب معتبر، وإن كان مشهورا على الألسنة، وليس كل مشهور على الألسنة حجة. وكذلك ماينسب اليها من الشعر الذى تقول فى آخره:
ليس لى فى الجِنَـان و النــــار حَظٌّ
أنـــــــا لا أبتغـــى بحبـــى بديــــــلا
لا أدرى مدى صحة نسبته إليها". ثم مضى الدكتور القرضاوى فأورد بعض ما ينسب إليها من أقوال وأشعار ومواقف ممحصا له ليرى أهو حقيقى تاريخى أم لا، ومدليا برأى الإسلام فيما يُتَصَوَّر صدوره عنها. وما يهمنا من هذا كله هو أن هناك من يشكك فى وجود هذه العابدة الزاهدة بناء على ما ينسب إليها من شعر وتصرفات لا يقتنع بها عقله.
والواقع أن هناك أشياء كثيرة تنسب إلى رابعة لا يمكن أن تكون صحيحة، وبخاصة أن أقرب من ترجموا لها، وهو الجاحظ الذى عاش فى القرن التالى لقرن وفاتها، لم يذكر عنها إلا أنها كانت من النساء الناسكات الزاهدات من أهل البيان، وذلك فى "البيان والتبيين" و"الحيوان" و"المحاسن والأضداد"، ثم أورد عنها فى الكتاب الأول الحكايتين التاليتين: "قيل لرابعة القيسيّة: لو كلّمتِ رجالَ عشيرتِك فاشتَرَوْا لكِ خادما تكفيك مهنةَ بيتِك؟ قالت: واللَّه إني لأستحي أن أسأل الدُّنيا مَن يملك الدنيا، فكيف أسألها من لا يملكُها؟"، "وقيل لرابعة القيسية: هل عملتِ عملا قطُّ تَرَيْنَ أنَّه يُقْبَلُ منك؟ قالت: إنْ كان شيءٌ فخوفي من أن يُرَدَّ عليَّ"، وهذا كل ما هنالك، وهو ما يدفع إلى التساؤل: إذا كان الجاحظ المستقصِى، وهو أقرب من كتبوا عنها إلى عصرها، لم يزد فى الكتابة عنها على هذه السطور القلائل، فضلا عن أن أحدا آخر من كتاب عصره أو من العصر الذى يليه لم يكتب شيئا فى هذا الموضوع، فمن أين أتى من جاؤوا بعده بهذا الذى يُعْزَى إليها من أشعار وأنثار ومواقف وحكايات؟ ومن نقله إليهم يا ترى؟ يمكن أن يقال إن بعض هذا المنسوب إليها قد يكون صحيحا، إذ لعله كان موجودا فى كتب مبكرة ضاعت فلم تصل إلينا أو لعله استمر يُتَنَاقَل شفويا حتى سجله بعض من أتى بعد الجاحظ. ولا أريد أن أجادل فى هذا رغم غرابته، إذ من المستبعد جدا أن تكون رابعة بهذه الأهمية التى تُظْهِرها بها تلك الكتابات المتأخرة ثم لا يهتم بها أحد من القرنين التاليين لها اهتماما يُذْكَر، بل أنا الذى طرحته رغبة فى حل لتلك المشكلة، لكننى فى ذات الوقت لا أستطيع أن أقبل ما يمتلئ من تلك الأخبار بالمبالغة التى لا يقبلها العقل أو التى تتعارض مع ما نعرفه من الطبيعة البشرية، مع أخذنا فى الاعتبار أن هناك دائما استثناءات من الطابع الشائع لهذه الطبيعة، إلا أن هناك دائما سقفا لا يمكن أن ترتفع فوقه تلك الطبيعة. وأرجو أن يتنبه القارئ إلى أن الاختلاف فى سنة وفاة رابعة يبلغ خمسين عاما، إذ يقول بعض إنها ماتت سنة 135هـ، وبعض آخر سنة 185هـ. فإذا كان الشك فى تاريخ وفاتها يبلغ هذا المدى، فما بالنا بأخبارها وأقاويلها وأشعارها، التى لم تسجل إلا بعد تلك الوفاة بزمنٍ جِدِّ طويل؟
وقد وجدتُ د. عبد الرحمن بدوى لا يطمئن إلى شىء يتصل برابعة العدوية على ما سوف يأتى بيانه لاحقا فى هذا الفصل. كما رأيت كاتب مادة "رابعة العدوية" فى "دائرة المعارف الإسلامية" يبدى تشككا كبيرا فى أخبارتلك العابدة، بل يكاد يشك فى كل شىء يتعلق بتلك الأخبار. وهذه عبارته فى أصلها الإنجليزى تشهد على ذلك: "One cannot go so far as to throw into doubt her historical existence, but the traditions about her life and teachings include a very large proportion of legend which today can hardly be distinguished from in mind, one may nevertheless be permitted to present a portrait of the saint as it was conceived by her coreligionists over the course of the centuries".
والآن إلى بعض ما كتبه المؤلفون فى ترجمة رابعة العدوية حتى نعرف ماذا قيل عنها، وإلى أى مدى يمكن الاطمئنان إليه: ففى "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لأبى حاتم السجستانى (ت354هـ): "أنبأنا علي بن سعيد حدثنا إبراهيم بن الجنيد حدثنا سهل بن عاصم حدثنا نافع بن خالد قال: دخلنا على رابعة العدوية فذكرْنا أسباب الرزق، فخضنا فيه وهي ساكتة. فلما فرغنا قالت رابعة: خيبةً لمن يدعي حُبّه ثم يتهمه في رزقه". وفى "التعرف لمذهب أهل التصوف" للكلاباذى (ت380هـ): "دخل جماعة على رابعة يعودونها من شكوى، فقالوا: ما حَالُكِ؟ قالت: والله ما عرفتُ لعلتى سببا. عُرِضَتْ علىَّ الجنة، فملت بقلبى إليها، فأحسب أن مولاى غار علىَّ فعاتبنى. فله العُتْبَى". وفى "أسرار التوحيد" للمنور (ت600هـ): "قال أبو سعيد الخير إنه سمع من أبى علىٍّ الفقيه أن رابعة سئلت كيف بلغتْ هذه المرتبة فى الحياة الروحية. فأجابت: بقولى دائما: اللهم إنى أعوذ بك عن كل ما يشغلنى عنك، ومن كل حائل يحول بينى وبينك".
وفى "الحلية" لأبى نعيم الأصفهانى: "قال أبو عبد الله بن عمرو، قال: نظرت رابعة إلى رياح (ت195هـ)، وهو يقبّل صبيا من أهله ويضمه إليه، فقالت: أتحبه؟ قال: نعم. قالت: ما كنتُ أحسب أن فى قلبك موضعا لغيره، تبارك اسمه. قال: فسقط رياح مغشيا عليه، ثم أفاق وهو يمسح العرق من عند وجهه وهو يقول: رحمة من الله تعالى ذِكْرُه ألقاها فى قلوب العباد للأطفال". وعن "عين القضاة" للهمذانى أنه "خطبها عبد الواحد بن زيد مع علوّ شأنه، فهجرته أياما حتى شفع إليها إخوانه. فلما دخل عليها قالت له: يا شهوانى، اطلب شهوانية مثلك!". وعن "الشذرات" لابن العماد أنها كانت تقول لربها: "وعزتك ما عبدتُك رغبةً فى جنتك، بل لمحبتك. وليس هذا ما قطعت عمرى فى السلوك إليه".
وفى "إتحاف السادة المتقين فى شرح إحياء علوم الدين" للزبيدى: "قال سفيان الثورى رحمه الله تعالى لرابعة ابنة إسماعيل العدوية البصرية العابدة رحمهاالله تعالى، وكانت إحدى المحبين، ماتت سنة 135، وكان الثورى يقعد بين يديها ويقول: عَلِّمينا مما أفادك الله من طرائف الحكمة. وكانت تقول له: نِعْمَ الرجل أنت لولا أنك تحب الدنيا! وقد كان الثورى زاهدا عالما، إلا أنها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على الناس من أبواب الدنيا. وقال لها الثورى يوما: لكل عقدٍ شريطة، ولكل إيمان حقيقة، وما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدتُه خوفا من ناره ولا حبا لجنته، فأكون كأجير السوء: إن خاف عَمِل، أو إذا أُعْطِىَ عَمِل، بل عبدتُه حبا له وشوقا إليه. وروى عنها حماد بن زيد أنها قالت: إنى لأستحيى أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ فكان هذا جوابا لأنه قال: سلينى حاجتك. وخطبها عبد الواحد بن زيد، فحجبته أياما حتى سئلت أن يدخل عليها، فقالت له: يا شهوانى، اطلب شهوانية مثلك! أىَّ شىء رأيت فىَّ من آلة الشهوة؟ وخطبها محمد بن سلميان الهاشمى أمير البصرة على مائة ألف، وقال: لى غَلّةُ عشرةِ آلافٍ فى كل شهرٍ أحملها إليك. فكتبت إليه: ما يَسُرّنى أنك لى عبد وأن كل مالك لى وأنك شغلتنى عن الله طرفة عين. وقد قالت فى المحبة أبياتا (نظما) تحتاج إلى شرحٍ حَمَلها عنها أهل البصرة وغيرهم، منهم سفيان الثورى وجعفر بن سليمان الضُّبعى وعبد الواحد بن زيد وحماد ين زيد، وهذه هى:
أُحِبّكَ حبين: حــــــــــبَّ الهـــــــوى
فــــأمــــا الذي هــــو حُبُّ الهـــــوى
وأمــا الــــــــــــذي أنت أهــــــل لــــه
فـــــــــلا الحمـــــد في ذا ولا ذاك لي
وحُـــبًّا لأنـــك أهــــــــل لــــــــذاكـا
فشُغْلِي بذكرك عمـن ســــواكــــــا
فكَشْفُك لِي الحُجْبَ حتى أراكـا
ولكنْ لك الحمــــــــــد في ذا وذاكا
وقد تكلم صاحب "القوت" على هذه الأبيات بكلام ساطع الأنوار يَعْرِفه من رُزِقَه، ويُنْكِره من حُرِمَه. والمصنف رحمه الله أشار إلى زُبْدَة كلامه. فلنورد كلامه أولا ثم كلام صاحب "القوت". قال المصنف: ‘ولعلها أرادت بحب الهوى: حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة، وبحبه لما هو أهل له: الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبين وأقواهما’. وأما صاحب "القوت" فقال: ‘فأما قولها: "حبّ الهوى" وقولها: "حب أنت أهل له" وتفريقها بين الحبين فإنّه يحتاج إلى تفصيل حتى يقف عليه من لا يعرفه، ويَخْبُره من لم يشهده، وفي تسميته ونعت وصفه إنكار من ذوي العقول ممن لا ذوق له ولا قدم فيه، ولكنّا نحمل ذلك وندّل عليه من عرفه. يعني "حب الهوى": إني رأيتك فأحببتك عن مشاهدة عين اليقين، لا عن خبرٍ وسَمْعِ تصديقٍ من طريق النعم والإحسان، فتختلف محبتي إذا تغيرت الأفعال لاختلاف ذلك عليّ، ولكن محبتي من طريق العيان، فقَرُبْتُ منك وهربت إليك واشتغلت بك وانقطعت عمّن سواك. وقد كانت لي قبل ذلك أهواء متفرقة، فلما رأيتك اجتمعت كلّها فصرتَ أنت كلية القلب وجملة المحبة، فأنسيتَني ما سواك. ثم إني مع ذلك لا أستحق على هذا الحب، ولا أستأهل أن أنظر إليك في الآخرة على الكشف والعيان في محل الرضوان، لأن حبي لك لا يوجب عليك جزاء عليه، بل يوجب عليَّ كل شيء لك مني مما لا أطيقه ولا أقوم بحقك فيه أبدا، إذ كنتُ قد أحببتك فلزمني خوف التقصير، ووجب عليَّ الحياء من قلة الوفاء، فتفضلتَ عليَّ بفضل كرمك، وما أنت له أهل من تفضلك، فأريتني وجهك عندك آخرا كما أريتنيه اليوم عندي أولاً. فلك الحمد على ما تفضلت به في ذا عندي في الدنيا، ولك الحمد على ما تفضلت به في ذاك عندك في الآخرة، ولا حمد لي في ذا ههنا ولا حمد لي في ذاك هناك، إذ كنتُ وصلتُ إليهما بك. فأنت المحمود فيهما لأنك وصلتني بهما. فهذا الذي فسّرناه هو وجد المحبين المحققين. وقد كانت تَذْكُر الأنس في وجدها، وترتفع إلى وصف معنًى من الخُلَّة فى قولها السائر:
إني جعلتك في الــــــفؤاد محــــــدِّثي
فالجســـــــم مني للجـــــليس مؤانسٌ

وأبحتُ جسمى من أراد جلوسي
وحبيب قـــــــلبي في الفؤاد أنيسـي
ومن قولها النادر في مقام الخُلّة:
وتخلَّلْتَ مســــــلك الـــــــــــروح مني
فإذا مـــــا نطقتُ كنتَ حـــــــديثي

وبــــه سُمِّيَ الخــــــليـــل: خـــليــــلا
وإذا مــــا سكـتُّ كنتَ الغـــليــــلا
وقد أهَّل ذلك لها كل ما نقله عنها العلماء ووصفوها به، فوَصَفْنا من نعت المحبين بعض ما يصلح من معنى كلامها لأنا ظننّا بقولها ذلك أَنْ كان لها في المحبة قدم. ولا يسعنا أن نشرح في كتابٍ كشف حقيقة ما أجملناه ولا أن نفصّل وصف ما ذكرناه. ومَنْ لم يكن من المحبين كذلك حتى لا يُدِلّ بمحبته ولا يقتضي الجزاء عليها من محبوبه ولا يوجب على حبيبه شيئًا لأجل محبته فهو مخدوع بالمحبة ومحجوب بالنظر إليها. وإنما ذاك مقام الرجاء، الذي ضده الخوف، وليس من المحبة في شيء. ولا تصح المحبة إلاّ بخوف المقت في المحبة. وقال بعض العارفين: ماعرفه من ظن أنه عرفه، ولا أحبّه من توهمّ أنه أحبه’...".
وفي "شرح الزبيدي": "وقالت أم الخير رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، قُدِّس سِرّها، المتوفاة سنة 135، يوما: من يدلنا على حبيبنا؟ فقالت خامة لها: حبيبنا معنا، ولكن الدنيا قطعتنا عنه. اعلم أن رابعة، قُدِّس سِرُّها، كانت رأسا في المعرفة والمحبة كما هو مشهور من حالها، ولا يخفى عليها مقام المعيّة. وإنما قالت ما قالت وهي في مقام الاستغراق الذى هو من نتائج المحبة وغلب عليها الشوق على المشاهدة. والمحب في مقام القُرْب قد يتطلب من يأخذ بيده ويتعلق بالأذيال، فنبهتها الخادمة على أن الوصول إلى مقام المشاهدة لا يكون إلا بعد المفارقة من هذا العالم، فتمتنع عليه القواطع. فما أدق نظرها رحمها الله!... وقيل لرابعة قُدِّس سرها: كيف حُبُّك للرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله إني لأحبه حبا شديدا، ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين. وحُكِيَ عن أبي سعيد الخراز، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله، اعذرنى، فإن محبة الله شغلتني عن محبتك. فقال: يا مبارك، من أحب الله فقد أحبني".
وفى "الرسالة القشيرية": "سئلت رابعة: متى يكون العبد راضيا؟ فقالت: إذا سَرّته المصيبة كما سَرّته النعمة... وقال رجل لرابعة: إني قد أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تُبْتُ هل يتوب عليَّ؟ فقالت: لا، بل لو تاب عليك لتبتَ". وفى "طبقات الأولياء" لعبد الرؤوف المناوى "أن لصا دخل حجرتها وهي نائمة، فحمل الثياب وطلب الباب فلم يجده، فوضعها فوجده، فحملها فخَفِيَ عليه. فأعاد ذلك مرارا، فهتف به هاتف: دع الثياب، فإنا نحفظها ولا ندعها لك، وإن كانت نائمة. قال البوني: وهذا تحقيق التمكين بقوله تعالى: ‘له مُعَقِّباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه...’. وخاطت بعضَ قميصها في ضوء مشعلة سلطانية ففقدت قلبها زمانا حتى تذكرتْ، فمزقت القميص، فعاد قلبها. وسُئِلَتْ: متى يكون العبد راضيا؟ فقالت: إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة. وكانت شديدة الخوف جدا، فإذا سمعتْ ذِكْر النار أُغْمِيَ عليها. وكانت تقول: لو كانت الدنيا لرجل ماكان بها غنيا. قيل: كيف؟ قالت: لأنها تفنى. قالوا: مكثتْ أربعين سنة لا ترفع رأسها حياءً من الله. وكانت تقول: ما سمعت الأذان إلا ذكرتُ منادي يوم القيامة، وما رأيت الثلج إلا ذكرتُ تطاير الصحف، وما رأيت الجراد إلا ذكرتُ الحشْر".
وفى "مصارع العشاق" للسَّرّاج القارى (من أهل القرن الخامس الهجرى) نقرأ ما يلى: "أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمد بن عبد الله القطيعي قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثنا محمد هو ابن الحسين قال: حدثني عصام بن عثمان الحلبي قال: حدثني مسمع بن عاصم قال: قالت لي رابعة العدوية: اعتللتُ علةً قطعتْني عن التهجد وقيام الليل، فمكثت أياما أقرأ جزئي إذا ارتفع النهار لما يُذْكَر فيه أنه يعدل قيام الليل. قالت: ثم رزقني الله عز وجل العافية، فاعتادتني فترة في عقب العلة، وكنت قد سكنتُ إلى قراءة جزئي بالنهار، فانقطع عني قيام الليل. قالت: فبينا أنا ذات ليلة راقدة أُرِيتُ في منامي كأني رُفِعْتُ إلى روضة خضراء ذات قصورٍ ونبت حسن، فبينا أنا أجول فيها أتعجب من حسنها إذا أنا بطائر أخضر، وجارية تطارده كأنها تريد أخذه. قالت: فشغلني حسنها عن حسنه، فقلت: ما تريدين منه؟ دعيه، فوالله ما رأيت طائرا قط أحسن منه. قالت: بلى. ثم أخذتْ بيدي فأدارت بي في تلك الروضة حتى انتهت بي إلى باب قصر فيها، فاستفتحتْ، ففُتِح لها، ثم قالت: افتحوا لي بيت المِقَة. قالت: ففُتِح لها بابٌ شاع منه شعاع استنار من ضوء نوره ما بين يدي وما خلفي، وقالت لي: ادخلي. فدخلت إلى بيت يحار فيه البصر تلألؤا وحسنا ما أعرف له في الدنيا شبيها أشبّهه به. فبينا نحن نجول فيه إذ رُفِع لنا باب يُنْفَذ منه إلى بستان، فأهوت نحوه وأنا معها، فتلقانا فيه وُصَفاء كأن وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم المجامر، فقالت لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلانا قُتِل في البحر شهيدا. قالت: أفلا تجمّرون هذه المرأة؟ قالوا: قد كان لها في ذلك حظ فتركتْه. قالت: فأرسلتْ يدها من يدي، ثم أقبلتْ علي فقالت:
صَــــلاتُكِ نورٌ، والــعِبـــادُ رُقـــــــودُ
وعُمْـــرُكِ غُنْم إن عقلــــتِ ومهلـــةٌ

ونوْمـــــك ضِــــدٌّ للصّــلاة عنيــــــدُ
يســــيرُ ويفنــــى دائمــــــا ويبيـــــــدُ
ثم غابت من بين عيني، واستيقظتُ حين تبدى الفجر، فوالله ما ذكرتها فتوهمتها إلا طاش عقلي، وأنكرتُ نفسي. قال: ثم سقطت رابعة مغشيًّا عليها". ويقول الزمخشرى (من أهل القرنين: 5- 6هـ) فى "ربيع الأبرار ونصوص الأخبار": "اجتمعتْ عند رابعة عِدّةٌ من الفقهاء والزهاد، فذموا الدنيا، وهي ساكتة. فلما فرغوا قالت لهم: من أحب شيئا أكثر من ذكره: إما بحمد وإما بذم. فإن كانت الدنيا في قلوبكم لاشيء فلم تذكرون لاشيء؟".
وفى ترجمة رابعة العدوية فى كتاب "المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزى (508- 567هـ): "أخبرنا أبو القاسم الحريري، قال: أنبأنا أبو طالب العشاري، قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إسحاق السراج، قال: حدَّثنا حاتم بن الليث الجوهري، قال: حدَّثنا عبد الله بن عيسى، قال: دخلتُ على رابعة العدوية بيتها، فرأيت على وجهها النور، وكانت كثيرة البكاء، فقرأ رجل عندها آيةً ذُكِر فيها النار، فصاحت ثم سقطت. ودخلتُ عليها وهي جالسة على قطعة بوريّ خَلَقٍ، فتكلم رجل عندها بشيء، فجعلتُ أسمع وقع دموعها على البوريّ مثل الوَكْف، ثم اضطربتْ وصاحتْ، فقمنا وخرجنا. قال محمد بن عمر: دخلت على رابعة، وكانت عجوزا كبيرة بنت ثمانين سنة، كأنها الشَّنّ، تكاد تسقط، ورأيت في بيتها كراخة بواري، ومشجب قصب فارسي طوله من الأرض قدر ذراعين عليه أكفانها، وستر البيت جلّة، وربما كان بوريًّا، وحُبٌّ وكوز ولِبْدٌ هو فراشها، وهو مصلاها. وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة، وإذا مرت بقوم عرفوا فيها العبادة. وقال لها رجل: ادعي لي. فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه، فإنه يجيب دعوة المضطر. قال مؤلف الكتاب: كانت رابعة محققة فطنة. ومن كلامها الدال على قوة فهمها قولها: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي: ‘أستغفر الله’. وكان سفيان الثوري يقول: مُرُّوا بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتُها. وقال يوما بين يديها: واحزناه! فقالت: لا تكذب. قل: واقلة حزناه! لو كنتَ محزونا ما هَنَاك العيش. وقيل لها: هل عملت عملا تَرَيْنَ أنه يُقْبَل منك؟ فقالت: إن كان فمخافتي أن يُرَدَّ عَلَيَّ".
وفى "وفيات الأعيان" لابن خلكان (608- 681هـ) أنها "أم الخير رابعة ابنة إسماعيل العدوية البصرية مولاة آل عَتِيكٍ الصالحة المشهورة. كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة. وذكر أبو القاسم القشيري في "الرسالة" أنها كانت تقول في مناجاتها: إلهي، أتحرق بالنار قلبا يحبك؟ فهتف بها مرة هاتف: ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظنَّ السَّوْء. وقال يوما عندها سفيان الثوري: واحزناه! فقالت: لا تكذب. بل قل: واقِلَّةَ حزناه! لو كنت محزونا لم يتهيأ لك أن تتنفس. وقال بعضهم: كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمَّرة بمناديل من نور. وكانت تقول: ما ظهر من أعمالي فلا أعدّه شيئا. ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم. وقالت لأبيها: يا أبه، لست أجعلك في حِلٍّ من حرامٍ تطعمنيه. فقال لها: أرأيتِ إن لم أجد إلا حراما؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار. وكانت إذا جَنَّ عليها الليل قامت إلى سطحٍ لها ثم نادت: إلهي، هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه. وقد خلوت بك أيها المحبوب، فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار. ولقي سفيان الثوري رابعة، وكانت زَرِيّة الحال، فقال لها: يا أم عمرو، أرى حالاً رَثَّة. فلو أتيتِ جارك فلانا لغيَّر بعض ما أرى. فقالت له: يا سفيان، وما ترى من سوء حالي؟ ألستُ على الإسلام؟ فهو العِزُّ الذي لا ذل معه، والغِنَى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه. والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ فقال سفيان: ما سمعت مثل هذا الكلام. وقالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام معدودة. فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل. وكان أبو سليمان الهاشمي له بالبصرة كل يوم غلة ثمانين ألف درهم، فبعث إلى علماء البصرة يستشيرهم في امرأة يتزوجها، فأجمعوا على رابعة العدوية، فكتب إليها: أما بعد، فإن مُلْكِي من غَلّة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم. وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله. وأنا أخطبك نفسك، وقد بذلتُ لك من الصَّداق مائة ألف، وأنا مُصَيِّرٌ إليك مِنْ بَعْدُ أمثالها، فأجيبيني. فكتبت إليه: ‘أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن. فإذا أتاك كتابي فهَيِّئْ زادك، وقَدِّمْ لمعادك، وكن وصيَّ نفسك، ولا تجعل وصيتك إلى غيرك، وصُمْ دهرك، واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خَوَّلني أضعاف ما خَوَّلك فيشغلني بك عنه طرفة عين. والسلام’. وقالت امرأة لرابعة: إني أحبك في الله. فقالت لها: أطيعي من أحببتني له. وكانت رابعة تقول: اللهم قد وهبتُ لك مَنْ ظلمني، فاسْتَوْهِبْني ممن ظلمتُه. قال رجل لرابعة: إني أحبك في الله. قالت: فلا تعص الذي أحببتَني له.
إني جعلتك في الــــــفؤاد محــــــدِّثي
فالجســـــــم مني للجـــــليس مؤانسٌ

وأبحتُ جسمى مــن أراد جلوسي
وحبيب قــــلبي في الفــــــؤاد أنيسي
وكانت وفاتها في سنة خمس وثلاثين ومائة. ذكره ابن الجوزي في "شذور العقود". وقال غيره: سنة خمس وثمانين ومائة، رحمهما الله تعالى. وقبرها يزار. وفي كتاب "صفة الصفوة" في ترجمة رابعة المذكورة بإسناد له متصل إلى عبدة بنت أبي شوال قال ابن الجوزي: وكانت من خيار إماء الله تعالى، وكانت تخدم رابعة، قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس، كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور. وكان هذا دأبها دهرَها حتى ماتت. ولما حضرتها الوفاة دعتني وقالت: يا عبدة، لا تُؤْذِني بموتي أحدا، وكفنيني في جُبّتي هذه. وهي جُبّة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون. قالت: فكفَّنّاها في تلك الجبة، وفي خمار صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حُلّةُ إستبرقٍ خضراءُ وخمارٌ من سندسٍ أخضر لم أر شيئا قط أحسن منه. فقلت: يا رابعة، ما فعلتِ بالجبة التي كفَّنّاك فيها والخمار الصوف؟ قالت: إنه والله نُزِع عني، وأُبْدِلْتُ به ما تَرَيْنَه علي، فطُوِيَتْ أكفاني وخُتِم عليها، ورُفِعَتْ في عِلِّيّين ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة. فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا. فقالت: وما هذا عند ما رأيتُ من كرامة الله عز وجل لأوليائه؟ فقلت لها: فما فعلتْ عبيدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات هيهات! سبقتنا والله إلى الدرجات العلا. فقلت: وبِمَ، وقد كنتِ عند الناس أكبرَ منها؟ قالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحتْ من الدنيا وأمستْ. فقلت لها: فما فعل أبو مالك؟ أعني ضيغما. قالت: يزور اللهَ عز وجل متى شاء. قلت: فما فعل بشر بن منصور؟ قالت: بَخٍ بَخٍ! أُعْطِيَ والله فوق ما كان يؤمِّل. قلت: فمُرِيني بأمر أتقرب به إلى الله عز وجل. قالت: عليك بكثرة ذكره. يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك. رحمهما الله تعالى".
ويقول ابن العماد الأقفهسى (680- 867هـ): "قالت رابعة العدوية لصالح المري، وكان يقول كثيرا: ‘مَنْ أدمن قَرْعَ باب يوشك أن يفتح له’، فقالت رابعة: إلى متى تقول؟ من أغلق هذا حتى يستفتح؟ فقال صالح: شيخٌ جَهِل، وامرأةٌ عَلِمَتْ". وفى "المستطرَف من كل فنٍّ مستظرَف" للأبشيهى: "كانت رابعة العدوية تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وتقول: والله ما أريد بها ثوابا، ولكن ليَسُرّ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. ويقول للأنبياء عليهم الصلاة والسلام: انظروا إلى امرأةٍ من أُمّتي هذا عَمَلُها في اليوم والليلة". ولصلاح الدين الصفدى (696- 764هـ) فى ترجمة رابعة العدوية من كتابه: "الوافى بالوفيات": "رابعة بنت اسماعيل أم عمرو العدوية، وقيل: أم الخير، ولاؤها للعَتَكِيّين. وقد أورد ابن الجوزي أخبارها في جزء وقال: وفي الشاميات رابعة العابدة. وكانت عبدةُ بنت أبي شوال معاصرة لها، وربما تداخلت أخبارهما. ونسبها بعضهم إلى الحلول لإنشادها:
إني جعلتك في الــــــفؤاد محــــــدِّثي
فالجســـــــم مني للجـــــليس مؤانسٌ

وأبحتُ جسمى مــن أراد جلوسي
وحبيب قــــلبي في الفــــــؤاد أنيسي
وهو جهل. قال الشيخ شمس الدين: ما أحسب أن أحدا نسبها إلى ذلك إلا حلوليٌّ مباحيٌّ ليُنَفِّق بها زندقته".
وفى كتاب "شاعرات العرب فى الجاهلية والإسلام" لبشير يموت نقرأ أنها "هي أم الخير، رابعة بنت إسماعيل العدوية. امرأة صالحة من أهل البصرة اشتهرت بالعبادة والنسك. توفيت بالقدس 185 هجرية. من شعرها قولها في الذات الإلهية:
إني جعــــــلتكَ في الفؤاد محــــــدِّثي فالجســــم منى للجـــــــليس مؤانسٌ
*
حبيــــبٌ ليـــــس يَعْــــدِلُــــه حبيبُ
حبيبٌ غاب عن بصري وشخصي
*
وزادي قـــــليـــــل ما أراه مُبَــــلـِّـغي
أتحرقني بالنــــار يا غــــــاية المنى؟
*
أحبـُّـــــــكَ حبين،: حُــبَّ الهـــــوى
فأمـــــا الذي هو حــــــب الهــــــوى
وأمــــــــا الـــــذي أنت أهــــــلٌ لـــــه
فـــــلا الحــــمـــــد في ذا ولا ذاك لي


*


*


*
وأبحتُ جسمي من أراد جلوسي
وحبيـــبُ قلبي في الفـــــؤاد أنيسي
*
ومــــــا لسواه في قلـــــــبي نصيــــبُ
ولكـــــن عـــــن فــــؤادي ما يغيبُ
*
أللزاد أبكـــي أم لطول مسافــــتي؟
فأين رجــائي فيك؟ أين مخافتي؟
*
وحُبًّـــــــــا لأنك أهــــــلٌ لـِــــــــذاكا
فشُغْلِي بذِكْـــــرك عَــــــــمَّنْ سواكا
فكَشْفُك لي الحُجْـــب حتى أراكا
ولكنْ لك الحمـــــــــد في ذا وذاكـا
وقالت حين خطبها الحسن البصري معتذرة:
راحتي، يا إخــــوتي، في خـــــلـوتي
لم أجـــــــد لي عن هــــــواه عوضـًــا
حيثمـــــا كنت أُشَــــــــاهِدْ حسنه
إنْ أمتْ وجـــــــدا، ومـا ثَمَّ رِضًى
يا طبيب القــلب يحيـــــــــا دائمـــــا
قد هجـــــرتُ الخلـــق جمعًا أرتجي


وحبيــــبي دائمــــــا في حـــضــــــرتي
وهــــــــــــــــواه في البـــــــــــرايـا محنتي
فـــــهـو محـــــــــرابي. إليه قِبْـــــــــلتي
وا عنائي في الـورى! وا شِـْـَقوتي!
نشــــأتي منك، وأيضــا نشـــــــوتي
منك وصلاً، فهو أقصــى مُنْيَــــــتي
وللدكتور عبد الرحمن بدوى كتاب عن رابعة قرر فيه أنها أدخلت فى التصوف الإسلامى مفهوم العشق الإلهى، ثم قارن بينها وبين القديسة تيريزا، قائلا إن تصوفها متأثر بالتصوف النصرانى فى موضوع المحبة الإلهية (انظر كتابه: "شهيدة العشق الإلهى رابعة العدوية"/ ط2/ مكتبة النهضة المصرية/ 1962م/ 10 وما بعدها). ومن بين ما قاله أيضا أنها قد توغلت فى الإثم وأن هذا هو السبب فى عنفها بعد التوبة ردًّا على ما كانت عليه من عنف شهوانى (ص17، 23). كذلك يقف عند بعض أشعارها فى الحب مؤكدا أن الحب فى بعض تلك النصوص حسى لا روحى (ص23- 26). ثم يمضى فيفترض أن تكون قد مرت بتجربة عاطفية فاشلة هى السبب فى اتجاهها إلى الله بحبها بوصفه نوعا من التعويض (ص19، 25). لكن لو كانت هناك مثل تلك التجربة العاطفية الفاشلة أكانت ترفض كل من تقدم لخِطْبَتها معلنة على نحو حاسم أنها ليس لها أى أَرَبٍ فى هذا المجال؟
وبالمثل يُبْعِد د. بدوى يبعد النجعة إذ نراه (ص26- 27) يتكلم عن الخِطْبَة والزواج الروحى بين رابعة وبين الله، مقارنا ذلك بما عند القديسة تيريزا فى الديانة النصرانية. وهو يورد نصا من كتاب "عقلاء المجانين" لأبى القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابورى جاء فيه أن رابعة قد زارت حيونة إحدى صواحبها، فلما كان جوفُ الليل غلب النومُ رابعةَ، فقامت حيونة وركلتها برجلها قائلة: قُومِى. قد جاء عرس المهتدين يا من زَيَّن عرائسَ الليل بنور التهجد. ثم يعلق قائلا على هذا النص بأنه "نص على أكبر درجة من الخطورة لأنه يتحدث عن وجود فكرة الزواج من الله والاقتران به لدى الصوفيات المسلمات منذ القرن الثانى الهجرى. لكن ينبغى أن نتنبه إلى الأمور التالية: الأول أننا لا ندرى مدى صحة الخبر الذى رواه النيسابورى. بل إن د. بدوى نفسه يكاد يشك فى كل شىء يتصل برابعة حتى إنه ليلحقها بالأساطير (ص6- 7 من كتابه عنها)، فلم التمسك إذن بهذا النص وأمثاله من النصوص التى اعتمد عليها فى استخلاص نظرياته وفروضه عن التصوف الإسلامى فى ذلك العصر؟ والثانى أن هذا النص، إن كان نصا حقيقيا ولم يكن مخترعا ككثير من النصوص التى تتعلق برابعة، يتحدث عن "المهتدين" لا عن "المهتديات". وعلى هذا فإن الكلام فيه على أحسن تقدير ليس عن النساء وحدهن، بل عن الرجال والنساء جميعا. كما أن حيونة قد أشارت إلى دور رابعة فى هذا العرس، ألا وهو تهجدها، الذى يشع على من حولها نورا كما أشارت. فأين التهجد من الخِطْبة والزواج؟ ثم أى خِطْبة وزواج من الله، وكل من هنالك من الرجال والنساء مُشْتَرِك فى تلك المناسبة، التى لا يعدو التعبير عنها بـ"العرس" أن يكون تعبيرا مجازيا كما هو واضح لكل ذى عينين؟ أنقول إن كل هؤلاء من رجال ونساء سيشتركون فى ذلك الزواج؟ يا له من افتراض سخيف! ثم هل الزواج يتم كل ليلة كما هو واضح فى حديث حيونة؟ كذلك فإن الله عندنا فى الإسلام لا يتجسد ولا ينزل إلى الدنيا فى صورة بشرية كما كانت تيريزا تعتقد، إذ الله لديها هو المسيح، أما رابعة فلا يمكن أن يخطر لها شىء من ذلك على بال، ومن ثم فالزواج منه لا يمكن أن يخطر على بال امرأة أو فتاة مسلمة أبدا. زد على ذلك أن حيونة لم تذكر رابعة بين العرائس. ثم إنها زادت فجعلت تلك العرائس عرائس الليل لا عرائس الله. من الجلى إذن أن د. بدوى قد دخل دراسته عن رابعة بأفكار مسبقة يريد أن يلفت بها الأنظار بأى طريق، متأثرا فيها بما فى الأديان الأخرى دون الانتباه إلى أن ثمة فروقا حاسمة وجازمة بين الإسلام وتلك الأديان. إنه يتصور أن رابعة كانت فيلسوفة وجودية! وهى، كما ترى يا قارئى الكريم، فكرة بائسة لا تلائم السياق أبدا بأى حال من الأحوال!
وبالنسبة إلى الأخبار التى تشير إلى أن رابعة لم يكن لها أَرَبٌ فى الرجال، فهو أمر معروف ومُشَاهَد، إذ نرى المرأة من هؤلاء النساء لا تفكر فى الزواج مطلقا، وإذا أخطأت وتزوجت فسرعان ما يتم طلاقها لأنها ليست مهيأة لهذا اللون من الحياة. والملاحظ على بعض هؤلاء النسوة أنهن يشبهن الرجال فى بعض صفاتهن كالخشونة والصرامة وعدم الاعتناء بأنوثتهن وما يتعلق بها من ملبس أو زينة. وإذا تديَّنَّ أسرفن على أنفسهن ومن حولهن بألوان العبادة تصورا منهن أن الدنيا ليست إلا صلاة وصياما. وكأن فريد الدين العطار قد تبنه إلى هذا المعنى حين ترجم لها ضمن الرجال فى كتابه: "تذكرة الأولياء" قائلا إن المرأة التى تسلك الطريق إلى الله كما يفعل الرجال لا يمكن أن تسمى: امرأة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يُعْقَل ما افترضه د. عبد الرحمن بدوى فى كتابه عن رابعة العدوية من أنها قد قارفت الآثام فى شبابها قبل أن تستقيم فى طريق التصوف، فضلا عن أن تكون قد أوغلت فيها كما زعم دون أن يكون مستندا فى هذا الزعم إلى أى أساس حسب إقراره هو سوى مجرد الافتراض (انظر كتابه: "شهيدة العشق الإلهى رابعة العدوية/ 17، 23)، إذ أجمع كل من كتبوا عنها أنها كانت مشغولة بالله عن الدنيا، بغض النظر عن موافقتنا لهم فى كل ما كتبوه فى هذا الموضوع أو لا، فهذا شىء آخر. فالمهم أنه لم يقل أحد ممن كتبوا عنها بما قال به د. بدوى أو أشار إليه ولو من طرف خفى على أى نحو من الأنحاء. ويزيد ما ادعاه عبد الرحمن بدوى بعدا عن الحقيقة ما رُوِىَ عنها من حكايات تؤكد أنها كانت ترفض كل من يتقدم إليها بغية الزواج منها كما رأينا، بغض النظر عن مدى صحتها. إنما أستشهد بها هنا لأنه لا يوجد ما يناقضها، مما يدل على اشتهار رابعة بالعزوف عن جنس الرجال، وعلى زيف ما افترضه د. بدوى من جهة أخرى من ثَمَّ.
والعجيب أن كاتب مادة "رابعة العدوية" فى النسخة العربية من موسوعة "ويكبيديا" يقول إن عبد الرحمن بدوى قد فَنّد الصورة التى رسمها الفلم المصرى الشهير لرابعة، إذ أكد أنها كانت امرأة صالحة على عكس ما جاء فى ذلك الفلم من أنها مارست الرذيلة وعَبَّتِ الخمرَ عَبًّا قبل أن تتوب عن ذلك. وهذا كلام الموسوعة نصا: "اختلف الكثيرون في تصوير حياة وشخصية العابدة رابعة العدوية، فقد صورتها السينما في الفيلم السينمائي المصري الذي قامت ببطولته الممثلة نبيلة عبيد والممثل فريد شوقي في الجزء الأول من حياتها كفتاة لاهية تمرّغت في حياة الغواية والخمر والشهوات قبل أن تتجه إلى طاعة الله وعبادته، في حين يقول البعض إن هذه صورة غير صحيحة ومشوهة لرابعة في بداية حياتها، فقد نشأت في بيئة إسلامية صالحة، وحفظت القرآن الكريم وتدبَّرت آياته، وقرأت الحديث وتدارسته، وحافظت على الصلاة وهي في عمر الزهور، وعاشت طوال حياتها عذراءَ بتولاً برغم تقدم أفاضل الرجال لخِطْبتها لأنها انصرفت إلى الإيمان والتعبّد ورأت فيه بديلاً عن الحياة مع الزوج والولد. ويفنّد الفيلسوف عبد الرحمن بدوي في كتابه: "شهيدة العشق الإلهي" أسباب اختلافه مع الصورة التي صورتها السينما لرابعة بدلالات كثيرة منها الوراثة والبيئة، بالإضافة إلى الاستعداد الشخصي. وكان جيران أبيها يطلقون عليه: العابدة. وما كان من الممكن، وهذه تنشئة رابعة، أن يفلت زمامها. كما أنها رفضت الزواج بشدة".
والملاحظ أن فى الحكايات التى تدور حول رابعة مبالغات كثيرة لا يمكن أن يقبلها العقل ولا الدين: من ذلك مثلا قولهم إن رجلا قرأ عندها آية ذُكِرَتْ فيها النار، فصاحت ثم سقطت، وإن آخر تكلم عندها بشيء فجعلت دموعها تتساقط على الحصير بصوت مسموع كالمطر. ترى هل يقبل هذا الكلام عاقل؟ لقد قرأنا سيرة الرسول وأحاديثه عليه السلام وسير الصحابة الكرام فلم نر منهم مثل هذا. فهل رابعة أكثر منهم خوفا من الله؟ بل هل يمكن أن يقع هذا من إنسان أيا كان؟ إن أقصى ما قاله النبى فى البكاء أن من السبعة الذي يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ولم يقل: رجلا كلما ذُكِر الله أمامه هطلت دموعه وسُمِع لها صوت كصوت المطر. ذلك أنه لو صح هذا لأصيب هؤلاء البكاؤون بالجفاف حتما وهُزِلوا وماتوا.
ومن تلك المبالغات كذلك قولهم إنها كانت تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فتثب من مرقدها وهي فزعة وتقول: يا نفس، كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور. وكان هذا دأبها دهرَها حتى ماتت. بالله كيف تستقيم حياة إنسان لا يكاد ينام ليله ولا نهاره؟ ثم هل هذا مما يقبله الله من عباده؟ ترى ما يفعل الله بتعذيبنا أنفسنا على هذا النحو؟ لقد طالبنا سبحانه أن نؤمن به ونشكره سبحانه على نعمه وكرمه، أما أن نذهب فنعذب أنفسنا كل هذا العذاب فهو أمر لم يشرعه الله ولم يأذن به ولا يقبله أصلا، بل هو مما يستحيل علينا فعله، إذ لا بد لكل منا أن يأخذ كفايته من النوم، وإلا انهار وسقط ولم يستطع مواصلة الحياة ذاتها لا العبادة فحسب. ودعنا من السؤال عمن كان يقوم بأمرها وينفق عليها. إنه إذن لأعبد منها. و هذا طبعا إن كانت تلك الأخبار صحيحة ولم تزيَّف بعد مماتها، وهو ما أتصور أنه قد وقع، مما يُبْعِد عنها التبعة فى هذا ويلقى بها على من زعموا هذه المزاعم التى لا أصل لها من الصحة.
كذلك لا أتصور صحة ما قيل من أن لصا دخل حجرتها وهي نائمة، فحمل الثياب وطلب الباب فلم يجده، فوضعها فوجده، فحملها فخَفِيَ عليه. فأعاد ذلك مرارا، فهتف به هاتف: "دع الثياب، فإنا نحفظها ولا ندعها لك، وإن كانت نائمة"، وهو ما علق عليه البوني بقوله: "وهذا تحقيق التمكين بقوله تعالى: ‘له مُعَقِّباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله’"، وأنها خاطت بعض قميصها في ضوء مشعلة سلطانية ففقدت قلبها زمانا حتى تذكرت، فمزقت القميص، فعاد قلبها، وأنها سئلتْ: متى يكون العبد راضيا؟ فقالت: إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة.
ذلك أنها كانت تعيش فى كوخ كما يقولون، ولم تكن تملك من متاع الدنيا شيئا طِبْقًا لما يؤكدون. فكيف سولت لِلِّصِ نفسُه أن يذهب إلى كوخ يسربله الفقر سربلةً فيسرق امرأة ليس لها شىء يُسْرَق؟ أما المعجزة العجيبة التى حدثت فهى بطبيعة الحال لا تدخل العقل ولا بالطبل البلدى. إنها حكاية خيالية جميلة، ويمكن أن تُدْرَس بوصفها نصا أدبيا ممتعا. أما أن يقال إنها حكاية حقيقية فدون ذلك خَرْط القَتَاد كما كان العرب القدماء يقولون! ثم ما معنى أن يُسَرّ الإنسان بمصيبته كما يُسَرّ بما يناله من نعمة؟ إن الإنسان ليس حجرا لا يحس ولا يميز. ولو صار أى إنسان بهذه المنزلة ما كان إنسانا. فهذا كلام قد يعجب بعض الناس الذين يحبون أن يشنّفوا آذانهم بمثل تلك الأقوال المدوية التى لا طائل وراءها، لكنه لا يدخل عقولنا رغم حبنا لكل مؤمن يرضى بقضاء الله وقدره، وهو أقصى ما يمكن أن يبلغه المؤمن من الرضا بالقضاء والقدر. أما أن يُسَرّ بالمصائب تقع على أم رأسه كما يُسَرّ بالنعم فهذا ما لا يمكن أن أتخيله مجرد تخيل. إن الأحجار والحديد تأكلهماعوامل التعرية أَكْلاً، فما بالنا بالإنسان؟
أما الكلام المنسوب إليها فى النص التالى من "شرح الزبيدي": "قيل لرابعة قُدِّس سِرُّها: كيف حُبُّك للرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله إني لأحبه حبا شديدا، ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين"، وأنه قد حُكِيَ عن أبي سعيد الخراز قوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله، اعذرنى، فإن محبة الله شغلتني عن محبتك. فقال: يا مبارك، من أحب الله فقد أحبني"، فهو كلام يناقض بعضه بعضا، إذ كيف يكون الإنسان محبا لشخص حبا شديدا، إلا أن حبه لطرف ثالث قد شغله عنه؟ ثم ألا يرى القارئ بين السطور هنا لونا مقيتا من الغرور، إذ يريد من يقول هذا أن يشير إلى أنه أكبر من أن ينشغل بحبه صلى الله علييه وسلم لأن لديه حبا أهم منه، فهو من ثم ليس عنده من الوقت ولا من البال ما يوجهه إلى الرسول عليه السلام؟ ترى أهذا مما يليق قوله فى حقه عليه السلام؟
ولو صدقنا هذا الكلام العجيب فالسؤال هو: كيف ظهر لها النبى فى المنام، وهى غير مشغولة به لا تفكر فيه؟ إننا نعرف أن الأحلام عادةً هى انعكاس لما يشغلنا فى اليقظة. أما إن قلنا إنها لم تكن مشغولة به صلى الله عليه وسلم، بل هو الذى ساءه أن تتجاهله فظهر لها فى المنام بغية تنبيهها إلى تقصيرها فى حقه فتكون طامة كبرى أن ينزعج الرسول من هذا الأمر، بينما هى لا تبالى به أدنى بالة. كذلك فإنها، فيما يحكون عنها، قد ذكرت مرة أنها تجتهد فى العبادة وقيام الليل وتفعل المستحيل حتى يمكن الرسول يوم القيامة أن يباهى بها بين الأمم الأخرى. أليس معنى هذا أنها تفكر فيه صلى الله عليه وسلم. نحن هنا بين أمرين: أن نظرتها لهذا الأمر غير محكمة، ولهذا نراها تتناقض مع نفسها من موقف إلى آخر، أو أن ذلك التناقض راجع إلى أن مثل تلك الروايات هى روايات مخترعة، فكان كل من أراد أن يقول شيئا يعبر به عن فكره واعتقاده ألّف حكاية ونسبها إلى رابعة فتكون هى المتحدث بلسانه دون أن يتنبه أحد إليه، فينجو من التبعة. ثم من يا ترى ذلك الذى لا يستطيع أن يفكر طوال الوقت إلا فى الله؟ ألا يجوع؟ ألا يعطش؟ ألا يحتاج إلى دخول الحمام؟ ألا يكتب ويقرأ مثلى مثلا ويبيت يقلب الفكر والرأى ويراجع ما يكتبه ويصححه ويدفع به إلى المطبعة وينتظر ظهوره على أحر من الجمر؟ ألا يفكر فى تدبير أمر بيته وحاجات أفراد أسرته ومرض من يمرض منهم مثلا؟ ألا يفكر فى تجهيز ابنته وسترها وزفافها إلى زوجها معززة مكرمة؟ ألا يمرض ويتألم ويقاسى الصداع والمغص والسرطان؟ ألا يستدين فيعانى الخوف من عدم السداد فى الميعاد؟ ألا يختلف مع جيرانه أو شركائه أو أقاربه مثلا وتثور بنيه وبينهم المشاكل التى قد تصل إلى المحاكم؟ ألا يتعرض للسرقة والخداع ويضيع منه ماله، والحياة لا تمضى دون مال؟ أم إن المتصوفة ليسوا ينتمون إلينا ولا يعيشون فى دنيانا؟ أتراهم من جنس السوبرمان؟ حتى السوبرمان، يا أخى، يجوع ويعطش ويتألم ويقلق. كل ما هنالك أنه أعلى منا نحن البشر مرتبة، لكنه ليس مُعْفًى من كل ما يشغلنا ويقلقنا، وإلا ما كان مخلوقا! وهذا إن كان هناك سوبرمان أصلا، إلا أننى أمضى مع الافتراضات إلى آخر المدى. ومرة أخرى أنا لا أحمّل رابعة مثل هذه الأقوال، بل أحمّلها من اخترعوها ونسبوها إليها. وقد يقول بعض الناس: وما الضرر من وراء هذه الحكايات التى تصفها أنت نفسك أحيانا بأنها جميلة وممتعة؟ وجوابى هو أنها جميلة وممتعة ما تنبَّهْنا إلى أنها لا أساس لها من الصحة رغم ذلك. أما أن يتصور متصور، كما يريد منا مخترعو تلك القصص، أنها حقيقية وأن من الناس من يستطيع صنع تلك العجائب بل الخوارق فإنها تصير حينئذ سببا للإحباط والكدر، إذ يَظُنّ أن فى طاقة البشر ما يُنْسَب لرابعة وغيرها، ولكنه حين يتحقق أنه لا يستطيع ذلك ينقلب على نفسه لوما وتقريعا ويظل يحاول فيفشل فيزداد سخطا على نفسه ويتهم إيمانه وضميره، وتتحول حياته بهذه الطريقة إلى سلسلة من الخيبات والإحباطات، ولا يهنأ له جنب ولا طعم.
وهناك أقوال تُنْسَب إلى رابعة توحى بـ"الغرور الروحى" إن صح هذا التعبير، فضلا عن ردودها الجافة المتنقّصة لمن يسألها، وهو ما لا يليق صدوره ممن يوصف بالصفاء والتجرد. ومن هذا الكلام المنسوب إليها، وفيه من الغرور ما فيه، ما جاء فى "المستطرَف من كل فنٍّ مستظرَف" للأبشيهى، إذ يقول: "كانت رابعة العدوية تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وتقول: والله ما أريدُ بها ثوابا، ولكن ليَسُرّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول للأنبياء عليهم الصلاة والسلام: انظروا إلى امرأةٍ من أمتي هذا عملُها في اليوم والليلة". ومعنى هذا أنها قد فعلت ما فعلته لا من أجل نفسها بل من أجل الرسول، مما يوحى بأنها ليست محتاجة إلى صلاتها حاجةَ الرسول إلى تلك الصلاة. وفى هذا ما فيه من الغرور والكبر. ولا أقف عند قدرة شخص ما أن يصلى ألف ركعة فى اليوم، وهو ما لم يفعله رسول الله ذاته عليه الصلاة والسلام، بل هو مما لا يحتمله الطولُ الزمنى لليوم، وبخاصة أن أمثالها يطيلون الصلاة إطالة. وحتى لو استطاع اليوم أن يستوعب صلاة ألف ركعة فإن الشخص الذى يصليها لا يمكنه فعل أى شىء آخر فى يومه وليله ولا حتى أن ينام. فكيف تكون حياة مثل هذا الشخص؟ إلا أننى لا أتهمها بذلك ضرورةً، إذ من الجائز جدا، بل هو مما يغلب على ظنى، أن تكون تلك المقالة قد نُسِبَتْ إليها زورا.
ومنها كذلك ما أورده الكلاباذى (ت380هـ) فى "التعرف لمذهب أهل التصوف" من أنه "دخل جماعة على رابعة يعودونها من شكوى، فقالوا: ما حالك؟ قالت: والله ما عرفتُ لعلتى سببا. عُرِضَتْ علىَّ الجنة، فملتُ بقلبى إليها، فأحسب أن مولاى غار علىّ فعاتبنى. فله العُتْبَى". وفى "أسرار التوحيد" للمنور (ت600هـ): "قال أبو سعيد الخير إنه سمع من أبى علىٍّ الفقيه أن رابعة سئلت كيف بلغتْ هذه المرتبة فى الحياة الروحية، فأجابت: بقولى دائما: اللهم إنى أعوذ بك عن كل ما يشغلنى عنك، ومن كل حائل يحول بينى وبينك". وقال لها الثورى: لكل عقد شريطة، ولكل إيمان حقيقة، وما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته، فأكون كأجير السوء: إن خاف عَمِل، أو إذا أُعْطِىَ عَمِل، بل عبدتُه حبا له وشوقا إليه. وفى "الشذرات" لابن العماد أنها كانت تقول لربها: "وعزتك ما عبدتُك رغبةً فى جنتك، بل لمحبتك. وليس هذا ما قطعت عمرى فى السلوك إليه". ولا أظن القارئ إلا تنبه للتناقض الواضح بين قولها مرة إن قلبها قد مال إلى الجنة وما رُوِىَ من أنها كانت تستعيذ بالله من النار وتصعق إذا ما جاء ذكرها وتسأل الله أسيحرقها بالنار رغم حببها له، وبين قولها لربها إنها لم تعبده حبا فى جنته ولا خوفا من ناره، فضلا عما فى هذاالمعنى الأخير من تطاول مع الذات الإلهية لا يصح صدوره من مسلم، إذ معناه فى أهون الأحوال أنه أكبر مما يقوله الله لعباده وأنه قد بلغ أفقا من السمو لا يصلح له فيه ذلك الأسلوب الذى يعامَل به سائر المسلمين. فهل هذا مما يليق؟ أترى هذا قد فات اللهَ سبحانه، فهى تنبهه إليه؟ إننا نحب الله ونتوق إلى مشاهدة جلاله فى الجنة، لكن هل هذا يتناقض مع حبنا لنعيم الجنة وخوفنا من عذاب النار؟ وكيف فاتها أن مشاهدة جلال الله جزء من نعيم الجنة ذاته؟ على أن الأمر لا يقف ها هنا، بل ثم رواية تقول إن بعض الناس شاهدوها سائرة فى الطريق، وفى إحدى يديها ماء، وفى الأخرى نار، فسألوها ماذا تريد أن تفعل بالماء والنار، فقالت إنها ذاهبة إلى السماء لتضع فى الجنة ما معها من نار، ولتضع فى النار ما معها من ماء، كيلا يكون هناك جنة ولا نار، فيعبد الناس ربهم دون خوف أو طمع بل لوجهه الكريم لا أكثر. وفى هذه الحكاية غرورٌ زائدٌ من جانب واضعها، إذ لا أظن رابعة هى صاحبتها، وتجاوزٌ لقدره ونسيانٌ منه أنه عبد لله لا ينبغى أن ينسى تلك العبودية لحظة من زمان، إذ من ذا العاقل الذى يفكر فى تعديل كون الله سبحانه على هواه هو بما يفيد أنه لا يعجبه ما قضاه الله منذ الأزل بخصوص الجنة والنار، فأراد أن يقيم وضعا جديدا يختلف عما أراده الله؟ وهذا كله إن كانت قد قالته فعلا ولم يكن محمولا عليها حملا، وهو ما أرجحه، إذ إن هذه الفكرة لا تناسب امرأة مثلها لا نعرف لها ثقافة عميقة متشابكة ولا كانت تتمتع بجرأة تمكنها من قول مثل هذه المقالة، التى تحتاج إلى وسط فكرى معقد وشخصية متمردة لا تناسب أمثالها. ثم ما معنى أن الله سبحانه جل جلاله قد غار من ميل قلبها إلى الجنة؟ إن كان سبحانه وتعالى يغار من ميل الواحد منا إلى الفوز بالجنة، فلم يا ترى أطال وَصْفَها وفصّله وحبّبنا فيها ودعانا إلى العمل لها؟ ثم هل يصح أن نقول إن الله قد غار من ذلك؟ الواقع أنه إذا كان هذا صحيحا، وهو بالتأكيد غير صحيح، فلن تنتهى غيرته أبدا، إذ ما من واحد من المؤمنين إلا ويميل قلبه إلى الجنة ونعيمها. ألا ترى أيها القارئ المدى المسىء الذى يصل بنا إليه الكلام المنسوب إلى رابعة رحمها الله؟
ومن أقوالها اللاذعة الخشنة، إن كانت قد قالت ذلك، ما نُسِب إليها فى "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لأبى حاتم السجستانى (ت354هـ)، إذ قال: "أنبأنا علي بن سعيد حدثنا إبراهيم بن الجنيد حدثنا سهل بن عاصم حدثنا نافع بن خالد قال: دخلنا على رابعة العدوية فذكرنا أسباب الرزق، فخضنا فيه وهي ساكتة. فلما فرغنا قالت رابعة: خيبةً لمن يدعي حُبّه ثم يتهمه في رزقه". وتعليقى على هذا الرد هو: أَنَّى يا ترى كانت تحصل رابعة على طعامها وشرابها وملبسها مهما يكن من قلته وتفاهته؟ أتراها كانت تعتمد على من يقوم لها بحاجاتها؟ فهو إذن صاحب الفضل فى ذلك لا هى. أم ترى رزقها كان ينزل عليها من السماء يوما بيوم فهى لا تحتاج إلى أن تفكر فيه؟ لكن السماء لا ينزل منها طعام ولا شراب، إذ كانت سنن الله فى كونه، ولا تزال، تقتضى منا الجرى وراء الرزق وتحصيله بالتعب والجهد المتواصل كى نأكل ونشرب ونلبس ونسكن ونتداوى ونتعلم ونتنزه.
وفى "الحلية" لأبى نعيم الأصفهانى: "قال أبو عبد الله بن عمرو، قال: نظرت رابعة إلى رياح (ت195هـ) وهو يقبّل صبيا من أهله ويضمه إليه، فقالت: أتحبه؟ قال: نعم. قالت: ما كنتُ أحسب أن فى قلبك موضعا لغيره تبارك اسمه. قال: فسقط رياح مغشيا عليه، ثم أفاق وهو يمسح العرق من عند وجهه وهو يقول: رحمة من الله تعالى ذِكْرُه ألقاها فى قلوب العباد للأطفال". وقد قرأت مثل هذا الكلام الغريب أشد الغرابة عن الفُضَيْل بن عياض وابنته، فقد "قيل إن الفضيل، كانت له ابنة صغيرة، فوَجِعَ كفُّها، فسألها يوما وقال: يا بنية، ما حال كفّك؟ فقالت: يا أبت، بخير والله. لئن كان الله تعالى ابتلى مني قليلاً، فلقد عافى مني كثيرًا. ابتلى كفي، وعافى سائر بدني، فله الحمد على ذلك. فقال: يا بنية، أريني كفك. فأَرَتْه فقبَّله، فقالت: يا أبت، أناشدك الله: هل تحبني؟ قال: اللهم نعم. فقالت: سَوْأَةً لك من الله. والله ما ظننت أنك تحب مع الله سواه. فصاح الفضيل وقال: يا سيدي، صبيةٌ صغيرةٌ تعاتبني في حبي لغيرك. وعزتك وجلالك لا أحببتُ معك سواك". وفى كتاب "الصوفية فى الإسلام" للمستشرق نيكلسون (ترجمة نور الدين شرّيبة/ مكتبة الخانجى/ 1371هـ- 1951م/ 106) أن فُضَيْلاً أجلس ذات يومٍ ابنا له فى الرابعة فى حجره، فقبّله، فقال له الطفل: أتحبنى يا أبت؟ فقال له: نعم. فسأله الطفل: كم قلبا لك؟ فقال: واحد. فقال الطفل: تحب اثنين بقلب واحد؟ فأدرك الفضيل أن كلام الطفل نصيحة من الله. ثم جعل يجلد رأسه بالحائط غيرةً منه لربه ويتبرأ من محبته للطفل، وأخلص قلبه لله. وقد نسب نيكلسون هذه الحكاية إلى مخطوط "طبقات الصوفية". ولا نجد أفضل فى الرد على هذا السخف خيرا مما حدث به الرسول علي الصلاة والسلام. قال: "جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمِنْ ذلك الجزء يتراحم الـخَلْقُ حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشيةَ أن تصيبه"، وهو ما يعنى بكل وضوح ويقين أن رحمة الآباء لأبنائهم إنما هى من رحمة الله سبحانه، وأنه لا يمكن أن يوجد أى تناقض بين حب الفضيل لابنه أو ابنته وبين حبه لله، إذ إن ذلك الحب إنما هو من هذا الحب. كذلك هناك الحديث التالى الذى يرويه أبو هريرة رضى الله عنه، قال: "أبصر الأقرعُ بنُ حابسٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقبّل الحسن، فقال: إن لي من الولد عشرةً ما قَبّلْتُ أحدا منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من لا يَرْحَم لا يُرْحَم".
ومن بحث منشور بموقع الإيسيسكو للدكتور محمد بن أحمد صالح عنوانه: "عناية الشريعة الإسلامية بالطفولة" نقتطف النص التالى مع شىء من التصرف: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الرفق في تربية الأطفال وعلاج أخطائهم بروح الشفقة والرأفة والعطف والرحمة، وعَدّ الغلظة والجفاء في معاملة الأولاد نوعا من فقد الرحمة من القلب، وهدد المتصف بها بأنه عرضة لعدم حصوله على الرحمة من الله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ‘من لا يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ’.
وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على إدخال السرور في قلوب الأطفال، إذ كان يُقَبِّلهم ويداعبهم ويحملهم في صلاته: عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حاملٌ أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وروى عبد الله بن شداد قال: ‘بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر. فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلتَ السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر. فقال صلى الله عليه وسلم: ‘إن ابني قد ارتحلني، فكرهت أن أُعْجِله حتى يقضي حاجته’. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يوما إذ قال الخادم إن فاطمة وعليا رضي الله عنهما بالسُدّة... فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبّلهما.
وأخرج البخاري من حديث أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي، وعليَّ قميص أصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‘سنةْ. سنةْ’. قال عبد الله: وهي بالحبشية: ‘حسنة’. قال ثابت عن أنس رضي الله عنه: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبّله ثم شَمَّهُ. وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الحسن والحسين: ‘هما ريحانتاي من الدنيا’". وأخرج البخاري من رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: ‘جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَتُقَبِّلون صبيانكم؟ فما نُقَبِّلهم. فقال النبي: ‘أَوَأَمْلِكُ لك أَنْ نَزَعَ الله من قلبك الرحمة؟’. وأخرج البخاري عن رواية أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأخذني فيُقْعِدني على فَخِذه، ويُقْعِد الحسن على فَخِذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: ‘اللهم أحبَّهُمَا’.
وكان صلى الله عليه و سلم يُسلّم على الصبيان ويداعبهم ويتلطف بهم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأخ صغير لأنس بن مالك: ‘يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَيْر؟". والنُّغَيْر: اسم لطائر يشبه العصفور كان يلعب به أبو عُمَيْر فمات، فكان صلى الله عليه وسلم يداعب الصبي ليخفف عنه ويزيل حزنه بفقد الطائر الذي كان يلعب به. وكان التلطف بالصبيان من عادة رسول صلى الله عليه وسلم، فكان يَقْدَم من السفر فيتلقاه الصبيان، فيقف عليهم، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه، فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم. فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك، فيقول بعضهم: حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وحملك أنت وراءه، ويقول بعضهم: أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم".
وهَبْ رابعةَ لم يكن بمقدورها أن تفهم هذا الحب الذى يجده الآباء فى قلوبهم لأبنائهم لأنها لم تتزوج وتنجب، أفلم تكن قادرة على أن تتخيل ما حُرِمَتْه؟ هذا أمر عجيب. وهبها فاتها ذلك أيضا، ألم تكن تعرف ما قاله النبى عليه السلام فى هذا الشأن؟ إلا أننى لا أستبعد أن يكون هذا الكلام قد وُضِِع على لسانها وَضْعًا، فهى بريئة منه. لقد رفض عمر بن الخطاب أن يتولى أحد الرجال عملا من أعمال الدولة لأنه لا يجد فى نفسه تعلقا بأولاده الصغار، فرأى رضى الله عنه أن مثل ذلك الشخص محروم من الرحمة لا يمكنه أن يفكر فى أمر الرعية ولا أن يقوم بشؤونها كما ينبغى. ثم ألم يبك الرسول صلى الله علي وسلم لموت ابنه إبراهيم؟ إن البكاء أشد من التقبيل فى التعبير عن تعلق الأب بابنه، فما هو يا ترى رأى رابعة فيه وفى بكائه؟ وهذا إن كانت حقا قد قالت هذا الكلام. ثم إننا لو أحببنا ربنا من قلوبنا لعرفنا أن هذا الحب لا يكون حبا صحيحا إلا إذا حَمَلَنا على حب العباد. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من أحب عليا فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله. ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله".
لو أن رابعة أو مَنْ وَضَعَ على لسانها ذلك الكلام قال إن المسلم لا يصح أن يحب أحدا أو شيئا أكثر من الله لقلنا له: ونحن معك لا نستطيع أن نقول غير ما قلت. بل لقد قالها القرآن المجيد فى الآية الرابعة والعشرين من سورة "التوبة": "قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ". بل إن هذه الآية نفسها لدليل على أن حب الله لا يتم إلا بحب الرسول، فقد ربط القرآن بين الله ورسوله مما سأزيده بيانا بعد قليل. أما أن يقال إن حب الله يمحو كل حب آخر فى القلب فهذا ما لا أستطيع أن أفهمه ولا أن أوافق عليه. ذلك أن حبنا لله هو المنبع الذى نستمد منه حبنا لأولادنا وزوجاتنا وأقاربنا والمستضعفين من حولنا وعظماء الرجال الذين يبذلون أرواحهم أو أموالهم دفاعا عن الملة والأمة. وإذا كان القرآن يقول للرسول عليه السلام: "قل: إن كنتم تحبون الله فاتَّبعونى يُحْبِبْكم اللهُ ويَغْفِرْ لكم ذنوبَكم"، فما معنى أن تقول رابعة أو مَنَ وضع على لسانها ذلك الكلام إن حبها لله قد استغرقها فلم يبق فى قلبها مكان للانشغال بالرسول؟ بل كيف تقول ذلك، وهى إنما عرفت الله وأحبته من خلال الرسول، الذى تزعم أنها ليس عندها من فراغ البال ما توجهه نحوه؟ أليس هذا غريبا وغير لائق؟ ولا أريد أن أقول شيئا أشد من ذلك. أم تراها ستقول إنها قد اتخذته سُلَّمًا وصلت به إلى الله، فلمّا وصلت لم تعد بحاجة إلى السلم؟
ولقد وجدت ابن عربى يقول شيئا مشابها لهذا، إذ ذكر أن من السائرين إلى الله بعزائم الأمور المشروعة طائفةً ربطت همتها على أن الرسول إنما جاء منبها ومعلما بالطرق الموصلة إلى جناب الحق، فإذا أَعْطَى العلمَ بذلك زال من الطريق وخَلَّى بينهم وبين الله. فهؤلاء إذا سارعوا أو سابقوا إلى الخيرات لم يَرَوْا أمامهم قَدَمَ أحدٍ من المخلوقين لأنهم قد أزالوه من نفوسهم وانفردوا إلى الحق تعالى. ومن هؤلاء رابعة. أما الطائفة الثانية فلا تشهد أمرا إلا والرسول حاجب لها. ومنهم عمر بن الخطاب (انظر طه عبد الباقى سرور/ رابعة العدوية والحياة الروحية فى الإسلام/ دار الفكر العربى/ 1957م/ 74- 75). وهو كلام خطير، أو على أقل تقدير: غير لائق، إذ يرى ابن عربى أن النبى لم يعد له دور فى حياة مثل هؤلاء المتصوفة لأنهم كبروا وشبوا عن الطوق ولم يعودوا يحتاجون إلى الاسترشاد بشىء من أحاديثه أو أفعاله. لقد صاروا فى معية الله مباشرة، فلماذا يحتاجون إلى الرسول؟ وهذا هو الغرور فى أقصى درجاته. وهو يذكرنا بأولئك الصوفية المدلسين الذين يقولون إنهم قد وصلوا فى المجاهدة الروحية إلى الحد الذى لم يعودوا يحتاجون معه إلى تأدية العبادات، فلذلك سقطت عنهم التكاليف الشرعية.
ثم كيف يا ترى نسيت رابعة أن الله يُكْثِر من إرفاق ذكر الرسول بذكره سبحانه فى القرآن؟ قال تعالى: "قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة/ 24)، "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" (التوبة/ 29)، "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ" (التوبة/ 59)، "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ" (التوبة/ 63)، "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة/ 71)، "وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ" (التوبة/ 74)، "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة/ 80)، "وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ" (التوبة/ 84)، "وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ" (التوبة/ 94)، "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (التوبة/ 107). وهذا فى سورة واحدة فقط هى سورة "التوبة"، فما بالنا لو رصدنا كل الآيات التى فى القرآن؟
والأمر نفسه يصدق على الحديث أيضا: "ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقْذَف في النار"، "عن وائل بن حجر: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا وائل بن حجر جاءكم. لم يجئكم رغبةً ولا رهبةً. جاءكم حبًّا لله ولرسوله"، "قريش والأنصار وجُهَيْنَة ومُزَيْنَة وأسلم وغِفَار وأشجع مَوَالِيَّ، ليس لهم مَوْلًى دون الله ورسوله"، "الأعمال بالنية، فمن كانت هِجْرَتُه إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهِجْرَتُه إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر، فإنها رِجْس"، "كان عليٌّ رضي الله عنه تخلَّف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان به رمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج عليٌّ فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية... غَدًا رجلا يحبه الله ورسوله (أو قال: يحب الله ورسوله) يفتح الله عليه. فإذا نحن بعليٍّ، وما نرجوه، فقالوا: هذا عليّ. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتح الله عليه"، "بينما أنا والنبي صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلَقِيَنا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعددتَ لها؟ فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددتُ لها كبير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت"، "كنا مع عمر بين مكة والمدينة. فتراءينا الهلال. وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته. وليس أحد يزعم أنه رآه غيري. قال: فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه. قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي. ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس. يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله. قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فجُعِلوا في بئرٍ بعضُهم على بعض. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا. قال عمر: يا رسول الله، كيف تكلِّم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال: ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم. غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليَّ شيئا"، "بئس الطعام طعام الوليمة يُدْعَى إليه الأغنياء ويُتْرَك المساكين. فمن لم يأت الدعوة، فقد عصى الله ورسوله"، "يا عائشة، إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تَعْجَلي فيه حتى تستأمري أبويك. ثم قرأ عليَّ الآية: "يا أيها النبي قل لأزواجك... (حتى بلغ:) أجرا عظيما". قالت عائشة: قد علم، والله، أن أبويَّ لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت: فقلت: أَوَفي هذا أستأمر أبويَّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قال معمر: فأخبرني أيوب أن عائشة قالت: لا تخبرْ نساءك أني اخترتك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا"، "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟"، "الله ورسوله مولى من لا مولى له"، "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا"، "عن عمر أن رجلا كان يلقب: حمارا، وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العُكّة من السمن والعُكّة من العسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا ثمن متاعه. فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيُعْطَى. فجِيءَ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شرب الخمر، فقال رجل: اللهم العنه! ما أكثر ما يُؤْتَى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعُوه، فإنه يحب الله ورسوله"، "من أحب عليا فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله"... إلخ.
وهناك من يرى أن رابعة هى رائدة الحب الإلهى، إذ كان التصوف قبلها، كما يقولون، قائما على الرجاء فى الجنة والخوف من النار، إلى أن ظهرت على المسرح الصوفى رابعة العدوية فانتقل التصوف معها من الرجاء والخوف إلى الحب، الذى كانت أول من استعمل لفظه بعدما كان المتصوفة السابقون يتحدثون عن الشوق أو العشق مثلا، والذى أصبح كل همها معه هو مشاهدة حقيقة الله العلية واجتلاء طلعة جماله القدسية دون طمع فى جنته أو خوف من ناره، وإن كانت قد بدأت أولا بنفس الطريقة التى كان عليها المتصوفة الذي سبقوها.أما من جاؤوا بعدها فصاروا يستعملون مثلها لفظ "الحب" و"المحبة" (انظر د. محمد مصطفى حلمى/ الحب الإلهى فى التصوف الإسلامى/ دار القلم/ سلسلة المكتبة الثقافية/ العدد 24/ أول نوفمبر 1960م/ 82 وما بعدها). وأكد طه عبد الباقى سرور أنه حيثما وجه الباحث وجهه فى آثار رابعة رأى رسالة المحبة ومدرستها، وأن رابعة قد علَّمت الناس أن الحياة محبة: محبة للناس جميعا، ومحبة للكون بكل ما فيه وبكل ما اشتمل عليه لأنه من صنع الله، ومحبة للقضاء والقدر لأنهما من أمر الكريم الحبيب، كما علمتْهم أن عبادة الله جل جلاله أساسها الحب، مقمية بذلك صلة العبد بربه على أقوم نهج تعبدى، نهج الشوق والأنس والرضا (انظر كتابه: "رابعة العدوية والحياة الروحية فى الإسلام/ 32).
وتقول مادة "Rabia al Adawiyy" فى النسخة الفرنسية من موسوعة "الويكيبيديا": "ربما كانت رابعة أول صوت كبير فى عالم التصوف: Rabia est peut-être la première grande voix du soufisme". وفى المادة المخصصة لرابعة العدوية فى "New World Encyclopedia: موسوعة العالم الجديد"، وعنوانها: "Basri, Rabia" نقرأ أنها تمثل الريادة فى ميدان الحب الإلهى وأن ما تركه لنا فريد الدين العطار الصوفى الفارسى المشهور من أشعار وفلسفة تقف على أكتافها (هكذا نَصًّا)، وأن ثقتها فى الله وفى رحمته كانت بلا حدود حتى إنها كانت تعتمد عليه وحده فى تدبير طعامها وجبة بوجبة، وأن الثناء الرفيع الذى حظيت به من الرجال والنساء على السواء هو برهان على قيمة ما خلفته من تراث يأخذ بيد المريدين للسير فى نفس الطريق الذى كانت تسير فيه، طريق الحب الحميم الذى كان يربطها بالله جل وعلا. وها هى ذى الفقرة التى قمت بتلخيصها آنفا من المادة المذكورة، أسوقها كما هى فى أصلها الإنجليزى:
"Her pioneering of love-mysticism in Islam produced a rich legacy. The poetry and philosophy of Farid ad-Din Attar, among that of others, stands on her shoulders. It is primarily from his work that what little biographical information we have has survived. However, lack of details of her life is compensated by the abundance of stories of her piety and total trust in God to provide for her every meal. Her love of God and her confidence in God's mercy was absolute; since God provided for "those who insult Him" He would surely "provide for those who love Him" as well. The high praise that Rabia attracts from Muslim men as well as from Muslim women testifies to the value of her legacy as a guide for others to realize the same intimacy with God that she enjoyed. The fact is that details of her life have not survived while her reputation for piety has means that her achievements do not overshadow her devotion to God. Not only did she not teach at a prestigious institution or establish one but exactly where she did teach remains obscure. Nonetheless her legacy impacted significantly on religious life and thought".
وبعد فإن النصوص التى تحمل اسم رابعة تتحدث عن حب الله فعلا، لكننا لا نستطيع أن نعرف على وجه اليقين أقالت رابعة هذا الكلام أم لا كما أوضحنا آنفا. أما دعوى الأستاذ طه عبد الباقى سرور بأنها كانت من خلال هذا الحب تحب كل شىء فى الكون فغير صحيح، إذ رأيناها مثلا تستغرب أن يتعلق أب بابنه فيقبّله، وكأن حب العبد لربه يتناقض مع حبه لأى شخص أو شىء آخر فى الكون. بل لقد رأيناها تعلن فى منتهى الصراحة والوضوح أنها مشغولة بحبها لله عن رسوله عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فما قاله الأستاذ سرور فيما يتعلق بهذه النقطة هو كلام يفتقر إلى أساس سليم.
وأما ريادتها للحب الإلهى فتحتاج إلى التيقن من أنها هى فعلا صاحبة هذه الأشعار والأنثار التى تتناول هذا المعنى، وهو ما لا يمكننا القيام به على نحو قاطع. وسواء كانت هى أو غيرها صاحبة هذه النصوص فلا شك أن منطلق ذلك هو قوله تعالى: "وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" (البقرة/ 165)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (المائدة/ 54). إلا أننى لاحظت مع هذا أن القرآن فى موضوع الحب بين الله وعباده المؤمنين به إنما يركز فى المقام الأول، لا على حب المؤمنين لله، بل على حب الله لهم: للمحسنين والمقسطين والمتوكلين والتوابين والمتطهرين وأمثالهم من طوائف المؤمنين، ذلك الحب الذى تكرر فى القرآن مرارا كثارا. وهذا أمر عجيب لا تخفى دلالته على أحد. قال تعالى: "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة/ 195)، "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (البقرة/ 222)، "بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (آل عمران/ 76)، "وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران/ 134)، "وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ" (آل عمران/ 146)، "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران/ 159)، "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (المائدة/ 13)، "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (المائدة/ 42)، "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (المائدة/ 93)، "فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 4)، "فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 7)، "لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" (التوبة/ 108)، "فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الحجرات/ 9)، "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة/ 8)، "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ" (الصف/ 4). فالله يبدأ عباده بالحب، ويشجعهم على بذل الجهد والإخلاص لدينهم وقيمه، ولا يعذبهم أو يتركهم فى بوادى الحيرة والعذاب لا يدرون أهو يبادلهم الحب أم لا، متصورين أنه يحتجب عنهم رغم ما يبذلونه فى مرضاته من سهر وقيام وصوم وحرمان، وكأنه سبحانه يتلذذ بتعذيبهم مع أن القرآن واضح تمام الوضوح فى هذه النقطة، إذ يقول عز وجل لعباده: "مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ؟ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا" (النساء/ 147).
أما رابعة أو من تحدثوا باسمها فيَقْلِبون الأمر رأسا على عقب، إذ يحولون العلاقة بين العبد والرب إلى سلسلة من الخوف والحيرة والعذاب. ولقد بلغ الإسلام الغاية التى ليس بعدها غاية فى مجال العبقرية الدينية بمثل ذلك الحديث الشريف الذى يرويه عمر قائلا إن "رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب: حمارا، وكان يُضْحِك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتِيَ به يوما فأَمَر به فجُلِد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يُؤْتَى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله". فانظر كيف أن الرجل لم يكن يكثر من الصلاة ولا الصيام ولا الصدقات، بل كان يدمن الخمر، وكان يُجْلَد فيها كثيرا حتى ضاق بعض الصحابة به فلعنوه، لكن الرسول كان له رأى آخر مختلف تماما، ألا وهو أن هذا الرجل رغم كل شىء كان يحب الله ورسوله. أرأيت كيف أن المسألة سلسة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أقصى حد، وصعبة عند رابعة أو من نطق باسمها، وكيف يتعلق اهتمام الرسول عليه السلام فى المقام الأول بالشعور القلبى والنية؟ ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يعرف أن الرجل، وإن ضعف أمام غواية الشراب، لم يكن مجترئا على محارم الله، بل كان يعانى من ضعف فى هذه النقطة لا تواكبه رغبة فى العصيان. إنما هو العجز عن التماسك أمام إغراء الخمر. أما قلبه فصافٍ خالصٌ لحب الله، فكانت المشكلة فى إرادته، التى لم تكن على مستوى مشاعره. إنه يحب الله، لكنه للأسف لا يستطيع الثبات أمام الخمر.
وفى "عين القضاة" للهمذانى أنه "خطبها عبد الواحد بن زيد مع علو شأنه، فهجرته أياما حتى شفع إليها إخوانه. فلما دخل عليها قالت له: يا شهوانى، اطلب شهوانية مثلك!". فمن الواضح، كما سبق بيانه، أنه لم يكن لها مأرب فى الرجال، وهو ما يمكن فهمه وتقديره، لكن كيف فاتها أنها إن كانت لا ترغب فى الرجال فهذا أمر شاذ لا يقاس عليه وأن الطبيعى هو أن يفكر كل من الجنسين فى الجنس الآخر؟ ألم تقرأ قوله تعالى يمتن على عباده بمايفيد أن هذه نعمة من النعم: "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم/ 21)؟ ألا تعرف الحديث النبوى التالى: "جَاءَ ثَلاثُ رَهطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَن عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُم: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي الَّليلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنتُمُ الَّذِينَ قلتم كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُم للَّهِ وَأَتْقَاكُم لَه، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي"؟ أو هذا الحديث: "يَا مَعشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ استَطَاعَ مِنكُمُ البَاءَةَ فَليَتَزَوَّج، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلفَرجِ"؟ أو ذاك الحديث: "ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَونُهُم: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالمُكَاتِبُ الذي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الذِي يُرِيدُ العَفَافألم تسمع بقول النبى عليه السلام: "إذا أتاكم من تَرْضَوْن دينه وأمانته فزوِّجوه. إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض"؟ ألم يبلغها الحديث الذى يقول فيه الرسول للمسلم: "إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، فأَعْطِ كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه"؟ ألم يَصِلْها ما قاله الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود من أنه "لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، وأعلم أني أموت في آخرها يوما، وليَ طَوْل النكاح فيهن، لتزوجت مخافة الفتنة"؟ ثم كيف يجهل مثلها أهمية أمر كهذا تكرر المنُّ به فى القرآن والحديث إن كان قد ندََّ عن عقلها ما لا يمكن أن ينِدّ عن عقل أحد لأنه قانون كونى يخضع له كل الأحياء؟ أليس كل الأحياء يتزاوجون؟ ماذا أقول؟ بل يخضع له الجماد كذلك. أليست الذَّرّة مكونة هى أيضا من سالب وموجب؟ ومن ثم فماذا فى الشهوة؟ هل هى تقدّر الأمور أفضل من رب الكون؟ أم ماذا؟ ثم من أين أتت هى نفسها؟ أليست من زواج أبيها بأمها؟ أم هناك طريق آخر يأتى به بعض الناس إلى الوجود أفضل من طريق الزواج؟ أليست الشهوة هى السبب فى استمرار الحياة؟ على أننى لا أظن صحة هذه الحكاية، وبخاصة أن كل الحكايات التى تدور حول رابعة تصورها بصورة ليس من شأنها أن تجذب الرجال إليها: لا من جهة شكلها ولا من جهة ملابسها ولا من جهة تصرفاتها ولا من جهة أسلوب حياتها ولا من جهة فهمها للدين والعبادة. وهذا الذى قلته هنا أقوله أيضا تعقيبا على الحكاية التالية، إذ خطبها محمد بن سليمان الهاشمى أمير البصرة على مائة ألف، وقال: لى غَلّةُ عشرة آلاف فى كل شهر أحملها إليك. فكتبت إليه: ما يَسُرّنى أنك لى عبد وأن كل مالك لى وأنك شغلتنى عن الله طرفة عين.
ويذكر الزمخشرى (وهو من أهل القرنين: 5- 6هـ) فى "ربيع الأبرار ونصوص الأخبار" أنه قد "اجتمعت عند رابعة عِدّةٌ من الفقهاء والزهاد فذَمُّوا الدنيا، وهي ساكتة. فلما فرغوا قالت لهم: مَنْ أحبَّ شيئا أَكْثَرَ من ذكره: إما بحمدٍ وإما بذمٍّ. فإن كانت الدنيا في قلوبكم لاشيء فلِمَ تذكرون لاشيء؟". وروى عنها حماد بن زيد أنها قالت: إنى لأستحيى أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ فكان هذا جوابها على قوله لها: سلينى حاجتك. وهتف رجل من العُبَّاد في مجلس رابعة: اللهم ارضَ عني. قالت رابعة: لو رَضِيتَ عن الله لرَضِيَ عنك. قال: وكيف أرضى عن الله؟ قالت: يوم تُسَرُّ بالنقمة سرورك بالنعمة لأن كلتيهما من عند الله.
وأنا معها فى ردها هذا على جماعة العُبّاد والزهّاد المجتمعين عندها، إذ ما من واحد من البشر يمكن أن ينسى الدنيا. كيف، وهى مغروسة بكلاليب من حديد فى أعماق نفوسنا جميعا؟ كل المطلوب من فضلاء البشر ألا يلهيهم حب الدنيا عن القيام بواجبهم نحو ربهم ودينهم وأمتهم وإخوانهم فى الإنسانية ولا عن مراعاة الحلال والحرام. فإذا قاموا بذلك الواجب فهنيئا لهم طيبات الحياة. وإلا فلمن خلق الله طيباتها؟ لكنى لا أوافقها على قولها: "إنى لأستحيى أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟"، إذ لم الاستحياء؟ وممن؟ من رب العالمين؟ وهل يستحى المخلوق أن يطلب من الخالق شيئا من الدنيا؟ فليكفّ إذن عن التنفس، فهو من طيبات الدنيا. وليكفّ إذن عن الطعام والشراب والنوم والمشى بل عن الوجود ذاته. وإذا لم يطلب الإنسان من الله ما يحتاجه من دنياه، فممن يطلب؟ أم تراه يقول إننى لا أمارس شيئا من أمورها؟ لكن هل من يقول هذا يكون صادقا فى دعواه؟ أم هو مجرد كلام، والسلام؟ ولا ننس ما أكرره هنا دائما من أننا لا ندرى أقالت رابعة هذا أم لا. ذلك أنه ليس هناك دليل على أنه كلامها فعلا كما شرحتُ قبلا.
ويرى د. عبد الرحمن بدوى أن نظرة رابعة إلى نفسها وأعمالها تنبئ عن تواضع شديد، وأنها كانت لا تطمئن إلى قبول الله توبتها أو أعمالها، واقفا فى هذا السياق عند قولها: استغفارنا يحتاج إلى استغفار لعدم الصدق فيه. وهو يعقب قائلا إن "الصوفى الحق... هو ذلك الذى يعزف عن الرضا لأنه ينطوى على فكرة سلبية خالصة، فتراه دائما فى خوف على أعماله. وهذا ما أكدته رابعة حين قيل لها: أعَمِلْتِ عملا تَرَيْنَ أن يُقْبَل منكِ؟ فقالت: إن كان فخَوْفِى أن يُرَدَّ علىَّ. والواقع أنه إذا كانت قد صدرت عنها هذه العبارت فعلا أو نسبت إليها فقط، فقد صدر عنها أو نسب إليها أيضا تلك العبارات التى أوردتُها قبل قليل وتتسم بالخشونة والتنقص من الآخرين وشىء من الغرور كما وضحت، وهى أكثر وأبرز من العبارتين الأخريين اللتين استشهد بهما د. بدوى.
ومما سبق يُهَيَّأ لى أن رابعة، أو فلنقل: الصورة التى رُسِمَتْ لرابعة، لم تكن تعرف الابتسام، أما الضحك فهو أمر لا يخطر لها ولا فى المنام. ولا أظنها فى الواقع إلا كانت تبتسم وتضحك مع هذا، إلا أن من صوروها لنا كانوا حرصاء على أن يقدموها متجهمة لا ترحم أحدا فى ردها عليه ولا يعجبها العجب فى عبادتهم وزهدهم وخوفهم من ربهم. وللأسف فإن كثيرا من المتدينين يظن أن الشخصية المتدينة لا بد أن تكون جافة خشنة لا تعرف البشاشة كى يُعْجَب بها الناس ويقدروها. وللأسف أيضا فإن كثيرا من الجماهير ترى هذا الرأى. وكانت الثمرة هى تلك الصورة الجافة الجهمة التى وصلتنا لتلك السيدة العابدة. إلا أننى لا بد أن أضيف إلى ما سبق أنها، فيما يخيل إلىّ، لم تكن تكثر من الابتسام ولا من الضحك كما نفعل نحن المتدينين العاديين، إذ نبتسم ونضحك ونأكل ونشرب أفضل ما نستطيع من الطعام والشراب، ونحرص على أن نبرز للناس فى ملابس أنيقة بقدر الإمكان، ونصلى ونصوم ونزكى ونحج، وإن كنا لا ندرى أمقبولة عبادتنا أم لا، ولكننا نستمر فى أدائها مع هذا كله راجين القبول فضلا من الله ونعمة، ونخطئ أحيانا ونصيب أحيانا، وتلذعنا ضمائرنا أحيانا وتغفو أحيانا، وأملنا فى الله طول الوقت كبير، وإلا فقدنا عقولنا وأصابنا يأس وغم، إذ نجد أننا مهما حاولنا تجنب الخطإ نقع فيه رغم أنوفنا. فلولا ثقتنا فى الله ورحمته وكرمه وعفوه وغفرانه ولطفه وبره ما استقامت حياتنا. وفى النهاية ألم تسمع رابعة بقول الرسول: "رَوِّحوا القلوب ساعةً وساعة"؟ ألم يصلها نبأ حديث حنظلة الذى يقول فيه: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظَنا فذكر النار. قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكتُ الصبيان، ولاعبت المرأة. قال: فخرجْتُ فلقِيتُ أبا بكر فذكرتُ ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، نافَقَ حنظلة! فقال: مَهْ! فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل. فقال: يا حنظلة، ساعةً وساعة. ولو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتْكم الملائكة حتى تُسَلِّم عليكم في الطرق".
أما الكرامات، أو بالأحرى: المعجزات، التى ينسبونها إلى رابعة فكثيرة، وهى لا تقنع أحدا يتمتع بشىء من العقل والفهم، فباب المعجزات مغلق أمام غير الأنبياء. وأنا لا أقبل التصديق بوقوع أية معجزة ما لم تذكر فى القرآن. وعلى هذا فقول فريد الدين العطار فى"تذكرة الأولياء" إنها كانت تقوم الليل ذات مرة فى بيت سيدها أيام كانت لا تزال أَمَةً، وكانت تدعو الله أن يعتقها من هذا السيد القظ القاسى حتى تستطيع التفرغ له عز وجل وتعبده كما تحب، فنظر سيدها من خَصَاص باب حجرتها فسمعها وهى تبتهل إلى الله، وفوق رأسها قنديل معلق فى الهواء دون سلسلة تربطه بالسقف، ونوره يسطع فى أرجاء البيت كله، فوقع فى نفسه أنها فتاة مباركة، فما إن طلع الصباح حتى أعتقها وأطلق سراحها، هذا القول من فريد الدين العطار هو مما لا يدخل العقل.
ومما ذكره فريد العطار، ولا أدرى كيف كان هو وأمثاله يفكرون أو كيف يخترعون هذه الخرافات المضحكة أو يصدقونها على الأقل، أنها كانت تحج فى أحد الأعوام على حمار، فنفق الحمار، فقال رفقاؤها بالقافلة إنهم سيحلمون متاعها على دوابهم، إلا أنها رفضت ذلك قائلة إنها لم تعتمد عليهم حين قررت الحج، بل على الله وحده، فليرحلوا إذن ولا يشغلوا أنفسهم بها. ثم شرعت تناجى ربها قائلة: أهكذا يفعل الملوك بعبيدهم الضعفاء العاجزين؟ وما كادت تدعو الله بذلك حتى نهض الحمار حَيًّا كما كان، فوضعت عليه متاعها ولحقت بالقافلة.
وروى العطار أيضا أن الكعبة لم تنتظر حتى تَقْدَم إليها رابعة فانتقلت من مكانها وذهبت إليها حيث هى. ولهذا لم يجدها إبراهيم بن أدهم حين وصل مكة رغم أنه كان قد أنفق فى تلك الحجة أربعين عاما ماشيا على قدميه يصلى ركعتين كلما مشى خطوة. فما كان من رابعة إلا أن قررت أن تذهب العام التالى بنفسها إلى الكعبة بدلامن أن تأتيها هى. ولما جاء الموسم توجهت ناحية الصحراء وأخذت تتقلب على أضلاعها على الأرض حتى بلغت الكعبة!
وروى العطار كذلك أن الحسن البصرى رأى رابعة جالسة على شاطئ الفرات فألقى على الماء سجادته ووقف عليها وهو يقول: يا رابعة، تعالَىْ لنصلى ركعتين على الماء. فقالت: يا سيدى، أكل همك أن تظهر أمور هذه الدنيا لأهل الآخرة؟ أظهر لنا شيئا لا يستطيع جمهور الناس أن يفعلوه. قالت هذا، وألقت سجادتها فى الهواء وصعدت عليها وصاحت: يا حسن، نحن هنا فى مكان آمن وأبعد عن عيون الناس... إلى آخر هذه الحواديت التى يشغف بها الأطفال والعجائز. فإذا كانت هذه الأمور صحيحة فلماذا لم تظهر لها كرامة تأتيها بالطعام الشهى والمسكن النظيف الواسع والملبس الرقيق بدلا من الحياة الجَشِبة الخالية من المتعة التى كانت تقاسيها؟ أليس ذلك أفضل ألف مرة من القنديل الذى كان يتأرجح فوق رأسها معلقا فى الهواء دون سلسلة بلا أية جدوى؟ ألم يقل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء. وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن السوء"؟
والآن إلى ما خلفته لنا رابعة من نصوص شعرية ونثرية. والملاحظ أن النصوص الأدبية التى وصلت إلينا منسوبة إلى رابعة قليلة جدا، وهأنذا أسوقها كما وجدتها فى المظانّ المختلفة التى تتحدث عن هذه العابدة المتصوفة: فأما الشعر فها هو ذا:
إني جعلتك في الفــــــــــــؤاد محدثي
فالجسم منى للجليس مـــــــــــؤانسٌ
*
حبيـــــب لـيس يعـــــــدله حبيــــبُ
حبيب غاب عن بصري وشخصي
*
وزادي قليــــــــــل مــــــا أراه مبلّغي
أتحرقني بالنار يا غـــــــــاية المنى؟
*
أحبك حبـــين، حـُــــبَّ الهــــــــوى
فأما الذي هو حــب الهـــــــــــــوى
وأمــــــا الذي أنت أهــــــــل لــــــــه
فـــــــــلا الحمـــــد في ذا ولا ذاك لــي
*
*
*
وأبحتُ جسمي مَنْ أراد جلوسي
وحبيب قلبي في الفــــــــؤاد أنيسي
*
وما لســــــــــــــواه في قلبي نصيبُ
ولكـــــــــــنْ عن فؤادي ما يغيبُ
*
أللزاد أبكـــي أم لطول مســـافتي؟
فأين رجــائي فيك؟ أين مخافتي؟
*
وحُبًّــــــــــا لأنك أهــــــــــــــلٌ لذاكا
فشغلي بذكـــــــــرك عمــــن سواكا
فكَشْفُك لِي الـحُجْبَ حتى أراكـا
ولكنْ لك الحمـــــــــــد في ذا وذاكا
وقالت حين خطبها الحسن البصري معتذرة:
راحتي يا إخوتي في خـــــــــــــــلوتي
لم أجد لي عن هـــــــــواه عِوَضًـــــــا
حيثما كنت أشــــــاهـــــــدْ حسنه
إنْ أَمُتْ وَجْــــدًا ومــــــا ثَمَّ رِضًى
يا طبيب القـــــــلب يحيـــــــــا دائما
قد هجرت الخلق جمعــًــــــا أرتجي

وحبيـــبي دائمــــــا في حضـــــــرتي
وهـــــــــــــــواه في البـــــــرايا محـــنتي
فــــــــهــــــو محــــــــرابي إليه قِبْــــلتي
وا عنـائي في الورى! وا شِقْوَتي!
نشأتي منك وأيضـــــــــــا نشــــوتي
منك وصلاً، فهــــو أقصــى مُنْيَتي
وهذه الأشعار القليلة جدا تبعث على أن نتساءل: ترى هل هذا كل ما تركت رابعة وراءها من شعر؟ لا أظن ذلك إن كانت فعلا صاحبة تلك المقطوعات، وبخاصة أن الجاحظ، وهو أقرب من كتبوا عنها إلى عصرها، لم يذكر أنها كتب شعرا، بل هو فى الواقع لم يذكر عنها كلها شيئا يشفى الغليل. الشىء الثانى الذى يلفت النظر فى هذه النصوص هو أنها ليست بذات قيمة فنية تذكر، لكن ما فيها من حرارة التعلق بالله هو الذى يمنحها شيئا من القيمة، وبالذات تلك الأبيات التى تبتدئ بقولها: "أحبك حبين"، لارتباطها فى ذاكرتنا بصوت أم كلثوم، إذ من المستحيل أن يتناسى الإنسان صدى غنائها لهذه الأبيات فى نفسه حين يبدأ قراءتها، ومن ثم فصوت أم كلثوم مع اللحن الرائع الذى وُضِع للأغنية يعطيانها قيمة أكبر. وإذا كان بعض المتصوفة قد فسروا هذين الحبين وفرقوا بينهما على طريقتهم حسبما رأينا فيما مضى، فإنى بدورى قد أستطيع أن أشرح هذه الأبيات لو نظرنا إليها على أنها شعر فى حبيب بشرى. ويكون المعنى أنها أحبت حبيبها أولا ذلك الحب القَدَرِىّ الذى ليس للمحب فيه حيلة. لكنها عرفت أيضا إلى جانب هذا أنه حبيب جدير بكل حب، وهذا هو الحب الثانى الذى أشارت له بقولها:
وأمـــــا الذى أنت أهــــــــــلٌ لـــــــــه

فكشفُك لِى الحُجْبَ حتى أراكـــا
بمعنى أنه لما تكشفت لها حقيقة الحبيب أحبته اقتناعا، فكان حبها هذه المرة حب المعاينة، إذ كثيرا ما يقع الواحد منا فى حب فتاة أو امرأة دون أن يفكر حينئذ فى خلالها وشخصيتها، بل يحبها لأن هذا هو قدره، فهو لا يستطيع أن يسلوها حتى لو تبين له أنها غير جديرة به أو أنها لن تسعده. لكن إذا أحب امرأة بهذه الطريقة ثم تبين له أنها جديرة بحبه وأنها سوف تسعده، بل أسعدته فعلا، فإن حبه لها فى هذه الحالة هو حُبُّه لـِمَنْ هى أهلٌ لذلك الحب. وهذا شرح تقريبى لأننى لا أجرؤ على أن أدخل إلى قدس الحب الإلهى. إننى أحب الله، لكن دون تعقيد، وأعرف له عظمته وجلاله، إلا أننى فى ذات الوقت لا أنقطع عن القيام بواجباتى فى الحياة من تدريس وقراءة وكتابة وسعى على معاشى أنا وأسرتى ومشاهدة التلفاز أو سماع المذياع أحيانا وتنزه ومشى يومى من أجل لياقتى الصحية، ولا أجد فى حبى لأفراد أسرتى أو أصدقائى أو طلابى أو زملائى مثلا ما يتعارض مع هذا الحب. كما أنى لم أفكر يوما أن أحلل حبى له سبحانه أو أن أكتب عنه، فضلا عن أنى لست شاعرا، بل أحبه فقط. والطريف أن عبارة "يا طبيب القلب" التى وردت فى أحد الأشعار المنسوبة لرابعة هى مطلع أغنية تغنيها ليلى مراد، ولكن لطبيب من البشر كان يعالجها ثم تعلقت به وتزوجته، وليس للطبيب الكبير الذى منه كل شفاء. وربما كان هذا المطلع اقتباسا من أبيات رابعة، أو فلنقل من باب الاحتياط: الأبيات المنسوبة إلى رابعة.
أما المقطوعة التى تبدأ بقولها:
يا ســـــــرورى ومنيتى وعمـــــادى

وأنيســــــى وعـُـّــــــدتى وعتـــــادى
فهى نظم لا روح فيه ولا حرارة ولا فكرة مدهشة ولا خاطر يلفت النظر، علاوة على أن وصفها لله بأنه "مُنَى القلب" هو مما لا يصلح لله سبحانه، إذ المنية هى شىء قد يتحقق أو لا يتحقق. وذلك، فى دنيا الحب، يتوقف على إرادة الطرف الآخر، الذى قد يكرهنا حتى لو أعطيناه كل كياننا، إذ من الممكن ألا يبادلنا حبا بحب. أما الله فإنه لا يفعل ذلك، فحبه لا نهاية له، ومن ثم يمكن أن يحب كل البشر دون أن ينقص ذلك من نصيب أى منهم من الحب شيئا بخلاف حب المرأة مثلا للرجال، فهى لا تستطيع أن تحب إلا واحدا لأن قلبها لا يتسع إلا لواحد فحسب، علاوة على أنها قد تكره من يحبها، وهو ما لا يُتَصَوَّر فى حق الله عز وعلا. من هنا فإنى أرى تلك العبارة مما يزرى بهذه الأبيات الرديئة أصلا لما يغلب عليها من تقريرية وما تخلو منه من روح الشعر وصوره ودفئه.
ورغم حكمى على فن هذه الأشعار التى بين أيدينا بأنها ليست بذات قيمة كبيرة فإن قولها، أو القول المنسوب إليها:
أتحــــرقني بالنار يا غــــــاية المنى؟

فأين رجــائي فيك؟ أين مخــــافتي؟
هو مما يعجبنى كثيرا، إذ أراه يعبر خير تعبير عما أعتقده فى قلبى وعقلى وضميرى من أن الله عظيم الكرم والرحمة، وأننى إن أتيته بالعمل القليل فأملى أنه سبحانه سوف يتغاضى عن قلته وضعفه، وهو ما أعتمد عليه فى مواصلة مسيرة حياتى دون إحباط. فنحن عبيده، ونحن ضعفاء، ونحن خطاؤون، ونحن من ثم نتطلع إلى غفرانه وكرمه. وإذا لم يكرمنا هو فمن يا ترى يُكْرِم؟ كذلك فتركيب الكلام فى قولها أوالقول المنسوب إليها التالى:
فــــلا الحمــــــــد فى ذا ولا ذاك لي

ولكنْ لك الحمــــــد فى ذا وذاكـــــا
تركيب ممتع، إذ الشطرة الثانية تعاكس الشطرة الأولى فى ترتيب عناصر الجملة، لأن الجملة فى الشطرة الأولى قد رُتِّبَتْ على أن يجىء المبتدأ أولا، فمتعلِّق المبتدإ ثانيا، فالخبر ثالثا وأخيرا، أما فى الشطرة الثانية فجاء الخبر أولا، ثم المبتدأ ثانيا، فمتعلق المبدإ ثالثا. فكأننا أمام شخص وصورته المعكوسة فى المرآة، وفى هذا العكس ما فيه من السرور بالمفاجأة التى لم يكن القارئ أو السامع يتوقعها.
كذلك يعجبنى قولها تعبيرا عن الله جل وعلا: "حبيب قلبي" بما فيه من بساطة وعفوية ودفء وكأنها تتحدث عن حبيب قلبها من بنى الإنسان وليس عن رب العزة والجلال. والله عند ظن عبده به، فهو يبادل كل من يحبه حبا مثله، لا بل أكبر منه، حبا يليق به سبحانه لا حبا يليق بنا نحن. وكنت قرأت ذات مرة أن أحد أجواد المسلمين قصده رجل يأمل فى عطائه، فأعطاه مالا كثيرا لم يكن المستعطى يتوقعه أو يحلم به، وهو ما أثار دهشة من حوله، فقالوا له إنه كان يكفيه القليل من هذا المال، ومن ثم كان ينبغى أن يعطيه على قدر ما يستحق ويتوقع. فما كان من الرجل الجواد إلا أن أجابهم بأنه لا يعطى الناس على قدر استحقاقهم، بل على قدره هو. فكان هذا من أجمل الردود التى سمعتها فى حياتى.
وأما النثر فقد أوردنا بعضه خلال الروايات التى سقناها فى هذا الفصل، وهو عبارة عن نصوص قصيرة علقنا عليها بما نرجو أن يكون قد أبان عن وجهة نظرنا فيها. وهناك أيضا النص التالى الموجود فى "مصارع العشاق" للسَّرّاج القارى، وهو من رواية مسمع بن عاصم. قال: "قالت لي رابعة العدوية: اعتللتُ علةً قطعتني عن التهجد وقيام الليل، فمكثت أياما أقرأ حزبي إذا ارتفع النهار لما يُذْكَر فيه أنه يعدل قيام الليل. قالت: ثم رزقني الله عز وجل العافية، فاعتادني فترة في عقب العلة. وكنت قد سكنت إلى قراءة حزبي بالنهار، فانقطع عني قيام الليل. قالت: فبينا أنا ذات ليلة راقدة أُرِيتُ في منامي كأني رُفِعْتُ إلى روضة خضراء ذات قصورٍ ونبت حسن. فبينا أنا أجول فيها أتعجب من حسنها إذا أنا بطائر أخضر، وجارية تطارده كأنها تريد أخذه، قالت: فشغلني حسنها عن حسنه، فقلت: ما تريدين منه؟ دعيه، فوالله ما رأيت طائرا قط أحسن منه. قالت: بلى. ثم أخذتْ بيدي فدارت بي في تلك الروضة حتى انتهت بي إلى باب قصر فيها، فاستفتحت، ففُتِح لها، ثم قالت: افتحوا لي بيت المقة. قالت: ففُتِح لها بابٌ شاع منه شعاع استنار من ضوء نوره ما بين يدي وما خلفي، وقالت لي: ادخلي. فدخلت إلى بيت يحار فيه البصر تلألؤا وحسنا ما أعرف له في الدنيا شبيها أشبّهه به. فبينا نحن نجول فيه إذ رُفِع لنا باب يُنْفَذ منه إلى بستان، فأَهْوَتْ نحوه وأنا معها، فتلقّانا فيه وُصَفَاءُ كأن وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم المجامر، فقالت لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلانا، قتل في البحر شهيدا. قالت: أفلا تجمّرون هذه المرأة؟ قالوا: قد كان لها في ذلك حظ فتركته. قالت: فأرسلتْ يدها من يدي، ثم أقبلتْ علي فقالت:
صَــــــلاتُكِ نـــــــورٌ، والعِبــــادُ رُقودُ
وعمرُك غُنْمٌ إن عقلتِ ومـــــــهـــلةٌ

ونَوْمُـــــــــك ضِدٌّ للصّــــلاة عنيـــــدُ
يســــيرُ ويفنى دائمـــــــــــــا ويبيـــــدُ
ثم غابت من بين عيني، واستيقظت حين تبدى الفجر،. فوالله ما ذكرتها فتوهمتها إلا طاش عقلي، وأنكرتُ نفسي. قال: ثم سقطت رابعة مغشيا عليها".
ولا ريب أن هذه قطعة أدبية بديعة، وإن كنت لا أدرى أهى من بُنَيّات عقل رابعة أم من إضافات المتأخرين إليها. إلا أن القطعة رغم هذا تفيض بالخيال الرائق الجميل وتجوس بنا داخل الجنة وكأنها مرشد سياحى يطلعنا على معالم المدينة وما فيها من ألوان الإبداع المعمارى والفنى ويقودنا خلال الشوارع الفسيحة المشرقة المفعمة بالحياة. وهى فى الواقع تعبير عن تطلعات البشر المرهقين من أثقال الدنيا ومنغصاتها إلى الراحة الشاملة الأبدية حيث يتحقق للإنسان كل ما يطمح بصره وقلبه إليه، ويرتاح الراحة التى ليس بعدها ألم ولا تنغيص، ويتقلب على راحته فى النعيم المقيم. وتتبدى الجنة فى القطعة الجميلة وكأننا إزاء قصر مترف تحيط به الرياض الخضر التى تحلق فى فضائها الطيور البديعة ذات الريش الرائع والنغم العذب، وتصاحبنا الجوارى اللاتى يقمن على راحتنا ويأخذن بأيدينا ويجبن على استفساراتنا ويوفرن لنا كل ضروب البهجة والمسرة.
وفى "شرح حال الأولياء" لعز الدين بن عبد السلام بن غانم المقدسى نقلا عن "رابعة العدوية شهيدة الحب الإلهى" للدكتور عبد الرحمن بدوى (ص172- 173): "ليس للمحب وحبيبه بَيْن، وإنما هو نطقٌ عن شوق، ووصفٌ عن ذوق. فمن ذاق عرف، ومن وصف فما اتصف. وكيف تصف شيئا أنت في حضرته غائب، وبوجوده دائب، وبشهوده ذاهب، وبصَحْوك منه سكران، وبفراغك له ملآن، وبسرورك به ولهان؟ فالهيبة تخرس اللسان عن الإخبار، والحيرة توقف الـجَنَان عن الإظهار، والغيرة تحجب الأبصار عن الأغيار، والدهشة تَعْقِل العقول عن الإقرار. فما ثَمَّ إلا دهشة دائمة، وحيرة لازمة، وقلوب هائمة، وأسرار كاتمة، وأجساد من السقم غير سالمة. والمحبة بدولتها الصارمة، في القلوب حاكمة". ولا أظن مثل هذا النص يتسق مع ثقافة رابعة ولا شخصيتها أبدا، بَلْهَ أن يتسق مع عصر رابعة أسلوبا أو فكرا. وهو مملوء بالسجع والمعانى التفريعية الدقيقة، علاوة على ما فيه من مصلطحات صوفية لم تكن معروفة آنذاك، مثل "الأغيار" و"الصحو" و"السُّكْر" و"الذوق".
وأورد الشيخ الحريفيش فى "الروض الرائق فى المواعظ والرقائق" لرابعة العدوية هذين الابتهالين البديعين اللذين يقعان موقع السحر فى القلوب، وينزلان كالبلسم على الأرواح، ويحملاننا إلى آفاق علوية تغادر بنا هذه الأرض بعض الوقت: "إلهي، غارت النجوم، ونامت العيون، وغفل الغافلون، وغلّقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك"، "إلهى، هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر. فليت شعرى أقَبِلْتَ منى ليلتى فأهنأ أم رددتها علىَّ فأَعْزَى؟ فوعزتك هذا دأبى ما أحييتَنى وأعنتَنى. وعزتك لو طردتنى عن بابك ما برحتُ عنه لما وقع فى قلبى من محبتك".
 
عودة
أعلى