إبراهيم عوض
New member
- إنضم
- 18/03/2005
- المشاركات
- 203
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
[FONT=AF_Quseem][FONT=AF_Quseem]كلمة صريحة فى التصوف[/FONT][/FONT]
[FONT=AF_Quseem][FONT=AF_Quseem]إبراهيم عوض[/FONT][/FONT]
ما معنى التصوف؟ ومن أين اشْتُقَّ هذا المصطلح؟ فأما فى الجواب عن السؤال الأول فيقول مثلا عبد الهادى رضوان نجا الإبيارى فى كتابه: "فن التصوف" (نشرة م. آرنو M. Arnaud, Etude sur le Sufisme, Adolphe Jourdan, Alger, 1888, P. 3- 4) نقلا عن المتصوفة، الذين يسميهم: أهل الحقيقة، إنه "التخلق بأخلاق الصوفية والتوسل بأوصافهم إلى الانتظام فى سلكهم. وقيل: هو الخروج عن كل خُلُقٍ دَنِىّ، والدخول فى كل خلق سَنِىّ. وقال الجنيد: هو أن يميتك الحقُّ عنك ويحيك به. وقال الشيخ قاسم الخانى: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا. وقيل: هو كمال الإنسان بالإسلام والإيمان والإحسان. وقيل: إرسال النفس مع الله على ما يريد. وقيل: التمسك بالفقر والافتقار، والتخقق بالذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار. وقيل: التوجه بالعبادة وطلب الحسنى وزيادة... قال الآلوسى فى "الفيض الوارد": والذى يميل إليه كثير من السادة ما يفهم من هذين البيتين:
[FONT=AF_Quseem][FONT=AF_Quseem]إبراهيم عوض[/FONT][/FONT]
ما معنى التصوف؟ ومن أين اشْتُقَّ هذا المصطلح؟ فأما فى الجواب عن السؤال الأول فيقول مثلا عبد الهادى رضوان نجا الإبيارى فى كتابه: "فن التصوف" (نشرة م. آرنو M. Arnaud, Etude sur le Sufisme, Adolphe Jourdan, Alger, 1888, P. 3- 4) نقلا عن المتصوفة، الذين يسميهم: أهل الحقيقة، إنه "التخلق بأخلاق الصوفية والتوسل بأوصافهم إلى الانتظام فى سلكهم. وقيل: هو الخروج عن كل خُلُقٍ دَنِىّ، والدخول فى كل خلق سَنِىّ. وقال الجنيد: هو أن يميتك الحقُّ عنك ويحيك به. وقال الشيخ قاسم الخانى: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا. وقيل: هو كمال الإنسان بالإسلام والإيمان والإحسان. وقيل: إرسال النفس مع الله على ما يريد. وقيل: التمسك بالفقر والافتقار، والتخقق بالذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار. وقيل: التوجه بالعبادة وطلب الحسنى وزيادة... قال الآلوسى فى "الفيض الوارد": والذى يميل إليه كثير من السادة ما يفهم من هذين البيتين:
تنازع الناس فى الصوفىّ واختلفوا * فيـــه، وظنــوه مشتقا من الصــــوفِ
ولست أمنــح هـــذا الاســم غـير فـتًى * صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِى
وعليه فوجه تسمية السالك بذلك صفاء قلبه وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفة ربه... وقيل: هو العلم الذى يُبْحَث فيه عما يلزم فى التصوف من المقامات والأحوال والمحبة والعشق والفرق والجمع وما أشبه ذلك". ولست أمنــح هـــذا الاســم غـير فـتًى * صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِى
وبشىء من الجهد فى التوفيق بين هذه التعاريف التى لا يخلو بعضها من تهويم، وبعضها الآخر من تخالف، أن نقول إن التصوف، لدى أصحابه، معناه أن يزهد الإنسان فى طيبات الحياة وأن يقبل على الله بقلب سليم مجتهدا بكل قواه فى الابتعاد عن المعاصى والالتزام بالواجبات والفروض الدينية. فأما الاجتهاد فى مرضاة الله بتنفيذ أوامره وتجنب نواهيه فهو أمر طيب لا يمكن أحدا أن يماحك فيه، وهو ما يعنى أن المتصوف هو إنسان مسلم يتمتع بدفء القلب وحرارة الشعور وعمق الإخلاص. ولكن هل الزهد فى طيبات الحياة مطلوب، أو مرحَّب به على الأقل فى الدين؟ أما أنا فلا أظن ذلك، وإلا فلم خلق الله هذه الطيبات؟ ولمن؟ أوقد خلقها للحيوانات مثلا؟ ذلك أن الحيوانات لا تعرف دعوى الافتقار ولا تفكر فيها. أم تراه خلقها سبحانه للكفار دون المؤمنين؟ ولكن هل يعقل هذا؟ ثم أين يمكننا أن نجد مثل ذلك الكلام فى كتاب الله أو فى سنة رسول الله؟ بل هل يقول العقل بهذا؟ ولم يا ترى؟
أفهم أن يقال إن المسلم إذا وجد نفسه فى ظروف مادية صعبة وجب عليه التماسك وعدم الجزع أو مد بصره أو يده للمال الحرام إلى أن تنتهى المحنة، سواء كانت محنة فردية مقصورة عليه كما يحدث لكل منا فى أى وقت لسبب أو لآخر، أو كانت محنة عامة تشمل الأمة أو الشعب كله فى أى ظرف من الظروف الوطنية التى يمكن أن تمر بها الأمة. ففى هذه الحالة يجب على الأمة أن تتماسك وتصبر وتشد الأحزمة على البطون حتى تعبر المأزق بسلام وعزة وكرامة ولا تنهار أو تستسلم للظروف أو للقوى الدولية المعادية التى تريد تركيعها بالحصار أو مصادرة الممتلكات التى لها عندها أو ما إلى ذلك. أما أن يَكْلَف المسلم بالفقر لوجه الفقر، أو كما قيل: بالافتقار، فهذا ما لا أفهمه ولا أظن الله يرضى به. ولقد مر المسلمون الأوائل بظروف صعبة بسبب محاصرة الكفار لهم فى مكة فى شِعْب أبى طالب أو بسبب مصادرتهم أموالهم وبيوتهم بمكة عند الهجرة، وأثبت الصحابة أوانئذ أنهم على قدر المسؤولية والظروف الصعبة التى مرت بها الأمة آنذاك، وأثبت أغنياؤهم أنهم أوفياء لتعاليم دينهم حرصاء على مرضاة ربهم ورسولهم فتبرع كل منهم بقسط كبير من ممتلكاته لإخوانه فى الدين ممن لم يُرْزَقُوا مثله اليسار، وبهذا خرجوا من عنق الزجاجة على أحسن حال، وفى أسرع وقت. إن الغِنَى ليس إثما ينبغى أن يتجنبه المسلم، بل هو نعمة وبركة، لأن الأمم لا يمكن أن تقوى وتَكْرُم وتَعِزّ وتنال احترام الأمم الأخرى إلا إذا كانت غنية. ذلك أن الغنى ليس معناه أن يمتلخ الإنسان حق الآخرين دون وجه حق، بل معناه أن يُقْبِل كل فرد فى الأمة على العمل والإنتاج والإبداع والبحث عن مصادر إيجابية للثروة، فتنشط الأحوال وتتحول الدولة إلى خلية نحل يبذل كل فرد فيها أقصى جهده لإغناء نفسه وأمته، وبهذا تُثْرِى الأمةُ وتصير أمة قوية مهيبة الجانب يحترمها الآخرون ويعملون لها ألف حساب. وإذا كان هناك من يزهد فى الدنيا رغم ذلك فلْيُحْرِز المالَ أوّلاً ثم لْيُوَزِّعْ ما يزهد فيه من ذلك المال على إخوانه فى الدين والوطن، فيكسب بهذا أجرين: أجر العمل، وأجر التصدق. إن كثيرا منا، على المستوى النظرى فقط للأسف، يزعمون أن الجرى وراء المال أمر معيب لا يليق، مع أنه ما من واحد منهم إلا ويلهث وراء المال لهثا، ولكنه التظاهر الكاذب بالزهد فى الدنيا. الحق أن السعار وراء المال شىء، والاغتناء شىء آخر. السعار وراء المال معناه أن ينسى الإنسان واجباته نحو ربه ونحو أبناء دينه ووطنه فلا يفكر فى شكر الله وأداء حقه سبحانه من العبادة، ولا يفكر فى مد يد العون إلى المحتاجين من إخوانه فى الدين أو فى الوطن، ولا يفكر فى حلال أو حرام، بل كل همه هو كسب المال فحسب من أى طريق. وهذا شىء غير الغنى، الذى يقوم على بذل الجهد من أجل ترقية النفس والأسرة والوطن والأمة كما أشرنا آنفا، وهو ما سوف يحاسبنا الله عليه إن قَصَّرْنا فيه. وحتى تتضح الأمور لا ينبغى أن تزهد أمة الإسلام فى تحصيل أسباب القوة والثراء، وإلا ضاعت وفشلت فى سباق الحياة وتخلفت عن الصفوف الأولى وديست من ثم بالأقدام والأحذية. فَلْتَنْظُر الأمة لنفسها وَلْتَتَصَرَّف بمقتضى ما يقوله لها العقل والدين وما تستلزمه الأوضاع الدولية. أما تعامى المسلم عن رؤية خريطة الحياة بتعقيداتها فإثم سوف يحاسبه الله عليه. والمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأقوياء والنبهاء. والعجيب أن كثيرا من هؤلاء المتظاهرين بالزهد فى الدنيا كانوا يحرصون على الالتحاق بالخوانق حتى يأكلوا ويشربوا ويسكنوا ويلبسوا دون مقابل من عمل أو تعب. فهل هذا هو الزهد فى الدنيا؟ إن كان فأنا أول الزاهدين، ومعى أسرتى كلها بزوجتى وأولادى وأحفادى الموجودين الآن والذين سوف يهلّون على الدنيا فى المستقبل، وبهذا أضمن لى ولهم حياة مستريحة ليس فيها معاناة من الغلاء أو من قلة المرتب أو من التفكير فى التوفيق بين الداخل والمنصرف فى ظروف تطيّر عقل أحلم الحلماء وتُعْجِز أعتى المدبّرين الماليين.
هذا عن جواب السؤال الأول، أما بالنسبة إلى جواب السؤال الثانى فيقول مثلا الشيخ مصطفى عبد الرازق (فى مقال له بمجلة "المعرفة"/ يونيه 1931م، وأشار إليه الدكاترة زكى مبارك فى كتابه: "التصوف فى الدين والأخلاق"/ مطبعة الرسالة/ 1357هـ- 1938م/ 1/ 51) إنه يحتمل أربعة فروض: أن يكون "الصوفى" منسوبا إلى صُوفَة، أو إلى الصوف، أو إلى كلمة "سوفيا" اليونانية، أى الحكمة، أو مشتقا من الصفاء. وصُوفَة قبيلة عربية كانت تقوم بإجازة الحج، أى إعطاء إشارة البدء بالتحرك من عرفة. لكن يبدو لى غريبا ألا يجد المتصوفون إلا تلك القبيلة الجاهلية الوثنية ينتسبون إليها، وهم المسلمون الذين يحرصون على ألا يرتبط اسمهم بشىء من أمور الجاهلية. ثم إن تلك القبيلة كانت قد اختفت من مسرح التاريخ منذ زمن موغل فى القدم ولم يعد أحد يذكرها، فكيف تذكَّرها المتصوفة فجأة وعلى غير انتظار أو توقع؟ علاوة على أن قريشا قد تولت منذ زمن بعيد أمر البيت الحرام كله، وبخاصة بنو هاشم، فكيف نصدّق أن المتصوفة يمكن أن يتجاهلوا هذه الحقيقة ويذهبوا فيبحثوا لهم عن أصل مجهول لا يعرفه أحد تقريبا ويتركوا قريشا وبنى هاشم أهل نبيهم؟ كذلك لم نقرأ هذا التفسير لأحد من القدماء الذين كتبوا عن الصوفية والمتصوفة، اللهم إلا أبا نعيم فى "حلية الأولياء" (ط. القاهرة/ 1351هـ- 1932م/ 1/ 17)، وهو الوحيد الذى ربط بين التصوف والتشيع كما لاحظ د. كامل الشيبى فى مقال له بعنوان "رأى فى اشتقاق كلمة صوفى" (مجلة كلية الآداب العراقية/ العدد 5/ نيسان 1963م/ 232). بل إن المتصوفة لم يفكروا أن ينسبوا أنفسهم أو ينسبهم أحد إلى النبى ذاته، فكيف يصح أن نتخيل أنهم ينتسبون إلى صوفة، ذلك الرجل الجاهلى الوثنى الذى كانت تُسَمَّى باسمه القبيلة المذكورة؟ إلا أن د. كامل الشيبى يهمل هذا الاعتبار ويذهب فيرجّح أن يكون هذا هو الاشتقاق الصحيح للمصطلح مستندا إلى أن الصوفية لم يكونوا وحدهم الذين يلبسون الصوف ولا كانوا كلهم يلبسونه (انظر مقال د. الشيبى بالمرجع السابق/ 233- 234)، ناسيا أن هناك فرقا بين المعنى اللغوى للكلمة والمعنى الاصطلاحى لها، فالأول ينطبق عليها تماما بخلاف الثانى، الذى يكفى أن يكون بينه وبين المعنى اللغوى صلة ما. ومعروف أن العبرة فى مثل تلك التسميات هى الغلبة لا الاستغراق، إذ يكفى أن يشيع ارتداء الصوف بين القوم رغبة فى التقشف والتخشن كى تصح نسبتهم إلى الصوف حتى لو لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك. بل لو أن عددا منهم ارتدى شيئا آخر من خشن الملابس غير الصوف لكان يكفى أن يكون الصوف أكثر التصاقا من غيره بالخشونة حتى يُنْسَبوا إلى الصوف إلحاقا لهم بلابسيه من أهل طريقتهم.
أما نسبة الصوفية والمتصوفة إلى الصفاء فبعيد لأن "الصفاء" مشتق من مادة "ص ف و"، على حين أن "الصوفية" مأخوذة من مادة "ص و ف". ولو كان هذا الفرض صحيحا لألفيناهم يقولون: "الصَّفْوِيّة" أو "الصَّفَائية" مثلا. أما "الصوفية" فلا يصح اشتقاقها من "الصفاء" كما هو واضح لكل ذى عينين. وإذا كان شهاب الدين الآلوسى في "الفيض الوارد" يرى رغم ذلك أن "الصوفية" مشتقة من "الصفاء" مع تقديم الفاء على الواو فليس رأيه هذا بوجيه، إذ لماذا قدموا الواو على الفاء، وهذا التقديم يربك العقول ويبعدها عن التنبه إلى ما يريدون الاتصاف به؟ كذلك ليس هناك أى سبب لهذا التقديم كالثقل فى النطق مثلا ولا هو مما نطقت به العرب على الوجهين مثل "جَذَب" و"جَبَذ" مثلا. وفوق هذا وذاك فإن كلمة "الصوفى" لا تصلح أن تكون منقلبة عن "صفوى" لأن ضبط الكلمتين مختلف غاية الاختلاف. ومع هذا فبعض الصوفية يقولون إن التصوف مشتق من "الصفاء" لصفاء قلوب هؤلاء في معاملتهم مع الله، إذ إنَّ باطنهم كظاهرهم غاية في النقاء. واشتهر في ذلك قول أبي الفتح البُسْتِيّ:
تنازع الناس فى الصوفىّ واختلفوا * فيـــه، وظنــوه مشتقا من الصــــوفِ
ولست أمنــح هـــذا الاســم غـير فـتًى * صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِى
ومن ثم قال شهاب الدين الآلوسي في كتاب "الفيض الوارد": إنّ الذي يميل إليه كثير من السادة الصوفية ما يُفْهَم من هذين البيتين. ولا يخفى أنّ النسبة إلى "الصفاء": "صَفَوِيّ" وبعد تقديم الواو على الفاء صار "صُوفِيًّا"، وعلى هذا يكون في اللفظة قلبٌ، والله أعلم. وقد أشار إلى رأى الآلوسى هذا الشيخ عبد الهادى بن رضوان نجا الإبيارى المصرى فى الصفحة الثانية من كتابه: "فن التصوف". ولست أمنــح هـــذا الاســم غـير فـتًى * صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِى
وعلى نفس الشاكلة نقول إن "التصوف" لا يمكن أن يكون نسبة إلى "الصُّفَّة"، التى كان يعيش فيها بعض الصحابة فى مسجد رسول الله بالمدنية باعتبارهم فقراء لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، وهو المعنى الذى يحرص الصوفية على وصف أنفسهم به. وكان يطلق على هذه الطائفة من الصحابة اسم "أصحاب الصُّفّة". وسر استبعادى لهذا التفسير هو أن اشتقاق "الصُّفّة" إنما يرجع إلى مادة "ص ف ف"، وهى شىء مختلف تمام الاختلاف عن "ص و ف". ولو كان هذا صحيحا لقالوا: "صُفِّيُّون". وبالمثل لا أظنها مأخوذة من "سوفيا" اليونانية لعدة أسباب: فقد عرب العرب كلمة "فلسفة"، وفيها "سوفيا"، أى الحكمة، (إذ إن "الفلسفة" هى "محبة الحكمة": من "فيلو" أى محب، و"سوفيا" أى الحكمة)، فلو كان "التصوف" مأخوذا من "سوفيا" لكانت بالسين لا بالصاد. كما أن الصوفية لم يشتهروا بالحكمة بوصفها شيئا يميزهم عن سواهم من الفرق والمذاهب ولم يحاولوا أن يقولوا عن أنفسهم إنهم حكماء، بل قالوا وقيل عنهم إنهم زُهَّاد أو عُبَّاد أو عُشَّاق لله. والشىء الوحيد الذى تظهر فيه كلمة"الحكمة" مرتبطة بالصوفية هو كتاب ابن عطاء الله السكندرى الممسى: "الحكم العطائية"، وهو شىء خاص به ولا صلة له مخصوصة بالتصوف. وبالإضافة إلى هذا لا نعرف عن الصوفية أنهم استعاروا أيا من مصطلحاتهم من اللغات الأجنبية حتى بعدما تعقد التصوف وتأثر بعضهم ببعض الأفكار الأجنبية الغريبة عن الإسلام. ومثلما نبذنا القول باشتقاق المصطح من "الصُّفَّة" نستبعد القول باشتقاقه من "الصَّفّ" لأن اشتقاق الكلمة الأخيرة يعود إلى مادة "ص ف ف" مثل "الصُّفَّة" سواء بسواء. كما أنه لا علاقة بين الصوفية والصف، فهم لم يكونوا جنودا ينتظمون فى صفوف مثلا. وهذان الفرضان قد أوردهما د. زكى مبارك ضمن كلامه فى مناقشة الفروض الأربعة التى نناقشها الآن.
ويبقى أن التصوف مشتق من الصوف، وهو أوجه التفسيرات فى نظر د. زكى مبارك، وفى رأى د. محمد بشار الفيضي العراقى فى مقال له على المشباك بعنوان "مباحث مهمة في علم التصوف". ويعرض د. الفيضى هذا الرأى ووجهة نظره فيه على أساس أن نسبة التصوف واشتقاقه يرجعان إلى ما كان عليه كثير من الصوفية، من لبس الصوف زهدًا واخشيشانًا. وعلى هذا يكون هذا الاسم هو مصدر الفعل: "تَصَوَّف"، فهو متصوف: من "ص و ف" للدلالة على لبس الصوف، وذلك لجملة أسباب منها: أولاً أن النبي وأصحابه كانوا يلبسون الصوف. وقد وردت في ذلك أحاديث وآثار منها أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار ويلبس الصوف..."، وعن أبي موسى الأشعري قال: "يا بني، لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم لحسبت أنما ريحنا ريح الضأن. إنما لباسنا الصوف، وطعامنا الأسودان: التمر والماء"، وأُثِر عن الحسن البصري قال: "والله لقد أدركت سبعين بدريًّا كان لباسهم الصوف". ثانيًا أن لبس الصوف يعلِّم صاحبه الاخشيشان ومجافاة الدنيا وعدم الركون إلى الترف. وهذا ما كان يهدف إليه الصوفية بسلوكهم، فاتخذوه شعارا لهم. ثالثًا أن لبس الصوف كان سُنّة الأوائل من كبار الصوفية في العصور الأولى بعد ازدهار دولة الإسلام وانفتاح الدنيا على المسلمين وما تبع ذلك من انشغال الناس بزخرف الحياة، وتولعهم بالترف إلى الحد الذي أنساهم آخرتهم. فلبس الصوفية هذا اللباس مخالفة للناس في ترفهم الذي جاوز الحلال إلى البغي بغير الحق، وكان صنيعهم هذا أشبه ما يكون بوثيقة الاحتجاج الصامتة التي يدل حالها على مقالها، فهي إذن وسيلة اتخذها الصوفية لردع الناس وكبح جماحهم. ولذا لبس الصوفَ أغنياءُ الصوفية أيضا. ولا يخفى ما لهذا الفعل من أثر في النفوس، فإنَّ قيام غني بارتداء الصوف وهو قادر على لبس أفخر الثياب، يثير فضول الناس، ويدفعهم للوقوف على ما وراء هذا الأمر من سر. وحين يدركون أنَّ هذا الرجل إنما فعل ذلك زهدا في الدنيا، واحتجاجا على مترفيها، فستكون رسالة الصوفية، والحالة هذه، قد بلغت أوعية الناس من قلوب وعقول بأخصر طريق، وأنجح وسيلة. وقد رجّح ابن خلدون هذا التفسير فقال في مقدمته: "إنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف. فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم". ويرى الباحث أنَّ لباس الصوف لم يكن حالة ملازمة للصوفية على مرّ الزمان، بل كان في مرحلة معينة، ولأهداف مقصودة كما قال. لكن هذا اللباس قد ظلّ رمزا لهذه الجماعة يذكّر بجهادها المميز في سبيل إصلاح الأمة وتربيتها روحيا، حتى إنّ كثيرا من الناس صار يلبس الصوف تشبهًا بهم، ومحاكاةً لهم.
وكذلك يرى د. زكى مبارك أن هذا التفسير هو أوجه التفسيرات، وهو ما أوافقه عليه، وإن كنت أرى أن لبس الصوف ليس شرفا فى حد ذاته، وأنه ليس علاجا لما ذكره د. الفيضى من الترف الذى انغمست فيه الأمة عقب الفتوح، إذ إن لبسى أنا مثلا الصوف لا يعالج ترف زيد أو عمرو من الناس، بل يعالجه أن يكف زيد أو عمرو عن الترف الذى انغمس فيه. ثم إن إصلاح السيئين لا يتم بتقشف الصالحين، بل بتغيير هؤلاء الفاسدين لأنفسهم. وفوق هذا فلبس الصوف ليس أفضل أسلوب للفت أنظار الناس إلى طيب السريرة وطهارة السلوك، بل أفضل طريقة هى المعاملة الكريمة والسماحة والرقة والخلق الطيب وطول البال والتعاون والألفة والمسارعة إلى المساعدة. كما أن الإسلام لا يرتاح إلى تشديد الإنسان على نفسه، وإلا فلمن خلق الله طيبات الدنيا وسخرها؟ وما الذى يفعله الله بعذابنا إن شَكَرْنا وآمَنَّا؟ ولهذا قال رسولنا الكريم: لا رهبانية فى الإسلام. ولم يُعْرَف عن النبى أنه داوم على لبس الصوف، بل كان يلبس ما تيسر من الثياب مثلما كان يأكل مما يتيسر من الطعام، لا يتكلف فى هذا ولا فى ذاك.
كذلك فالقول بأن الصوفى هو دائما فى حالة صفاء روحى أو أن صلته بربه تقوم دَوْمًا على الصفاء هو كلام يخلط أصحابه بين الفرض النظرى والواقع العملى، إذ المفروض (المفروض فقط) فى الصوفية، وحسب دعاواهم ليس إلا، أنهم هم أهل الصفاء والنقاء، أما على أرض الواقع فكثيرا ما يكون المتصوفة من أسفل الناس خلقا وسلوكا. ولست أقصد الحط من شأنهم بوصفهم صوفية، بل كل ما أقول هو أنهم، مثل سواهم من البشر، فيهم وفيهم.
وبالمثل يقول ماسينيون ومصطفى عبد الرازق فى كتاب "التصوف" إن "التصوف مصدر الفعل الخماسى الـمَصُوغ من "ص و ف" للدلالة على لبس الصوف، ومن ثم كان المتجرد لحياة الصوفية يسمى فى الإسلام: صوفيا. وينبغى رفض ما عدا ذلك من الأقوال التى قال بها القدماء والمحدثون فى أصل الكلمة كقولهم إن الصوفية نسبة إلى "أهل الصُّفَّة"، وهم فرقة من النساك كانوا يجلسون فى صفة المسجد النبوى بالمدينة لعهد الرسول عليه السلام، أو إنهم من الصف الأول من صفوف المسلمين فى الصلاة، أو من بنى صوفة، وهى قبيلة بدوية، أو إلى "صوفة القفا"، وهى الشعرات النابتة عليه، أو إن اللفظ مشتق من "صُوفِىَ": مطاوع "صَافَى"، والأصل: "صفا". وقد استُعْمِل هذا اللفظ المطاوِع منذ القرن الثامن الميلادى للتورية مع كلمة "صوفىّ" ومع الكلمة اليونانية: "سوفوس"، التى حاولوا فيها المحال بالمعادلة بين "ثيوسوفيا" (Theosophie) و"تصوف". وقد رد نولدكه (Noeldeke) هذا المذهب الأخير فى أصل كلمة "صوفىّ"، مبينا أن السين اليونانية تكتب باطراد فى العربية "سينا" لا "صادا"، وأنْ ليس فى الآرامية كلمة متوسطة للانتقال من "سوفوس" اليونانية إلى "صوفىّ" العربية" (ماسينيون ومصطفى عبد الرازق/ التصوف/ ترجمة خورشيد ويونس وعثمان/ دار الكتاب اللبنانى ومكتبة المدرسة/ سلسلة "كتب دائرة المعارف الإسلامية"/ العدد 16/ 6).
ويقول د. الفيضى: "والملاحظ أن ابن خلدون يحدد القرن الثاني بداية لظهور مصطلح ‘الصوفية’. وفي أخبار التاريخ ما يؤيد ذلك، فقد نقل الشيخ الغماري ما ذكره الكندي، وكان من أهل القرن الرابع، في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة المائتين ‘أنه ظهر في الإسكندرية طائفة يُسَمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف’. ونقل أيضًا عن المسعودي في "مروج الذهب" حاكيًا عن يحيى ابن أكثم قوله: ‘إنّ المأمون يومًا لجالسٌ إذ دخل عليه عليّ بن صالح الحاجب فقال: ياأمير المؤمنين، رجل واقف بالباب عليه ثيابٌ بيضٌ غلاظ يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية’. ويبدو لي، والله أعلم، أنّ ظهور المصطلح سابق على هذه الفترة، فإن الجماعة الذين ذكرهم الكندي لا يمكن أن يظهروا فجأة، وإنما حصلت الشهرة للمصطلح في القرن الثاني. ويؤيد هذا ما أُثِر عن الحسن البصري أنه قال: ‘فأعطيته شيئًا فلم يأخده، وقال: معي أربعة دوانق، فيكفيني ما معي’ وما رُوِيَ عن سفيان الثوري أنه قال: ‘لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفتُ دقيق الرياء’. والمعروف في تاريخ الوَفَيَات أن الحسن البصري تُوُفِّيَ سنة 110 من الهجرة، وتوفي أبو هاشم الصوفي سنة 150 من الهجرة. وعلى كل حال فالحسن البصري رحمه الله يُعَدّ أول من فَتَقَ هذا العلم وخصه في الحديث، فكان ينطق بمعانيه، ويبدي أسراره، ويتكلم فيه بكلام لم يُسْمَع به حتى قال له بعض مجالسيه: يا أبا سعيد، إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، فممن أخذت هذا العلم؟ قال: من حُذَيْفة بن اليَمَان. وحذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خصه بعلم المنافقين، وأُفْرِد بفهم خفايا الفتن. وهو الذي كان يقول: ‘كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني’ حتى إن أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه عن الفتن العامة والخاصة، ويرجعون إليه في العلم الذي خُصَّ به، وكانوا يسألونه عن أهل النفاق فيخبر بأعدادهم ولا يذكر أسماءهم. وكان عمر يستكشفه عن نفسه: هل يعلم فيه شيئًامن النفاق؟ فبرّأه عنه. ولعظم ثقة عمر به كان إذا دُعِيَ إلى جنازة يصلي عليها نظر: فإن حضر حذيفة صلى عليها، وإن لم يحضر حذيفة لم يصل عليها. ونعود إلى الإمام حسن البصري لنقول: لقد كانت له مجالس للذكر يخلو فيها مع إخوانه ومحبيه من النساك والعبّاد في بيته، مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السختياني ومحمد بن واسع وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد، ويقول لهم: ‘هاتوا انشروا النور’، فيتكلم عليهم من هذا العلم في علم اليقين والقدرة، وفي خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساوس النفوس. ومن هنا يمكن القول: إن أول مدرسة كانت للتصوف بدأت بعد الصحابة هي مدرسة نُسّاك البصرة، وأول من نطق بهذا العلم أستاذها الحسن البصري. ثم تتابعت من بعدها المدارس، وظهر من بعد الحسن رجال لا يُحْصَوْن عددًا متخصصون في هذا العلم المبارك.
أما بالنسبة إلى موقع التصوف من العلوم الإسلامية فيقول: "تُعْرَف الشريعة الإسلامية بأنها ما شرع الله لعباده من الأحكام المختلفة، وهي ذاتها ما يعرف بالملة والدين... والناظر في هذه الأحكام يجدها على ثلاثة أقسام: القسم الأول أحكام متعلقة بأصول العقائد كالإيمان بالله واليوم الآخر. القسم الثاني أحكام متعلقة بأقوال الإنسان وأفعاله: في علاقته التعبدية مع الله عز وجل كالصلاة والصوم، والعملية مع الناس كالبيع والشراء والنكاح. القسم الثالث أحكام متعلقة بالأخلاق كوجوب الإخلاص والصدق، وسلامة الصدر من الضغينة، وترك الكِبْر والعُجْب والرياء.... فالأحكام المتعلقة بالعقيدة انفصلت بعد الصدر الأول عن قَسِيمَيْها، ودعا إلى هذا الفصل ما أثاره المعتنقون للإسلام في هذه الفترة من شبهات حول أمور العقيدة عن قصد أو غير قصد كان لها أثر خطير في زعزعة طمأنينة الإيمان في قلوب كثير من الناس، الأمر الذي حدا بعلماء المسلمين إلى دخول المعترك ومناقشة ذوي الشبهات بالطرق العقلية والنقلية حتى تمكنوا من نقضها وإعادة الطمأنينة إلى القلوب. وكانت الحاجة قائمة إلى تدوين هذه المناقشات بغية تعميم نشرها والحفاظ عليها، فأخذت هذه الأحكام وما أثير حولها من شبهات وما سُجِّل على الشبهات من ردود طريقَها إلى الاستقلال على هذا النحو، فصارت علمًا مستقلاًّ يُعْرَف بـ‘علم الكلام’، ويُعْرَف العلماء المتخصصون به بـ‘المتكلمين’. والأحكام المتعلقة بأقوات الناس وأفعالهم من عبادات ومعاملات انفصلت أيضًا بعد الصدر الأول في علم مستقل... ونجم عن ذلك استقلال هذا الفن بعلمٍ عُرِف باسم ‘الفقه’، واختص برجال يبحثون فيه سُمُّوا بـ‘الفقهاء’. والأحكام المتعلقة بالأخلاق انفصلت هي الأخرى بعد الصدر الأول في علم مستقل. ودعا إلى هذا الفصل ضعف الوازع الديني في النفوس وتضاؤل التأثير الروحي لديها، فقد فُتِحَت الدنيا على الناس فشغفوا بها حُبًّا ونسوا آخرتهم، وبدأ الطغيان واضحًا في سلوكهم من الركون إلى المجون والانشغال برغبات الجسد شهوات ونزوات، فأحس علماء المسلمين بخطورة المأزق. وكان هذا الجانب لم يُعْنَ به بعد، فانْبَرَوْا لاستدراك الحال وسد النقص، فسَعَوْا لإحياء المفاهيم الأخلاقية في الإسلام وإعادة الروح إلى ما كان عليه السلف الصالح من الزهد والعبادة والتسامي على المحرمات والمنكرات، فأَصَّلوا في ذلك الأصول، ودوَّنوا الكتب والفصول، فكانت المحصلة أَنِ استقل هذا الجانب بعلمٍ حالُه في ذلك حالُ قَسِيمَيْه: علم الكلام وعلم الفقه، وسمي: ‘علم التصوف’، وصار له رجال متخصصون في مباحثه عُرِفوا باسم ‘الصوفية’. ومن هذا العرض يتضح لنا أنّ التصوف هو ‘علم الأخلاق في الإسلام’".
وليس فى كلام الدكتور الفيضى ما يحتاج إلى تعقيب، إلا أن يكون تكريرا لما قلناه آنفا من أن الكلام النظرى شىء، والواقع العملى شىء آخر، إذ من المتصوفة ناسٌ أخلاقهم فى غاية السوء والانحطاط، وناس آخرون أخلاقهم فى منتهى السمو والسموق. وهذا شىء لا يختص به المتصوفة وحدهم، بل هو شائع مشاهَد فى كل أصحاب نحلة أو مذهب.
ثم يمضى د. الفيضى فيورد عددا من تعريفات التصوف قائلا: "والحق أنّ التصوف عُرِّف بتعريفات كثيرة جدًا بلغت المئات. وهي، فيما أرى، لا تخرج على ما ذكرته. وكل ما في الأمر أنّ المعرِّفين له نظروا إليه من جهات مختلفة: فمن نظر إلى التصوف على سبيل المثال من جهة الزهد عرَّفه بأنه الزهد، ومن نظر إليه من جهة العبادة عرَّفه بها، ومن نظر إليه من جهة السلوك عَدَّه سلوكًا، تمامًا مثل فئة تحلقت حول مبنى تتوخى وصفه: فمَنْ وقف من جانبه الشرقي وصف منه ما بدا له، ومن وقف من جانبه الغربي وصف منه ما بدا له... وهكذا الآخرون. وقد تختلف هنا أوصاف الواصفين، لكنهم في المحصلة يصفون مبنًى واحدًا. ومما لا شك فيه أن الوصف كلما كثر وتعددت أطرافه كلما وضحت معالم الموصوف، وازدادت جلاءً. والجدير بالذكر أنّ بعض التعريفات كانت تعبر عن مشاعر قائليها وتجاربهم الروحية، وتشير إلى الأحوال التي هم فيها أو المقامات التي وصلوا إليها وقت إطلاقهم تلك التعريفات. وفي كل الأحوال فإنّ جميع التعريفات تندرج تحت مظلة التعريف الذي بينتُه، وهو كونه علم الأخلاق في الإسلام لأنه القواعد التي انطلق منها رجال التصوف، والخارطة التي ساروا عليها في مجاهداتهم، والضابط الذي يحكم سلوكهم، وتُقَيَّم من خلاله نتاجاتهم. ومن التعريفات التي صرَّحتْ بذكر الأخلاق ما يأتي: عرفه أبو محمد الجريري: ‘الدخول في كل خُلُقٍ سَنِيّ، والخروج من كل خلق دَنِيّ’. وعرفه أبو بكر الكتاني: ‘التصوف خلق. فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف’. وعرفه أبو حامد الغزالي: ‘هو قَطْع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يُتَوَصَّل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله’. وعرفه الشيخ عبد القادر الكيلاني قَدَّس الله سِرّه: ‘الصدق مع الحق، وحسن الخُلُق مع الخَلْق’... وعرفه أبو حفص الحداد: ‘التصوف كله أدب: لكل وقت أدب، ولكل مقام أدب، ولكل حال أدب. فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يظن القبول’. وعرفه أبو محمد رويم: ‘التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار’. وعرفه السيد الجرجاني: ‘التصوف: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا فيُرَى حكمها من الظاهر في الباطن، وباطنًا فيُرَى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال’.
وبناءً على ما تقدم أقول: حين يكون التصوف علم الأخلاق في الإسلام فهذا يعني أن ثلث الإسلام تصوف، وأن من لا تصوف له فقد أخل بركن من أركان الدين. يقول الشيخ زروق: ‘نسبة التصوف في الدين نسبة الروح من الجسد لأنه مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: أن تعبد الله كأنك تراه... الحديث، إذ لا معنى له سوى ذلك’. ومن هنا شَرَفُ هذا العلم، وكانت نسبته من العلوم أنه كليٌّ لها وشَرْطٌ فيها، إذ لا وزن لعلم أو عمل إلا بصدق النية والإخلاص... ومن ناحية أخرى فإن العلوم توجد في الخارج من دون التصوف، لكنها، والحالة هذه، ستكون ناقصة أو ساقطة. ولذلك ذكر السيوطي رحمه الله أن نسبة التصوف من العلوم كعلم البيان مع النحو. يقصد أنه كامل فيها، ومحسِّن لها. كما أن كل علم من العلوم قد يتأتى حفظه ونشره لمنافق ومبتدع ومشرك إذا رغب فيه وحرص عليه لأنه نتيجة الذهن وثمرة العقل، إلا هذا العلم، علم الإيمان واليقين، فإنه لا يتأتى ظهور مشاهدته والكلام في حقائقه إلا لمؤمنٍ مُوقِنٍ من قبل. والجدير بالتنبيه قبل أن نأتي على نهاية هذا المبحث أن التصوف إنما يعدل ثلث الإسلام من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فيبدو، على ضوء ما بيناه، أنه يمتد إلى الدين كله، إذ جملته الإخلاص. ومعلوم لدى كل ذي بصيرة أن هذا الأمر لا ينفك، لقبول الأعمال، عن الأحكام العقدية والأحكام العملية، بله الأخلاقية. ومن دونه يكون إسلام المسلم جسدًا بلا روح، وشكلا بلا مضمون.
وُضِعَت الأسماء للدلالة على العلوم، وبين العلم والاسم الدال عليه تقوم عادةً علاقةٌ ظاهرةٌ أو خفيةٌ، قويةٌ أوضعيفةٌ... ونحن إذا نظرنا إلى العلوم الثلاثة لأحكام الشريعة الإسلامية سنجد لكل علم منها اسمًا مشتهرًا، ووراء كل اسم علاقة أو أكثر بالعلم الذي وقع عليه: فالأحكام المتعلقة بالعقيدة بعد أن استقلت بعلمٍ اشتهر لها اسم ‘علم الكلام’... واختلف علماء الفن في سبب هذه التسمية على أقوالٍ أشهرُها أن مسألة الكلام، أي كلام الله عز وجل، كانت أشهر مباحث هذا العلم وأكثرها نزاعًا وجدالاً. والأحكام المتعلقة بالعبادات والمعاملات طغى عليها اسم ‘علم الفقه’. والباحثون في هذا الفن يذكرون في سبب اصطلاحه أنّ الفقه في اللغة العلم بالشيء والفهم له. ولأنّ العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية يحتاج فهمًا دقيقًا، فقد أُطْلِق على هذه الأحكام مصطلح ‘الفقه’. والأحكام المتعلقة بالأخلاق غلب عليها اسم ‘علم التصوف’".
هذا ما قاله د. الفيضى، وتعليقى على هذا الكلام أن فيه مبالغة وغلوا شديدا إذ جعل من التصوف الدين كله. ليس ذلك فحسب، بل إننا حتى لو اكتفينا بجعل التصوف روح الدين، الذى بدونه يبقى الدين جسدا بلا روح، لكان ثم مبالغة، إذ الإسلام لا يصلح دون فقه أو عقيدة، ومن ثم فالتصوف دون فقه أو عقيدة لا يصلح بتاتا لشىء. ذلك أن التصوف لا يشكل إلا جزءا من الإسلام، جزءا فقط، هو الجانب النفسى الذى يتمثل فى أداء العبادات وفعل الخيرات بقلب حار وإخلاص وتجرد. ثم من قال إن المتكلمين أو الفقهاء يفتقرون بالضرورة إلى الإخلاص وحرارة القلب؟ ومن قال إن المتصوفة هم بالضرورة مخلصون متجردون؟ هل المتصوفة الذين يزعمون أنهم بلغوا نهاية الطريق، ومن ثم سقطت عنهم التكاليف، هم مسلمون صالحون؟ هل المتصوفة الذين يزعمون أنهم اتحدوا مع الله أو حل الله فيهم هم مسلمون مستقيمون؟ هل المتصوفة الذي يعيشون عالة على الآخرين فيأكلون ويشربون ويلبسون ويسكنون ويعالَجون على حساب غيرهم بحجة أنهم قد فرّغوا أنفسهم للعبادة وأنهم زاهدون فى الدنيا، فلهذا لا يعنّون أنفسهم بالجرى وراء متطلباتها، هم مسلمون صادقون؟ هل ذلك الشيخ الصوفى الذى وقف أمام إبليس يقول له: ‘إنك، فى سماحتك وتواضعك، تذكرنى بالنبى فلان’ هو ممن يخافون الله ويقولون كلمة الحق ولا يبالى بأمور الدنيا؟ وهل ذلك المتصوف الآخر الذى يدين له من الأتباع من لا يُحْصَوْن عددا، ومع هذا تحبه أمريكا كارهة الإسلام وتحرص على أن تكون صلتها به قوية محكمة، ولا يجد هو من يكرّمه ويخلع عليه الدروع والنياشين إلا من يحارب الإسلام ويشجع على شتم الرسول، وفوق ذلك ليس مسلما أصلا، أهذا الشيخ الصوفى يبعث على الثقة؟ لو أن الكاتب قال إن المفترض فى الصوفى أنه يركز على الباطن كما يركز الفقيه فى فتاواه على الجانب الظاهرى لما كان بيننا وبينه خلاف كبير رغم أن الفقيه قد يكون مشغولا أيضا بالباطن، إلا أن تخصصه من الناحية العلمية ينصبّ على مراعاة القواعد الظاهرية، ورغم أن الصوفى قد يهمل الباطن رغم أن همه من الناحية الافتراضية هو التركيز على ذلك الباطن.
هذا، ويوجد فى التصوف ما يسمى بـ"المقامات" والأحوال"، التى يقول السيوطى فى الأوليات إن أول من تكلم فى مصر عنها هو ذو النون المصرى (انظر "فن التصوف" لعبدالوهاب رضوان نجا الإبيارى/ 4). ولو شئنا أن نعرّف المقامات بطريقة مبسَّطة فلربما جاز لنا أن نقول إنها محطات على طريق المتصوف تحدد كل منها المرحلة التى بلغها من المجاهدة الروحية. أما الأحوال فهى الحالات الروحية التى يكون عليها المتصوف كلما بلغ مقاما من المقامات. أما بالنسبة إلى تعريف الصوفية أنفسهم للمقامات والأحوال فيقول ابن عربى مثلا فى "الفتوحات المكية": "المقام عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام، والحال هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب. ومن شرطه أن يزول ويعقبه المِثْل، وأن يبقى ولا يعقبه المِثْل. فمن أعقبه المثل قال بدوامه، ومن لم يعقبه المثل قال بعدم دوامه. وقد قيل: الحال تغير الأوصاف على العبد". وهو، كما يرى القارئ، كلام مبهم يصلح لأى شىء تقريبا. وقد عرّف الجرجاني الحال في كتاب "التعريفات" بقوله: "معنًى يَرِد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو هيبة"، وعند عبد الكريم الجيلى أن "كل حال فهو موهوبوغير مكتسب غير ثابت إنما هو مِثْلُ بارقٍ بَرَق. فإذا برق إما أن يزول لنقيضه وإما أنتتوالى أمثاله. فإن توالت أمثاله فصاحبه خاسر". ويقول د. أسعد السحمراني فى كتابه: "التصوف منشؤه ومصطلحاته": "المقام والحال: اصطلاحان يستخدمهما الصوفيون للتدليل على تدرج السالك للطريق الصوفي من مكانة الى أخرى ولما يتعرض له في تدرجه هذا في المقامات من أحوال تأتيه من نسمات الرحمة الإلهية. المقامات هي مكاسب تحصل للإنسان المؤمن ببذل المجهود، وهي مراحل يرتقي فيها المريد في طريقه الى التمكين والاطمئنان القلبي لتتحقق له مكانة بين الخاصة من المصطفَيْنَ الأخيار. ويقول السراج الطوسي في "اللُّمَع": "إنْ قيل: مامعنى المقامات؟ يقال: معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله عز وجل". وقال الله تعالى: ‘ذلك لمن خاف مقامي وخاف وَعِيدِ’ (إبراهيم/ 14)، وقال : ‘وما مِنَّا إلا له مقامٌ معلومٌ’ (الصافات/ 164). ومن المقامات عند الطوسي: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، الرضا، التوكل... إلخ. أما الحال فهي معنًى يَرِدُ على القلب من غير تصنع ولا اكتساب. والأحوال هي المذاهب الفائضة على العبد من ربه، وهي تكون ميراثًا يلي العمل الصالح المقترن بصفاء القلب، أو امتنانًا من الله تعالى على العبد، ولكنها لا تدوم، وإذا دامت تحولت من حال الى مقام. وقد جاء في "اللُّمَع": ‘وأما معنى الأحوال فهو ما يَحُلّ بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار. وقد حُكِيَ عن الـجُنَيْد رحمه الله أنه قال: الحال نازلةٌ تنزل بالقلوب فلا تدوم... وليس الحال من طريق المجاهدات والعبادات والرياضيات كالمقامات’. ومن الأحوال: المراقبة، القرب، المحبة، الخوف، الرجاء، الشوق، الأنس، الطمأنينة، المشاهدة، اليقين... إلخ. المقام إذن هو مقام الإنسان بظاهره وباطنه في حقائق الطاعات، وأما الحال فهي ما يتعرض له القلب من نسمات الرحمة الإلهية، والصدر من الشرح، ولا يدوم".
أما في "الرسالة القشيرية" فنجد أن المقام هو "ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب مما يتوصل اليه بنوعِ تصرُّف، ويتحقق به بضَرْبِ تطلُّب، ومقاساةِ تكلُّف. فمقام كل أحدٍ موضعُ إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل بالرياضة له. وشرطه ألا يرتقي من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكامَ ذلك المقام، فإنّ مَنْ لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم. وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد. والمقام هو الإقامة، كالمدخل بمعنى الإدخال، والمخرج بمعنى الإخراج. ولا يصح لأحدٍ منازلةُ مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة". أما الحال فهي "معنى يَرِد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم... فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب. وقالوا: الأحوال كاسمها. يعني أنها كما تحلّ بالقلب تزول في الوقت".
وجاء في تعريف للدكتور قاسم غني: "مقامات التصوف إنما هي من الأمور الاكتسابية والاجتهادية، ومن جملة الأعمال التي هي باختيار السالك وإرادته، بينما الأحوال من مقولة الإحساسات والانفعالات الروحية، ومن الحالات والكيفيات النفسية الخاصة مما ليس باختيار الإنسان، بل هو من جملة المواهب والأفضال النازلة على قلب السالك من لدن الله من غير أن يكون للسالك أدنى تأثير في نزوله على قلبه أو محوه عن خاطره". وفى "الرسالة القشيرية" أن هناك من يرى الأحوال كالبروق، فإذا دامت فحديثُ نفسٍ، ومن يرى على العكس أنها لا بد من دوامها، وإلا كانت لوائح وبواده، أى أمورا عارضة تلوح ثم تزول ولا تبقى.
والواقع أن هناك عدة ملاحظات على هذه التقسيمات والتصنيفات: فأولا من ذا الذى يمكنه يا ترى تحديد المرحلة الروحية التى بلغها فى تدينه؟ وكيف يمكن تصنيف تلك المقامات والأحوال بتعقيداتها ودقائقها؟ وهل هذا أصلا أمر ممكن بالنسبة للبشر؟ إن هذا، لو عقلنا الأمر جيدا، معناه أننا نقوم بمحاسبة أنفسنا بأنفسنا، وهى مهمة لم يوكل الله أحدا من البشر للقيام بها بدلا منه. أليس كذلك؟ ثم لماذا كان ذلك الاختلاف فى تقسيم المقامات والأحوال؟ بل لماذا يبلغ التناقض بين المتصوفة أنفسهم الحد الذى يعكس بعضهم الأمر عنده فيجعل المقامات أحوالا، والأحوال مقامات؟ كذلك هل يصح القول بأن طريق الصوفى، أو مقاماته وأحواله، تكون دائما متصاعدة لا تعرف التراجع والتقهقر كما يُفْهَم من كلام القوم؟ الحق أن الحالة الروحية لأى إنسان تمر بكثير من التراجعات مثلما تكتسب مواقع متقدمة بين الحين والحين، ولم يحدث قط أن اتخذت حالة أى إنسان اتجاها واحدا هو اتجاه التقدم إلى الأمام والصعود إلى الأعلى على الدوام، بل مثلما يتقدم فكذلك يتراجع ويتقهقر. وفوق ذلك فالإنسان إذا ما ظن أنه تقدم وأصبح أعلى مستوى روحيا مما سبق فقد يكون ذلك الظن نفسه سببا فى التأخر عما كان قد وصل إليه فعلا، إن كان قد أحرز تقدما حقا ولم يكن ظنا فى غير محله. كما أن شرح الصوفية للأحوال والمقامات شرح معقد، وفيه أحيانا بهلوانيات مضحكة، ومبالغات لا تصح أبدا.
خذ مثلا ما قاله القشيرى عن مقام "التمكين" من أن أصحابه "مَحْوٌ فى وجود العَيْن". ترى هل فهم القارئ شيئا؟ ثم ما الحكمة فى هذه اللغة التى تجلب الصداع دون أن يخرج الإنسان منها بطائل، اللهم إلا إذا تكلف شرحها بكلام معسلط مما يبرع فيه الصوفية ويزيد الأمور تعقيدا وتشابكا؟ أما المبالغة فاقرأ ما قاله القشيرى أيضا عن صاحب مقام "الأُنْس" من أن "أدنى محلّ الأنس أنه لو طُرِح فى لَظًى لم يتكدر عليه أنسه. قال الجنيد: كنت أسمع السرىّ يقول: يبلغ العبد إلى حد لو ضُرِب وجهه بالسيف لم يشعر. وكان فى قلبى منه شىء حتى بان لى أن الأمر كذلك". ترى هل هذا معقول؟ ألم يكن الأَوْلى بذلك رسول الله حين مرض فكان يتألم كما نتألم نحن البشر الطبيعيين؟ أما موت المشاعر على هذا النحو فلست أدرى كيف يكون. ولو حدث فعلا كما يقولون فهو أمر شاذ مخيف لا أظنه يحدث لإنسان لم يتعاط شيئا يوقف شعوره بالألم كالذى سمعته مؤخرا من أن بعض ذوى السوابق حين يُسْتَدْعَوْن إلى قسم الشرطة ويعرفون أنهم سوف يُضْرَبون ضربا مبرِّحا لا يطيقونه فإنهم يتعاطَوْن نوعا من الحبوب يمنعهم من الإحساس بالألم مهما كانت درجته. ولا ننس أن مواد التخدير الطبى تمنع المخدَّر من الشعور بأى شىء، بل تنقله من حالة اليقظة والوعى إلى حالة ينعدم فيها كل إحساس تقريبا إلى أن تنتهى العملية الجراحية ويكون الألم قد مضى أو خَفَّتْ حِدّته إلى حد بعيد. ثم إن النبى على شدة قربه من ربه لم يحدث أن غاب عن الوجود على هذا النحو الغريب لا فى صلاة ولا فى دعاء ولا فى تأمل. فمن أين إذن أتى المتصوفة بهذا الكلام العجيب؟ أتراهم مخلوقات خارقة لا تخضع لسنن الكون فى الشعور بالألم؟ إننى لا أعادى التصوف مبدأً كما بينتُ، بل دافعى هو أن يعيش المسلم وفق ما يريده منه دينه لا وفق ما يسمعه من كل من هب ودب! ولو قال فقيه شيئا ما أنزل الله به من سلطان ولا قاله رسول الله لكان لى منه نفس الموقف. ونفس الشىء يقال عن المعتزلى أو الخارجى... إلخ. وأنا، حين أفعل هذا، لا أدعى أننى بالضرورة على الصواب، بل هو اجتهاد منى قد يصح، وقد يطيش. ولكن لا بد من التحدث مع ذلك بما أعتقد أنه هو الصواب، أما أن يكون صوابا على وجه القطع فهو ما لا أجرؤ على ادعائه.
وعلى أية حال فإن تعريف المقامات والأحوال على النحو الذى نراه لدى المتصوفة من شأنه أن يحول المجاهدة الروحية إلى شىء مادى، وكأننا إزاء بيت نبنيه ونرتفع به طَبَقًا بعد طَبَقٍ، فهو لا يعرف النزول بل الزيادة والارتفاع على الدوام إلى أن يصل البناء منتهاه فيتوقف عندئذ. ولا ننس أن كثيرا من المتصوفة، بسبب من هذا المفهوم الخاطئ للمقامات والأحوال، يسقطون فى فخ الغرور، إذ يظنون أنهم قد بلغوا منتهى الطريق، وأنهم من ثم صاروا مُعْفَيْنَ من أداء الواجبات وألوان العبادات، أى سقط عنهم التكليف. وهذا من وسوسة الشيطان، والعياذ بالله. من هنا فإنى أقترح أن يقال بدلا من ذلك إن المسلم عليه أن يظل طول الوقت فى مجاهدةٍ لنفسه وشهواته لا يتوقف أبدا ولا يتوانى عن العمل المنتج النافع له ولأمته حسب تخصصه ومجاله، وإنه معرَّض فى كل وقت للصعود والهبوط، وإنه ليس من اختصاصه الحكم على نفسه وإعطاؤها الدرجة التى يظن أنها تستحقها، بل يترك ذلك لله سبحانه، فالحساب والتقويم من شأنه هو وحده جل وعلا. ولا بد لنا من التنبيه إلى أنه ما من إنسان يستطيع الزعم بأنه قد بلغ الغاية على طريق السمو الروحى، إذ يوم يضع فى حسبانه أنه قد بلغ ذلك المبلغ يكون هذا بداية السقوط والفشل والبَوْء بسخط الله. بل إنه، من الناحية المبدئية، لا توجد نقطة متى بلغها الإنسان يكون قد بلغ الغاية التى ليس بعدها غاية، بل الغاية فى حقيقة الأمر هى شىء وهمى أكثر منه حقيقيا يتصور الإنسان أنه عند الأفق، لكنه إذا صار إلى هناك وجده قد ابتعد عنه وأن عليه مواصلة الرحلة والسعى من جديد... وهلم جرا. ولا بد أن نعرف فى ذات الوقت أن الله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، وأنه سبحانه كريم يغفر الذنوب جميعا، وأنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
وكان الإمام أبو حامد الغزالى ينغمر فى الحياة يدرّس ويكتب ويناقش ويتولى المناصب، ثم تحول بعد ذلك إلى التصوف فتحمس لأصحابه وكبّر من شأنهم وأكد أن طريقتهم هى وحدها الطريقة الصحيحة الواجبة الانتهاج. قال: "ثم إني لما فرغتُ من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يُتَوَصَّل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل "قوت القلوب" لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الـجُنَيْد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدَّس الله أرواحهم وغيرهم من المشايخ، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصّلت ما يمكن أن يحصَّل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصّهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما وبين أن تكون صحيحا وشبعان، وبين أن تعرف حد السُّكْر وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر وبين أن تكون سكران! بل السكران لا يعرف حد السُّكْر وعلمه وهو سكران، وما معه من علمه شيء. والصَّاحي يعرف حدّ السُّكْر وأركانه، ومَا معهمن السُّكْر شيء. والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد الصحة. فكذلك فَرْقٌ بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه وبين أن تكون حالُكَ الزُّهْدَ وعزوفَ النفس عن الدنيا! فعلمتُ يقينا أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصَّلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك. وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر.
فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسختْ في نفسي، لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها. وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكَفّ النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق. ثم لاحظتُ أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب. ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرتُ في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جُرُفٍ هارٍ، وأني قد أَشْفَيْتُ على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بَعْدُ على مقام الاختيار: أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأَحُلّ العزم يوما، وأقدم فيه رجلا، وأؤخر عنه أخرى. لا تَصْدُق لي رغبة في طلب الآخرة بُكْرَةً إلا ويحمل عليها جَلَد الشهوة حملة فيفتِّرها عَشِيّةً، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار! ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالٌ عارضةٌ إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال. فإن أذعنتَ لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمرَ المسلَّمَ الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة".
هذا ما قاله الغزالى. ورغم احترامى لأبى حامد ولعقليته الجبارة وعلمه الجم وغزارة كتاباته وعمق تحليلاته بوجه عام فإنى أحب أن أسمح لنفسى بالاختلاف معه، إذ أرى أنه ما من طريقة إلا وفيها الصالح النافع، وفيها الفاسد الضار، ومن ثم فلا المتصوفة هم أحسن الناس ولا هم أسوؤهم، بل هم بشر من البشر: فيهم الطيب، وفيهم الخبيث، وأسلوبهم فى الحياة لا يخلو من الحسن ولا القبح. وبالمناسبة فكل أصحاب طريقة يَرَوْن أن طريقتهم هى الطريقة الوحيدة الصحيحة. وترتب على ذلك أن كل أصحاب طريقة يجتهدون فى تقبيح الطرق الأخرى، مضيقين بذلك على العباد أمرهم، فكأن الدنيا ثَقْب إبرةٍ بالغُ الضيق وليست براحا واسعا يسع من الحبائب ألفا بل مليونا بل ملايين بل مليارات وديشيليونات... إلى ما شاء الله مما لا يمكننا إحصاؤه من أعداد البشر فى كل الأزمنة والبلاد. وكل ما هنالك أن الناس تتفاوت فى الطباع والأمزجة والعقول والأذواق والميول والقدرات والمواهب والبيئات والأساليب التى رُبُّوا عليها ونشأوا على أساسها، فترى هذا يفضل مذهب أهل السنة، وآخر يؤثر الاعتزال، وثالث يرى أن التصوف أفضل له، ورابع يعتقد أن التشيع هو الخطة الأوفق... وهكذا. ولو أن كل واحد فهم ما قلناه من أن الإسلام أوسع من كل هذه الطرق، وبالتالى فلا يمكن أن يتطابق وأية طريقة منها، بل يحتويها جميعا احتواء الكل على الأجزاء، وأن كل جزء منها قد يشتمل على ما يتعارض والإسلام لأراح واستراح ولما ضيع عمره فى الجدالات والمعارك المذهبية التى لا تأتى فى الغالب بخير، بل تزيد الأمة انقساما وخصاما، وقد تفتِّتُ كيانها. وعلى هذا فإنى أقول: فليختر كل منا ما يوافق طبعه ومشاربه وفهمه، على أن يضع نصب عينيه دائما مبادئ الإسلام وروحه بحيث إذا لمح فى الطريقة التى يسلكها ما يتعارض وهذه المبادئ أو ذلك الجوهر أصلح أمره فى الحال ولم يتعصب لمذهبه تعصب من يراه هو الأصل، والإسلام هو الفرع.
لنأخذ مثلا التشيع، فكل إنسان حر فى أن يؤمن بأن عليًّا، كرم الله وجهه، كان ينبغى أن يتولى الخلافة بعد رسول الله ثم يتولاها أولاده ثم أحفاده ثم باقى ذريته من بعد، لكنى لا أفهم تصوُّر الشيعى أن إيمانه بحق علىٍّ هذا لا يكتمل إلا إذا سَبَّ أبا بكر وعمر وثَلَبَ عِرْض أم المؤمنين الصِّدّيقة بنت الصديق. ذلك أنه لا علاقة بين الأمرين، بل من الممكن جدا أن نقول فى حق علىٍّ فى الولاية ما نقول، وفى ذات الوقت نحترم زوجة نبينا ووالدها مثلا، أو على الأقل: أن نسكت فلا نحاول الإساءة إليهما، إن لم نستطع الثناء عليهما. كذلك يمكن أن يكون الإنسان متصوفا حار القلب متوهج الإيمان يركز على المشاعر الباطنة، لكنْ دون أن يهمل الشعائر والرسوم كما يفعل بعضهم حين يزعم أنه قد بلغ نهاية الطريق وكملت له أخلاقه وصفت نفسه صفاء تاما فلم يعد بحاجة إلى تأدية العبادات مثلا، أو يزعم حصول الكرامات على يديه، أو يتصور إمكان اتحاده بالله أو حلول الذات الإلهية فيه... وهكذا. صحيح أننى أعلم أن ما أكتبه الآن ليس إلا أمانىَّ طيبةً لا يصدّقها الواقع، لكن لا بد أن أقول ما عندى، إذ لست أستطيع شيئا آخر سوى التذكير والنصح إن كان لى أن أدعى الحق فى التذكير والنصح، إذ أنا بدورى محتاج إلى من يذكّرنى وينصحنى مثلما أذكّر الآخرين وأنصحهم... وهكذا دواليك. وبتلك الطريقة تسير سفينة الحياة، فتستقيم مرة، وتتلاعب بها الأمواج أخرى، إلى أن تصل إلى غايتها باستيفائنا أجلنا. وهذه هى طبيعة الحياة، وتلك قدراتنا، التى لا يكلفنا الله أكثر منها؟
كذلك لست أفهم هذا الاستقطاب الذى يقيمه الغزالى بين الدنيا والآخرة بما يفيد أنك لا تستطيع أن تجمع بينهما، بل إما الدنيا فتخسر الآخرة، وإما الآخرة فلا بد لك حينئذ من نبذ الدنيا بالكلية، وليس من طريق ثالث. والعجيب أننى كنت دائما ما أسمع خطيب الجمعة الريفى يقول إن الدنيا مزرعة الآخرة. أى أن الدنيا لا تتعارض مع الآخرة بل تشكل الطريق الذى يؤدى إليها. وهو كلام صحيح مائة فى المائة، وإلا فكيف يمكن أن يكسب الإنسان معركة الآخرة إذا نبذ الدنيا؟ إن نبذ الدنيا الحقيقى هو أن ينتحر الإنسان بحيث لا يعود يربطه بها أى رابط، فهل هذا مما يرتضيه الدين؟ ثم كيف يصح أن ينبذ الإنسان الدنيا، والله إنما خلقها لنستمتع بها؟ أليس قد ذكر سبحانه فى القرآن مرارا أنه سخر لنا ما فى السماوات والأرض جميعا منه؟ أبهذه الطريقة ينبغى أن نقابل نعمة الله؟ لو أن هذا وقع منا تجاه شخص مثلنا لكانت قلة لياقة وإساءة لا يسهل اغتفارها، فما بالنا إذا كانت قلة اللياقة مع الله عز شأنه؟ ثم إننا لكى نكسب الآخرة لا بد لنا من العمل والتعاون مع الآخرين والقيام بواجباتنا تجاه أنفسنا وأسرنا وأقاربنا وجيراننا ووطننا، وهو ما يستلزم مغامسة الدنيا والضرب فيها وخوض صراعاتها؟ فما معنى نبذنا إياها وإدارة ظهرنا لها إذن؟
قد يقول الغزالى إن مغامسة الدنيا معناه ارتكاب الذنوب والآثام. وأنا معه فى أن هذا سوف يقع، لكنى أضيف أنه ليس متوقعا منا نحن بنى البشر أن نتنزه كل التنزه عن الأخطاء، وإلا فما معنى قول الرسول الكريم: "كل بنى آدم خَطّاء، وخير الخطائين التوابون"؟ وما معنى قوله جل وعز: "وخُلِق الإنسانُ ضعيفا"؟ وما معنى قوله سبحانه: "قل: يا عبادىَ الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم"؟ وما معنى قول نبينا صلى الله عليه وسلم على لسان رب العزة والجلال: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم"؟ وعلى أية حال فليس معنى أننا سوف نرتكب أخطاء فى الدنيا أن ننبذ الدنيا، بل معناه أن نعمل دائما على تصحيح مسارنا ونحاول تجنب ارتكاب الأخطاء مرة أخرى، مع علمنا أننا مهما نبذل من جهد ونخلص النية والعمل فإن الخطأ سوف يتسرب إلى ما نعمله من خلال هذه الثغرة أو تلك، وما أكثر الثغرات التى تنفذ منها الأخطاء!
إننى، حين أقرأ آيات سورة "البقرة" التى يتحدث فيها الله عن خلق آدم والاستغراب الذى قابل به الملائكة ذلك الخبر حين سمعوا به من ربهم، أجد أن الإنسان لم يُخْلَق منزَّها عن الخطإ، بل لا يُنْتَظَر منه ألا يخطئ مثلما ظنت الملائكة فاستغربت أن يخلقه الله ما دامت هى تسبحه سبحانه وتقدسه ليل نهار ولا تجترح الشر أبدا، بل خلقه الله لكى يعمر الأرض مسلَّحا بالعقل والإرادة، متوقَّعا منه الإفساد وسفك الدماء كما قالت الملائكة فلم ينف الله ما قالت، بل لفت نظرها إلى شىء آخر لم تلتفت إليه، ألا وهو ما يتفرد به الإنسان من القدرة على تعلم الجديد كل يوم وتطوير الدنيا من حوله. ثم لا ينبغى أن ننسى رحمة الله لنا وبره بنا وكرمه معنا وغفرانه لذنوبنا. إن الله لن يؤاخذنا بقسوة كما يظن بعض الناس، بل برحمة منه وفضل، ما دمنا نؤمن به ونبذل جهدنا فى سبيل عمل الخير، ولا علينا بعد هذا إن فَرَطَتْ منا أخطاءٌ ما دامت لم تُجْتَرَح عن عناد وجبروت وإصرار. وحتى لو ارتُكِبَتْ على هذا النحو فإن توبة الله واسعة ولا يُغْلَق بابها أبدا لا ليلا ولا نهارا، وما من ذنب إلا والإنسان يستطيع أن يستغفر منه فيغفره الله له. ولقد أخطأ آدم فى أول الطريق، فهل ألقى به الله فى قعر جهنم؟ أبدا، بل استغفره آدم فغفر له وتاب عليه. إنه هو التواب الرحيم. وفى النهاية فإن البشر كلهم أجمعين لا يمكن أن يكونوا أطهارا خالصى الطهارة، بل هم بوجه عام يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا، والعبرة بأن تكون الحسنات أكثر من السيئات، أو على الأقل: أن تكون نياتهم خيرة وأن يعملوا بكل ما أُوتُوا من قوة على تنفيذ ما انْتَوَوْه لا يَأْلُون فى ذلك أى جهد حتى لو لم ينجحوا بسبب من هذه العقبة أو تلك.
لقد ذكر الغزالى أنه كان يزدهيه ما كان قد اكتسبه من علم، فرأى أن مثل هذا الشعور من شأنه أن يحبط أجره عند الله على التدريس، فكانت النتيجة أن ترك التدريس جملة. ولو كنت مكانه ما تركت التدريس لأن هذا الشعور لا يخامر المدرسين فقط، بل يخامر قلوب البشر جميعا، فكلنا تأتى علينا أوقات وحالات نحس فيها بالزهو لنجاحنا فى عملنا وتصورنا أن غيرنا ما كان ليحسن أن يعمل مثله. ولو أن كلا منا ترك عمله لهذه العلة لقد يجب على كل الناس أن يتركوا أعمالهم ويعتزلوا الدنيا. وعمر بن الخطاب ذاته على جلال قدره وتقواه قد أعجبته نفسه ذات مرة حين رأى أنه قد صار خليفة للمسلمين أجمعين بعدما كان يعمل برعى الغنم، فهل ترك الخلافة علاجا لهذا الازدهاء؟ لا طبعا، بل عالج نفسه وقمعها فى الحال وأعلن ذلك على الناس.
يقول ابن منظور فى "مختصر تاريخ دمشق": "نادى عمر بن الخطاب بــ‘الصلاة جامعة’، فلما اجتمع الناس وكبّروا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: أيها الناس، لقد رأيتُني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبّضن لي القبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي، وأيّ يوم! ثم نزل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زِدْتَ على أن قَمَيْتَ نفسك (يعني: عِبْتَ). فقال: ويحك يا ابن عوف! إني خَلَوْتُ، فحدثتني نفسي قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردتُ أن أعرّفها نفسها. وقال عبد الرحمن بن حاطب: كنت مع عمر بن الخطاب بضجنان، فقال: كنت أرعى للخَطّاب بهذا المكان، فكان فظا غليظا، فكنت أرعى أحيانا، وأحتطب أحيانا، فأصبحت أضرب الناس، ليس فوقي أحد إلا الله ربّ العالمين. ثم قال:
لا شيء مما تــرى يبقى بشــــاشته * يبقى الإلهُ، ويفنــى المـــال والوَلَدُ
لم تُغْنِ عن هــــــــــــرمزٍ يوما خزائنُــــــــه * والخُلْدَ قد حاولتْ عادٌ فمـا خَلَدوا
ولا سليمان إذ تجــــــري الريـــاح له * والإنس والجنّ فيمـــا بينهــــا بُرُدُ
أين الملـــوك التي كــــــانت نواهلهـــــا * من كلّ أَوْبٍ إليهـــا راكبٌ يَفِدُ؟
حوضًــــا هنالك مورودًا بلا كَذِبٍ * لا بدّ من وِرْدِه يومــا كما وردوا"
ولقد وقع فى إحدى الغزوات على عهد النبى شىءٌ من خالد أغضبه صلى الله عليه وسلم، فهل تخلص من خالد أو أمره بترك عمله واعتزال الدنيا؟ لقد رأى أنه اجتهد فأخطأ، فنبهه إلى خطئه وشدد على أنه لا ينبغى أن يصنع ذلك مرة أخرى. كما ضُبِطَت امرأة قبيل فتح مكة وهى تحمل رسالة من أحد الصحابة البدريين ينبه فيها أهل مكة إلى نية الرسول فى غزوهم وفتح مدينتهم. فماذا صنع الرسول حين عرف بالأمر؟ لقد أراد عمر أن يقتل الرجل، إلا أن الرسول قال له: وما يدريك؟ لعل الله اطَّلَع على أهل بدر فقال لهم: "اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". وأنا أفهم الحديث على أن الرسول قد وازن بين اشتراك الصحابى فى بدر، تلك المعركة الفاصلة فى تاريخ الإسلام والبشرية والتى يُوزَن فيها عمل من اشترك فيها من الصحابة بميزان استثنائى، وبين ما أقدم عليه الصحابى بطيب نية واجتهاد خاطئ وجهل بأوضاع الدين والدولة الجديدين، فضلا عن خوفه أن تضارّ مصالحه فى مكة وتصوُّره أنه بهذه الرسالة سوف ينقذها، فتركه عليه الصلاة والسلام دون عقاب، سيما وأن الرسالة لم تصل لغايتها فلم يضرّ المسلمين شىء، وأنه يعلم أن إيمان الرجل إيمان صحيح، وإِنْ غَشِيَتْه غبشة عارضة وقتية لا تنال منه منالا، وأنه متى نُبِّه تنبه واستقام على الطريقة لا يلتوى بعدها أبدا. لم تُغْنِ عن هــــــــــــرمزٍ يوما خزائنُــــــــه * والخُلْدَ قد حاولتْ عادٌ فمـا خَلَدوا
ولا سليمان إذ تجــــــري الريـــاح له * والإنس والجنّ فيمـــا بينهــــا بُرُدُ
أين الملـــوك التي كــــــانت نواهلهـــــا * من كلّ أَوْبٍ إليهـــا راكبٌ يَفِدُ؟
حوضًــــا هنالك مورودًا بلا كَذِبٍ * لا بدّ من وِرْدِه يومــا كما وردوا"
والعبد لله أحيانا ما يخامره مثل هذا الشعور إذا وضع دراسة أو اشترك فى ندوة ورأى نفسه قد وُفِّق فيها، فيجد لزاما عليه أن ينبه نفسه إلى أن ما يعلمه فى جنب ما يجهله لا يعدو أن يكون قطرة من محيط لا سواحل له، وأن ما توصل له من علم أو ألفه من كتاب أو ألقاه من محاضرة إنما هو هبة من الله أفاضها الله عليه، فيقف فى المحاضرة التالية ويعلن للطلاب أنه مثلهم جاهل، إلا أن جهله يختلف عن جهلهم فى أنه جهل بسيط لأنه لا يكف عن محاربة هذا الجهل والعمل على إزالة غشاواته غير المتناهية عن عينيه واحدة واحدة رغم كل شىء. لو أن الغزالى قد اعتزل التدريس والتأليف لأنه رأى مثلا أن عليه ضغوطا عاتية من السلطان لا يمكنه مواجهتها لقول ما لا يرضاه ضميره لفهمتُ موقفه وقدَّرْتُه ووافقتُه على الاعتزال. أما، وهو لم يتحدث عن شىء من ذلك أو ما يشبهه، فلا أجد ما أستند إليه فى الموافقة على ما صنع. ولو افترضنا أن هذا قد حدث فعندئذ ما كان له أن يعتزل الناس وتيار الحياة الصاخب فى صومعة مثلا، بل كان ينبغى أن يجد لنفسه عملا آخر يتعيش منه هو وأسرته بعيدا عن التدريس بضغوطه. أما ترك كل شىء، كما يُفْهَم من كلامه فى هذا الشأن، فكلا وألف كلا، مع إجلالى الشديد له رغم كل ذلك.
لقد كنت، وأنا صغير لم يصلب عودى ولا استحكمت تجاريبى ولا نضج فهمى للحياة بعد، أتصور أنه سيأتى يوم أتخلص فيه من كل عيوبى فأعيش بعده عيشة كلها سعادة وسكينة ورضا وبُعْد عن الخطإ والتقصير. ثم تكشفت لى الحياة عن حقيقتها، فإذا هى تتلخص فى أن واجبنا الأول والأخير هو بذل الجهد دون توقف بهدف الوصول إلى الكمال، الذى لا ولن نصل إليه أبدا، ورغم ذلك لا ينبغى أن نتوقف عن السعى لدركه يوما مع يقيننا أن هذا هو المستحيل بعينه، وأن هذا هو قَدَرنا وواجبنا فى الحياة، وأنه على أساس من القيام بذلك الواجب أو التفريط فيه سوف ندخل الجنة أو لا.
ومما قاله الإمام أبو حامد الغزالى أيضا عن التصوف ويحتاج إلى النظر فيه لنرى مدى إصابته للحق بشأنه ما كتبه رحمه الله فى الجزء الثانى من كتاب "إحياء علوم الدين" أثناء كلامه عن بعض الأمور المتصلة بالمتصوفة، إذ قال: "سُئِل عن مال أُوصِيَ به للصوفية، فمن الذي يجوز أن يُصْرَف إليه؟ فقلت: التصوف أمر باطن لا يُطَّلَع عليه ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته بل بأمور ظاهرة يعوِّل عليها أهل العرف في إطلاق اسم "الصوفي". والضابط الكلي أن كل من هو بصفةٍ إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكرا عندهم، فهو داخل في غمارهم. والتفصيل أن يلاحَظ فيه خمس صفات: الصلاح والفقر وزي الصوفية وألا يكون مشتغلا بحرفة وأن يكون مخالطا لهم بطريق المساكنة في الخانقاه. ثم بعض هذه الصفات مما يوجب زوالُها زوالَ الاسم، وبعضها ينجبر بالبعض. فالفسق يمنع هذا الاستحقاق لأن الصوفي بالجملة عبارة عن رجل من أهل الصلاح بصفة مخصوصة. فالذي يظهر فسقه، وإن كان على زيهم، لا يستحق ما أُوصِيَ به للصوفية. ولسنا نعتبر فيه الصغائر. وأما الحرفة والاشتغال بالكسب فإنه يمنع هذا الاستحقاق. فالدهقان والعامل والتاجر والصانع في حانوته أو داره والأجير الذي يخدم بأجرةٍ، كل هؤلاء لا يستحقون ما أُوصِيَ به للصوفية ولا ينجبر هذا بالزي والمخالطة. فأما الوراقة والخياطة وما يقرب منهما مما يليق بالصوفية تعاطيها، فإذا تعاطاها لا في حانوت ولا على جهة اكتسابٍ وحرفةٍ فذلك لا يمنع الاستحقاق، وكان ذلك ينجبر بمساكنته إياهم مع بقية الصفات. وأما القدرة على الحِرَف من غير مباشرة فلا تمنع، وأما الوعظ والتدريس فلا ينافى اسم "التصوف" إذا وجدت بقية الخصال من الزي والمساكنة والفقر، إذ لا يتناقض أن يقال: ‘صوفي مقرئ، وصوفي واعظ، وصوفي عالم أو مدرس’، ويتناقض أن يقال: ‘صوفي دهقان، وصوفي تاجر، وصوفي عامل’. وأما الفقر فإن زال بغِنًى مُفْرِطٍ ينسب الرجل إلى الثروة الظاهرة فلا يجوز معه أخذ وصية الصوفية. وإن كان له مال ولا يفي دَخْلُه بخَرْجه لم يبطل حقه، وكذا إذا كان له مال قاصر عن وجوب الزكاة، وإن لم يكن خرج. وهذه أمور لا دليل لها إلا العادات. وأما المخالطة لهم ومساكنتهم فلها أثر، ولكن من لا يخالطهم وهو في داره أو في مسجد على زيهم ومتخلق بأخلاقهم فهو شريك في سهمهم، وكأن ترك المخالطة يجبرها ملازمة الزي. فإن لم يكن على زيهم ووُجِد فيه بقية الصفات فلا يستحق إلا إذا كان مساكنا لهم في الرباط فينسحب عليه حكمهم بالتبعية. فالمخالطة والزي ينوب كل واحد منهما عن الآخر. والفقيه الذي ليس على زيهم هذا حكمه: فإن كان خارجا لم يُعَدّ صوفيا، وإن كان ساكنا معهم ووُجِدت بقية الصفات لم يبعد أن ينسحب بالتبعية عليه حكمهم. وأما لبس المرقَّعة من يد شيخ من مشايخهم فلا يشترط ذلك في الاستحقاق. وعدمه لا يضره مع وجود الشرائط المذكورة. وأما المتأهل المتردد بين الرباط والمسكن فلا يخرج بذلك عن جملتهم".
هذا ما قاله الغزالى فى تعريف "المتصوف" وضبط مصطلح "التصوف"، وهو ضابط غريب، وبخاصة من عالم كبير كالغزالى رضى الله عنه. إذ كيف فاته أن الإسلام لا يرحب بهذا الذى يقوله عن المتصوفة من أنهم يؤثرون الفقر وترك العمل والسعى وراء الرزق، اعتمادا (بطبيعة الحال) على أن هناك من يطعمهم ويكسوهم ويرزقهم وهم نائمون فى العسل بحجة أنهم مشغولون بعبادة الله، ناسين أو بالأحرى: متناسين أن العمل عبادة، وأن الإسلام لا يعرف مثل هذا الكسل والتبلد وانتظار الأكل والشرب من الآخرين بعدما صار هؤلاء الصوفية أعضاءً شَلاَّءَ فى المجتمع لا يُرْجَى منهم نفع ولا جدوى. ثم ما معنى تَسَاكُن المتصوفة؟ أليس معناه أنهم يسكنون خانقاها يجرى عليهم فيه الرزق دون أن يتعبوا فى تحصيله وكأنهم نساء يعتمدن على كفالة أقربائهن؟ وهل هذا مما يجوز فى الإسلام؟ بل هل هذا من الرجولة والكرامة والشهامة فى شىء؟ ألم يقل الرسول لمن رآه يبقى فى المسجد بعد انتهاء الصلاة اعتمادا على أن له أخا يقوم بأمر طعامه وشرابه وكسائه إن أخاه أَعْبَدُ منه؟ ألم يكره الرسول من المسلمين أن يمد أحدهم يده بالسؤال، وهو يستطيع أن يحصّل رزقه بنفسه؟ ألم يأمر الرجلَ الذى أتاه سائلا أن يذهب إلى بيته ويحضر ما يمكن بيعه، ثم باعه له بدرهمين واشترى له بهما قدوما ليحتطب ويبيع ما يحتطبه، ثم أمره ألا يريه وجهه مدة من الزمان عاد إليه بعدها وقد كسب مالا ينفقه فى إشباع حاجياته، فقال له إن هذا خير من أن يأتى يوم القيامة وقد نُكِتَتْ فى وجهه نكتة سوداء؟
ثم من قال إن الإسلام يرضى لأتباعه بالفقر، فضلا عن أن يرحب به، فضلا عن أن يوجبه عليهم؟ أليس الله هو الغنىّ؟ أليس لله المثل الأعلى فى السماوات والأرض؟ وكما أن الله عليم، ومن ثم فعلينا أن نبذل نحن البشر جهدنا كى نحصل العلم ونكون علماء، وكما أن الله قوى، ومن ثم فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف بما يعنى أن المسلم عليه أن يبذل كل جهده كى يكون قويا فيرضى عنه الله ورسوله، وكما أن الله جميل يحب الجمال، ومن ثم ينبغى أن يحرص المسلم على الجمال فى كل ما يعمل، وكما أن الله نظيف يحب النظافة، ومن ثم كان واجبا على المسلم أن يكون نظيفا حتى ليؤكد الرسول الكريم أن النظافة من الإيمان، كذلك فَكَوْن الغِنَى من صفات الله سبحانه وتعالى معناه أن علينا نحن المسلمين العمل بكل قوانا على أن نكون أغنياء. ولم يترك الرسول الأمر غائما دون تحديد، بل قال لأحد صحابته حين أراد أن يتبرع بماله كله: "إنك إِنْ تَذَرْ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تَذَرَهم عالةً يتكففون الناس". وبالإضافة إلى ذلك ألم يبين صلى الله عليه وسلم أن اليد العليا خير من اليد السفلى، بما يفيد أن الغِنَى أفضل من الفقر، وأن من يعمل فيغتنى خير ممن لا يعمل فيظل فقيرا، إذ إن علو اليد يقتضى أن يكون صاحبها غنيا يُعْطِى لا فقيرا يأخذ؟ على أن هناك فرقا لا يَخْفَى بين قوتنا وغنانا مثلا وبين قوة الله وغناه سبحانه، وهو أن صفات الله مطلقة لا تحدها حدود، أما صفاتنا فمحدودة، فضلا عن أنها مستمَدّة منه جل وعلا وليست من عند أنفسنا، إذ نحن مِنْ خَلْقه، وما من شىء نملكه أو نتصف به إلا وهو من عطاياه وكرمه.
وأغرب من ذلك أن الغزالى يتناول التصوف وكأنه حرفة من الحرف، إذ هو لا يتصور أن يجمع أحدهم بين التصوف والدهقنة مثلا، أو التصوف والتجارة، أو التصوف والصناعة. وما دام المتصوف لا يمكن أن يزاول حرفة أو تكون له مهنة يأكل منها، وكأن التصوف هو وظيفته فى الحياة لا يمكن أن يزاول وظيفة سواها، فمعنى هذا أن يتولى الآخرون إطعامه وسقيه وكسوته وإسكانه، لأنه ليس له عمل ولا يشعر بالحرج جراء عدم العمل، بل كل ما يفعله هو أن يعيش فى خانقاه يأتيه فيها طعامه وشرابه وكساؤه دون أن يقوم فى مقابل ذلك بأى عمل، وهو ما لا يتسق مع الإسلام فى شىء. ذلك أن التصوف كما أفهمه إنما هو التوهج الروحى بحيث إن المتصوف إذا أقبل على عمل شىء من عبادة أو سعى دنيوى فإنما يقبل عليه ويؤديه بحرارة وإخلاص باذلا كل ما لديه من جهد لا يعرف الفتور ولا الكلل، فى حدود الاستطاعة البشرية بطبيعة الحال. وعلى هذا فمن الممكن أن يكون المتصوف صاحب عمل كأن يكون تاجرا أو زارعا أو صانعا أو مدرسا أو ضابطا أو خبازا أو سباكا أو بوابا... إلخ. لا بل لا بد أن يكون صاحب عمل، وإلا فمن أين يأكل ويشرب ويلبس ويكون له بيت يسكنه؟ إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما قال الفاروق رضى الله عنه، ولا ينبغى للمسلم أن يكون عالة على الناس، بل يجب عليه أن يسعى على معاشه هو وأسرته.
ونحن فى عصرنا هذا نعرف أكثر مما كان يعرف من مَضَوْا من أسلافنا أن الأمم إنما تَعِزّ وتقوى بغناها، وأن هذا الغنى لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل، والعمل الشاق المتصل. أما الفقر فهو باب الضعف والهلاك ووقوع الأمة فى فخ الحاجة ومد اليد لأخذ المعونة أو الاستدانة، التى تؤدى إلى التدخل الأجنبى والاستعمار. أم سيقال إن المتصوف لا يشغل نفسه بمثل تلك الأمور الدنيوية؟ إذن فهو متصوف منافق يتظاهر بحب دينه وبالإخلاص فى ممارسته بينما هو فى الحقيقة لا يمارس منه شيئا، أو لا يمارس منه شيئا نافعا، ظنا منه أن القشور التى يمارسها هى الدين، فى حين أنها ليست من الدين فى قليل أو كثير، أو هو متصوف جاهل لا يعرف دينه ولا يفهم حقيقة أمره. لكن لا بد أن نضيف إلى ذلك أن الغنى المقصود ليس هو غنى المال فقط بل غنى النفس أيضا. فكما ترى فإن الغنى أفضل من الفقر فى كل حال: فى حال الغنى المادى وفى حال الغنى النفسى جميعا.
ولا يقول بأفضلية الفقر إلا من لا يعرف حقيقة الإسلام، فالفقر مذلة وحاجة وضعف، ومن ثم فهو مذموم بكل لسان. ومع هذا ينبغى أن نوضح أن الفقر إذا كان نتيجة تمسك بالمبدإ الحلقى أو العقيدى فهو شرف يزين صاحبه، وكذلك إذا كان نتيجة عجز عن العمل أو عن العثور عن العمل فليس على صاحبه من حرج، إذ هو أمر خارج الطوق، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لكن لا بد للشخص المفتقر حينئذ ألا يستسلم للفقر، بل عليه البحث عما يخرجه من هذا النفق المظلم لا يكفّ عن ذلك أبدا. وقد تمر الأمة بظروف صعبة من حصار ظالم أو جائحة طبيعية مثلا، فعندئذ لا عيب فى الفقر الذى تعانى منه جماهيرها، إذ الأمر ليس بأيديهم بل هو مفروض عليهم. ولكنهم، فى هذه الحالة أيضا، مطالبون بالسعى لتجاوز الأزمة لا بالرضا بها، فضلا عن استدامتها.
ولا ينبغى أن يقال إن المتصوف رجل زاهد فى الدنيا، فهو من ثم لا يفكر فيها ولا يشغل نفسه بها. ذلك أنى أخشى أن يكون فى هذا سوء أدب مع رب العالمين، الذى سخَّر لنا الدنيا بكل ما فيها من أرض وسماء ونجوم ورياح وشمس وقمر وبحار وأنهار كما يؤكد القرآن مرارا وتكرارا فى سوره المختلفة: المكى منها والمدنى على السواء بما يدل على أهمية الأمر، إذ ليس من حسن الإيمان فى هذه الحالة أن يقول الإنسان إنه عازف عن هذه النعم التى سخرها الله له. أَفْهَم أن يقال: لا ينبغى أن يكون الإنسان مسعورا وراء المال بحيث ينسى بقية واجباته ولا يراعى حراما ولا حلالا. لكنى لا أفهم أن يدعو مسلم إلى كراهية الغنى لا لشىء إلا لحبه للفقر والحاجة وما يترتب على الفقر والحاجة من مقاساة الذل والهم والكرب العظيم بالليل والنهار. ثم إن المتصوف لا يعيش وحده فى الدنيا حتى يقول إنه لا يحتاج منها إلا أقل القليل، بل هو فى أغلب الأحيان مسؤول عن زوجة وأولاد وأبوين كبيرين، وربما عن بعض الأقارب المساكين العاجزين أيضا. فكيف يقوم بواجبه نحو هؤلاء إذا كان فقيرا لا يملك ما ينفقه عليهم أو يعطيه إياهم؟ وفى الأيام الأولى للدولة الإسلامية حين لم يكن هناك مالٌ كافٍ لإدارة شؤونها وتعبئة جيشها والإنفاق على الفقراء فيها، ألم يكن أغنياؤها يسارعون إلى إنجادها؟ فكيف بالله كانت تستطيع الدولة الإسلامية تجاوز تلك الشدة لو لم يكن هناك أغنياء يقومون بهذا الواجب؟ أم ترى الدول يمكنها أن تعيش فى فقر، وتنجح رغم هذا فتكون دولا قوية مرهوبة الجانب؟ هذا ما لا يمكن أن يكون.
ثم إن الضابط الذى اعتبره الغزالى فى تحديد معنى "المتصوف" إنما هو ضابط شكلى من فقر وارتداء لزى الصوفية ومساكنة لهم مما لا يدل بالضرورة على شىء وراءه، مع أن الصوفية يقولون إنهم من أهل الباطن، الذين ينشغلون بالجوهر ولا يعبأون بالأشكال، ويعيبون الفقهاء من أجل ذلك بأنهم يركزون فى أمور العبادة على الظاهر فيتحدثون مثلا عن حركات الصلاة وسكناتها وأقوالها وأفعالها ثم لا يشغلون أنفسهم بالكلام عما ينبغى أن يتحلى به المصلى من خشوع وإخلاص وإخبات وما إلى هذا، وهو ما أشار إليه د. محمد عبد المنعم خفاجى بقوله: "الفقه علم بأحكام الشريعة، والتصوف عمل بها. والفقه من علوم الظاهر، والتصوف من علوم الباطن. ومصادر الفقيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهى وإن كانت مصادر التصوف إلا أنه يستمد مع ذلك من الوجدان والذوق والروح والإلهام مادة فهمه لهذه المصادر، بينما يستمدها الفقيه من عقله. والعمل والعبادة اللذان توجبهما معرفة الأحكام الشرعية هما وقوف عند حدود الظاهر، أما العمل والعبادة اللذان يوجبهما التصوف فهما لا يقفان عند غاية ولا عند حد" (د. محمد عبد المنعم خفاجى/ الأدب فى التراث الصوفى/ مكتبة غريب/ 1980م/ 9). فهل التصوف هو أن يكون الإنسان لابسا زى الصوفية ومساكنا لهم وفقيرا مثلهم كما يفهم من كلام الغزالى، ثم لا شىء آخر؟ ما أسهل إذن أن يكون كل من هب ودب صوفيا ما دام هذا هو التصوف!