كلمة الأستاذ الدكتور عبده الراجحي في حفل استقباله عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة

إنضم
12/11/2011
المشاركات
99
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الأستاذ الدكتور عبده علي الراجحي

في حفل استقباله عضوًا جديدًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمده تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
شيخنا الرئيس الدكـتور شـوقي ضيف.. شيخنا نائب الرئيس الدكتور محمود حافظ.. شيخنا الأمين العام كمال بشر..
شيوخنا الأعزاء..
ما أظن واحدًا من الأربعة عشر صحبة سعده مثل ما صحبني اليوم؛ وذلك من وجوه كثيرة؛
أولها- أني جئت في ساقة هذه الكتيبة الميمونة. ومن يكن في الساقة يكن أقرب إلى الأمن وأبعد من أخطار الصف الأول، ورؤيته أوسع وأشمل، وهو أحفظ لمتقدميه، وأخوف عليهم، وأرعى لهم، وهي خلالٌ أدعو الله سبحانه أن يهديني إليها. وثانيها- أن يستقبلني الشيخ الأمين. وشهادته فيَّ قد يعتورها شيء في النفس؛ فهو لا ينظر إليّ منذ اتصلت به قبل أربعين عامًا إلا بعين من الرضا - وهي على ما تعلمون- على أنكم قد تغضون الطرف عن هذا من أجل الفقير الذي تستقبلونه، فالمحبة وحدها حقيقة أن ترفع أقدار الناس.
على أن بِشرًا ليس الأمين العام وليس هذا المحب فحسب؛ بل هو شيخي وأستاذي، وهو الآن شيخ الوقت بين اللغويين، أسهم مع نفر مبارك في إقامة دولة علم الفقه في العالم العربي، تمّام وبشر في الدار، والسعران وبخاطره الشافعي في الإسكندرية.. جاء هذا النفر بعد مرحلة أنيس في التبشير بعلم اللغة.. وحين علا صوتهم أوجس الناس خيفة من هذا العلم الوافد وارتابوا في غاياته؛ لأنهم تحدثوا عن درس اللهجات، وخلط الناس بين الدعوة إلى الدرس والدعوة إلى الاستعمال، ثم إنهم صدّعوا الناس بمصطلحات غريبة عن الفونيمات والمورفيمات والوصفية والمعيارية والآنية والتاريخية. وقد لا يدرك أحد من الأجيال الحالية ما عاناه هذا النفر وقتذاك.
غير أن بشرًا كان له دوره الخاص في إذابة كثير من الشكوك والمخاوف بما آتاه الله من روح الدعابة والفطرة الطبيعية على إشاعة البهجة، ثم إنه لم يقف عند الدرس الجاف الذي كان معهودًا في علم اللغة؛ بل ولج إلى اللغة الحية المتدفقة، ولا يزال يعشقها في هذا التدفق حيث يكون.
ويأتي جيلنا: عبد التواب وحجازي وشاهين ومختار عمر والفقير إلى الله متابعًا جيل بشر، يأخذ عنه أخذًا مباشرًا، ويمزجه بما كان وبما هو كائن مما جعلنا نزعم أننا أضفنا شيئًا ما، وما هو في الحق إلا ثمرة للغرس المبارك.
أيها الشيخ الأمين.. لتدم محبتك.. وليدم بشرك.. ولتكن دائمًا حيث تحب وحيث نحب لك أن تكون.
أما ثالث هذه الوجوه فهو الفضل الذي ادخره الله لي بأن أشغل مقعدًا كان يشغله كبير من الكبار.. جبل من جبال العلم.. عقلية عظيمة.. وهمة عظيمة.. رزقه الله طول العمر وحسن العمل.. ذلك شيخ شيوخ الفيزيقا الدكتور محمود مختار-رحمه الله- فهو واحد ممن ينتمون إلى النصف الأول من القرن الماضي.. عصر الإتقان.. لا نعرف واحدًا من أبنائه إلا وهو يتقن عربيته ويتقن تخصصه ولا يعمل أحدهم عملاً إلا أحسنه.. كلهم كان يحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب.. ومحمود مختار مثال قوي على هذا الوقت.. يصحب أستاذه علي مصطفى مشرفة.. ويقتفى أثره.. ويظل يثابر لا تفتر له همة، فيقدم العلوم بالعربية، ويضيف من العلوم ما لم يكن لمصر به عهد.. ويسهم في كل ميدان يدعم العلم، فيؤسس الجمعيات والمجلات العلمية.
وإن جهوده في التعريب لحقيقة أن تكون موضع درس ومتابعة.
قلت إنه سعد ساقه الله إليّ إذ كنت أزعم بصفتي لغويًّا -وللغويين مزاعم كثيرة- أن اللغة لا يمكن درسها إلا من طريق «العلم».. نقصد العلم التجريبي بمناهجه وإجراءاته وأدواته.. من أجل ذلك سُمِّي هذا الدرس فى العالم «علم اللغة». والتراث العربي شاهد على ما كان من إدراك علمائنا القدماء لانتهاج سبيل قريبة من سبيل العلم.. وحين نستحضر الآن صورة أبي الأسود وهو يقول لكاتبه: «إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه إلى أعلاه، وإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف» لا نرى فيه إلا إقرارًا لمبدإ الملاحظة وسيلة إلى التسجيل وإلى الوصف الصحيح.. ولنا أن نتصور الخليل وهو يدير دوائره يمنة ويسرة، ويعمل أدواته الرياضية، ويصل إلى المستعمل والمهمل.. ولنا أن نستدعي طريقة ابن جني، وهو يفسر الظاهرة اللغوية بالأدلة الطبيعية من الاستثقال والاستخفاف، وقولتَه المشهورة: «هذا برهان هندسي».
وحين نعبر التراث القديم إلى زماننا هذا نرى درس اللغة في قلب العلم.. خذ الأصوات اللغوية وحدها، ندرسها مع أستاذ في الفيزيقا، وأستاذ في التشريح، وأستاذ في الرياضة، وأستاذ فى اللغة.. ثم خذ اكتساب الأطفال للغة، والعمليات العقلية فى إنتاج الكلام واستقباله، وخذ القوانين الكلية التي تجمع البشر على ظواهر واحدة.
أليس ذلك كله جديرًا أن يدرك لغويٌّ مثلي يظنه الناس لا يعمل إلا فى الضمة والفتحة والكسرة.. أن يدرك نعمة الله الكبرى حين يخلف رجلاً في قدر محمود مختار.. رحمه الله رحمة واسعة.. وجزاه عنا وعن العلم وعن العربية خير الجزاء.
أيها السادة..
حين أراني في المجمع العريق أعلم علم اليقين أن ذلك حصاد أجيال متوالية من المربين والمعلمين، أسهم كل واحد منهم فى صناعة إنسان.. فى صدارتهم يأتي أبي رحمه الله.. كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب.. والأصل فى القرية أن يبقى أكبر الأولاد إلى جانب أبيه.. فكيف أصر أن يدفع بي إلى المدرسة رغم أن رسوم الدراسة كانت عشرة جنيهات.. وهو قدر من المال ينوء به أولو اليسار آنذاك.. كان وجهه يضيء فرحًا وهو يراني أنتقل من علم إلى علم.. وكانت الدنيا لا تسعه وهو يشهدني أخطب الناس في المسجد، أما حين سمعني أتكلم الإنجليزية، فلا أستطيع أن أصف لك مشاعره.. إن الوالد الأمي الذي يفعل ذلك لهو عندي فوق كل الآباء.
وأذكر منهم شيخي الشيخ بلال عبد الجواد شيخ كتاب قريتي: كفر الترعة الجديد مركز شربين، دقهلية الذي لم يكن يقبل قط، ونحن فى الرابعة إلا أن يعطي كل حرف حقه.. وعلى منهجه العلمي الصابر قلقلنا وأخفينا وأظهرنا وغننا ومددنا حيث يجب كل أولئك، وأذكر أنه ظل يأخذ برأسي شهرًا كاملاً حتى أقرأ قوله تعالى:ﭽ...ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ...ﭼ[ يونس: ٢٤]. فلا يذهب تفخيم الخاء برقة التاء، ولا تغلظ اللام لإطباق الطاء.
ثم أذكر منهم الأستاذ محمد موسى مدرس اللغة العربية بمدرسة زغلول الابتدائية بالسرو، الذي كان يتوسم فيَّ خيرًا، فأخذني يومًا إلى ناظر المدرسة ليأخذ عليَّ موثقًا ألا أشتري قلم الحبر الذي وفد إلى ريفنا أول مرة في الأربعينيات، وكنا لا نذهب إلى المدرسة إلا ومعنا الدواة والريشة، وكان الأستاذ موسى يرى هذا القلم الجديد شرًّا ووباء على العربية لأنه سوف يفسد خطوطنا، وكان إتقان الخط من فرائض العربية عند التلميذ والمعلم على السواء.
أذكر هؤلاء الثلاثة نماذج لما كان سائدًا من مراقبة الله في تربية الناشئة، والإخلاص في ذلك، والصبر عليه. وهذا المنهج هو الذي جعل الإتقان سجية، وغيابه في زماننا هو الذي يجعل من الانهيار الماثل أمرًا لا يستغربه الناس.
ثم يأتي من أخذت عنهم من أصحاب الخبرة والمكانة والإنجاز.. وهم عدد كبير يضربون في غير ميدان، في اللغة والأدب، والفقه، والفلسفة، والتاريخ، والاجتماع، والإنجليزية، والألمانية.. وتعلمت كثيرًّا جدًّا من زملائي ومن تلاميذي.. لا أتوقف عند واحد من أولئك الذين ذكرت، وأنا أستحيي أن أوجز الكلام عن كل منهم في الوقت المحدود.. وكلهم له فضل.. وفضلهم هذا هو الذي أكسب فقيرًا مثلي عضوية المجمع الجليل..
أيها السادة:
اخترتم واحدًا من الإسكندرية. يحمل إليكم كل مرة البحر، واتساعه، وانفتاحه، الإسكندرية بـوابة الغـرب، وعاصمة الحضارة الهيلينية.. ومعبر المغاربة إلى الحج، وطريق أهل المشرق إلى الأندلس.
أنضم إليكم وقد سبقني ثلاثة من شيوخ الإسكندرية الأعلام، كان كل منهم أمة في بابه، أولهم عبد الحميد العبادي، شيخ المؤرخين، وإمام التقاليد العريقة. أما الآخران فقد تلمذت لهما أيام الطلب الأول محمد خلف الله أحمد صاحب النبرة الفريدة في نطق العربية.. وواحد من الذين أرادوا التجديد في درس الأدب حين عاد من بريطانيا بالوجهة النفسية.. لم يكن عميدًا عابرًا في كلية الآداب بل كان هو العميد حين كانت العمادة قيمة علمية ومسؤولية ثقافية.
شيخي الجليل محمد طه الحاجري، صاحب الجاحظ، ومحقق أعماله الكبرى.. وليس هذا في ميزان العلم بقليل، ثم أجيئ بعدهم بما يقرب من نصف قرن وأنا الفقير في هذه البضاعة كي أكون السكندري الوحيد في المجمع العريق، فأي عبء حملتموني أيها السادة.
وهنا شيوخنا الأعزاء - أحلم بأن أرى المجمع يضم علماء من أصقاع مصر.. من أسوان وطنطا ودمياط وأسيوط.. ولا يحول بعد المسافة بينهم وبين المجمع.. وثقافتنا ترسخ فينا أن الذي يسعى إنما يسعى دائما من أقصى المدينة.. ولم نر في كتابنا رجلاً من أدنى المدينة يسعى.. ومن فتش عن صاحب علم وجده.
أيها السادة..
أعلم أن هذا المجمع العريق يؤثر أن تكون أعماله خلف أبواب مغلقة بعيدًا عن أضواء الإعلام.. غير أني قد أجرؤ على الحلم أن يكون المجمع أكثر حضورًا في حياة الناس وبخاصة عند أهل الصنعة منهم، نصلهم، وندفع إليهم بأفكارنا ومقترحاتنا ونتلقى منهم تغذية راجعة كما يقول أهل التربية، وفي جلستنا هذه واحد من علماء الحاسوب المشهورين، له ريادة خاصة مع علوم العربية.
وليس كثيرًا أن نطلب إليه تزويد المجمع بقاعدة بيانات عن أبناء مصر المهتمين بالعربية في مختلف المجالات، وأحسب أن ذلك سوف يزود المجمع بحيوية متجددة، ويضفي على أعماله شرعية مكينة.
شيوخنا الأعزاء: قد يكون من اللازم دائما أن نراجع أنفسنا فننظر مثلاً في أهداف المجمع التي أقرت منذ إنشائه، قد نقر هدفًا، وقد نعدله، وقد نستبدل به غيره، أو نضيف أهدافًا لم تكن منظورة آنذاك.
ولعلي أشير هنا إلى المعاجم على وجه الخصوص، وقد أنجز المجمع منها ثروة هائلة، غير أن المعاجم اللغوية العامة في حاجة إلى إعادة نظر وإلى جهد علمي متكامل، فنحن لا ننجز المعاجم إلا ليستعملها الناس واستعمال المعجم مهارة لابد أن يمارسها الإنسان من الصغر، وحين يتلقى طلاب المرحلة الثانوية المعجم الوجيز ينبذونه وراء ظهورهم لما نعرفه من أسباب، والدول المتقدمة تعنى عناية خاصة بمعاجم الأطفال، فنرى معاجم لمرحلة ما قبل المدرسة، وأخرى للمرحلة الابتدائية وثالثة للمرحلة المتوسطة، وهكذا يصبح استعمال المعجم مهارة يتقنها الناشئ إتقانًا طبيعيًّا. فهل نطمح أن يكون للمجمع دور ما في إصدار معاجم خاصة للمراحل العمرية المبكرة ؟
شيوخنا الأعزاء..
أطمح أيضًا أن يكون للمجمع كلمة قوية في «تعليم العربية» وليكن صوت المجمع في هذا الشأن عاليًا مسموعًا، ولنذكّر قومنا -دائمًا- أن التنمية لا تتحقق بالتخطيط الاقتصادي والسياسي، بل يستحيل وجودها ما لم تقم على قاعدة لغوية مكينة.
ومن أسف أن أشير إلى أن المواطن الفرنسي الذي يعلّم الفرنسية خارج وطنه يعفى من الجندية، فهم يجعلون تعليم اللغة الوطنية مناظرًا لحماية تراب الوطن، وهذا حق، فكيان الأمة ولغتها لا ينفصلان.
شيوخنا الأعزاء.. ما أستطيع أن أختم هذه الكلمة دون أن أذكّر نفسـي وإياكم بما آلـت إليه أحوال البصرة وبغداد والموصل، وهي أسماء قد لا تعني عند الكثيرين شيئًا لما نعلمه من قصور في نظامنا التعليمي والإعلامي، لكنها عندنا تمثل كل شيء، إن كل خلية في كياني تكونت في البصرة وفي بغداد، وأساليب التفكير عندنا غُذيت على ما كان يجري هناك. والعربية التي حملتنا هذا التاريخ الطويل أخذناها عن شيوخنا في البصرة وبغداد. وأنا على يقين أن المجمع العريق بشيوخه القدامى والوافدين حقيق على أن يستمسك بما أعطتنا إياه البصرة وبغداد، وأن نجعل من هذه المدن أعلامًا مذكورة في كل آن بأن ندعو الله سبحانه أن يهبنا القدرة على أن نحمل الأمانة، وأن نتبع في كل وقت قرآنه، إنه سبحانه ولي ذلك وهو القادر عليه.
شيخنا الرئيس.. شيخنا الأمين.. شيوخنا الأعزاء.. أشكر لكم جميعًا ما تفضلتم به وأدعو الله لكم بالصحة والسعادة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
 
عودة
أعلى