قوله تعالى :{ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} قال القرطبي رحمه الله : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ. وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَحَلِيلُ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا ... تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الْأَعْلَمِ أَيْ تُصَوِّتُ. وَمِنْهُ مَكَتَ اسْتُ الدَّابَّةِ إِذَا نُفِخَتْ بِالرِّيحِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ، عَلَى لَحْنِ طَائِرٍ أَبْيَضَ بِالْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ الْمَكَّاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا غَرَّدَ الْمَكَّاءُ فِي غَيْرِ رَوْضَةٍ ... فَوَيْلٌ لِأَهْلِ الشَّاءِ وَالْحُمُرَاتِ قَتَادَةُ: الْمُكَاءُ ضَرْبٌ بِالْأَيْدِي، وَالتَّصْدِيَةُ صِيَاحٌ. وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجُهَّالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَرْقُصُونَ وَيُصَفِّقُونَ وَيُصْعَقُونَ . قال في المحرر الوجيز : و « التَّصْدِيَةُ » يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت فيلتئم على هذا الاشتقاق قوم من قال : هو التصفيق ، وقول من قال الضجيج ، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع ، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه ، ويمكن أن تكون « التَّصْدِيَةُ » من صد يصد استعمل الفعل مضعفاً للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد ، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير ، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف ، وذلك نحو قوله { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ } [ يوسف : 23 ] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلاً وتكملة وغير ذلك ، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد ، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه ، فجاء « تصدية » فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع ، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصِد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج ، ويبدل أيضاً على هذا أحد المثلين ، ومنه قوله تعالى : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ الزخرف : 57 ] بكسر الصاد ، ذكره النحاس ، وذهب أكثر المفسرين إلى أن « الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ » إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقطع عليه يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته ، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول ، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية ، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل ، أي هذه عادتك وغايتك . قال القاضي أبو محمد : والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع ، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء ، وبينهما أربعة أميال ، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة ، إنما كانت مُكاء وتصدية من نوع اللعب ، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة .
قوله تعالى :{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)} قال القرطبي رحمه الله : قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) يَعْنِي أَقْوَالَهُمْ وَكَذِبَهُمْ وَأَذَاهُمْ، وَلَا تَلْتَفِتْ نَحْوَهُمْ وَامْضِ لِأَمْرِكَ وَشَأْنِكَ. وقرا يعقوب" يصدنك" مجزوم النون. وقرى" يُصِدُّنَّكَ" مِنْ أَصَدَّهُ بِمَعْنَى صَدَّهُ وَهَى لُغَةٌ فِي كَلْبٍ. قوله تعالى في سورة طه :{ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) } قال في التحرير والتنوير : وَصِيغَ نَهْيُ مُوسَى عَنِ الصَّدِّ عَنْهَا فِي صِيغَةِ نَهْيِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالسَّاعَةِ عَنْ أَنْ يُصَدَّ مُوسَى عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ مُوسَى عَنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَيْهِ وَكَانَ النَّهْيُ نَهْيَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَنْ يَصُدَّ مُوسَى، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ مُوسَى عَنْ مُلَابَسَةِ صَدِّ الْكَافِرِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، أَيْ لَا تَكُنْ لَيِّنَ الشَّكِيمَةِ لِمَنْ يَصُدَّكَ وَلَا تُصْغِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ لِينُكَ لَهُ مُجَرِّئًا إِيَّاهُ عَلَى أَنْ يَصُدَّكَ، فَوَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَبَّبِ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا. قال في اللباب : قوله:{ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } من لا يؤمن هو المنهي صورة، والمراد غيره، فهو من باب: لا أريَنَّك هَهُنَا. وقيل: إن صدَّ الكافرِين عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. والضميران في- عَنْهَا «و» بِهَا -للسَّاعة قاله ابن عباس: وذلك أنه يجب عود الضمير إلى أقرب مذكور وهو هنا الساعة. وقيل: للصلاة. وقال أبو مسلم: الضمير في (عَنْهَا) للصَّلاة، وفي (بِهَا) للسَّاعة، قال: وهذا جائز في اللغة، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه. وأجيب بأنَّ هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة (ههنا) . قوله:{ فَتَرْدَى } يجوز فيه أن ينتصب في جواب النهي بإضمار- أَنْ - وأن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: فَأَنْتَ تَرْدَى. وقرأ يحيى: «تَرْدَى» بكسر التاء، وقد تقدم أنها لغة والرَّدَى الهلاك يقال: رَدِيَ يَرْدَى رَدّى . قال في فتح البيان : (فلا يصدنك عنها) أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة والتصديق بها أو عن ذكرها ومراقبتها وهذا أولى وأليق بشأن موسى عليه السلام، وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب. وقيل الضمير للصلاة بعيد وهو (من لا يؤمن بها) من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وسلم عن الانصداد أو عن إظهار اللين للكافرين، فهو من باب لا أريتك ههنا، كما هو معروف. (واتبع هواه) أي هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية، وفي إنكار الساعة (فتردى) أي فتهلك لأن انصدادك عنها لصد الكافرين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له. قوله تعالى :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} قال في فتح القدير : وَالصُّدُودُ: اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ، وَهُوَ الصَّدُّ عِنْدَ الْخَلِيلِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ، أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ إِعْرَاضًا. قال في التحرير والتنوير : وَ (صُدُودًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِتَنْوِينِ صُدُوداً لِإِفَادَةِ أَنَّهُ تَنْوِين تَعْظِيم.
قوله تعالى :{ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} قال أبوالسعود رحمه الله : { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } أي وحالُهم ذلك ، ومِنْ صدّهم عنه إلجاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون : نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه لا ولايةَ لهم عليه ، وفيه إشعارٌ بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند ، وقيل : أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم. وفي سورة النحل :{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)} قال في محاسن التأويل : لطيفة: تنكير (قدم) للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وأشار في (البحر) إلى نكتة أخرى: قال: الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعا. وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31] ، أي لكل واحدة منهن متكئا. ولما كان المعنى: لا يفعل هذا كل واحد منكم، أفرد قَدَمٌ مراعاة لهذا المعنى. ثم قال وَتَذُوقُوا مراعاة للفظ الجمع. قال الشهاب: هذا توجيه للإفراد من جهة العربية، فلا ينافي النكتة الأولى.