كفل
الكفيل : هو ذلك الشخص الضامن لشخص أو لشيء أو أداء مهام معينة ويتحمل مسؤوليته وعواقبه ويلتزم حتى يصل لمعيار الأمان (الذي يمكن قياسه وملاحظته) خلال فترة زمنية محددة ويصبح عندها قادرا عن الإستغناء عن الكفيل وكفالته بعد أن كان في عوزه وحاجته بدون أجر أو مقابل ( من هذا الباب يكون بين الكفيل والمكفول إذا كان أنثى حرمة شرعية لكيلا يكون هناك غرض في نفس الكفيل نحوها([1]) ) ولا يحق للكفيل التراجع عن كفالته إلا عند الوصول للمعيار أو وجود كفيل آخر وبمشيئته.
فالكفل : المسؤولية والإلتزام وتحمل العواقب في وصول المكفول لمعيار الأمان ( الإستغناء عن العوز والحاجة ) خلال فترة زمنية محددة ويصبح عندها قادرا عن الإستغناء عن الكفيل وكفالته
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿الحديد: ٢٨﴾
ولأهل الكتاب يوم القيامة الذين آمنوا
1- كفلين من رحمته ( ضمانين من رحمة الله عز وجل ليجتازوا عرصات الآخرة والوصول للأمان )
2- ويجعل لهم نورا يمشون به
3- ويغفر لهم
ذا الكفل
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ ﴿ ٨٥﴾ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿٨٦﴾ الأنبياء
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ ﴿ص: ٤٨﴾
ذا([2]) الكفل([3]) : هو الشخص الذي إذا ( تكفل ) أو ضمن شخص آخر ( أو أمة ) حتى يوصلهما لمعيار الأمان (الذي يمكن قياسه وملاحظته) خلال فترة زمنية محددة و يتحمل جميع العواقب والمسؤولية حتى يصبح (المكفول ) عندها قادرا عن الإستغناء عن الكفيل وكفالته .
وأهم ما يميز ذا الكفل أنه كان من الصابرين الصالحين ومن الأخيار ومن الأنبياء المصطفين
آراء من هو ذو الكفل ولا أجزم بأحد على آخر
- عمران الذي تزوج بأم موسى عليه السلام وتكفل بولديها ( هارون ومريم ) وقد تكلمت عن ذلك في بحث ( آل الشخص )
- يوسف عليه السلام تكفل بشعب مصر والأمم التي حولها ، وذلك معروف للقاصي والداني
- إلياس عليه السلام([4]) تكفل بأرملة صيدا ( أم يونس عليه السلام ) وقد ألمحت عن النبي إلياس عليه السلام في قصة يونس عليه السلام .
- وقد يكون نبي لم يذكر في القرآن إلا صفته ( ذا الكفل ) ليس بأحد من الأنبياء والرسل
كِفْلٌ منها : يقع شيئا من المسؤولية والعواقب ( على عاتق الكفيل ) في عدم وصول المكفول لمعيار الأمان خلال فترة زمنية محددة والتي يجب أن يصبح عندها قادرا عن الإستغناء عن الكفيل وكفالته ( لأن الكفيل هو الضامن والملتزم بتحقيق ذلك ) فالكفيل ملتزم بالحد الأدنى لوصول المكفول لمعيار الأمان وليس( الإخفاق) فلا يكفي الضامن ( الكفيل ) أن يترك المكفول لوحده بل عليه واجب متابعة المكفول حتى يصل للحد الأدنى من معيار الأمان المراد تحقيقه .
فإن تكفل معلم بطالب ورسب الطالب أو تكفل مدرب بفريق وأخفق ، عندها يكون للمعلم أو المدرب كفل من الرسوب والإخفاق أي يتحملا بعضا من مسؤولية ووزر ذلك ( ولا يعفيا من ذلك ) لأنهم كانوا الضامن .
مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا([5]) ﴿النساء: ٨٥﴾
وكشفاعة مسؤول لمجرم ( الشفاعة السيئة ) بإخراجه من السجن ( وبعدها قام المجرم بجريمة ما ) فإن المسؤول الذي تشفع([6]) له بذلك ( وكفله ) تقع عليه بعضا من المسؤولية والعقاب ووزر تلك الجريمة ( ولا يعفى من ذلك )
أما من تشفع شفاعة حسنة فلا تقع على عاتقه أي مسؤولية أو إلتزام أو عواقب ( كفل ) من تقصير للوصول لمعيار الأمان لأن من تشفع له ليس بحاجة للوصول إلى معيار الأمان لأنه أصلا قد تخطاه وتجاوزه إنما يكون ( له نصيب ) من الأجر والثواب المضاعف من الله عز وجل وقد يتبعه مكافأة حسنة من الذي تشفع له
كمن يمشي في تسيير طريق زواج رجل صالح أو السعي لوظيفة رجل فقير يمتلك كل المؤهلات المطلوبة أو تعليم رجل يرى فيه النبوغ لفائدة الأمة
ولذلك كانت كفالة اليتيم أمرها شاق وأجرها وثوابها عظيم
صحيح الترغيب والترهيب (2/ 675)" "أنا وكافِلُ اليَتيم في الجنَّةِ هكذا"، وأشار بالسَّبابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بينَهما"رواه البخاري وأبو داوود والترمذي
قصة داوود عليه السلام ونعجة المتخاصمين
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴿٢١﴾ إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴿٢٢﴾ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴿٢٣﴾ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴿٢٤﴾ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴿٢٥﴾ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴿٢٦﴾ ص
المحراب : هو مكان مرتفع ( قد يكون الإرتفاع حقيقي أو معنوي([7]) أو الإثنين معا ) معزول للخلوة والعبادة والصلاة الفردية([8]) وجمعها ( محاريب ) ولجميع المحاريب اتجاه محدد وثابت هو اتجاه القبلة ( وفي زمن داوود وسليمان عليهما السلام كان اتجاه المحاريب نحو بيت المقدس )
والمحراب : مكان يظهر فيه خصمان مد ى خصومتهما وبغضهما لبعض والمحراب المخصص للعبادة يختصم الشخص فيه مع هوى نفسه والشيطان ، فهو مكان للتزكية و تطهير النفس من هوى النفس ودرن الشيطان ... فداوود عليه السلام في محرابه كان منعزلا عن العالم كله (يخاصم ويراجع نفسه – محاكمة نفسه ) محاطا بسور مرتفع يحيط مكان خلوته والليل يسدل أستاره عليه والناس ساكنة نائمة وإذ بخصمين أمامه ...
فأول ما يختلج نفس أي شخص في ذلك الموقف الفزع وكيف دخلوا عليه ومن هم ولم هم في محرابه
الفزع : الخوف والذعر والرهبة الشديدة تصيب القلب مما يسبب حركات لا إرادية إنفعالية
الخصمان لم يذكر في القرآن الكريم جنسهما أو طبيعتهما إلا أنهما عاقلان ، وأرجح أنهما ملكين من الملائكة وإلا كيف استطاعا اختلاس الدخول لبيت الملك من السور المرتفع ولم يشعر بهما أحد، وقد فزع منهم داوود عليه السلام وداود عليه السلام هو من هو بالقوة والجبروت الذي قتل جالوت وألان الله عز وجل له الحديد؟!
فلمعرفة من هم الخصمين يجب أن نقيس حال داوود عليه السلام والخصمان بحال إبراهيم عليه السلام وضيوفه وبحال لوط وضيوفه ( عندها ينكشف من هم الخصمين ولم خاف وفزع منهم )
- فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ﴿هود: ٧٠﴾
- فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴿الذاريات: ٢٨﴾
- وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿العنكبوت: ٣٣﴾
فداوود عليه السلام خاف وفزع والملائكة قالت له لا تخف خصمان ...
وإبراهيم عليه السلام خاف والملائكة قالت لا تخف إنا أرسلنا على قوم لوط ...
ولوط عليه السلام خاف وحزن والملائكة قالت له لا تخف ولا تحزن ...
( بما أن الخصمين من الملائكة ليس لهما علاقة بالنعاج )فمما لا شك فيه أن قصة النعاج قصة رمزية تحاكي قضية حقيقية كان داوود عليه السلام أحد أطرافها أراد المتخاصمان إيصال رسالة إلى داوود عليه السلام مفادها أن يحكم على نفسه بما يحكم على الآخرين وأن لا يتنازعه هوى النفس في حكمه وقضائه .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿النساء: ٥٨﴾
أولا لنتناول سرد القصة
... خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴿٢٣﴾ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ .
أطراف القضية وموضوعها : خصمان ( إخوة ([9])) بغى بعضهم على بعض ( بغير وجه حق )
الأطراف : أحدهما يملك تسع وتسعون نعجة والآخر يملك نعجة واحدة
عَرَضَ القضية ممن عنده نعجة واحد : وفي الغالب يبدأ القضاء بالاستماع للمدعي وبإحضار أدلته (ويظن أنه مظلوم واعتدي عليه) فبدأ صاحب النعجة بالقول: إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ
نلاحظ أن سرد القصة جاء على لسان صاحب النعجة الواحدة وصاحب التسع وتسعون نعجة لم يقل ( طوال سرد القصة ) إلا ( أكفلنيها وعزني في الخطاب – وجاءت على لسان المُدعي ) ... وهذه الكلمة هي المحور التي بنى عليه داوود عليها السلام حكمه والمفصل الرئيس في القصة
... لم يقل( أعطينيها مجانا) بل أكفلنيها ( لك ) والكفالة تكون لمدة محددة ثم يردها لصاحبها أو يتركها لشأنها بمشيئته ، والكفالة تكون بدون أجر أو مقابل والكفالة تكون بايصال المكفول إلى معيار الأمان وكأن النعجة الوحيدة كانت صغيرة ولم تصل إلى حد بلوغ النعاج ؟! ... وقد كفلها صاحب التسع وتسعون النعجة وتم الإتفاق...لنكمل الأحداث
عزني في الخطاب : فصاحب النعجة الواحدة وافق على كفالة نعجته عندما طلب كفالتها صاحب التسع وتسعون نعجة ( خطبها([10]) صاحب التسع وتسعون نعجة ) بسبب ( كونه عزيزا – فصاحب التسع وتسعون نعجة أعز من صاحب النعجة الواحدة مالا وقدرا ومكانة وجاها وسلطانا )
ثم .... ( وكأن صاحب النعجة الواحدة يريد استرجاع نعجته المكفولة بعدما أبرم الإتفاق وتم ... ؟!)
فبهذا الإستهلال يكون صاحب ال تسع وتسعون نعجة بهذا الفهم ( كأنه أراد أن يساعد أخيه ) صاحب النعجة الواحدة وليس في طلبه أي بغي أو ظلم له وتم الإتفاق بين الطرفين على الكفالة بالتراضي وأبرمت الشروط بينهما وبعد الإتفاق أراد الفقير منهما الرجوع عن الإتفاق ولكن الغني منهما رفض الرجوع عن كفالته للنعجة فظن الفقير أن الغني بغي عليه بنعجته والغني ظن أن الفقير بغي عليه برد كفالته والنكوص عن الإتفاق كما استهلا قولهما ( خصمان بغى بعضنا على بعض ) ، والحقيقة فصاحب التسع وتسعون نعجة غير باغي أو عاد ولم يتجاوز ما اتفقا عليه .
الحكم على لسان داوود عليه السلام : لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ
... الكلام كله عن الحكم و القضاء و الخلافة في الأرض ، فالأمر اكبر من يكون في أمر نعجة أو حتى إمرأة القضية تتكلم عن الخلافة في الأرض والحكم فيها بمقتضى شرع الله عز وجل ، فالخصمان قبل ما يستعرضا قضيتهما قالا " فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ "
وانتهت القصة بالبيان والتكليف الإلهي " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ "
فالله عز وجل أراد أن يربي نبي الله داوود عليه السلام أن يكون حكمه مبني على استقصاء جميع الأدلة والبراهين على براءة أو جرم أحد أطراف القضاء المتنازعين وأن لا يكون حكمه متسرعا أو مبنيا على هوى نفس
ولكن ما الذي جعل داوود عليه السلام يحكم متسرعا متحيزا لصاحب النعجة الواحدة ؟
قد يكون فقر وضعف هذا وغنى وقوة ذاك فظن ( معتمدا على هوى نفسه ) أن الغني القوي المقتدر أراد أن يبسط يده وقوته على الضعيف الفقير المعدم فيأخذ النعجة بغير وجه حق فظن أن الحق مع الضعيف الفقير المعدم وليس مع الغني القوي المقتدر ، ومما يؤكد ذلك تبرير داوود عليه السلام لحكمه
"وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ([11]) لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ"
فكأنهما كانا في شراكة فانفصلا أو أن الفقير كان يعمل لدى الغنى وكان نصيبه من الأجر النعجة فظن داوود عليه السلام أن الغني أراد أن يغبن حق الفقير ويبغي عليه ويظلمه ، وأراد دواد عليه السلام بالخلطاء([12]) ( الأغنياء وأصحاب القدرة منهم خاصة الذين يستقوون على منهم دونهم ممن يعملون عندهم ويشاركونهم ) وقد استثنى دواد عليه السلام منهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ )
وقد يكون الفقير الحن في طلب حجته من صاحبه
السلسلة الصحيحة - مختصرة (1/ 816) " إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من أخيه شيئا ؛ فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة " . ( صحيح )
ومما يؤكد على حكم داوود عليه السلام الخاطئ والمتسرع في هذا لقضية (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴿٢٤﴾ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ) ... والمغفرة لا تكون إلا عن خطأ
والظن : حكم وقرار ( ترجيحي بين شيئين ) مبني وناتج عن تقدير ذهني عقلي بشري حسب مؤشرات ودلائل ومعلومات مادية ملموسة ومحسوسة ([13])( فيه محاولة للتنبؤ ومعرفة الغيب وبما أنه لا يمكن لأحد حصر كل المؤشرات والدلائل والإحاطة بها و أن عددا منها سوف يخفى على أي مخلوق ولهذا فإن بعض الظن سينتج عنه حكما وقرارا خاطئا "إثم" ) كتحقق شيء أو عدمه أو صحة وصدق شيء أو كذبه مع الترجيح في الغالب إلى درجة اليقين للحكم و القرار ( لقوة الدلائل والمؤشرات ) .
....والقضاء والحكم بين الناس أكثر ما يستخدم فيه الظن المبني على الدلائل المرجحة لطرف على الآخر .
" وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴿٢٤﴾ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ"
وكأنما داوود عليه السلام في لحظات راجع قراره وحكمه واستجمع كل الأمور المتشابكة في القضية حتى وصل إلى درجة الظن ( كل المؤشرات والدلائل والأدلة والبراهين الظاهرية الموجودة بين يديه ) تشير إلى أنه أخطأ في حكمه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )
ولم يصر على حكمه الجائر الذي حكم به أولا فآب ولم يصر على حكمه واستغفر الله عز وجل وأناب .
وبما أن القضية رمزية كما استفتحنا حديثنا
فإن استدراك داوود عليه السلام لحكمه يوحي لنا أن هناك خطأ قد وقع فيه داوود عليه السلام (فيكون عندها الغني هو الأحق بالكفالة) فربط حكمه بعدما (ظن أنه فتن) (بقضية مشابهة معه - تنازل فيها داوود عليه السلام عن حق يملكه إلى من لا يستحقه) فخر ساجدا وأناب ، فغفر الله عز وجل له . وهذا ما أميل له.
ولا أظن أن داوود عليه السلام استدرك أن حكمه كان صائبا (فيكون الفقير هو الأحق في استرجاع نعجته ) فربط حكمه ( بقضية مشابهة – يكون قد بغى فيها داوود عليه السلام على حق غيره لا يملكه فكان هو كصاحب التسع وتسعون نعجة) فخر ساجدا وأناب
... فكيف يغفر الله عز وجل ولم يرجع داوود عليه السلام الحقوق لأصحابها ؟!
هذا والله أعلم
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) وإلا كيف كان يدخل زكريا عليه السلام على مريم عليها السلام المحراب لولا أنه كان محرما عليها ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان إما ( أب أو أخ أو عم أو خال لها – وهذا مستبعد من المرويات ) أو يكون زوج أمها
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ... وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ... ﴿النساء: ٢٣﴾
وعندها تكون مريم بنت عمران ربيبته التي في حجره هي (وهارون بن عمران أخوها – ليس هارون النبي أخو موسى عليه السلام)
وقد جاء في الحديث أن عيسى ويحيى عليهما السلام ابنا الخالة
الجامع الصغير وزيادته (ص: 518) " ... فلما خلصت إذا بيحيى و عيسى و هما ابنا الخالة قال : هذا يحيى و عيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح ... " صحيح
وعليه تكون أم يحيى زوجة زكريا الأولى وأختها أم مريم زوجته الثانية
فيحيى وعيسى عليهما السلام تربيا في بيت زكريا عليه السلام أولاد خالة
([2]) تحدثنا بإسهاب عن معنى ذو في بحث يونس عليه السلام
ذا : بمعنى ( الشخص ) الذي يمتلك صفات معينة ( ذات شرف ومكانة ) وله علاقة خاصة بها ، فهو إشارة إلى شخص مفرد مذكر. ( غائب غير موجود ) ( و يتبع " ذا" صفات هذا الشخص ) ، ( وذا ) الشخص الذي يمتلك صفات معينة ومحددة وهذه الصفات فيها خصوصية إلى حد التفرد تكاد لا تكون إلا له ( بصفة أو شيء محدد ) ، وهذه الصفات أو الأشياء المحددة تميز صاحبها عن غيره وينفرد بها عمن سواه بل لا تنطبق إلا على ذلك الشخص ( فيكون عند ذكر " ذا " التركيز أكثر على صفات محدد وخاصة للشخص أكثر من التركيز على صاحبها ).
([3]) ذا الكفل كفيل وليس كل كفيل ذا الكفل
([4]) 1قمت بعد إسقاط أسماء الرسل والأنبياء المتكرر ذكرهم في جميع الآيات ( التي ورد فيها إلياس وذا الكفل ) والسور ، يبقى الذي لم يتكرر هو ( إلياس) ولم يقترن إلياس مع ذا الكفل في السورة الواحدة ، 2وهناك كلمة هي مفتاح الربط التي تشير لإلياس عليه السلام وذا الكفل وهي كلمة الصالحين – فكلاهما كان من الصالحين ( فقد تكررت هذه الكلمة في الآية 85 من سورة الأنعام – تشير لذي الكفل والآية 86 من سورة الأنبياء – تشير لإلياس ) ، 3ونلاحظ اقتران ( إلياس – اليسع ) في الآيات ( 85+86 – الأنعام ) وكذلك اقتران ( ( اليسع – ذا الكفل ) في الآية ( 48 – ص ) فهناك علاقة بين اليسع وإلياس فاليسع جاء بعد إلياس مباشرة وكلاهما عاصر الآخر والله أعلم
([5]) المقيت : الذي يُقَدر ويقضي لجميع خلقه (كيف يشاء ولمن شاء ومتى شاء بحكمته فقد أحاط بكل شيء علما ) نصيبا لمن تشفع شفاعة حسنة وكفلا لمن تشفع شفاعة سيئة
([6]) والشَّفاعَةُ: الوَساطَةُ في إيصالِ خَيْرٍ أوْ دَفْعِ شَرٍّ (من التحرير والتنوير)
([7]) وقد يكون تسمية محراب المسجد بسبب أن مكان الإمام هو أشرف مكان في المسجد ولكن المحراب يختلف عن المسجد أن المحراب خاص والمسجد عام ، وقد يكون المكان صعب الوصول إليه وهذا معنى مرتفع مثل الباب العالي مقر الحكومة العثمانية ...
([8]) ولذلك هي في البيوت و المساكن ، ولذلك سمي محراب المسجد بهذا الاسم لأن ذلك المكان لا يصلي فيه إلا رجل واحد .
([9]) قد تكون أخوة جنس أو دين أو دم والراجح أنها أخوة جنس ( ملائكة ) ودين ( الإسلام ) .
([10]) الخطاب : سؤال فيه استفسار أو طلب مع رجاء عن شيء ما حول أمر ذو أهمية قصوى
([11]) الخلط : تمازج وتداخل بين شيئين أو أكثر بحيث يصعب فصلهما عن بعضهما أو تمييز أحدهما عن الآخر
الخلطاء قد يكون من تمازج وتداخل الحلال والحرام عنده بحيث يصعب فصلهما عن بعضهما أو تمييز أحدهما عن الآخر أو من اختلط عليه الحلال والحرام في المتشابهات فلا يستطيع الحكم
الجامع الصغير وزيادته (ص: 551) " الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ..." ( صحيح )
([12]) قد تكون بين غنيين أو غني وفقير
([13]) أعلى درجات الظن المبني على التجربة و النتائج المتوقعة و هناك نوع من الظن المبني على الخبرة وهناك نوع من الظن مبني على الأحاسيس وهناك نوع من الظن مبني على تشابه الأقران والنظائر وهناك نوع من الظن مبني على الدجل والشعوذة و الكهانة .