محمد محمود إبراهيم عطية
Member
كشف الكَرْبِ بشرح حديث : " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ "
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " .
التخريج : انفرد بإخراجه البخاري ( 6502 ) .
هذا حديث قدسي جليل ؛ قَالَ الطُّوفِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّه وَالْوُصُول إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَرِيقِهِ ، إِذْ الْمُفْتَرَضَاتُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الْإِيمَان ، وَالظَّاهِرَة وَهِيَ الْإِسْلَام ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فِيهِمَا ، كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ جِبْرِيل ، وَالْإِحْسَان يَتَضَمَّنُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ مِنْ الزُّهْد وَالْإِخْلَاص وَالْمُرَاقَبَة وَغَيْرهَا ( [1] ) .
قَوْله : " مِنْ عَادَى لِي وَلِيًّا " المعاداة ضد الموالاة ، والولي ضد العدو، الْمُرَاد بِوَلِيِّ اللَّهِ ، الْعَالِم بِاَللَّهِ ، الْمُوَاظِب عَلَى طَاعَته ، الْمُخْلِص فِي عِبَادَته ؛ وهذه صفة المؤمن التقي ؛ ومعنى قَوْله : " عَادَى لِي وَلِيًّا " أَيْ : اِتَّخَذَهُ عَدُوًّا ، قَوْله : " فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ " أَيْ : أَعْلَمْته أنه محارب لي ؛ وفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ أَهْلَكَهُ ، فَغَايَة الْحَرْب الْهَلَاك ، وَاَللَّه لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى : فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ ؛ فَأَطْلَقَ الْحَرْبَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ ؛ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَ افِي جَانِبِ الْمُعَادَاةِ ثَبَتَ فِي جَانِب الْمُوَالَاةِ ، فَمَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَ اللَّه أَكْرَمَهُ اللَّهُ ؛ وَقَالَ الطُّوفِيُّ : لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى تَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ .ا.هـ . فأولياءُ الله تجبُ موالاتُهم ، وتَحرُمُ معاداتُهم ، كما أنَّ أعداءهُ تجبُ معاداتُهم ، وتحرم موالاتُهم ، قال تعالى : ] لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [[ الممتحنة : 1 ].
ثم ذكر تبارك وتعالى أسباب الولاية فقال : " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ " يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ ، وَيُسْتَفَادُ مِنْه ُأَنَّ أَدَاء الْفَرَائِض أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه ؛ لأن فِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ اِمْتِثَالُ الْأَمْرِ ، وَاحْتِرَامُالْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ ؛ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ ؛ قال ابن رجب - رحمه الله : لمَّا ذكر أنَّ معاداة أوليائه محاربةٌ له ، ذكر بعد ذلك وصفَ أوليائه الذين تحرُم معاداتُهُم ، وتجب موالاتُهم ، فذكر ما يتقرَّب به إليه ، وأصلُ الولاية : القربُ ، وأصلُ العداوة : البعدُ ، فأولياء الله هُمُ الذين يتقرَّبون إليه بما يقرِّبهم منه ، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه ، فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين : أحدهما : من تقرَّب إليه بأداء الفرائض ، ويشمل ذلك فعل الواجبات ، وتركَ المحرَّمات ؛ لأنَّ ذلك كُلَّه من فرائضِ اللهِ التي افترضها على عباده . والثاني : من تقرَّب إليه بعدَ الفرائضِ بالنوافل ، فظهر بذلك أنَّه لا طريق يُوصِلُ إلى التقرُّب إلى الله تعالى ، وولايته ، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله ، فمنِ ادَّعى ولايةَ الله ، والتقرُّب إليه ، ومحبَّته بغير هذه الطريق ، تبيَّن أنَّه كاذبٌ في دعواه .
قَوْله : " وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّب إِلَيَّ " التَّقَرُّب : طَلَبُ الْقُرْبِ ، قَوْله : " بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْته " الْمُرَاد بِالنَّوَافِلِ جَمِيع مَا يُنْدَب مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال ، والمعنى : إِنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِض وَدَامَ عَلَى إِتْيَان النَّوَافِل مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْرهمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَة : يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " مَا تَقْرَب ..إِلَخْ " أَنَّ النَّافِلَة لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَة ، لِأَنَّ النَّافِلَة إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ ، فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ ، وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْل ، وَأَدَامَ ذَلِكَ ، تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ.اِ.هـ.
قَوْله : " كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ " قيل : الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي ، وَلَايَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ ؛قال ابن رجب : فمتى امتلأ القلبُ بعظمةِ الله تعالى ، محا ذلك مِنَ القلب كلَّ ما سواه ، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه ، ولا إرادة إلاَّ لما يريدهُ منه مولاه ، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلاّ بذكره ، ولا يتحرَّك إلا بأمره ، فإنْ نطقَ نطق بالله ، وإنْ سمِعَ سمع به ، وإنْ نظرَ نظر به ، وإنْ بطشَ بطش به ، فهذا هو المرادُ بقوله : " كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " ؛ ومن أشار إلى غير هذا ، فإنَّما يُشير إلى الإلحاد مِنَ الحلول أو الاتِّحاد ، والله ورسولُه بريئان منه .ا.هـ .
وقيل : إنه عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، وَالتَّقْدِيرُ : كُنْتُ حَافِظَ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ ، وَحَافِظ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ ، وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ . ا.هـ .
وقَوْلُهُ : " وَلئِنْ سَأَلَنِي لأَعْطَيْنه " : أَيْ مَا سَأَلَ ؛ قَوْله : " وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" أي : مما يخاف ؛ فذكر السؤال الذي به حصول المطلوب ، والاستعاذة التي بها النجاة من المهروب ، وأخبر أنه سبحانه وتعالى يعطي هذا المتقرب إليه بالنوافل ما سأل ويعيذه مما استعاذ ؛ فهذا المحبوبَ المقرَّب ، له عند الله منْزلةٌ خاصة تقتضي أنَّه إذا سأل الله شيئًا ، أعطاه إياه ، وإنِ استعاذَ به من شيءٍ ، أعاذه منه ، وإن دعاه أجابه ، فيصير مجابَ الدعوة لكرامته على ربه U .
قَوْله : " وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ " أَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ ؛ قيل : هَذَا خِطَابٌ لَنَا بِمَا نَعْقِلُ ، وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ : " وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً " ؛ وقد عَبَّرَ ابن رجب - رحمه الله - عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْت حَتْمٌ مَقْضِيٌّ ، وَهُوَ مُفَارَقَة الرُّوح لِلْجَسَدِ ، وَلَا تَحْصُل غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيم جِدًّا كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوت فَقَالَ : كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة ، وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يُجَرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي ؛ وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ عُمَر سَأَلَهُ عَنْ الْمَوْت فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا ؛ فلما كان الموت بهذه الشِّدَّةِ ، والله تعالى قد حتَّمه على عباده كلِّهم ، ولابدَّ لهم منه ، وهو تعالى يكرهُ أذى المؤمن ومساءته ، سمَّى ذلك تردُّدًا في حقِّ المؤمن .ا.هـ ( [2] ) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معنى تردد الله في هذا الحديث ؟ فأجاب : هذا حديث شريف ، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء ، وقد ردَّ هذا الكلام طائفة ، وقالوا : إنَّ الله لا يوصف بالتردد ، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور ، والله أعلم بالعواقب ، وربما قال بعضهم : إنَّ الله يعامل معاملة المتردد .
والتحقيق أنَّ كلام رسوله حق ، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ، ولا أنصح للأمة منه ، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه ، فإذا كان كذلك ؛ كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبًا ، بل يجب تأديبه وتعزيره ، ويجب أن يصان كلام رسول الله e عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة ؛ ولكن المتردد منا - وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور - لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنْزلة ما يوصف به الواحد منا ؛ فإن الله ليس كمثله شيء ؛ لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ؛ ثم هذا باطل ، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب ، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد ، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ، ويكرهه لما فيه من المفسدة ، لا لجهل منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه ؛ كما قيل :
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه ، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب ، وفي الصحيح : " حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ " ( [3] ) ، وقال تعالى ] كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [ [ البقرة : 216 ] ؛ ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث ، فإنه قال : " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ " ؛ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق محبًا له ، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها ، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها ، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق ، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة ؛ بحيث يحب ما يحبه ، ويكره ما يكرهه محبوبه ، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه ، فلزم من هذا أن يكره الموت ؛ ليزداد من محاب محبوبه ، والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت ، فكل ما قضى به فهو يريده ، ولا بد منه ؛ فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه ، وهو مع ذلك كارهٌ لمساءة عبده ، وهي المساءة التي تحصل له بالموت ، فصار الموت مرادًا للحق من وجه ، مكروهًا له من وجه ، وهذا حقيقة التردد ، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه مكروهًا من وجه ، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين ، كما ترجح إرادة الموت ، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده ، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته .... إلى أن قال : والمقصود هنا : التنبيه على أنَّ الشيء المعين يكون محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه ، وأن هذا حقيقة التردد ، وكما أنَّ هذا في الأفعال ؛ فهو في الأشخاص ، والله أعلم .ا.هـ ( [4] ) .
ما يستفاد من الحديث :
1 - إثبات أن لله تعالى أولياء ، وبيان فضلهم .
2 - أن الله سبحانه وتعالى قدم الإعذار إلى كل من عادى وليًّا أنه قد آذنه بأنه محاربه ؛ ولا يدخل في ذلك ما تقتضيه الأحوال في بعض المرات من النزاع بين وليين لله تعالى في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق غامض ، فإن هذا قد وقع بين كثير من أولياء الله U .
3 - كرامة الأولياء على الله ، حيث كان الذي يعاديهم قد آذن الله بالحرب .
4 - تحريم معاداة أولياء الله وأنها من كبائر الذنوب ، لأن الله جعل ذلك إيذانا بالحرب .
5 - فيه الوعيد الشديد لمن آذى عبدًا من عباد الله الصادقين ، حيث توعده الله بقوله : " فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ " .
6 - وجوب معاداة أعداء الله وعدم محبتهم .
7 - أن الفريضة أحب إلى الله من النافلة ، لقوله : " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ" .
8 - الإشارة إلى أن أوامر الله U نوعان : فرائض ، ونوافل .
9 - تفاوت الأعمال في محبَّة الله إيَّاها .
10 - أن الأعمال تتفاضل هي بنفسها .
11 - أن النافلة إنما تقبل إذا أديت الفريضة ، لأنها لاتسمى نافلة إلا إذا قضيت الفريضة .
12 - فضل المداومة والاستمرار على النوافل ، لقوله : " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ" ، فـ ( لا يزال ) كلمة تدل على الاستمرارية .
13 - أنَّ ولايةَ الله U تحصل بأداء الفرائض وفعل النوافل ؛ فظهر بذلك بطلان دعوى أن هناك طريقًا إلى الولاية غير التقرب إلى الله تعالى بطاعاته التي شرعها .
14 - يدل على أن النوافل مما يتقرب بها إلى الله ، لا كما ينظر إليها بعض الناس اليوم أنه لا يأثم تاركها ، فنظروا إلى الإثم وعدمه ، وفاتهم أنها مما يقرب إلى الله .
15 - للنوافل فائدتان مذكورتان في الحديث: الأولى : أنها تقرب إلى الله في المنزلة ، ولهذاقال: " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ " ؛ الثانية : تورث محبة الله سبحانه للعبد ، لقوله : " حَتَّى أُحِبَّهُ " ؛ ولها فوائد أخرى جاءت في أحاديث أخر .
16 -إثبات المحبة لله U لقوله :" أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ " ، " حَتَّى أُحِبَّهُ " ، والمحبة صفة قائمة بذات الله U ومن ثمراتها الإحسان إلى المحبوب و ثوابه و قربه من الله U .
17 - فيه بيان كرم الله وفضله سبحانه حيث يعين المؤمن على العمل الصالح ثم يقبله منه ويحبه لأجله ، فله الفضل أولاً وآخرًا .
18 - الدلالة على ما ذهب إليه أهل السنة و الجماعة من أن الإيمان يزيد و ينقص ، لأن الأعمال من الإيمان ، فإذا كانت تتفاضل في محبة الله لها ، يلزم من هذا أن الإيمان يزيد وينقص بحسب تفاضلها .
19 - أن في محبة الله U تسديد العبد في سمعه وبصره ويده ورجله مُؤَيدًا من الله U .
20 - أنه كلما ازداد الإنسان تقربًا إلى الله بالأعمال الصالحة ، فإن ذلك أقرب إلى إجابة دعائه وإعاذته مما يستعيذ الله منه ؛قال ابن حجر - رحمه الله : فِي الْحَدِيث أَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَتَقَرَّبَ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يُرَدَّ دُعَاؤُهُ ، لِوُجُود ِهَذَا الْوَعْد الصَّادِق الْمُؤَكَّد بِالْقَسَمِ ([5]).
21 – وقال أيضا : وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَكُونَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ اللَّهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُضُوعِ لَهُ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ .
22 - يدل الحديث على أن من وقع في المعاصي واستمر فيها نقصت محبة الله له ، وهذا من شؤم المعصية .
23 - قوله " يَكْرَهُ الْمَوْتَ " يدل على أن الجزع من الموت وعدم محبته لا إثم فيه ، لأن الكلام في الحديث عن المؤمن .
24 - قوله " أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " يدل على شدة الموت وصعوبة نزوله ، ولهذا سماها الله : ( مساءة ) أي : يحصل له سوء فيه ؛ فنسأل الله أن يهوِّن علينا سكرات الموت .
هذا ؛ والعلم عند اَللَّه تعالى .
[1] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 345 .
[2] - انظر ( جامع العلوم ) حديث رقم ( 38 ) .
[3] - رواه مسلم ( 2822 ) عن أنس وأبي هريرة .
[4] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 18 / 129 : 135 ، باختصار .
[5] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 345 .
كشف الكَرْبِ بشرح حديث : " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ "
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " .
التخريج : انفرد بإخراجه البخاري ( 6502 ) .
هذا حديث قدسي جليل ؛ قَالَ الطُّوفِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّه وَالْوُصُول إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَرِيقِهِ ، إِذْ الْمُفْتَرَضَاتُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الْإِيمَان ، وَالظَّاهِرَة وَهِيَ الْإِسْلَام ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فِيهِمَا ، كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ جِبْرِيل ، وَالْإِحْسَان يَتَضَمَّنُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ مِنْ الزُّهْد وَالْإِخْلَاص وَالْمُرَاقَبَة وَغَيْرهَا ( [1] ) .
قَوْله : " مِنْ عَادَى لِي وَلِيًّا " المعاداة ضد الموالاة ، والولي ضد العدو، الْمُرَاد بِوَلِيِّ اللَّهِ ، الْعَالِم بِاَللَّهِ ، الْمُوَاظِب عَلَى طَاعَته ، الْمُخْلِص فِي عِبَادَته ؛ وهذه صفة المؤمن التقي ؛ ومعنى قَوْله : " عَادَى لِي وَلِيًّا " أَيْ : اِتَّخَذَهُ عَدُوًّا ، قَوْله : " فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ " أَيْ : أَعْلَمْته أنه محارب لي ؛ وفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ أَهْلَكَهُ ، فَغَايَة الْحَرْب الْهَلَاك ، وَاَللَّه لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى : فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ ؛ فَأَطْلَقَ الْحَرْبَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ ؛ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَ افِي جَانِبِ الْمُعَادَاةِ ثَبَتَ فِي جَانِب الْمُوَالَاةِ ، فَمَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَ اللَّه أَكْرَمَهُ اللَّهُ ؛ وَقَالَ الطُّوفِيُّ : لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى تَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ .ا.هـ . فأولياءُ الله تجبُ موالاتُهم ، وتَحرُمُ معاداتُهم ، كما أنَّ أعداءهُ تجبُ معاداتُهم ، وتحرم موالاتُهم ، قال تعالى : ] لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [[ الممتحنة : 1 ].
ثم ذكر تبارك وتعالى أسباب الولاية فقال : " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ " يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ ، وَيُسْتَفَادُ مِنْه ُأَنَّ أَدَاء الْفَرَائِض أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه ؛ لأن فِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ اِمْتِثَالُ الْأَمْرِ ، وَاحْتِرَامُالْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ ؛ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ ؛ قال ابن رجب - رحمه الله : لمَّا ذكر أنَّ معاداة أوليائه محاربةٌ له ، ذكر بعد ذلك وصفَ أوليائه الذين تحرُم معاداتُهُم ، وتجب موالاتُهم ، فذكر ما يتقرَّب به إليه ، وأصلُ الولاية : القربُ ، وأصلُ العداوة : البعدُ ، فأولياء الله هُمُ الذين يتقرَّبون إليه بما يقرِّبهم منه ، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه ، فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين : أحدهما : من تقرَّب إليه بأداء الفرائض ، ويشمل ذلك فعل الواجبات ، وتركَ المحرَّمات ؛ لأنَّ ذلك كُلَّه من فرائضِ اللهِ التي افترضها على عباده . والثاني : من تقرَّب إليه بعدَ الفرائضِ بالنوافل ، فظهر بذلك أنَّه لا طريق يُوصِلُ إلى التقرُّب إلى الله تعالى ، وولايته ، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله ، فمنِ ادَّعى ولايةَ الله ، والتقرُّب إليه ، ومحبَّته بغير هذه الطريق ، تبيَّن أنَّه كاذبٌ في دعواه .
قَوْله : " وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّب إِلَيَّ " التَّقَرُّب : طَلَبُ الْقُرْبِ ، قَوْله : " بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْته " الْمُرَاد بِالنَّوَافِلِ جَمِيع مَا يُنْدَب مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال ، والمعنى : إِنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِض وَدَامَ عَلَى إِتْيَان النَّوَافِل مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْرهمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَة : يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " مَا تَقْرَب ..إِلَخْ " أَنَّ النَّافِلَة لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَة ، لِأَنَّ النَّافِلَة إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ ، فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ ، وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْل ، وَأَدَامَ ذَلِكَ ، تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ.اِ.هـ.
قَوْله : " كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ " قيل : الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي ، وَلَايَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ ؛قال ابن رجب : فمتى امتلأ القلبُ بعظمةِ الله تعالى ، محا ذلك مِنَ القلب كلَّ ما سواه ، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه ، ولا إرادة إلاَّ لما يريدهُ منه مولاه ، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلاّ بذكره ، ولا يتحرَّك إلا بأمره ، فإنْ نطقَ نطق بالله ، وإنْ سمِعَ سمع به ، وإنْ نظرَ نظر به ، وإنْ بطشَ بطش به ، فهذا هو المرادُ بقوله : " كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " ؛ ومن أشار إلى غير هذا ، فإنَّما يُشير إلى الإلحاد مِنَ الحلول أو الاتِّحاد ، والله ورسولُه بريئان منه .ا.هـ .
وقيل : إنه عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، وَالتَّقْدِيرُ : كُنْتُ حَافِظَ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ ، وَحَافِظ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ ، وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ . ا.هـ .
وقَوْلُهُ : " وَلئِنْ سَأَلَنِي لأَعْطَيْنه " : أَيْ مَا سَأَلَ ؛ قَوْله : " وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" أي : مما يخاف ؛ فذكر السؤال الذي به حصول المطلوب ، والاستعاذة التي بها النجاة من المهروب ، وأخبر أنه سبحانه وتعالى يعطي هذا المتقرب إليه بالنوافل ما سأل ويعيذه مما استعاذ ؛ فهذا المحبوبَ المقرَّب ، له عند الله منْزلةٌ خاصة تقتضي أنَّه إذا سأل الله شيئًا ، أعطاه إياه ، وإنِ استعاذَ به من شيءٍ ، أعاذه منه ، وإن دعاه أجابه ، فيصير مجابَ الدعوة لكرامته على ربه U .
قَوْله : " وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ " أَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ ؛ قيل : هَذَا خِطَابٌ لَنَا بِمَا نَعْقِلُ ، وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ : " وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً " ؛ وقد عَبَّرَ ابن رجب - رحمه الله - عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْت حَتْمٌ مَقْضِيٌّ ، وَهُوَ مُفَارَقَة الرُّوح لِلْجَسَدِ ، وَلَا تَحْصُل غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيم جِدًّا كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوت فَقَالَ : كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة ، وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يُجَرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي ؛ وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ عُمَر سَأَلَهُ عَنْ الْمَوْت فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا ؛ فلما كان الموت بهذه الشِّدَّةِ ، والله تعالى قد حتَّمه على عباده كلِّهم ، ولابدَّ لهم منه ، وهو تعالى يكرهُ أذى المؤمن ومساءته ، سمَّى ذلك تردُّدًا في حقِّ المؤمن .ا.هـ ( [2] ) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معنى تردد الله في هذا الحديث ؟ فأجاب : هذا حديث شريف ، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء ، وقد ردَّ هذا الكلام طائفة ، وقالوا : إنَّ الله لا يوصف بالتردد ، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور ، والله أعلم بالعواقب ، وربما قال بعضهم : إنَّ الله يعامل معاملة المتردد .
والتحقيق أنَّ كلام رسوله حق ، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ، ولا أنصح للأمة منه ، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه ، فإذا كان كذلك ؛ كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبًا ، بل يجب تأديبه وتعزيره ، ويجب أن يصان كلام رسول الله e عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة ؛ ولكن المتردد منا - وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور - لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنْزلة ما يوصف به الواحد منا ؛ فإن الله ليس كمثله شيء ؛ لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ؛ ثم هذا باطل ، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب ، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد ، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ، ويكرهه لما فيه من المفسدة ، لا لجهل منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه ؛ كما قيل :
الشَّيْبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أَنْ أفَارِقَه ... أعْجَبْ لِشَيْءٍ عَلى البغضاءِ محبوبُ
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه ، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب ، وفي الصحيح : " حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ " ( [3] ) ، وقال تعالى ] كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [ [ البقرة : 216 ] ؛ ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث ، فإنه قال : " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ " ؛ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق محبًا له ، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها ، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها ، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق ، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة ؛ بحيث يحب ما يحبه ، ويكره ما يكرهه محبوبه ، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه ، فلزم من هذا أن يكره الموت ؛ ليزداد من محاب محبوبه ، والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت ، فكل ما قضى به فهو يريده ، ولا بد منه ؛ فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه ، وهو مع ذلك كارهٌ لمساءة عبده ، وهي المساءة التي تحصل له بالموت ، فصار الموت مرادًا للحق من وجه ، مكروهًا له من وجه ، وهذا حقيقة التردد ، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه مكروهًا من وجه ، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين ، كما ترجح إرادة الموت ، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده ، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته .... إلى أن قال : والمقصود هنا : التنبيه على أنَّ الشيء المعين يكون محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه ، وأن هذا حقيقة التردد ، وكما أنَّ هذا في الأفعال ؛ فهو في الأشخاص ، والله أعلم .ا.هـ ( [4] ) .
ما يستفاد من الحديث :
1 - إثبات أن لله تعالى أولياء ، وبيان فضلهم .
2 - أن الله سبحانه وتعالى قدم الإعذار إلى كل من عادى وليًّا أنه قد آذنه بأنه محاربه ؛ ولا يدخل في ذلك ما تقتضيه الأحوال في بعض المرات من النزاع بين وليين لله تعالى في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق غامض ، فإن هذا قد وقع بين كثير من أولياء الله U .
3 - كرامة الأولياء على الله ، حيث كان الذي يعاديهم قد آذن الله بالحرب .
4 - تحريم معاداة أولياء الله وأنها من كبائر الذنوب ، لأن الله جعل ذلك إيذانا بالحرب .
5 - فيه الوعيد الشديد لمن آذى عبدًا من عباد الله الصادقين ، حيث توعده الله بقوله : " فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ " .
6 - وجوب معاداة أعداء الله وعدم محبتهم .
7 - أن الفريضة أحب إلى الله من النافلة ، لقوله : " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ" .
8 - الإشارة إلى أن أوامر الله U نوعان : فرائض ، ونوافل .
9 - تفاوت الأعمال في محبَّة الله إيَّاها .
10 - أن الأعمال تتفاضل هي بنفسها .
11 - أن النافلة إنما تقبل إذا أديت الفريضة ، لأنها لاتسمى نافلة إلا إذا قضيت الفريضة .
12 - فضل المداومة والاستمرار على النوافل ، لقوله : " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ" ، فـ ( لا يزال ) كلمة تدل على الاستمرارية .
13 - أنَّ ولايةَ الله U تحصل بأداء الفرائض وفعل النوافل ؛ فظهر بذلك بطلان دعوى أن هناك طريقًا إلى الولاية غير التقرب إلى الله تعالى بطاعاته التي شرعها .
14 - يدل على أن النوافل مما يتقرب بها إلى الله ، لا كما ينظر إليها بعض الناس اليوم أنه لا يأثم تاركها ، فنظروا إلى الإثم وعدمه ، وفاتهم أنها مما يقرب إلى الله .
15 - للنوافل فائدتان مذكورتان في الحديث: الأولى : أنها تقرب إلى الله في المنزلة ، ولهذاقال: " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ " ؛ الثانية : تورث محبة الله سبحانه للعبد ، لقوله : " حَتَّى أُحِبَّهُ " ؛ ولها فوائد أخرى جاءت في أحاديث أخر .
16 -إثبات المحبة لله U لقوله :" أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ " ، " حَتَّى أُحِبَّهُ " ، والمحبة صفة قائمة بذات الله U ومن ثمراتها الإحسان إلى المحبوب و ثوابه و قربه من الله U .
17 - فيه بيان كرم الله وفضله سبحانه حيث يعين المؤمن على العمل الصالح ثم يقبله منه ويحبه لأجله ، فله الفضل أولاً وآخرًا .
18 - الدلالة على ما ذهب إليه أهل السنة و الجماعة من أن الإيمان يزيد و ينقص ، لأن الأعمال من الإيمان ، فإذا كانت تتفاضل في محبة الله لها ، يلزم من هذا أن الإيمان يزيد وينقص بحسب تفاضلها .
19 - أن في محبة الله U تسديد العبد في سمعه وبصره ويده ورجله مُؤَيدًا من الله U .
20 - أنه كلما ازداد الإنسان تقربًا إلى الله بالأعمال الصالحة ، فإن ذلك أقرب إلى إجابة دعائه وإعاذته مما يستعيذ الله منه ؛قال ابن حجر - رحمه الله : فِي الْحَدِيث أَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَتَقَرَّبَ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يُرَدَّ دُعَاؤُهُ ، لِوُجُود ِهَذَا الْوَعْد الصَّادِق الْمُؤَكَّد بِالْقَسَمِ ([5]).
21 – وقال أيضا : وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَكُونَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ اللَّهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُضُوعِ لَهُ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ .
22 - يدل الحديث على أن من وقع في المعاصي واستمر فيها نقصت محبة الله له ، وهذا من شؤم المعصية .
23 - قوله " يَكْرَهُ الْمَوْتَ " يدل على أن الجزع من الموت وعدم محبته لا إثم فيه ، لأن الكلام في الحديث عن المؤمن .
24 - قوله " أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " يدل على شدة الموت وصعوبة نزوله ، ولهذا سماها الله : ( مساءة ) أي : يحصل له سوء فيه ؛ فنسأل الله أن يهوِّن علينا سكرات الموت .
هذا ؛ والعلم عند اَللَّه تعالى .
[1] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 345 .
[2] - انظر ( جامع العلوم ) حديث رقم ( 38 ) .
[3] - رواه مسلم ( 2822 ) عن أنس وأبي هريرة .
[4] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 18 / 129 : 135 ، باختصار .
[5] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 345 .