فعلًا؛ الكتاب جيد جدًّا، وممتع، والكتاب عندي، وهذا مِثَالٌ منه (
وهي خطة كتابه ) ص(
23):
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد،
من عجائب ما جاء في كتاب الله تعالى كثرة الفروق اللغوية عندما تتكرر القصة أو يتكرر الموضوع في مواضع شتى. فترى فيها شيئاً من الاختلاف إما بالألفاظ أو بالأسلوب أو بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو بسط أو اختصار مما يثير التساؤلات في قلب قارئه والناهل من كنوزه والمتذوق لحلاوته.
وقد ألف مجموعة من العلماء في القديم والحديث في الفروق اللغوية في كتاب الله تعالى والحِكَم الجليلة من وراء هذا الاختلاف والتشابه.
ولكن ربما يتبادر إلى القلب: كيف يستطيع المتدبر أن يحصل – بإذن الله تعالى – على المِلاك والقوام والعمدة في استنباط الحِكَم والفوائد من هذه الفروق اللغوية في الآيات المتشابهة؟
فاستعان مؤلف الكتاب بالله تعالى فجمع بحمد الله وفضله جملة من الطرق والمفاتيح لتحقيق هذا المراد مع ضرب بعض الأمثلة.
ولا حرج في ذلك فقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يكثر من كشف معاني القرآن بوسائل عدة، لذا كان علي رضي الله عنه يثني على ابن عباس ويقول: ((
كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق)). وهذا النهج أطبق عليه السلف والخلف بضوابط التفسير الإشاري المذكورة في مؤلفات علوم القرآن. وهذه الإشارات مما ضمنته العرب في أساليبها وكلامها، ويدخل فيما روي عن ابن عباس أنه قال: ((
التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله)) (1).
من طرق تحصيل الملاك لاستنباط حكم وفوائد الفروق اللغوية في الآيات المتشابهة كما وردت في كتاب ((المِلاكُ لمعرفة عجائب وأسرار الآيات المتشابهة)) هي معرفة ما يلي:
1-معاني المفردات.
2-موضوع السورة.
3-المخاطب.
4-المتكلم عنه.
5-المتكلم.
6-المناسبة المعنوية للسياق.
7-ما سبقها من الآيات.
8-ما بعدها من الآيات.
9- الحوادث وأسباب النزول.
1- معاني المفردات:
قبل البحث عن سر الاختلافات بين الآيات المتشابهة والحكمة منها لا بد من معرفة معاني المفردات المختلفة التي وردت فيها، حينئذ يسهل التوصل إلى الحكمة والبلاغة بإذن الله تعالى.
وإليك بعض الأمثلة:
أ-العَام والسَّنة:
قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةً إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً) (العنكبوت 14 ) ففرق المولى بين السنة والعام. فذكر لبثه فيهم بـ (السنة) ومفارقته لهم بـ (العام)، فلم يقل سبحانه (إلا خمسين سنه). وذلك لما يلي:
أولا: السنة في اللغة كثيرا ما تستعمل في الحول الذي يكون فيه الشدة والجدب(2)، وانقطاع المطر أو قلته. ((لذا يعبر عن الجدب بالسنة))(3). مما يدل عليه قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَرُونَ)(الأعراف(130)) أي أصبناهم بالشدة وانقطاع المطر وقلة الثمار والنبات.
فالسَّنة تستعمل في الأحوال الشديدة المتعبة المثقلة والتي قد يصاحبها كثير من المصائب. قال تعالى عن يوم القيامة:( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(المعارج (4)) لكثرة المصائب والأهوال التي فيه إذ (( بين المشقة فيه بأنه قال (سَنَةٍ) ولم يقل عاماً، ,وبَيَّنّ أنه يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف))(4).
وقال سبحانه عن بني إسرائيل والأرض المقدسة: ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الفَاسِقِينَ)(المائدة26) ،أي يتيهون في سيناء مع قلة المطر والنبات وكثرة المصائب، ((ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وأن الله رماهم بالاختلاف..فتفرقت منازلهم..وينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع))(5)، ((فلا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين))(6).
وقال عن يوسف عليه السلام: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(يوسف 42) لما قاساه من ألم الظلم لسجنه. وعن السنوات التي فيها عملهم الدؤوب في الزراعة والحرث وعدم الاستمتاع في المأكل قال لهم (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأْبًا)(يوسف47) ((دائبين مجتهدين))(7). (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ)(يوسف 47)، ((أي دبروا أكلكم في هذه السنين الخصبة وليكن قليلاً)) (8).
ثانياً: أما العام فيستعمل في الأحوال التي يعم ((فيها الرخاء والخصب))(9). مما يدل عليه قول الله تعالى في العام الذي فيه الغوث في زمن يوسف عليه السلام: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(يوسف49). ((إشارة إلى أنه يكون فيه من السعة بعموم الري وظهور الخصب وغزير البركة أمر عظيم))(10). ((وفيه تكثر الأمطار والسيول وتكثر الغلات وتزيد على أقواتهم حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم))(11).
وفي الحول الذي يشعر العرب فيه بالأمان يحلون الشهر الحرام فيجعلونه شهر حلال لا شهر حرام، ثم يحرمونه في العام الذي بعده قال الله تعالى (يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا)(التوبة37). ((عبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان، بل بمجرد التشهي))(12).
رابعًا:أما الآية المذكورة فقد لبث نوح عليه السلام في قومه يدعوهم ليل نهار ((لا يني بدعوتهم ولا يفتر في نصحهم يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا فلم يرشدوا ولا اهتدوا بل استمروا على كفرهم وطغيانهم))(13). واستعمل كل الوسائل بالرغم من السخرية والاستهزاء والتهديد من قبل قومه، فكانت سنوات متعبة مرهقة مثقلة بالهموم والأكدار والأحزان بسبب جواب قومه له وكفرهم وسخريتهم فقال تعالى (ألفَ سَنَةٍ) ((عبّرَ بلفظ ((سنة)) ذمَّا لأيام الكفر))(14) ((لما قاساه))(15).
((فلما كان عمر نوح عليه السلام مشتملاً على ما قاساه من أذى قومه وشدائد تعذيبهم له وصبره عليهم حسن تفسير عمره بالسنة، وأما الخمسون الناقصة من الألف فإنه لم يكن فيها شيء من الأذى والشدائد ففسر عددها بالعام))(16). إذ لما أهلكهم الله تعالى عمّ الإيمان والخير على الأرض فقال (إلا خمسين عاما) . ((إشارة إلى زمان حياته عليه السلام بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً بإيمان المؤمنين وخصب الأرض))(17). ((فاستراح منهم وبقي في زمن حسن))(18) مما بقي له من أيام حياته.
ثم لم يقل سبحانه (تسعمائة وخمسين) لأن ذِكر الأَلْفِ ((أفخر وأفضى إلى المقصود)) إذ في ذكر الأَلْفِ عرض (( لما ابتلي به نوح من أمته وما كابده من طول المصابرة ليكون ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من أمته وتثبيتاً له، فإن ذكر رأسِ العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض))(19). ألا ترى إلى العروض على السلع إذا أرادت أن تغري بثمنها تنقص عن المئة ديناراً أو نصفاً، وكذا من الألف فيقال بتسعة وتسعين ديناراً أو تسعمائة وتسعة وتسعين ديناراً لأن الألف يستطيله السامع فيشعر بأنه مكلف. بينما إذا أعلنت الشركات عن أرباحها تجبر الكسر فتقول ما يقارب المليار أو ربع المليار وحقيقة الربح دونه ، والله أعلم.
نقلا من كتاب( المِلاك لمعرفة عجائب وأسرار الآيات المتشابهة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي:
(1)رواه ابن جرير(1/26) من طريق مؤمل ابن اسماعيل عن سفيان عن أبي الزناد عن ابن عباس. وهذا سند ضعيف حيث لم يسمع أبو الزناد من ابن عباس ومؤمل بن اسماعيل سيء الحفظ. ورواه من طريق الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانيء عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط بمرة، أبو صالح باذام ضعيف لاسيما في رواية التفسير ولم يسمع من ابن عباس، وإذا روى عن الكلبي فليس بشيء. والكلبي هو محمد بن السائب متهم بالكذب.
(2) الراغب في المفردات (354).
(3) الراغب في المفردات (354).
(4) نظم الدرر للبقاعي (8/146) بتصرف.
(5) المحرر الوجيز (531).
(6) تفسير السعدي (277).
(7) البقاعي (4/52).
(8) السعدي (533).
(9) المفردات للراغب (354).
(10)البقاعي(4/53).
(11)السعدي (533).
(12)نظم الدرر (3/309).
(13)السعدي (865).
(14)نظم الدرر للبقاعي (5/543).
(15)حاشية الشهاب (7/338). روح المعاني (20/143).
(16)الروض الريان (2/306).
(17)نظم الدرر (5/543).
(18)الدر المصون (9/13)، الجمل (6/62).
(19)المثل السائر لابن الأثير (2/28). فتح الرحمن لزكريا الأنصاري (436). راجع الروض الريان (2/306-307).
للأمانة منقول من:
http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?t=22072