باب قول الله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
باب قول الله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم مُعَبَّد لغير الله كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب.
وعن ابن عباس في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لَتطيعانني أو لأجعلن له قرني أيّل، فيخرج من بطنها فيشقها، ولأفعلن ولأفعلن -يخوفهما-، سمِّياه عبد الحارث. فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا قال: أشفقا ألا يكون إنسانا وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
--------------------------------------------------------------------------------
بســـم اللـــه الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد..
فهذا الباب ترجمه المصنف الإمام -رحمه الله تعالى- بقوله: باب قول الله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
مناسبة هذا الباب للأبواب قبله: أنه وتلك الأبواب في معنى واحد، وذلك المعنى أن شكر النعمة لله -جل وعلا- فيما أنعم به يقتضي أن تنسب إليه -جل وعلا-، وأن يُحمد عليها، ويثنى عليه بها، وأن تستعمل في مراضيه -جل وعلا-، وأن يتحدث بنعمة الله.
فالذي ينسب النعم إلى نفسه هذا لم يحقق التوحيد، فإنه جمع بين ترك تعظيم الله -جل وعلا- وبين ادعاء شيء ليس له، كذلك الذي يعتقد في غيره أنه هو المنعم عليه كقول القائل: لولا فلان لم يكن كذا، أو نحو تلك العبارات التي تدخل في قوله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي قوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا هذه وأمثالها راجعة إلى عدم شكر النعمة.
ومن شكر النعم أن الله -جل وعلا- إذا أنعم على عبد بولد، وجعله سليما معافى، ورزقه بتلك النعمة التي هي نعمة الولد، أن يشكر الله عليها.
ومن عدم شكر النعمة تلك ونسبتها إلى غير الله أن يُعَبِّد الولد لغير الله -جل وعلا-، فإن هذا مضاد للاعتراف بأن المنعم بذلك الولد هو الله -جل جلاله-، وقد يصل ذلك إلى حد الشرك الأكبر إذا عَبَّد الولد لولي أو لعبد صالح، وهو يعني حقيقة العبودية، التي هي أن هذا عبد لذاك؛ لأن ذاك إله، كمن يعبد لبعض المشايخ، فيقول: عبد السيد، ويعنون به السيد البدوي، ويقولون: عبد زينب، وعبد علي، وعبد عمرو، ونحو ذلك من الأسماء التي فيها اعتقادات، فمن عَبَّد لغير الله -جل وعلا- فإن هذا ينافي شكر النعمة.
ولهذا أتبع الشيخ - رحمه الله - هذا الباب لأبواب قبله؛ لما يشترك معها في هذا المعنى، وأن الواجب على العبد أن يحقق التوحيد، وأن لا ينسب النعم لغير الله -جل وعلا-، فإن وقعت منه ذلك فواجب عليه أن يبادر بالتوبة، وألا يقيم على ذلك.
قال: باب قول الله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا الضمير هنا يرجع إلى آدم وحواء، والذي عليه عامة السلف أن القصة في آدم وحواء، حتى قال الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله - رحمه الله - قال: إن نسبة ذلك إلى غير آدم وحواء هو من التفاسير المبتدعة، والذي يعرفه السلف أن الضمير يرجع إلى آدم وحواء، وسياق الآية لا يقتضي غير ذلك إلا بأوجه من التكلف.
ولهذا الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- اعتمد هذا الذي عليه عامة السلف، ففسر هذه الآية بأن المراد بها آدم وحواء، فَلَمَّا آتَاهُمَا يعني آتى الله آدم وحواء صالحا.
وقوله: صالحا يعني من جهة الخلقة؛ لأنه كان يأتيهما ولد فيموت، أو يكون معيبا فيموت، فالله -جل وعلا- رزقهما هذا الولد الصالح، السليم في خلقته، السليم في بنيته، وكذلك هو صالح لهما من جهة نفعهما.
قال -جل وعلا-: جَعَلَا لَهُ "جعلا " يعني آدم وحواء، "له" يعني لله -جل وعلا- شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا وكلمة "شركاء " جمع الشريك، والشريك في اللغة: هو المقصود بهذه الآية، يعني هذه الآية فيها لفظة "شركاء"، والمقصود بها معنى الشركة في اللغة، ومعنى الشركة في اللغة: اشتراك اثنين في شيء، فجعلا لله -جل وعلا- شركاء فيما آتاهما، حيث سميا ذلك الولد عبد الحارث، والحارث هو إبليس.
ذلك أن إبليس -كما سمعتم بالقصة- هو الذي قال: إن لم تسمياه عبد الحارث لأفعلن ولأفعلن، ولأجعلن له قرني أيّل، وهو ذكر الوعل، وفي هذا تهديد بأن يشق بطن الأم فتموت، ويموت أيضا الولد.
فلما رأت حواء ذلك، وأنها قد مات لها عدة بطون، فأطاعت الشيطان في ذلك، فصارت الشركة شركة في الطاعة، وآدم وحواء -عليهما السلام- قد أطاعا الشيطان من قبل حيث أمرهما بأن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله -جل وعلا- عنها.
فوقوع طاعة الشيطان من آدم وحواء -عليهما السلام- وقوع ذلك منهما لم يكن هذه هي أول مرة، وإنما وقع العصيان قبل ذلك، كما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: خدعهما مرتين وهذا هو المعروف عند السلف، فيكون إذن قوله: شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا من جهة التشريك في الطاعة.
ومعلوم أن كل عاص مطيع للشيطان، وكل معصية لا تصدر من العبد إلا وثَم نوع تشريك حصل في الطاعة؛ لأنه إما أن يطيع هواه، وإما أن يطيع الشيطان.
ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره من المحققين: إنه ما من معصية يعصي بها العبد ربه إلا وسببها طاعة الشيطان، أو طاعة الهوى، وذلك نوع تشريك، وهذا هو الذي حصل من آدم وحواء - عليهما السلام -، فهذا لا يقتضي نقصا في مقامهما، ولا يقتضي شركا بالله -جل وعلا-، وإنما هو نوع تشريك في الطاعة.
والمعاصي جائزة -يعني المعاصي الصغار- جائزة على الأنبياء كما هو معلوم عند أهل العلم، فإن آدم نبي مكلم، وصغار الذنوب جائزة على الأنبياء، ولا تقدح في كمالهم؛ لأنهم لا يستقيمون عليها، بل يسرعون وينيبون إلى الله -جل وعلا-، ويكون حالهم بعدما وقع منهم ذاك أعظم من حالهم قبل أن يقع منهم ذلك؛ لأنه يكون لهم مقامات إيمانية، واعتراف في العبودية أعظم، وخضوع بين يدي الله -جل وعلا- أعظم، ومعرفة بتحقيق ما يجب لله -جل وعلا- وما يستحب أعظم.
إذن هذه القصة -كما ذكرنا- صحيحة، وآثار السلف الكثيرة تدل عليها، والسياق أيضا -سياق الآيات في آخر سورة الأعراف- يدل عليها.
والإشكال الذي أورده بعض أهل التفسير من المتأخرين في أن آدم وحواء جعلا لله شركاء، هذا نص الآية، ولا يمنع بأن التشريك هنا -تشريك كما قلنا فيما يدل عليه المعنى اللغوي- ليس شركا أصغر، وليس -وحاشاهم- شركا أعظم من ذلك، وإنما هو تشريك في الطاعة، كما قال -جل وعلا-: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وكما قال أيضا في آية أخرى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ .
فكل من جعل هواه متَّبعا فقد جعله مطاعا، وهذا نوع تأليه، لكن لا يقال: عبد غير الله، أو ألَّه غير الله، أو أشرك بالله -جل وعلا-. لكن هو نوع تشريك، فكل طاعة للشيطان أو للهوى فيها هذا النوع من التشريك، إذ الواجب على العبد أن يعظم الله -جل وعلا-، وألا يطيع إلا أمره -جل وعلا- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فإذن ظاهر أن هذه القصة لا تقتضي نقصا في مقام آدم -عليه السلام-، ولا في مقام حواء، بل هو ذنب من الذنوب تابا منه كما حصل لهما أول مرة في الأكل من الشجرة، بل إن أكلهما من الشجرة ومخالفة أمر الله -جل وعلا- أعظم من هذا الذي حصل منهما هنا، وهو تسمية الولد عبد الحارث.
وذلك أن الخطاب الأول كان من الله -جل وعلا- لآدم مباشرة، خاطبه الله -جل وعلا- ونهاه عن أكل هذه الشجرة، وهذا خطاب متوجه إلى آدم بنفسه، وأما هذه التسمية فإنه لم ينه عنها مباشرة، وإنما يفهم النهي عنها من وجوب حق الله -جل وعلا-، فذاك المقام زاد على هذا المقام من جهة خطاب الله -جل وعلا- المباشر لآدم، وهذا أمر معروف عند أهل العلم.
ولهذا فسر قتادة كلمة "شركاء" بقوله - كما نقل الشيخ - حيث قال: وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته وهذا هو الصحيح في تفسير الآية.
قال الإمام: قال ابن حزم: "اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب".
قول ابن حزم: "اتفقوا" يعني أجمعوا، يعني أجمع أهل العلم -فيما علمه هو- أن التعبيد لغير الله محرم؛ لأن فيه إضافة النعم لغير الله، وفيه أيضا إساءة أدب مع الربوبية والإلهية، فإن تعبيد الناس لغير الله -جل وعلا- هذا غلط من جهة المعنى.
وأيضا فيه اهتضام -أو نوع اهتضام- لمقام الربوبية؛ فلذلك حُرِّم في هذه الشريعة هذه التسمية، بل وفي شرائع الأنبياء جميعا، فاتفق أهل العلم على ذلك، وأن كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وعبد علي، وغير ذلك من الأسماء؛ فإن هذا محرم ولا يجوز، وما أشبه ذلك.
قال: "حاشا عبد المطلب"، قوله: "حاشا عبد المطلب" يعني لم يجمعوا عليه؛ فإن من أهل العلم من قال: تكره التسمية بعبد المطلب ولا تحرم؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال في غزوة حنين: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وقالوا: جاء في أسماء الصحابة من اسمه عبد المطلب؛ ولهذا قالوا: لا يحرم.
وهذا القول ليس بصحيح في أن عبد المطلب تكره التسمية به ولا تحرم، وما استدلوا به ليس بوجيه؛ وذلك أن قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب هذا من جهة الإخبار، والإخبار ليس فيه تعبير مباشر لإضافة ذلك المخلوق إلى غير خالقه، وإنما هو إخبار، وباب الإخبار أوسع من باب الابتداء كما هو معلوم.
وأما تسمية بعض الصحابة بعبد المطلب، فالمحققون من الرواة يقولون: إن من سمي بعبد المطلب صحة اسمه المطلب بدون التعبيد، ولكن نقل بعبد المطلب؛ لأنه شاعت التسمية بعبد المطلب دون المطلب، فوقع خطأ في ذلك، وبحث هذه المسائل يطول، محله كتب الحديث، وكتب الرجال، فنمر عن ذلك.
وقال بعده: "وعن ابن عباس في معنى الآية قال: لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما.. إلى آخر القصة، قال: فذلك قوله جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قال: رواه ابن أبي حاتم، وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته .
وهذا دليل على التفريق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة، الشرك في العبادة كفر أكبر مخرج من الملة، أما الشرك في الطاعة فله درجات: يبدأ من المعصية وهي المحرم، وينتهي بالشرك الأكبر.
فالشرك في الطاعة درجاته كثيرة، ليس درجة واحدة، فيحصل شرك في الطاعة فتكون معصية، ويحصل شرك في الطاعة فيكون كبيرة، ويحصل شرك في الطاعة فيكون كفرا أكبر، ونحو ذلك.
أما الشرك في العبادة فهو كفر أكبر بالله -جل جلاله-؛ ولهذا فرق أهل العلم بين شرك الطاعة وشرك العبادة، مع أن العبادة مستلزمة للطاعة، والطاعة مستلزمة أيضا للعبادة، لكن ليس في كل درجاتها.
قال: وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا يعني في الآية قبلها لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قال: أشفقا ألا يكون إنسانا، يعني خافا أن يكون له -كما قال الشيطان- له قرنا أيّل، أو خلقته مختلفة، أو يخرج حيوانا، أو قردا، أو نحو ذلك، فقالا: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا يعني ولدا صالحا سليما من الآفات، سليما من الخلقة المشينة، فوعدا بأن يكونا من الشاكرين.
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا عبّدا ذلك للحارث؛ خوفا من أن يكون الشيطان يتسلط عليه بالموت أو الإهلاك، أخذتهما شفقة الوالد على الولد، فكان ذلك خلاف شكر تلك النعمة؛ لأن من شكر نعمة الولد أن يعبَّد الولد لله الذي أنعم به وأعطاه وتفضل به. نعم.
كتاب التوحيد شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
http://www.taimiah.org/