قل "تأويل" ولا تقل "تفسير"

إنضم
24/05/2006
المشاركات
128
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
مصر
الموقع الالكتروني
www.amrallah.com
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير – تأويل – تدبر
" إقرأ باسم ربك الذي خلق "
" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "
" كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب "
" ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر "
" ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا "
" كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير "
" الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني ... "
" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات "
" ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل ........ "
" بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله "
" ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا "
" سأنبأك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا "
" فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا "
" إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا "
" وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا "
من الأقوال الشائعة والمنتشرة بين المسلمين قولهم – وقبولهم – أن كتاب الله عزوجل يحتاج إلى تفسير بل إننا رأينا بالفعل كتبا كثيرة تحمل هذا الاسم مثل تفسير القرآن العظيم أو التفسير الكبير أو تفسير فلان أو علان , ولكن هل هذا القول صحيح إبتداءا أم أنه مردود بنص كتاب الله عزوجل ؟
من المفارقات أن الله عزوجل ينفي عن كتابه احتياجه إلى تفسير وأنه مبين في ذاته مبيّن لغيره وعلى الرغم من ذلك يصر الناس على أنه مبهم في حاجة إلى تفسير على الرغم من أن الله عزوجل يقول أن كتابه سهل يسير في حاجة إلى تدبر وتأويل وليس إلى تفسير .
قد يظن القارئ أن الفارق بين التفسير والتأويل ليس كبيرا وذلك للخلط الأصولي بين اللفظين وللاستعمال الضبابي لكل منهما حسب منظور المفسر والذي بعد تماما عن الأصل اللغوي لأي منهما , وسيلاحظ القارئ من خلال هذا البحث الصغير أن الأصوليين والمفسرين تركوا المعنى اللغوي لكلتا اللفظتين " التفسير والتأويل " ثم أخذوا يجتهدون في وضع معنى أصولي لهما , على الرغم من أن اللغة أغنتهم عن هذا العنت والمشقة . ونبدأ بتعريف كل منهما تعريفا بسيطا يوضح للقارئ الفارق بينهما ولم أنه من إساءة الأدب مع الله عزوجل القول بأن كتابه يحتاج إلى تفسير:
في بادئ الأمر يتفق معي القارئ في كونه مسلما بالآيات التي ذكرتها في أعلى الصفحة , فإذا سلّم القارئ – وهو حتما مسلم بها – ننتقل إلى التعريف :
ونبدأ بتعريف التفسير – والتعريفات الواردة في هذا البحث كلها من مقاييس اللغة للإمام ابن فارس رحمه الله من معجمه الفريد " مقاييس اللغة " والذي تميز بإيراده الأصول المشتركة التي تُرد إليه المعاني المحتلفة للمفردة والتي قد تبدو أحيانا متباينة متباعدة تمام التباعد - , فيقول ابن فارس – عليه من الله الرحمة - :
الفاء والسين والراء كلمة واحدة تدلُّ على بيانِ شيءٍ وإيضاحِه. من ذلك الفَسْرُ، يقال: فَسَرْتُ الشَّيءَ وفسَّرتُه. اهـ
إذا فأصل التفسير هو بيان الشيء وإيضاحه وشبيه به " سفر " فهو يدل على الانكشاف والجلاء , واستعمال التفسير مع أي نص مؤذن بالقول أن هذا النص مبهم غير واضح ! وإلا لما اضطر المتعامل معه إلى القول بالتفسير, إذا لو كان واضحا لما فُسّر . وهنا نسأل السؤال المنطقي طرحه عند هذه النقطة : هل كتاب الله مبهم غير واضح يحتاج إلى بشر يوضحه؟
الإجابة القرآنية والتي لا علاقة لها بالتحرج أو ماشابه هي : لا وألف لا , فكتاب الله عزوجل مفصل محكم واضح جلي مبين لنفسه ولغيره , بل إن الرب العلي القدير عندما أخبر عن جدل المشركين للنبي المصطفى قال أنهم يجادلون بأمثال , قيقولون لو أن كذا أو كذا فماذا يكون الحال أو الوضع ؟! والأمثال فيها الحق والباطل , ففيها الواقع والافتراضي الصريح والمبهم. لذا يرد المولى الخبير بقوله : " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " , أي أن الله القدير لا يأت إلا بالحق – والذي قد يحتوي أمثالا أيضا ولكنها حق – وهذا الحق أحسن تفسيرا للغرض المطلوب من كل أقوالهم مجتمعة , أي أن قول الحق يبين الشيء ويوضحه ! فإذا كان هذا هو قول الحق , فكيف يقول قائل أنه مبهم يحتاج إلى تفسير؟!
ويحق لنا أن نطرح السؤال بمنظور آخر :
إذا كان الله عزوجل قد أبهم كتابه ولم يجعله مبينا في ذاته , فهل هذا الإبهام لقلة حكمة وخبرة أم لحكمة وخبرة ؟ وإذا كان الله عزوجل قد جعل كتابه مشكلا غامضا فمن لديه القدرة على أن يفك إشكاله وغموضه ؟
لا يستطيع أحد بداهة – لما سنذكره لاحقا – أن يجد ردا للسؤال الأول , أما السؤال الثاني فنقول نحن فيه : ما أبهمه الله عزوجل في كتابه فلن يستطيع أحد أن يفسره مهما كان مبلغ علمه وعلو كعبه معرفةً, فلن يستطيع أن يقول : هذا تفسير هذه الآيات بل سيكون كل ما يفعله أن يقول : هذا اجتهاد مني في فهم الآيات ! وقد يعتقد القارئ أن هذا ما يقوله كل مفسر عند تعامله مع كتاب الله عزوجل ! ولكن نحن نقول : لا , نحن نتحدث هنا عن الآيات التي أبهمها الله عزوجل في كتابه الكريم وهي قليلة جدا وبحاجة إلى تفسير فعلا ! وهي الحروف المقطعة ! ألم , حم , طس , طسم ... إلخ . هذا مما أبهمه الله عزوجل . وإلى الآن وإلى أن تقوم الساعة هل يستطيع أحد المفسرين أن يدعي أنه فسر هذه الكلمات ؟ لا , كل يحاول أن يدلي دلوه ولكن ما من جازم أن هذا المعنى هو المراد أو حتى الراجح , فقد لا يجزم الكثيرون أن تفسيرهم ! هو المراد ولكنهم يرونه راجحا , ونحن نسأل أي مفسر: ما هي أمارات رجحان تفسيرك للحروف المقطعة ؟ لن تجد لدى أي مفسر ترجيح لتفسيره .
إذا نخرج من هذا أن كتاب الله عزوجل – كما أخبر هو سبحانه – كتاب مبين واضح لا يحتاج إلى تفسير ولو قلنا أنه يحتاج إلى تفسير لقلنا أنه مبهم غير واضح وهذا يتنافى مع حمكة الله عزوجل .
قد يقول القارئ مفكرا : نعم , كتاب الله واضح مبين ولكن هناك بعض الكلمات لا يعرفها ولا يفهم معناها القارئ وتحتاج إلى بحث في المعاجم وكتب التفاسير , ناهيك عن العوام الذين لا يفهمون الكثير من الكلمات وانتشار الجهل الديني أفلا يدل هذا على أنه قد يحتاج إلى ما يسمى بالتفسير ؟
قبل أن نرد على السؤال من القرآن نقول : كم هو عدد هذه الكلمات التي لا يعرف القارئ معناها في كتاب الله أو لا يفهمها ؟ إذا قلنا أن عدد المفردات الواردة في كتاب الله عزوجل يزيد عن السبعين ألفا – نعم هناك المكرر ولكنها تزيد عن السبعين ألف بكل حال - , وقلنا أن هناك حوالي سبعمائة كلمة في كتاب الله عزوجل غير معروفة المعنى – مع أن الرقم الحقيقي لا يصل إلى ربع هذا الرقم ولا حتى عُشره !- فهذا يعني أن هناك حوالي أقل من واحد في المائة من كتاب الله عزوجل فقط في حاجة إلى تفسير! فهل يمكن أن نعمم الأمر ليصل إلى ما يزيد عن التسع وتسعين الباقية لنقول أن الكتاب بحاجة إلى تفسير؟
إن هذه النسبة وأكبر منها بكثير لا يُلتفت إليها ولا تعد شيئا البتة في منظور أي بحث إستقرائي ولكن العجيب أن هذا النسبة التي لا تكاد تذكر عممت وصارت هي الأصل ! أما بخصوص العوام الذين لا يفهمون كثيرا من آي القرآن فيمكنني الجزم أنه لا فارق بين العامي والمثقف – والذي لم يدرس دراسة دينية – في فهم كتاب الله عزوجل بل هما في فهم معاني مفرادته سواء, أما فهم المعنى الإجمالي والجماليات والإشارات فيختلف الحال فيها من إنسان إلى آخر .
ونأتي الآن إلى الرد من كتاب الله عزوجل على دعوى انتشار الجهل الديني لذا يحق القول بالتفسير , إذا نحن نظرنا في كتاب الله عزوجل وجدنا أن أول آية أنزلت في كتاب الله العليم هي قوله تعالى : " إقرأ باسم ربك الذي خلق " والخطاب وإن كان للنبي العدنان ولكنه كذلك لكل الأمة , فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب – فيستخرج من الآية حكما بوجوب التعلم على كل مسلم لأي علم نافع غير معارض للملة - , وأول تطبيق للقرآة هو حتما قراءة كتاب الله عزوجل , فإذا خالف الإنسان ولم يقرأ القرآن فهو عاص تارك لأمر الله الواحد الديان , وليس المطلوب من الإنسان المسلم مجرد قراءة كتاب الله عزوجل بل المطلوب تدبر كتاب الله عزوجل كما حث الله عزوجل على ذلك " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " وكما بين العلة من إنزاله : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب " وكما لام تارك التدبر " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " . إذا فالإنسان المسلم مأمور بقراءة كتاب الله عزوجل وتدبره وإذا أعرض عن ذلك فهو من الهاجرين للكتاب الذين سيشكوهم الرسول إلى ربه في يوم الدينونة : " وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " , كما أنه من أصحاب الأقفال على القلوب !
الشاهد أن الله عزوجل أنزل كتابا وأمر بقراءته وتدبره , فمن يقرأ كتاب الله ويتدبره ويبحث عن معان بعض الكلمات القلائل التي غابت معرفتها عن علمه فهذا من باب الواجب الشرعي الذي يدخل في باب التدبر المأمور به بنص الكتاب وليس من باب التفسير في شيء ! وإذا قلنا أنه لا بد من تبيين كتاب الله عزوجل من أجل هؤلاء العصاة التاركين وإلا فسنكون من المضيعين لهم ! فنعود للقول : إن الكم المطلوب بيانه في كتاب الله عزوجل جد ضئيل , فلا يمكن وصم كتاب الله عزوجل كله بالحاجة إلى التفسير من أجل بعض الكلمات القلائل تعرض لبعض العصاة التاركين لكتاب الله !
وهنا نترك جدال القارئ الذي سيظل يجادل إلى نهاية العمر لتعوده وألفته على القول بالتفسير ونتجه إلى التدليل على ما نقوله من كتاب الله عزوجل , ونقول : إن كتاب الله عزوجل يتميز عن غيره من الكتب بأنه تحدث عن نفسه ووصف نفسه بعديد من الأوصاف , منها قول العزيز الحميد : " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " " بلسان عربي مبين " , وكما ذكر كونه مبينا ذكر طريقة التعامل معه ! نعم ذكر المولى القدير طريقة التعامل مع كتابه , فما كان لينزل لعباده كتابا بتعبدونه به ويتركهم هكذا في عماء من أمرهم , كيف يتعاملون معه. لذا نذكر للقارئ الكريم من كتاب الله عزوجل كيف ينبغي أن نتعامل مع كتاب الله :
ذكرنا مسبقا أن الله عزوجل حث على تدبر كتابه ولام تارك التدبر ووضح أن الغاية من إنزال الكتاب هو تدبره , فما هو التدبر ؟
التدبر من الدبر وهو كما جاء في المقاييس : الدال والباء والراء. أصل هذا الباب أنَّ جُلّه في قياسٍ واحد، وهو آخِر الشَّيء وخَلْفُه خلافُ قُبُلِه...... والتدبير: أنْ يُدبِّر الإنسانُ أمرَه، وذلك أنَّه يَنظُر إلى ما تصير عاقبتُه وآخرُه ، ......
يتبع ......................
 
إذا فالدبر آخر الشيء وخلاف قبله ولما دخلت عليه تاء الجهد – وهي التي تضيف معنى الحهد والمشقة للفعل كما في قوله " اسطاع واستطاع " وقوله " جر وتجر " فتغير المعنى من مجرد الجر إلى جر بمعنى آخر وهو نقل البضائع من مكان إلى آخر - , أضافت إليه معنى الاحتياج إلى بذل المجهود في استخراج معاني هذا الكتاب العزيز , أي أنه على الإنسان أن يجتهد قدر الإمكان في استخراج معان القرآن واللطائف والإشارات الواردة فيه ولا يكتفي فقط بمجرد معنى واحد ظاهر لعينه فقط , فالقرآن على الرغم من كونه مبينا ميسرا ولكنه قول ثقيل كما وصفه الله العلي مخاطبا النبي الخاتم : " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " أي أنه يحتوي الكثير والكثير من المعاني التي تحتاج إلى استخراجها , ويمكننا القول بمصطلحاتنا المعاصرة أنه كتاب مكثف يحتوي الكثير والكثير من المعاني في نص محدود الكلمات وإذا كان النص نصا مكثف المحتوى فهو يحتاج منا إلى تحليل أي أنه يجب علينا أن نحلل النص إلى أصغر الوحدات الممكنة فنتعامل مع القرآن على مستوى الحروف أي أنع علينا أن نفكر لم استعمل الله عزوجل هذه الكلمة بل ولم هذا الحرف وليس أي حرف آخر وهذا يعني أنه علينا أن نسلم بأن ألفاظ القرآن مرادة كما هي لا أن نقول : ليس هذا هو المقصود وإنما المراد كذا وكذا . وليس هذا قول منا بل هو أيضا من كتاب الله عزوجل بدليل قول المولى الواحد " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا " فهو كتاب مبارك والبركة في اللغة العربية أصلان وهما الثبات والنماء ! وهنا اجتمع المعنيان في كتاب الله عزوجل فهو نص ثابت المفردات لا زيادة فيها ولا تغيير ولكنه مليء بالمعاني والمعارف والتي لا تفنى ولا تبلى على كثرة الرد بل كلما قرأه وتدبره إنسان استخرج منه من المعاني والإشارات واللطائف ما تنقطع دونه المجلدات العظام من الكتب . إذا فكتاب الله كتاب يحتاج إلى بذل جهد في استخراج معانيه , ونقصد باستخراج معانيه أن يستخرج ما يوجد في النص صراحة لا أن يضيف المفسر! من عنده أو يحذف ما لا يستطيع عقله إدراكه بل عليه أن يتعامل معه كما هو ! لا أن يقول بالمجاز أو التقديم والتأخير وما شابه من أشكال الجدال والتدخل البشري في النص .
قد يقول قائل : ولكن هذا جائز في لغة العرب , ومن الممكن قبوله في كتاب الله عزوجل . نقول : ومن قال أن كتاب الله عزوجل أنزل على شاكلة كلام العرب الذي قد يحتوي الخطأ والصواب أو الغير منطقي – من المستعمِل – في طريقة الاستعمال , الله عزوجل قال أن كتابه بلسان عربي مبين , نعم ولكنه وصف كتابه بعدة أوصاف لم ولن تجتمع في أي كتاب آخر إلا كتابه الواحد الفريد العزيز , ولكن لما كان المفسرون يتعاملون مع كتاب الله كما يتعاملون مع أي نص بشري آخر ولم يلتفتوا إلى وصف المولي الخبير لكتابه أخذوا يطبقون أساليبا عجيبة على كتاب الله عزوجل , وحتى لا يكون الكلام مجرد كلام نظري نعرض للقارئ الكريم كيف وصف الله عزوجل كتابه :
من يقرأ كتاب الله عزوجل يجد أن رب الكتاب يقول عنه أنه كله : محكم مفصل متشابه , بعضه محكم وبعضه متشابه , فهو محكم ومفصل كما جاء في قوله تعالى : " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " وهو متشابه كما جاء في قوله : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني ... " , وبعضه محكم وبعضه متشابه كما جاء في قوله " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " , فهل هناك نص بشري اجتمعت فيه هذه الأوصاف ؟ لا , لم ولن يكون هناك نص بشري تجتمع فيه هذه الأوصاف , ولكن لما كان الكتاب من عند الحكيم الخبير كان الكتاب محكما مفصلا متشابها وبعضه محكم ومفصل في نفس الوقت .
قد بعجب القارئ من هذه الأوصاف ومن كيفية اجتماعها في كتاب الله عزوجل , ولكن لما كان كتاب الله - كما نصّ هو نفسه على ذلك – لا يوجد فيه الاختلاف " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " ناهيك عن التناقض, وجب أن نفهم هذه الآيات فهما متناسقا لا أثر للخلاف فيه , فنقول : لا بد أن ننبه القارئ الكريم أن الله عزوجل وصف كتابه بأنه متشابه وليس " مشتبها " وشتان بين الإثنين , فالإشتباه يعني الغموض والإشكال بل والاختلاف أحيانا , أمّا التشابه فهو بمعنى التشابه ! أي أن بعضه يشبه بعضه بعضا ويؤيد بعضه بعضا , فلا وجه للخلاف أو للاختلاف . وعلى هذا الفهم المباشر لمعنى الكلمة فلا إشكال في كون كتاب الله عزوجل متشابها ومحكما مفصلا في نفس الوقت , فهو محكم مفصل يؤيد بعضه بعضا . وننتقل الآن إلى آية آل عمران والتي سيرى القارئ فيها أنها تعكر صفو ما قلنا به , فنقول : اتفق معي القارئ أن كتاب الله كله يحمل صفة الإحكام والتشابه , أي أن ألفاظه مختارة بعناية وحكمة الرحمن وهي تؤيد بعضها وتمنع وجود الدخيل فيها فهي متشابهة, أمّا في آية آل عمران فالرب الذي بيده الملك يقول : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " , وكما رأينا واستخرجنا من الآيات الماضية أن كل آيات القرآن محكمة ومتشابهة في نفس الوقت , فتكون "الآيات المحكمات التي هن أم الكتاب " متشابهات كذلك , لأنها من كتاب الله وهو كله محكم متشابه كما وضحنا , ولكنها تميزت بأنها أم الكتاب , و" الأخر المتشابهات " محكمة كذلك , ولكن غلب عليها طابع التشابه لذا اختار الله عزوجل وصفها بالتشابه ولم يجعلها أم الكتاب التي يرجع إليها . لذا لم يعب الرب الخبير مجرد تتبع آيات كتابه المتشابهة فهي كما قلنا محكمة كذلك ولكنه لام أصحاب الزيغ في القلوب , فقال : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " , فهو يلومهم لأنهم يتتبعون الآيات المتشابهات "المحكمات" ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله , فهم للزيغ الذي في قلوبهم يريدون أن يفتنوا الناس فيردوهم عن دينهم لأنهم يحاولون تأويل ما " لما يأتهم تأويله " فيسقطونه على زمانهم, وتأويل القرآن لا يعلمه إلا الله , لذا فإن الراسخين في العلم يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " فهم لكونهم راسخون في العلم يسلمون بأن ما لم يحيطوا بعلمه هو من عند الله لأن ما ظهر لهم إحكامه أكبر وأكثر من كاف على كون الكتاب كله من عند الله .
قد تكون هذه النقطة غامضة بعض الشيء لكوننا لم نذكر بعد ما هي الآيات المحكمات التي هن أم الكتاب والأخر المتشابهات المحكمات اللاتي لسن أم الكتاب ؟ فنقول وبالله التوفيق : لما كان الواقع من أهم عناصر تأويل القرآن فإنا قد وجدنا أن الجزء الذي تعرض للطعن وللهمز وللمز من غير المسلمين هو الجزء الطبيعي التوصيفي , فكتاب الله عزوجل احتوى تشريعات وهذه تختلف من دستور إلى آخر ولكلٍ وجهة نظر مختلفة فيها فلا يمكن الطعن فيها كذلك , واحتوى كذلك كتاب الله عزوجل إخبار وتوصيف للطبيعة وللكون وهذا الجزء هو الذي تعرض للطعن من المخالفين – لا يعني هذا أن الصنفين الأولين لم يتعرضا للطعن ولكن كما قلنا هي أمور عند كثير من الناس نسبية فما تراه صالحا قد أراه أنا غير مناسب - , حيث قال المخالفون أن هذا التوصيف غير صحيح لأنه يخبر عن أشياء غير منطقية أو مخالفة للطبيعة مثل القول بأن للجمادات إرادة كما جاء في قوله تعالى " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه " أو أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحار العذبة " الأنهار" , كما احتوى غيبيات من بعث ونشر وما شابه وهذه نقطة الخلاف الرئيس مع الملاحدة , لذا فإنا نقول أن المراد من الآيات المتشابهات هي الآيات المتعلقة بالطبيعة والكون والغيبيات وأن المحكمات التي هن أم الكتاب هي الآيات المتعلقة بالأحكام , وهذا القول نابع كذلك من كتاب الله عزوجل , فهو يقول : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله " , فالتكذيب بكتاب الله نابع من أن المكذب كذب لنقص علمه وقصور عقله لأنه يريد أن يرى كل شيء في الغيبيات – سواء المرحلي منها أو التام – رأي العين وهذا ما لن يحدث فالإيمان بالغيب هو أول شرط في الإيمان , لذا فعندما نرى أن المحكمات أم الكتاب هن آيات الأحكام فهذا نابع من الواقع , فلا أحد يكذب بالأحكام ناهيك عن أن النبي العدنان قد أولها وانتهى تأويلها والله يقول أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله , وآيات الأحكام أتى تأويلها على يد النبي المحمود فلا مجال للتكذيب فيها , أما آيات الطبيعة والكون فلا نزال نجد من يشكك فيها ومن يحاول أن يسقط أحداث القيامة أو الغيبيات على الواقع وهذا ما لن يكون لأن هذا قياس للغائب على الشاهد وهو مرفوض عقلا , لذا فإن المسلك الحميد في التعامل معها هو نفس مسلك الراسخين أن نؤمن أنها من عند الله فنأخذها كما هي وستمر الأيام وسيأتي اليوم الذي نكتشف فيه أن للجمادات إرادة كما قال المولى القدير : " جدارا يريد أن ينقض " وسنجد أن في كل شيء حياة وعقلا – الله أعلم به – , كما قال المولى " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " والأيام والسنون بيننا . فكما تعجل المفسرون وقالوا أنه ليس المراد من قوله تعالى " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ... يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " فقالوا أنه ليس المراد من " منهما" في الآية البحر المالح والبحر العذب " الأنهار" ولكن المراد من ذلك البحار المالحة وإنما قال " منهما " على سبيل التغليب لأن البحار المالحة هي الأكبر , وكما طعن الملاحدة وقالوا أن القرآن يحتوى الأخطاء العلمية وذكروا الآية نموذجا , وكما مرت السنون واكتشف العلم الحديث أن هناك بعض الأنهار في روسيا واليابان بعض دول أمريكا الجنوبية وأروبا يخرج منها اللؤلؤ والمرجان , فكذلك ستمر الأيام وسيكتشف العالم أن للجمادات إرادة وأن ما قاله الله تعالى في كتابه صواب بل هو عين الصواب . ومن هذه النقطة ننتقل إلى الحديث عن التأويل فما ذكرناه هو التمهيد للوصول إلى معنى التأويل , لنوضح ما هو المقصود من التأويل وكيف أن المفسرين والأصوليين استعملوه بطريقة عجيبة وبفهم أعجب , والله وحده أعلم كيف حادوا عن المدلول القرآني إلى معان اصطلاحية !
ولأننا لا نريد أن ندخل إلى التعريفات المختلفة للتأويل نذكر التعريف المشتهر للتأويل وهو قولهم : صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله لقرينة تحتم ذلك .
وعلى الرغم من أن التعريف يحمل تناقضا داخليا رهيبا ينسفه من أساسه ولكن لما كان هذا التناقض الداخلي مبني على النظرة الساذجة إلى اللغة والتقسيم البدائي إلى حقيقة ومجاز مع غياب لحدود الحقيقة وبداية المجاز عند كل القائلين به , فإنا سنغض الطرف عن هذا التناقض ونسأل : هل هذا هو المعنى اللغوي للتأويل وكيف استعمله القرآن الكريم ؟
إذا نحن نظرنا في اللفظة وجدنا أنها من الألفاظ التي تأتي بالمعنى وضده كما في شرى والتي تأتي بمعنى اشترى وباع وغيرها , فنجد أنها – كما جاء في مقاييس اللغة - :
" الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه. أما الأوَّل فالأوّل، وهو مبتدأُ الشيء، والمؤنَّثة الأولى، مثل أفعل وفُعْلى ......... والأصل الثّاني قال الخليل: الأَيِّل الذكر من الوُعول، والجمع أيائِل . وإنّما سمّي أَيِّلاً لأنّه يَؤُول إلى الجبل يتحصَّن.... وقولهم آل اللّبنُ أي خَثُر من هذا الباب، وذلك لأنه لا يخثر [إلاّ] آخِر أمْرِه. ...... وآلَ يَؤُول أَي رجع. قال يعقوب: يقال "أَوَّلَ الحُكْمَ إلى أَهْلِه" أي أرجَعه ورَدّه إليهم. ...... وآلُ الرَّجُلِ أَهلُ بيتِه من هذا أَيضاً* لأنه إليه مآلُهم وإليهم مآلُه....... ومن هذا الباب تأويل الكلام، وهو عاقبتُهُ وما يؤُولُ إليه، وذلك قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ تَأْوِيلَهُ [الأعراف 53]. يقول: ما يَؤُول إليه في وقت بعثهم ونشورهم. "

يتبع ..............
 
فالتأويل من " أول " وهو بمعنى ابتداء الأمر وانتهاؤه , كما يقال : سننظر إلى ما يؤول إلىه الأمر , وآلت الأمور إلى كذا وكذا ! , وإذا نحن نظرنا إلى كتاب الله عزوجل وجدنا أنه يستعمل "التأويل" بنفس المعنى اللغوي لها أي المرجع والمآل والعاقبة . وعلى الرغم من أن هذا المعنى أكثر من واضح في كتاب الله – ليرجع القارئ إلى الآيات التي ذكرناها في أول البحث – وجدنا أن المفسرين يتركون هذا المعنى الجلي ويقولون بتعريف غريب للتأويل , ولربما ظنوا أنهم بقولهم أن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر أن هذا هو عاقبة الأمر وأن هذا هو المرجع الصحيح للفظ , ولكن من قال لهم أن التأويل لا يكون إلا بصرف اللفظ عن ظاهره , فهذا تحديد للمعنى ما أنزل الله به من سلطان , والتعريف كما يقال لا بد من أن يكون جامعا مانعا , وهذا التعريف غير جامع ولا مانع ! ولكن الملاحظ أن لفظ التأويل لم يستعمل هذا الاستعمال الاصطلاحي مرة واحدة ولكن مر الأمر بمراحله المألوفة من الانحراف عن المعنى الأصلي وهو المطابقة مع الواقع ثم الاستعمال بمعنى التفسير ثم الاستعمال بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره , فنجد مثلا أن الإمام الطبري يسمي كتابه : " جامع البيان في تأويل آي القرآن " . ولكن كما قلنا فإن التأويل هو مآل الشيء وعاقبته , وعند استعماله مع اللفظة القرآنية فإن المراد منها يكون مطابقة الآيات مع الواقع وهذا ما تدل عليه الآيات الكريمات كما جاء في قوله تعالى " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل ........ " , قتأويل القرآن سيأتي يوم القيامة أي أن انطباق أخبار القرآن مع الواقع سيكون يوم القيامة , وكذلك يقول المولى العلي : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله " , أي أن تأويل القرآن سيأتي في يوم من الأيام وهذا لا يكون إلا بتطابق أخبار القرآن مع ما سيكون . وكذلك في قوله تعالى " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " , فهذا تأويل الرؤية وتحققها على أرض الواقع كما يقال , فعندما تحققت الرؤيا تكون قد أٌولت , وكذلك عندما تتحقق الآيات القرآنية تكون قد أُولت , وكذلك قول الله عزوجل حاكيا قول العبد الصالح الخضر " سأنبأك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " سأنبأك بمرجع وعاقبة وحال ما لم تستطع عليه صبرا , فسيحدث كذا وكذا .... " وكذلك في قوله تعالى " فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا , " أي أحسن مرجعا وعاقبة . فها هو " التأويل " يأتي في القرآن بهذا المعنى – وتتبعه في باقي الآيات فلن يخرج عن هذا المعنى - , فلا يجوز لنا أن نستبدل معناه بمعنى من عند أنفسنا بل علينا أن نستعمله كما جاء في القرآن وفي اللسان العربي .
ولما كان القرآن الكريم يحتوي من الآيات ما هو صالح لكل زمان ومكان فإن بعضها سيأول تأويلا جزئيا أي أنه سيتطابق تطابقا جزئيا مع علومنا ومعارفنا ثم يتطابق تطابقا كليا في الأزمنة القادمة وبعضه تطابق كلية في زماننا وبعضه سنراه غريبا وسنؤله – بالمعنى الخاطئ للكلمة – ثم تمر الأيام ونكتشف أن الحق كما جاء في كتاب الله بالحرف , والناظر في آيات الوصف الطبيعي والتي تسمى بالإعجاز العلمي يجد أنها كلها تنطبق حرفيا مع الواقع . وليس فهمنا أو قولنا بأن تأويل القرآن تأويل جزأيا يفهم كل أصحاب عصر منه على قدر خلفيتهم المعرفية ثم تجّدُ أزمنة تفهم منه أكثر مما فهم الأقدمون – في الجزء العلمي خصوصا- ليس بدعا من القول فهو قول لبعض الصحابة كما ورد عن مسعود كما روى الإمام البيهقي في شعب الإيمان :
" 7292- عن أبي العالية في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) [المائدة: 105]، قال: كانوا عند ابن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين ما يكونُ بين النَّاسِ، حتَّى قامَ كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحِبه، فقال رجلٌ من جُلساءِ عبداللهِ: ألا أقومُ فآمرُهما بالمعروفِ وأنهاهما عن المنكرِ؟. فقال رجلٌ آخرُ إلى جنبهِ: عليك بنفسك، فإنَّ الله يقولُ: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) [المائدة: 105]. قال: فَسَمِعَهُمَا ابنُ مسعودٍ، فقال: مَهْ، لمَّا يجيء تأويلُ هذه بعدُ. إنَّ القرآنَ أُنزِلَ حيثُ أنْزِلَ، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهُنَّ قبل أن ينْزلن، ومنه آيٌ وقع تأويلُهَنَّ على عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنه آيٌ وقع تأويلُهُنَّ بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بيسيرٍ، ومنه آيٌ يقع تأويلُهنَّ بعد اليوم، ومنه آيٌ يقع تأويلُهُنَّ عند السَّاعةِ على ما ذُكرَ من السَّاعةِ، ومنه آيٌ يقع تأويلُهُنَّ يوم الحسابِ على ما ذُكرَ من الحسابِ والجنَّةِ والنَّارِ ."
فها هو الصحابي الجليل ابن مسعود يقدر القرآن حقه ويوضح لنا كيف أن الفهم الحقيقي للقرآن يكون بإسقاط كل آية على زمانها , فلا يحاول أي أحد أن يفهم آية قبل أن يأتي تأويلها إلا وأخطأ وزل , لذا فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا من الراسخين في العلم , لأنهم رأوا بعض الآيات المتشابهة التي لم تدركها عقولهم والتي تتحدث عن الطبيعة والكون وعلى الرغم من ذلك لم ينكرونا وآمنوا قائلين : كل من عند ربنا , ولم يحاولوا أن يأولوا هذه الآيات لعلمهم أن هذه الآيات لما يأت تأويلها بعد . لذا فإن السادة المفسرين قد أخطأوا الخطأ الكبير عندما غاب عن أذهانهم طريقة الصحابة الكرام في التعامل مع كتاب الله وفعل النبي المصطفى , حيث أنه ترك هذه الآيات بدون يتعرض لها لأنه يعلم أن الزمان هو خير مؤول لها وهو الذي سيكشف آيات الله خيرما كشف وكما قال الله عزوجل : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " , أما المفسرون فحاولوا أن يفسروها فلم يزيدوا عن أن أغلقوها أمام الناس فقدموها لهم معوجة عن أصلها فيفهما الناس في الأجيال التالية على فهم المفسرين معرضين عن صريح لفظ كتاب الله تعالى .
ونضرب للقارئين مثالين سريعين جدا على ما نقول :
يقول الله تعالى حاكيا عن أصحاب الكهف : " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ... إلخ الآيات "
فالمعنى المباشر للآيات جد واضح ولا يحتاج إلى كلام ولكن كان على السادة المفسرين أن يخبرونوا : ما هي الحكمة في هذا التقليب ؟ لم يخبر أحد منهم ما هو سبب هذا التقليب , وإنما أخذوا في الحديث عن مرات وأوصاف التقليب , وتمر الأيام ويكتشف العلم الحديث وجوب تقليب المريض المصاب بالغيبوبة أو الراقد في الفراش عامة حتى لا يصاب بقرحة الفراش , وهو ما أخبر به المولى عزوجل , ولا يعنى هذا أن الآية أولت تماما ولكن ستمر الأيام ونكتشف لم قال الله " ذات اليمين " أولا ثم بعد ذلك " ذات الشمال " وبذلك يكون قد أتى تأويلها . والعجيب أن الحبر ابن عباس رضي الله عنهما قال أن فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم . فرد عليه الفخر الرازي بقوله : وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب .
فالله له تصريف في كل أفعاله ولا يعني أننا لم نكتشفها حتى الآن أنها غير موجودة , بل هي موجودة وعلينا أن نبحث عنها في الكون وفي كتاب الله عزوجل .
المثال الثاني : يقول الله تعالى " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد "
والحديث هنا عن كلمة " الغيض " المذكورة بصيغة فعلية في الآية " تغيض" , حيث ذكرت الآية أن الأرحام تغيض , والغيض عكس الفيض , وهي تدل على تناقص تدريجي وتستعمل مع السوائل , كما يقال : غيض من فيض . الشاهد أن الله عزوجل قال أن الأرحام تغيض , الأرحام نفسها هي التي تغيض , فتعجب المفسرون وقالوا أن المراد أن ما في الأرحام هو الذي يغيض أو يزداد من ولد أو ما شابه ولكن العلم يثبت أن بطانة الرحم نفسها تمتليء بالدم قبل عملية الحيض استعدادا لاستقبال الحيوان المنوي , فإذا لم يأت الحيوان المنوي " تتحطم " هذه البطانة وينزل الدم في ميعاد الدورة , فيغيض الرحم نفسه أي أنه تنزل سوائله فينقص, ثم تمر الأيام ويكون الرحم بطانة جديدة استعدادا لاستقبال الجنين وهلم جرا . فهذه زيادة الأرحام نفسها بالسوائل وغيضها وليس ما بداخلها .
قد يقول القائل : ليس الفارق كبيرا .
نقول : ولو , فلم نترك ما أخبر الله عزوجل به ونفهم ما نضيفه نحن من عند أنفسنا , فنضيع فوائدا عظيمة على أمة المسلمين وعلى البشرية أجمعين ؟!!
وفي نهاية المطاف نقول : كتاب الله واضح صريح وهذا يعني أن العرب و الصحابة كانت تقريبا تفهمه كله , ولكنها لم تعرف مدلولات الجزء العلمي الطبيعي منه , كما أنهم لم يحيطوا بالإشارات والدلالات الاجتماعية المناسبة لمجتمعات لم تنشأ بعد , لذا لم يشيروا إليها ولم يتحدثوا عنها , أي أنهم كانوا يقرأون القرآن فيأخذون ما يعرفون مدلولاته من آيات الأحكام والعقائد والتاريخ, ويسلّمون بما فهموه من القرآن ولكنهم في نفس الوقت لم يعرفوا مدلولاته في الواقع لمعرفتهم أن الزمان كاف لمعرفة مدلولاتها لا لفهم معنى ألفاظها , فالمعنى الللفظي مفهوم ولكن المدلول – المقابل في الواقع – لمّا يأتي بعد فكيف يأولون ؟! ثم انقضى عصر الصحابة والتابعين الذين كانوا يتحرجون من القول في كتاب الله عزوجل لمعرفتهم أن علمهم غير كاف للقول فيه فتوقفوا , ثم جاءت أجيال لم تفهم ما هو وجه الإعجاز القرآني , صاحبها وجود عجمة في اللسان وعجمة فيمن دخلوا الإسلام فقالوا بإن القرآن يحتاج إلى تفسير وليتهم قالوا "تأويل " حتى لا يضلوا في المنهج والاسم!
نخرج من هذا كله أنه يجب علينا الالتزام بنص كتاب الله عزوجل كما هو فلا نقول بمحذوف أو زائد – حشو كما قال بعض المفسرين – ولا نجعل الفعل اسما أو الاسم فعلا ولا نغير أي شيء في كتاب الله وإلا سنقع فيما وقع فيه الأقدمون ثم نأتي يوم القيامة فيقول لنا الله العزيز : " قل أأنتم أعلم أم الله " , فإذا قال الله قولا أخذناه واتبعناه من خلال إعمال العقل في فهم وتدبر القول لا أن نجتهد في صرفه عن مدلوله المباشر لقصر عقل أو لقلة علم .
وفي نهاية المطاف نذكر بأنه يجب علينا أن لا نقيس البشر على الوحي أو النبي , فنظرا لأن النبي من خلال الوحي أوّل بعض الآيات بشكل لم يذكر في القرآن كما أول آيات الصلاة والحج والزكاة وطبقها على أرض الواقع وجدنا كثيرا من المفسرين يخوضون فيما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله حاسبين أنهم بذلك من المفسرين لكتاب الله الكاشفين لغموضه وإبهامه , -وغفر الله لنا ولهم- زاعمين أن النبي المصطفى فسر القرآن , ونحن نسألهم : هل ما أتى به النبي المعصوم هو من عند نفسه أم من عند الله عزوجل ؟ فإذا كان من عند نفسه سلّمنا لهم , وإذا كان من عند الله – وهو كذلك – فعليهم أن يسلموا لنا !
نخرج من هذا كله أنه لا يصح أن نصف كتاب الله بالتفسير لأنه مرادف الإبهام وأنه علينا أن نلتزم بما وصف الله عزوجل كتابه وهو " التأويل " لأن كتاب الله واضح جلي بيّن ولكن لقصور العقل والعلم لا تدركه الأفهام في مرحلة ويّدرَك في أخرى , ونخرج بأن التأويل ليس بالمعنى المألوف ولكنه بمعنى مخالف تماما لما ألفه الناس , وأن هذا المنهج هو المناسب لكتاب أنزله الله لكافة الأقطار والعصور , فهو كتاب يأتي تأويله على مر العصور فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم أن ما عندهم هو من عند الله العلي الحكيم الذي أنزل الكتاب المبين .
غفر الله لنا الزلل وتقبل منا صالح العمل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
الأخ الكريم عمرو

بعد التأمل في كلامك وجدت في نفسي الآتي:
طالما أن التفسير فيه معنى التوضيح والبيان فهذا ما نجده في كتب التفسير، وهو ما نحتاجه قبل أن نخوض في التأويل. فواقع كتب التفسير أنها جاءت للتفسير وفيها شيء من التأويل.
هناك أكثر من سبب جعل الناس عبر العصور يحتاجون التفسير أولاً ومهما حاولنا أن نقول إن النص الكريم واضح وبيّن فإن واقع الناس يفرض علينا أن نفسر ونوضح قبل أن نؤوّل.
كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب - مثلاً - أقرب إلى التأويل منه إلى التفسير، على خلاف معظم كتب التفسير. ومن هنا تلاحظ أنه يفسر بعض الألفاظ قبل أن يؤوّل.
لم يتفق العلماء على معنى التأويل بل اختلفوا. وكلهم يصدر عن المعنى اللغوي واحتمالاته.
التفريق بين المحكم والمتشابه غير مقنع ولا يقوم على دليل، بل يناقض ظاهر النص الكريم، فأنصح بإعادة النظر فيه.
التأويل في اصطلاح البعض- والذي اعترضتَ عليه واستنكَرته - هو في الحقيقة مقبول وغير مستنكر؛ لأن صرف المعنى عن الظاهر لقرينه هو صورةمن صور التأويل، لأن مآل المعنى على خلاف ما يوهم به الظاهر. فعملية الصرف من الظاهر إلى غيره بدليل هو على الحقيقة تأويل، أي تبيان مآل المعنى.
التأويل الحقيقي للرؤيا المنامية هو وقوعها، وتأويل أنباء الغيب أيضاً يكون بالوقوع، وتأويل الآيات المتعلقة بواقع كوني هو المعرفة الحقيقية لهذا الواقع. والتأويل في عالم المعاني يكون بحضور المعنى الحقيقي في الذهن....
 
جزاك الله خيرا وغفر لك
مما قلته في بحثك: ولم أنه من إساءة الأدب مع الله عزوجل القول بأن كتابه يحتاج إلى تفسير:
لو قال أحد الأعضاء هذا القول عن بحثك هذا ، هل ترضاه على نفسك؟ مع علمك بالبون الشاسع بينك وبين من تكلمت عنهم
وفقنا الله وإياك لمرضاته
 
عودة
أعلى