قضاء الحاجة .. رؤية جديدة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد :
فمن المعلوم أن دخول الخلاء أمر من لوازم البشر ، وقد يحتاج الإنسان أن يقضي حاجته في اليوم مرات ، وهو أمر يدل على ضعف البشر وفقره من جهة ، ويوجه العقل إلى التأمل فيمن هذا حاله ويظهر الكبر والتعالي من جهة أخرى ؛ وفوق هذا وذاك فإن إخراج الفضلات من جسمك - أيها الإنسان - نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر المنعم Y ؛ وفيه دلالة عظيمة على أن للإنسان خالق قد خلقه وسواه على أحسن تقويم ، وجعل فيه من الآيات التي عليه أن يتأملها ويتدبرها ، فهي تدله على عظمة الخالق الذي يدبر أمر الكون بما فيه الإنسان .
وقد علَّم الإسلام أهله أن لقضاء الحاجة آدابًا لا بد من مراعاتها ؛ منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ، مما يدل على عظمة هذا الدين ، وأنه لم يترك شيئًا مما فيه نفع ومصلحة إلا وأمر به وندب إليه ، ولم يترك شيئًا فيه مضرة إلا ونهى عنه وحذر منه ... إنه المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لعباده ، ولا يرضى غيره ؛ قال U : ] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ [ آل عمران : 85 ] .
وفي هذه الرسالة محاولة لبيان ما في قضاء الحاجة من آداب وحكم ، ونتناول فيها :
تعريف الخلاء وقضاء الحاجة .
عظمة الإسلام .
وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
نعمة واجبها الشكر .
عظة وتواضع .
آداب قضاء الحاجة .
آداب قضاء الحاجة في الفضاء .
آداب قضاء الحاجة في البيوت .
آداب مشتركة .
والله الكريم أسأل أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
 
تعريف الخلاء وقضاء الحاجة
الخلاء : بالمد ، من خَلا الشَّيْءُ يَخْلُو خَلاَءً : أي فَرغ ، وهو خالٍ ؛ ومكان خَلاءٌ : لا أحد به ؛ والخَلاءُ من الأرْضِ : المكان الخالي ؛ وهو الأرض الواسعة الخالية من الأشجار ، والمراد هنا ، المكان المقصود والمعدُّ لقضاء الحاجة ؛ فيطلق - أيضًا - على المرحاض الذي بُني لقضاء الحاجة بدلاً من الخلاء في الأرض الواسعة ( [1] ) .
والخلاء هو الغائط ؛ وهو المكان المنخفض ، وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة لأنه يستر صاحبه عن الناس ، وجاء القرآن بهذا اللفظ : ] أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [ [ النساء : 43 ، والمائدة : 6 ] والإتيان من الغائط أو الذهاب إلى الغائط يراد به لازمه ؛ لأنه ليس المراد مجرد كون الإنسان يأتي إلى مكان منخفض ، بل المراد قضاء الحاجة ؛ لأن العادة أن لا يذهب الناس إلى المكان المنخفض إلا لقضاء الحاجة ؛ فكنوا به عن الحدث نفسه ( [2] ) .
والخَلاءُ : البَرَاز ؛ وهو اسم للفضاء الواسع من الأرض ، كَنَوا به عن حاجة الإنسان ، كما كنوا بالخلاء عنه ؛ يقال : تبرز الرجل ، أي : خرج إلى البراز للحاجة ؛ كما يقال : تخلى إذا صار إلى الخلاء ( [3] ) .
ومعنى قضاء الحاجة : التخلي أو التبرز أو التغوط ، فالحاجة هنا كناية عن البول والغائط ، وهو مأخوذ من قوله e : " إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا " رواه مسلم ( [4] ) .
والمراد بآداب قضاء الحاجة : ما يشرع للمسلم اتباعه من الأقوال والأفعال التي تناسب تلك الحال .

[1] - انظر ( المحيط في اللغة ) لابن عباد ، والمصباح المنير ( مادة : خ ل و ) ، والقاموس المحيط ، ولسان العرب باب الواو فصل الخاء .

[2] - انظر النهاية في غريب الحديث ، والمصباح المنير ( مادة : غ و ط ) ، والقاموس المحيط ، ولسان العرب باب الضاد فصل الغين .

[3] - انظر الصحاح للجوهري ، والمصباح المنير ( مادة : ب ر ز ) ، والقاموس المحيط ، ولسان العرب باب الزاي فصل الباء .

[4] - مسلم ( 265 ) عن أبي هريرة t .
 
عظمة دين الإسلام
( حَتَّى الْخِرَاءَةَ )
في صحيح مسلم عَنْ سَلْمَانَ t أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ ! فَقَالَ : أَجَلْ ؛ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ ( [1] ) .
وقوله : (حَتَّى الْخِرَاءَةَ ) قال الخطابي - رحمه الله : الخراءة بكسر الخاء ممدودة الألف : أدب التخلي والقعود عند الحاجة ا.هـ ( [2] ) ؛ و ( أَجَلْ ) حرف إيجاب بمعنى نعم ؛ قال الأخفش : إلا أنه أحسن من نعم في الخبر ، ونعم أحسن منه في الاستفهام ؛ فإذا قال : أنت سوف تذهب ، قلت : ( أجل ) ، وكان أحسن من ( نعم ) ، وإذا قال : أتذهب ؟ قلت : ( نعم ) ، وكان أحسن من ( أجل ) .ا.هـ . وهما لتصديق ما قبلهما مطلقًا ، نفيًا كان أو إيجابًا ؛ و ( أَجل ) تصديق لخبر يخبرك به صاحبك ، فيقول : فعل ذلك ، فتصدقه بقولك له : ( أَجَلْ ) ؛ وأَما ( نعَمْ ) فهو جواب المستفهم بكلام لا جَحْد فيه ، تقول : هل صليت ؟ فيقول : نَعَمْ ؛ فهو جواب المستفهم ( [3] ) .
ومراد سلمان t أنه e علمنا كل ما نحتاج إليه في ديننا حتى الخراءة التي ذكرت أيها القائل ؛ فإنه علمنا آدابها ، فنهانا فيها عن كذا وكذا ( [4] ) ، وفي هذا دليل على شمول الشريعة لكل شيء من مطلوبات الحياة واحتياجاتها ؛ وهو دليل بيِّنٌ على كمال هذه الشريعة وعظمتها ، ورعايتها لمصالح العباد ، واستيعابها لجميع الآداب النافعة ، سواء في أمور العبادات أو المعاملات أو الآداب أو الأخلاق ، مما يدل على سُمُوُّ الشرع ، حيث أمر بكل نافع ، وحذر من كل ضار ؛ ووالله لو جمع أحدٌ كتبَ الأدب الجاهلي أو الحديث في أرقى دول العالم في الحضارة ، فلن يجد شيئًا من هذه الآداب مدونة عندهم ، وهذا من سمو الإسلام ، ومن تربية الفرد على أعلى ما يمكن من علو الهمة ، وعلى التجنب لما لا يليق .

[1] - مسلم ( 262 ) . والخراءة : اسم لهيئة الحدث ، وأما نفس الحدث فبحذف التاء وبالمد مع فتح الخاء وكسرها .

[2] - معالم السنن : 1 / 8 .

[3] - انظر صحاح الجوهري : 5 / 308 .

[4] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 3 / 154 .
 
{ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ }

آيات الله  في خَلْقِ الإنسان كثيرة وعظيمة ومستحقة للتأمل والتدبر والتفكر ؛ بيد إن إلف العادة قد يذهل الإنسان عن هذه العبادة .. أقصد عبادة التدبر والتفكر في آيات الله تعالى في الإنسان . ومن أجهزة الإنسان المسخرة دون إرادة منه أو استدعاء لها أن تعمل : جهاز الإخراج المكلف بطرد الفضلات من جسم الإنسان ، والمتمثل في وحدتين :
الأولى : الكُلى وما يلحق بها :
في الإنسان كليتان موكول بهما إخراج الفضلات السائلة من بدنه ، والمتمثلة - بعد تجمعها في المثانة – في البول ، وهو مجموعة من فضلات السوائل المتبقية بعد امتصاص المفيد مها في الجسم ، وهي تتجمع في المثانة تدريجيا حتى تمتلأ ، فيشعر الإنسان بأنه يريد أن يذهب إلى الخلاء ليتبول ، ويخرج هذه الفضلات الضارة .
الثانية : الأمعاء الغليظة وما يلحق بها :
الأمعاء الغليظة عبارة عن ثلاثة قوالين ( صاعد ومستعرض ونازل ) متصلة بالأمعاء الدقيقة التي يتم فيها امتصاص عناصر الطعام التي يحتاجها لجسم عن طريق ( الخملات ) الموجودة على جدارها ، وتبقى بعد ذلك الفضلات الجامدة ، التي تدفع إلى القولون الصاعد ثم المستعرض ثم النازل ثم المستقيم المتصل بفتحة الشرج ( الإست ) ، فيشعر الإنسان عندها بحاجته إلى دخول الخلاء لإخراج هذه الفضلات المؤذية .
وتقوم هذه العملية في دقة متناهية ليلا ونهارًا ، في حالتي النوم والاستيقاظ ، دون أن يكون للإنسان فيها دخل ؛ فقد يوقظ امتلاء المثانة إنسانا من نومه ليسرع إلى التبول ، وقد يُزعج الإنسان فجأة - وهو في مهمة يريد أن ينجزها - حاجته إلى التبرز ... إنها آية عظيمة ، تدل على عظمة الخالق  ، وضعف المخلوق على تيهه وكبره .
 
نعمة واجبها الشكر
تصور - أيها الإنسان - لو حبس البول فيك ، فلم تستطع أن تخرجه ؛ أو انسد أحد القوالين الثلاثة ، فحبست فيك الفضلات الجامدة ... كيف يكون حالك ؟ مرض شديد وآلام مزعجة لا يقوى عليها أحد ... قد تفضي إلى الموت ؛ من هنا تعلم أن الإخراج لهذه الفضلات نعمة عظيمة توجب شكر المنعم Y .
ثم هي نعمة متصلة بنعم أخرى من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى ؛ منها نعمة الصحة ونعمة الطيبات من الرزق ، ونعمة الاستمتاع بطعمها ، ونعمة الاستفادة منها بما أودعت من فوائد في الجسم ، ثم بعد ذلك كله أنعم الله U على الإنسان بإخراج ما تبقى من الفضلات المؤذية .
فلما كان الإنسان غير قادر على شكر هذه النعم المتعددة ، علَّمه النبي e أن يقول : " غفرانك " إذا خرج من الخلاء ؛ وكأنها إشارة إلى الاستغفار عن التقصير الواقع في شكر النعم للمنعم Y .
يا لها من نعمة منسية غفل عنها كثير من الناس .
 
موعظة وتواضع
إن حالة قضاء الحاجة حالة سكون وانكسار ، وإقرار بالضعف البشري ، وإن كانت في ذاتها حالة تفكير بنعم الله تعالى على العبد ، حيث يسَّر له قضاء حاجته بعدما يسَّر له الأكل والشرب والانتفاع بما رزقه من النعم ؛ فهي - أيضًا - حالة تذكر التواضع ، وتدفع الكبر ؛ وكثيرًا ما استخدمها الشعراء في توبيخ المتكبرين ؛ فمن ذلك ما قاله منصور الفقيه :

قولـوا لِـزُوَّارِ الكُـنُفْ ... والْمُنْشَـِئين مِنْ نُطُـفْ
يا جـيفًا مِـنَ الـجِيَفْ ... مـا لكـمْ وللصلـفْ

وله :
قُلْتُ للمعجـبِ لـمَّا ... قالَ مِثلي لا يُرَاجـعْ
يا قريبَ العهـدِ بالمخــرج لِمَ لا تَتَواضَـعْ


ولابن عوف، ونسب للشافعي :
عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بصورتِهِ ... وكانَ بالأمسِ نُطْفَةً مَذِرَهْ
وفي غدٍ بعدَ حُسْنِ صُورَتِهِ ... يَصِيرُ في اللحدِ جِيفَةً قَذِرَهْ
وهو على تيهِـهِ ونخْـوَتِهِ ... ما بين جَنْبَيهِ يَحْمِلُ العذرهْ


ولغيرهم:
يا مُظْهِرَ الكِـبْرِ إعجاباً بِصُـورَتِهِ ... انظـرْ خَـلَاكَ فإنْ النَّتْنَ تَثْرِيبُ
لو فَكَّـرُ الناسُ فيما في بُطُونِـهِمُ ... ما اسْتَشِعَرَ الكِبْرَ شبانٌ ولا شِيبُ
 
آداب قضاء الحاجة
علَّمنا رسول الله e آدابًا لقضاء الحاجة هي غاية في تربية الإنسان والرقي به ؛ وقد روعي فيها من كان يقضي حاجته في الخلاء ، ومن كان يقضيها في البيوت ؛ فقد كانت العرب قبل اتخاذ الكُنف في البيوت تقضي حاجتها في الخلاء ، ثم اتخذت الكُنف ، فوجدنا من فعل النبي e ما يختص بذلك في بعض الأمور ، ولذا سنتحدث عن هذه الآداب على النحو التالي :
آداب قضاء الحاجة في الفضاء .
آداب قضاء الحاجة في البيوت .
آداب مشتركة .
 
آداب قضاء الحاجة في الفضاء

تقدم أن الخلاء أو الغائط أو البراز إنما هو الأرض الفضاء الخالية من الأشجار ونحوها ، ويختص الغائط بالمنخفض المطمئن من الأرض ؛ فيقال : تخلى ، أي : دخل الخلاء ، وتبرز ، أي : دخل البراز ، وتغوط ، أي : دخل الغائط ؛ ولقضاء الحاجة في الفضاء آداب ، هي :
1 – الإبعاد : وهو أن يُبعد من يريد قضاء الحاجة حتى يتواري عن الناس ، لئلا تُرى له عورة ، أو يُسمع له صوت ، أو تُشم رائحته ؛ وهذا خاص بقضاء الحاجة في الفضاء ، فإن كان في البنيان حصل المقصود بالبناء المعد لقضاء الحاجة ، والله تعالى أعلم ؛ فعَنْ جَابِرٍ t أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ إِذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لاَ يَرَاهُ أَحَدٌ ؛ رواه أبو داود وابن ماجة ( [1] ) ؛ وعند ابن ماجة عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e كَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ ( [2] ) ؛ وروى أحمد والنسائي عن عبد الرحمن بن أبي قراد t قال : خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ e إِلَى الْخَلاَءِ ؛ وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ ( [3] ) ؛ وعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ t قَالَ: قَالَ لِيَ النبيُّ e : " خُذِ الإدَاوَةَ "؛ فَانْطَلَقَ حَتّى تَوَارَى عَنّي ، فَقَضى حَاجَتَهُ . مُتّفَقٌ عَلَيهِ ( [4] ) ، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا .

2 – الاستتار ؛ أي : الاستتار عن أعين الناس عند قضاء الحاجة ، وتقدم أن النبي e كَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ ، وذلك لقصد الاستتار مع ما فيه من معان أخرى تقدمت ؛ وعند أحمد وأبي داود وابن ماجة من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ " ( [5] ) ؛ ويحصل الاستتار بجدار ، أو بشجر ، أو بكثيب من رمل ، أو نحو ذلك مما يجعله الإنسان خلفه لئلا يراه أحد .
ومن الاستتار ما رواه أبو داود والترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضياللهعنهما - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً لاَ يَرْفَعُ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأَرْضِ ( [6] ) ؛ وروى أحمد وأبو داود عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ t قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ : " احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ " ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ ؟ قَالَ : " إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلاَ يَرَيَنَّهَا " ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ، قَالَ : " اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ " ( [7] ) .

3 - أن يأخذ معه ما يستنجي به ؛ لئلا يُحْوِجُه إلى القيام فيتلوث ؛ فعنْ أنَسٍ t قَالَ : كَانَ رَسول e الله يَدْخُلُ الخلاء ، فَأحْمِلُ أنَا وَغُلام نَحوِى إدَاوَةً مِنْ ماءٍ وَعَنَزَةَ فَيَسْتَنْجِي بِاْلمَاء ( [8] ) ؛ والإداوة : إِناء صغير من الجلد على هيئة الإبريق يجعل للماء ؛ والعنزة : الحربة الصغيرة ، وهي عصا أقصر من الرمح لها سنان .
وفي صحيح البخاري أن النبي e أمر - وهو ذاهب للخلاء - ابن مسعود t أن يأتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ( [9] ) .

4 - عدم استقبال القبلة ببول أو غائط ؛ ذلك لأن الكعبة قبلة المسلمين ، وتعظيمها واحترامها مستقر في شريعة الله تعالى ؛ لأنها بيت الله U ، أضافهاإلىنفسه،فقالتعالى:] طَهِّرَا بَيْتِيَ [ [ البقرة : 125 ] ، وقال سبحانه : ] وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [ [ الحج : 26 ] ، ولها في قلوب المسلمين تعظيم وتوقير ؛ وقد أوجب الله تعالى استقبالها في الصلاة التي هي أكمل حالات العبد ، ونزهها أن تستقبل أو تستدبر حال البول أو الغائط تعظيمًا لها وتوقيرًا ، فقد تقدممن حديث سلمان t : " نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ " ، وروى مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ : " إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا " ( [10] ) ؛ وفيالصحيحينعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ t أَنَّالنَّبِيَّeقَالَ:" إِذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا " قَالَ أَبُو أَيُّوبَ : فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ ، فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى ( [11] ) ؛ والمراحيض : جمع مرحاض ، وهو البيت المتخذ لقضاء حاجة الإنسان .
وقوله t : " وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا " أي : استقبلوا جهةالشرقأوالغرب؛ والخطاب لأهل المدينة ونحوهم ممن إذا شرَّق أو غرَّب انحرف عن القبلة ؛ وأما غيرهم فيراعوا الجهة التي لا يستقبلون معها القبلة ولا يستدبرونها .
الأحاديث في هذا الباب دليل على النهيعناستقبالالقبلةأواستدبارهاحالالبولأوالغائط، وهذا النهي للتحريم عند جمهور العلماء .
وقول أبي أيوب : ( فَنَنْحَرِفُ ) أي : نميل عن جهة القبلة التي بنيت المراحيض باتجاهها ، ( وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى ) بناء على مذهبه أنه يرى التحريم في الفضاء والبنيان ، ولأن الانحراف لا يحصل به تمام الميل عن القبلة لصعوبة ذلك حيث كان اتجاه المراحيض إليها ؛ وقيل : استغفار لمن بناها على جهة القبلة إن كان من المسلمين ؛ وبقول أبي أيوب أخذ بعض العلماء وذهبوا إلى تعميم النهي فقالوا : يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء والبنيان ؛ وذهب جمهور العلماء إلى أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء ، ويجوز في البنيان ، وهو الراجح لأدلة سنذكرها في أدب قضاء الحاجة في البنيان إن شاء الله تعالى .

5 – أن يطلب مكانًا لينًا منخفضًا ليحترز فيه من إصابة النجاسة ، لحديث أَبِي مُوسَى t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e كَانَ يَمْشِي فَمَالَ إِلَى دَمْثٍ فِي جَنْبِ حَائِطٍ فَبَالَ ، ثُمَّ قَالَ : " كَانَ بَنَو إِسْرَائِيلَ إِذَا بَالَ أَحَدُهُمْ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ بَوْلِهِ يَتْبَعُهُ فَقَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ " وَقَالَ : " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَبُولَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ " رواه أحمد وأبو داود ( [12] ) ، والحديث وإن كان فيه مجهول ، إلا أنه صحيح المعنى ؛ والدمث : اللين السهل ؛ والمعنى : أن يطلب مكانًا لينًا منحدرًا ، ليس بصلب فينتضح عليه بوله ، أو مرتفع فيرجع عليه ، وذلك أنزه له من الأذى ؛ قال الشوكاني - رحمه الله : الحديث يدل على أنه ينبغي لمن أراد قضاء الحاجة أن يعمد إلى مكان لين لا صلابة فيه ، ليأمن من رشاش البول ونحوه ؛ وهو وإن كان ضعيفًا فأحاديث الأمر بالتنزه عن البول تفيد ذلك ( [13] ) .

6 - عدم البول في الماء الراكد ؛ أي : الذي لا يجري ، ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ( [14] ) ؛ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة t أن النبي e قال : " لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " ( [15] ) ؛ لأن البول في هذه المياه يفسدها على النا س، وقد يظن من مَر به أن فساده لقراره أو مكثه ؛ ولربما تسبب في انتشار الأمراض كما هو معروف في زماننا ؛ ولذلك كان نهي الشريعة عن هذا الفعل أدبًا راقيًا من آداب قضاء الحاجة ، وفيه رعاية الإسلام لمشاعر الناس ومصالحهم ؛ وبيان أنه ينبغي على المسلم أن يكف أذيته عن المسلمين .
واتفق العلماء على أن الغائط ملحق بالبول ، وأنه لا فرق بين البول في نفس الماء أو في إناء يصبه فيه ، أو يبول بقربه فيجري إليه .

7 - تجنب البول في الجحر ؛ لحديث قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ ، وفي رواية أَنَّ النَبِيَّ e قَالَ : " لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرٍ " ؛ قَالُوا لِقَتَادَةَ : مَا يُكْرَهُ مِنَ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ ؟ قَالَ : كَانَ يُقَالُ إِنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ ( [16] ) .
وقد يكون الجحر مأوى لبعض الهوام الضارة كالحيات ، فإذا أحست ببول الإنسان فإنها تبادر بالخروج فتؤذيه ، وربما فزع فنفر فيصيبه من البول ما يتنجس به .
8 - تجنب التخلي في طريق الناس أو ظلهم أو موارد الماء ونحو ذلك من المرافق العامة ، لحديثأَبيهُرَيْرَةَtأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ " ، قَالُوا : وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الّذِي يَتَخَلّى في طَرِيق النّاس ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ " ( [17] ) .؛ وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ " ( [18] ) ؛ فزاد موارد المياه التي يردها الناس للشرب ، كالساقية والآبار ونحوها .
وقوله e : " اللَّعَّانَيْنِ " مثنى صيغة المبالغة ( لعَّان ) ، والمعنى : اتقوا فعل اللعانين، أي : صاحبي اللعن ، وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة ( [19] ) ؛ وفي رواية أبي داود : " اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ " أي : الأمرين الجالبين للعن ؛ لأن عادة الناس لعن من فعل ذلك وسبه ؛ واللعن : هو الدعوة بالطرد من رحمة الله U ؛ فمن رحمة الله بعباده أن أرشدهم إلى آداب تمنعهم من التسبب في لعن الناس لهم ، وتمنعهم من إيذاء الناس ، ومن هذه الآداب ألا يتخلى العبد في أماكن تجمع الناس أو تواجدهم كالظل والطريق وموارد الماء وأماكن التجمعات والأسواق .
وقوله e : " الّذِي يَتَخَلَّى في طَرِيق النّاس " أي : يتغوط في موضع يمر به الناس ، وما نهى عنه في الظل والطريق لما فيه من إيذاء المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره ؛ والله أعلم ( [20] ) ؛ مع ما قد يكون من التسبب في نشر الأمراض ، وهذا الفعل مظهر سيئ منافٍ لتعاليم الإسلام الداعية إلى النظافة .
وقوله e : " أَوْ فِي ظِلِّهِمْ " أي : مستظل الناس الذي اتخذوه مكانًا للمقيل والراحة ، وإضافة الظل إليهم دليل على إرادة الظل المنتفع به الذي هو محل جلوسهم ؛ أما ما لا ينتفع به فيجوز قضاء الحاجة تحته ، كالأشجار الموجودة بالخلاء بغير طريق الناس .
فمن أدب قضاء الحاجة ألا يؤذي الناس بحاجته ؛ ومن هنا ذكر الفقهاء أماكن أخرى تندرج تحت قاعدة عامة : ( كل موطن يتأذى الناس بالتخلي فيه فلا يجوز قضاء الحاجة فيه ) ، وقد جاء في ذلك بعض الأحاديث وإن كان فيها ضعف ؛ كالأشجار المثمرة ، وجانب النهر ؛ وألحقوا بها المرافق العامة والأسواق ؛ قالوا : نهي النبي e عن الملاعن يشمل كل ما كان مرفقًا عامًا يرده الناس ، سواء أكان للسير أو للظل أو للماء أو للسفر أو غيرها ، حتى ولو كان المكان خاليًا وقت قضاء حاجته ، لكن من شأنه أن يشغل بالناس فيما بعد ، فلا يجوز له أن يقضي حاجته فيه ؛ لأنه يتسبب لنفسه باللعن من الذين يتأذون من هذا العمل في هذا المكان ؛ والعلم عند الله تعالى .

فهذه آداب تختص بقضاء الحاجة في الفضاء ، ويضم إليها عند قضاء الحاجة ما سنذكره من الآداب المشتركة .

[1]- رواه أبو داود ( 2 ) ، وابن ماجة ( 335 ) .

[2] - ابن ماجة ( 336 ) .

[3] - أحمد : 3 / 443 ، 4 / 224 ؛ والنسائي ( 16 ) ، وابن ماجة ( 334 ) .

[4] - البخاري ( 356 ) ، ومسلم ( 180 ) ، والإدواة إناء من جلد فيه ماء .

[5]- أحمد : 2 / 371 ، وأبو داود ( 35 ) ، وابن ماجة ( 337 ) ، وابن حبان ( 1410 ) ، وفي إسناده ضعف ، لكن معناه صحيح .

[6]- أبو داود ( 14 ) ، والترمذي ( 14 ) ، وصححه الألباني .

[7]- رواه أحمد : 5 / 3 ، 4 ، وأبو داود ( 4017 ) ، والتِّرمِذي ( 2769 ، 2794 ) ، والنَّسائي في الكبرى ( 8923 ) ، وابن ماجة ( 1920 ) .

[8]- البخاري ( 150 - 152 ) ، ومسلم ( 271 ) ، والعنزة : عود من الخشب من نوع قوي ، في طرفها زج من الحديد ، والعرب كانت تصحبها في أسفارهم ، وكان إذا أراد الإنسان أن يبول والأرض قاسية يحرك الأرض برأسها الحديدي حتى تصبح رخوة ، حتى لا يرتد البول عليه فيصيب ثوبه من رذاذه ، وكانوا يستعملونها في أشياء كثيرة ، وكما قال موسى u : ] وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [ [ طه : 18 ] .

[9]- البخاري ( 155 ) .

[10] - مسلم ( 265 ) .

[11]- البخاري ( 144 ، 386 ) ، ومسلم ( 264 ) ، والمراحيض : جمع مرحاض وهو المغتسل ، وكنوا به عن موضع قضاء الحاجة .

[12]- أحمد : 4 / 396 ، 399 ، 414 ، وأبو داود ( 3 ) ، ورواه الحاكم ( 5364 ) وصححه ووافقه الذهبي ، وفي إسناده مجهول .

[13]- انظر ( نيل الأوطار ) : 1 : 102 .

[14]- مسلم ( 281 ) .

[15]- البخاري ( ) ، ومسلم ( ) .

[16]- أحمد : 5 / 82 ، وأبو داود ( 29 ) ، والنسائي ( 34 ) ، والحاكم ( 666 ) ، وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي ؛ وقال الحافظ في ( تلخيص الحبير : 1 / 310 ) : وصححه ابن خزيمة وابن السكن .

[17]- رواه مسلم ( 269 ) واللفظ له ، وأبو داود ( 25 ) .

[18]- رواه أبو داود ( 26 ) ، وابن ماجة ( 328 ) ، والحاكم ( 594 ) ، وصححه ، ووافقه الذهبي ، وحسنه الألباني .

[19]- انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 3 / 161 ، 162 .

[20]- انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 3 / 162 .
 
آداب التخلي في البيوت .
كانت العرب تأنف من اتخاذ الكنف داخل البيوت استتقذارًا ، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت : وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ( [1] ) ؛ وفي رواية عند أبي يعلى : وكنا قومًا عربًا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي يتخذها الأعاجم ، نعافها ونكرهها ( [2] ) ؛ وكانوا يقضون حاجتهم في الخلاء البعيد عن البيوت ، ثم اتخذت الكنف في البيوت حفاظًا على القعود والتكشف وغير ذلك ؛ وكان لرسول الله e بيت خلاء ، قيل : كان أسفل ما بين حجرة عائشة وحجرة فاطمة ، داخل الحاجز الحديدي الأخضر الموجود الآن .
فلما اتخذت الكنف في البيوت وجدنا بعض الآداب التي تختص بذلك ، وهي :
1 - أن لا يبول في مستحمه ، لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ t أَنَّ النَّبِيِّ e قَالَ : " لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ " ( [3] ) ، والمستحم : المغتسل ، مأخوذ من الحميم ، وهو الماء الحار الذي يغتسل به ، ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام ؛ وقوله e : " فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ " أي : أكثر الوسواس يحصل من البول في المغتسل ؛ لأن الموضع يصير نجسًا بذلك ، فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه شيء من رشاشه أم لا ، فيشك في طهارته ، هذا إذا لم يكن في المغتسل بالوعة ينزل فيها البول ، ويطهر رذاذه الماء الذي يصب بعد ذلك ؛ قال الخطابي – رحمه الله : إنما ينهى عن ذلك إذا لم يكن المكان صلبًا أو مبلطًا ، أو لم يكن له مسلك ينفذ فيه البول ، ويسيل إليه الماء ، فيتوهم المغتسل أنه أصابه شيء من رشاشه ، فيورثه الوسواس( [4] ) . وروى البيهقي في ( السنن الكبرى ) عن عبد الله بن مغفل أنه سئل عن الرجل يبول في مغتسله ، قال : يخاف منه الوسواس ( [5] ) ؛ قال ابن القيم – رحمه الله : وذلك لما يفضي إليه من تطاير رشاش الماء الذي يصيب البول فيقع في الوسواس ، حتى لو كان المكان مبلطًا لا يستقر فيه البول بل يذهب مع الماء ، لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء( [6] ) .
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عَنْ حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ : لَقِيتُ رَجُلاً صَحِبَ النَّبِيَّ e كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ e أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ ، أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلِهِ ( [7] ) ؛ والمغتسل : موضع الاغتسال ؛ وعند ابن أبي شيبة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما طهَّر الله أحدًا بال في مغتسله ( [8] ) ؛ ولعل قولها - رضي الله عنها- كان بسبب أن المغتسل في زمانهم لم يكن له بالوعة يجري فيها البول ، كما تقدم .

2 - الرخصة في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان :
تقدم أن من آداب قضاء الحاجة في الفضاء : عدم استقبال القبلة واستدبارها ، تعظيمًا لها وتوقيرًا ؛ وأما في البيوت فرخص فيه جمهور أهل العلم ، لما في الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ e يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ ( [9] ) ؛ وبوب له البخاري ( باب التبرز في البيوت ) ، وذكره - أيضًا - تحت باب ( من تبرز على لبنتين ) عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ : إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلَا تَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ ، وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ ( [10] ) ؛ وروى أبو داود عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا ؛ فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا ؟ قَالَ : بَلَى ، إِنَّمَا نُهِىَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلاَ بَأْسَ ( [11] ) ؛ وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر t قال : نهى رسول الله e أن نستقبل القبلة ببول ، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها ( [12] ) .
فجمعوا بين أحاديث النهي وبين الأحاديث الذي يستفاد منها الجواز ؛ بأن التحريم في الصحراء والإباحة في البنيان ؛ والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
وقد ذكر النووي - رحمه الله - اختلاف العلماء في هذه المسألة على أربعة مذاهب : أحدها مذهب مالك والشافعي أنه يحرم استقبال القبلة في الصحراء بالبول والغائط ، ولا يحرم ذلك في البنيان ؛ وهذا مروى عن العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر y ، والشعبي وإسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين ؛ والمذهب الثاني أنه لا يجوز ذلك لا في البنيان ولا في الصحراء ، وهو قول أبى أيوب الأنصاري t ، ومجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبى ثور وأحمد في رواية ؛ والمذهب الثالث جواز ذلك في البنيان والصحراء جميعًا ، وهو مذهب عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وداود الظاهري ، والمذهب الرابع لا يجوز الاستقبال لا في الصحراء ولا في البنيان ، ويجوز الاستدبار فيهما ، وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد ؛ ثم ذكر أحاديث الجواز ، ثم قال : فهذه أحاديث صحيحة مصرحة بالجواز في البنيان ، وحديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم وردت بالنهي ، فيحمل على الصحراء ليجمع بين الأحاديث ؛ ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها ، بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها ، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه ، فوجب المصير إليه ، وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى ، بأنه يلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة بخلاف الصحراء ؛ والله أعلم ( [13] ) ؛ وقال ابن حجر – رحمه الله : وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقًا ، قال الجمهور ؛ وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق ، وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة ( [14] ) ؛ والعلم عند الله تعالى .

[1] - جزء من حديث الإفك الطويل ، في الصحيحين : البخاري ( 3910 ، 4473 ) ، ومسلم ( 2770 ) .

[2] - أبو يعلى ( 4935 ) .

[3] - رواه أحمد : 5 / 56 ، وأبو داود ( 27 ) والترمذي ( 21 ) ، والنسائي ( 36 ) ، وابن ماجة ( 304 ) ، وابن حبان ( 1255 ) .

[4] - نقلا عن ( شرح السنة ) للبغوي : 1 / 385 .

[5] - السنن الكبرى ( 481 ) – تحقيق محمد عبد القادر عطا – دار الباز - مكة المكرمة .

[6] - انظر ( حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود للمنذري ) : 1 / 82 .

[7] - رواه أحمد : 4 / 110 ، 111 ، وأبو داود ( 28 ) ، والنسائي ( 238 ) وصححه الألباني .

[8] - ابن أبى شيبة ( 1194 ) .

[9] - البخاري ( 147 ، 2935 ) ، ومسلم ( 266 ) .

[10] - البخاري ( 145 ) .

[11] - رواه أبو داود ( 11 ) ، والحاكم ( 551 ) ، وصححه على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي ، وحسنه الألباني .

[12] - أحمد : 3 / 360 ، وأبو داود ( 13 ) ، والترمذي ( 9 ) ، وحسنه ، وابن ماجة ( 325 ) ، وصححه ابن خزيمة ( 58 ) وحسنه الألباني .

[13] - شرح النووي على مسلم : 3 / ، 155 154.

[14] - انظر ( فتح الباري ) : 1 / 245 ، وما بعدها ، وقد ذكر الخلاف في المسألة على سبعة أقوال .
 
آداب مشتركة

وهذه آداب مشتركة بين قضاء الحاجة في الفضاء وفي البنيان ، يستكمل بها المسلم تلكم الآداب
1 - أن لا يستصحب ما فيه اسم الله،إلا إن خيف عليه الضياع ؛ فقد استحب العلماء لمن أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى أن يضعه ، تعظيمًا لله تعالى وتأدبًا مع اسمه العظيم ( [1] ) ؛ لحديث أَنَسٍ t قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ e إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ ( [2] ) ، ذلك لأن نقشه كان محمد رسول الله ( [3] ) ؛ فلا ينبغي للإنسان إذا دخل الخلاء أن يكون معه شيء فيه ذكر الله ، لأن ذلك من تعظيم شعائر الله ، ] وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [ [ الحج : 32 ] ، وقد روى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال : كان ابن عباس - رضي الله عنهما - إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه ( [4] ) ؛ وروى - أيضًا - عن مجاهد أنه كان يكره للإنسان أن يدخل الكنيف وعليه خاتم فيه اسم الله ( [5] ) .
فإذا دخل ونسي أن ينزع الخاتم ؛ فإن أمكن نزعه وإخراجه وهو قريب من الباب بعيد عن الأقذار فعل ؛ وإن لم يمكن أن ينزعه أو خشي عليه السرقة أو الضياع إن نزعه جعله في حرز وأدخله معه ، أو جعل فصه مما يلي كفه وقبض عليه ؛ فقد روى ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه كان يقول : إذا دخل الرجل الخلاء وعليه خاتم فيه ذكر الله تعالى ، جعل الخاتم مما يلي كفه ثم عقد عليه بإصبعه ([6]).

2 - يُستحب له أن يُقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج ؛ فمن المقرر في شرع الله المطهر إكرام اليمنى وتنزيهها ، ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ e يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ( [7] ) ، أي : كل عمل من الأعمال المستحسنة لا الأعمال الخبيثة المستقذرة ، فإنه يستعمل لها اليسار ، كالاستنجاء ودخول بيت الخلاء ؛ وروى أحمد وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ e الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلاَئِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى ( [8] ) ؛ وعن حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ e أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ ( [9] ) .

3 - الجهر بالبسملة والاستعاذة عند الدخول في البنيان ، وعند رفع الثياب في الفضاء ؛ لما في الصحيحين عن أنسٍ t قَالَ : كَان رَسُولُ اللهِ e إذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ : " اللَّهُمَّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ"([10])،وعند البخاري في ( الأدب المفرد ) : كان النبي e إذا أراد أن يدخل الخلاء قال : فذكره ([11])، ورواهابنأبي شيبة بلفظ : كان إذا دخل الخلاء قال : " بسم الله ، اللَّهُمَّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ " ( [12] ) ، فزاد البسملة ؛ وروى أحمد وأبو داودوالنسائي وابن ماجة عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:" إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَدْخُلَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ " ( [13] ) .
الحشوش : جمع حش ، وهوالكنيف ؛ وأصله جماعة النخل الكثيف ، وكانوا يقضون حوائجهم إليها قبل اتخاذ الكنف في البيوت ؛ وقوله e : " مُحْتَضَرَةٌ " أي : يحضرها الشياطين ؛ وقوله : " أَعُوذُ بِكَ " أي : أعتصم وأحتمي بك ، لأنه لا يعيذ الإنسان منها إلا الله ، فبالاستعاذة بالله يُكفى شرها ؛ وقول أنس t : ( إذَا دَخَلَ ) تفسرها رواية ( الأدب المفرد ) : كان إذا أراد الدخول ، وكذلك حديث زيد t : " فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَدْخُلَ " ، فأفاد ذلك أن قول هذا الدعاء قبل الدخول لا بعده ؛ وهذا إن كان المكان معدًّا لذلك كما في البيوت الآن، فإن كان في الفضاء قال ذلك عند الشروع في تشمير ثيابه .
والخُبُث بضم الباء : جمع خبيث ، وهم ذكران الشياطين ، والخبائث : جمع خبيثة ، وهن إناث الشياطين ؛ وقيل : الخُبْث بإسكان الباء : الشر ، والخبائث : الذوات الشريرة ، فكأنه استعاذ من الشر وأهله ؛ والأحاديث تدل على مشروعية البسملة والاستعاذة عند دخول المكان المعد لقضاء الحاجة ، وإن كان في حديث زيد بن أرقم علة الاستعاذة في قوله e : " إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ " فقد جاءت علة البسملة في حديث عَليٍّ t أن رسول الله e قال : " سِتْرُ مَابَيْنَ أَعْيُنِ الجّنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إذا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الخَلاَءَ أَنْ يَقُولَ : بِسْمِ الله " ( [14] ) .
4 - أن يكف عن الكلام مطلقًا ، سواء كان ذكرًا أو غيره ، فلا يرد سلامًا ، ولا يجيب مؤذنًا ؛ فإن عطس أثناء ذلك حمد الله في نفسه ، ولا يحرك به لسانه ، لحديث ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ e يَبُولُ فَسَلَّمَ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ( [15] ) ؛ وفي سنن ابن ماجه عَنْ جَابِرٍ t أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ e وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ " ( [16] ) ؛ وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أَبِي سَعِيدٍ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " لاَ يَخْرُجُ الرَّجُلاَنِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ U يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ " ( [17] ) ، يقال : ضربت الأرض ، إذا أتيت الخلاء ؛ وضربت في الأرض ، إذا سافرت ( [18] ) ؛ والمقت : أشد البغض . وَعَن جَابرٍ t قَالَ : قَالَ رَسُول الله e : " إِذا تغوط الرّجلَانِ فليتوار كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه ، وَلَا يتحدثان عَلَى طَوْفِهِمَا ، فَإِن الله يمقت عَلَى ذَلِك " ( [19] ) ، والطوف : الْغَائِط ؛ قَالَه الْجَوْهَرِي .

5 - لا يمسكن ذكره بيمينه ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبي قَتَادَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " لاَ يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ ، وَلاَ يَتَمَسّحْ مِنَ الخَلاَءِ بِيَمِينِهِ " الحديث ( [20] ) .
فهنا مسألتان مختلفتان : الأولى أن لا يمس ذكره حال بوله بيمينه ، والثانية : أن لا يزيل النجاسة من القبل أو الدبر بيمينه ؛ وسبب النهي إكرام اليمين وصيانتها عن الأقذار ، وهو أدب راقٍ ، وتقدم حديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ e الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلاَئِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى .
ومحل النهي عن مس الذكر باليمين إذا لم تكن ضرورة ، فإن كان ثَمَّت ضرورة جاز من غير كراهة .

6 - أن يزيل ما على السبيلين من النجاسة وجوبًا ؛ بالماء ، أو بالحجر وما في معناه من كل جامد طاهر قالع للنجاسة ليس له حرمة ؛ وهو ما يسمى بالاستنجاء أو الاستطابة أو الاستجمار ، والاستنجاء : إزالة النجو ، وهو العذرة ؛ وأكثر ما يستعمل في الإزالة بالماء ، ويستعمل - أيضًا - في الإزالة بالحجارة ؛ والاستطابة : طلب الطيب ، والمراد بها هنا : تطهير القبل والدبر من أثر البول أو الغائط بحجر أو ماء ؛ لأنه طيَّب المحل من الخبث الطارئ عليه ؛ وهي تستعمل في الإزالة بالماء والحجر أيضًا ؛ ويختص الاستجمار في إزالة الأثر بالحجر .
روى أحمد وأبو داود والنسائي عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ " ( [21] ) ؛ وتقدم حديث أنَسٍ t قَالَ : كَانَ رَسول e الله يَدْخُلُ الخلاء ، فَأحْمِلُ أنَا وَغُلام نَحوِى إدَاوَةً مِنْ ماءٍ وَعَنَزَةَ فَيَسْتَنْجِي بِاْلمَاء .

7 - أن لا يستنجي بيمينه تنزيهًا لها عن مباشرة الأقذار ؛ وتقدم حديث سلمان t : نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول ، أو نستنجي باليمين ؛ وحديث حفصة - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ ؛ وحديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ e الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلاَئِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى ؛ وحديث أبي قتادة t : " وَلاَ يَتَمَسّحْ مِنَ الخَلاَءِ بِيَمِينِهِ " .
فيستحب أن لا يستعين باليد اليمنى في شيء من أحوال الاستنجاء إلا لعذر .

8 - يُشترط ثلاث مسحات مُنَقِّيات ، ولو بحجرٍ ذي شُعَب :
لحديث سلمان المتقدم ، وفيه : ( أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ) ؛ لأَنَّهُ لَا يُفِيد الِانْتِقَاء الْمَطْلُوب عَادَة ؛ وَعنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: أَتى النَّبيُّeالْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ ، وَلَمْ أَجِدْ ثَالثًا ، فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ ، فَأَخَذَهُمَا وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : " هَذَا رِكْسٌ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ( [22] ) ، زَادَ أَحْمَدُ : " إِنَّهَا رِكْسٌ ائْتِنِي بِحَجَرٍ " ( [23] ) ؛ الروثة : بفتح الراء وسكون الواو ، هي فضلة ذات الحافر ؛ والركس والرجس : كل مستقذر ، وهو النجس .
والأحاديث تدل على أن الاستنجاء لا يكون بأقل من ثلاثة أحجار ؛ لأنه e طلب من ابن مسعود t أن يأتيه بثلاثة أحجار ، ونهى – كما في حديث سلمان – عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار ، وتقدم حديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ " ، فاجتمعت الأدلة على أن العدد مراد ، والعلم عند الله تعالى .
فإن لم يحصل الإنقاء بالثلاث زاد حتى يحصل ، فإذا أنقى بأربع زاد مسحة خامسة ، لحديث أبي هريرة t وفيه : " وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ " ( [24] ) .
وجمهور العلماء على أن كل ما قام مقام الحجارة في الإنقاء فإنه يجزئ ، كالخرق ، أو المناديل الورقية ، ونحو ذلك ؛ لأن المقصود التطهير ، وإنما نص الشرع على الأحجار لأنها أيسر وأسهل ؛ قالوا : ويدل على عدم تعيين الحجر نهيه e عن العظام والرجيع ، فلو كان الحجر متعيناً لنهى عما سواه مطلقًا ، فلما خُصّ النهي بالعظام والرجيع دل على أن ما سوى ذلك من المباحات يجوز الاستنجاء به ؛ والعلم عند الله تعالى .
وكذلك ذهب الجمهور إلى أن المراد ثلاث مسحات ، قالوا : فلا يلزم ثلاثة أحجار، فلو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف فمسح بكل حرف مسحة أجزأه ؛ والأحجار الثلاثة أفضل من حجر واحد ؛ لأن القصد الإنقاء وتطهير المحل ، فإذا كان الحجر له ثلاث شعب غير متداخلة واستجمر بكل جهة منه أجزأ ( [25] ) .

9 - ألا يُستنجى بعظم أو روث ؛ لما في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ e وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ ، فَقَالَ : " ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا"أَوْنَحْوَهُ" وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ"فَأَتَيْتُهُبِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي ، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ ، وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ ( [26] ) ؛ وقوله e : " أَسْتَنْفِضْ " : أستنج ؛ وأصل النفض هز الشيء ليطير غباره ، والاستنفاض: الاستخراج والاستبراء ، ويكنى به عن الاستنجاء ؛ وقوله ( فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ ) أي : فلما انتهى من حدثه استنجى بالأحجار .
وعَنْ عَبْد اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " لاَ تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ ، وَلاَ بِالْعِظَامِ ، فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ " ( [27] ) ؛ وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ t أنّ رَسُولَ اللهِ e نَهى أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ ، وَقَالَ : " إِنّهُمَا لاَ تُطَهِّرَانِ " رَوَاه الدّارَقُطْنِيُّ وَصَحّحَهُ ( [28] ) ؛ وفي صحيح مسلم عن جَابِرٍ t قال : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ e أَنْ يُتَمَسَّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بِبَعْرٍ ( [29] ) ؛ وعن رويفع بن ثابت t قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ e : " يَا رُوَيْفِعُ ، لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِى ، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا ، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ " ( [30] ) .
دلت الأحاديث على النهي عن الاستنجاء بالعظم والروْث ، وقد علل في حديث أبي هريرة t بأنهما لا يطهران ، وفي حديث ابن مسعود t بأنهما طعام الجن ، وتقدم تعليل الروْثة - أيضًا - بأنها ركس .
فالتعليل بعدم التطهير في الروثة عائد إلى كونها نجسة ، وأما في العظم فلأنه أملس لا ينقي ولا يقطع البِلَّةَ ؛ وقيل : إن العظم إذا كان من حيوان مذكى فهو طعام الجن ؛ ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود t في قصة ليلة الجن أن رسول الله e قال : " أَتَانِى دَاعِيَ الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ " ؛ قَالَ : فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ : " لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا ، وَكُلُّ بَعَرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ " ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " فَلاَ تَسْتَنْجُوا بِهِمَا ، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ " ( [31] ) ؛ وإن كان العظم عظم ميتة فهو نجس ، فلا يكون مطهِّرًا ، وكذا الروث ، فإن كان طاهرًا [ أي : روث ما يؤكل لحمه ]فهو علف لدوابهم ، وإن كان نجسًا فليس بمطهر ، والعلم عند الله تعالى .

10 - أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال ليدفع عن نفسه الوسوسة ، فمتى وجد بللا قال : هذا أثر النضح ( [32] ) ، فعَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ أَوْ سُفْيَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ النَّبِيَّ e بَالَ ثُمَّ نَضَحَ فَرْجَهُ ( [33] ) ؛ وفي ( الموطأ ) عن الصلت بن زييد أنه قال : سألت سليمان بن يسار عن البلل أجده ؛ فقال : انضح ما تحت ثوبك بالماء ، واله عنه ( [34] ) ؛ قال أبو الوليد الباجي في ( المنتقى شرح الموطأ ) : قوله : ( انضح ما تحت ثوبك واله عنه ) دليل على أن المراد به رفع ما يقع في النفس من الوسواس من احتباس البول وتوقع نجاسة ؛ فأمره أن ينضح ما تحت ثوبه وهو الفرج وما قرب منه ، ثم يلهو عن ذلك البلل ، ويعتقد أنه من الماء الذي نضحه .ا.هـ .

[1]- انظر المجموع للنووي : 2 / 80 ، 81 ، والمغني لابن قدامة : 1 / 167 .
[2]- أبو داود ( 19 ) ، والترمذي ( 1746 ) ، والنسائي ( 5213 ) ، وابن ماجة ( 303 ) ، والحديث أعله غير واحد من العلماء ، وانظر تلخيص الحبير : 1 / 314 ، 315 .
[3]- رواه البخاري ( 5539 ) ، ومسلم ( 2092 ) ، والنسائي ( 5196 ) وابن ماجة ، ( 3641 ) عن أنس .
[4]- ابن أبي شيبة ( 1204 ) .
[5]- ابن أبي شيبة ( 1208 ) .
[6]- ابن أبي شيبة ( 1206 ) .
[7] - البخاري ( 166 ) ، ومسلم ( 268 ) .
[8] - أحمد : 6 / 265 ، وأبو داود ( 33 ) ، وصححه الألباني .
[9] - أحمد : 6 / 287 ، وأبو داود ( 32 ) ، وصححه الألباني .
[10] - البخاري ( 142 ) ، ومسلم ( 375 ) .
[11] - الأدب المفرد ( 692 ) .
[12]- ابن أبي شيبة ( 29902 ) .
[13] - أحمد : 4 / 369 ، 373 ، وأبو داود ( 6 ) ، والنسائي في الكبرى ( 9903 ) ، وابن ماجة ( 296 ) ، وصححه ابن خزيمة ( 69 ) ، وابن حبان ( 1406 ) .
[14]- رواه الترمذي ( 606 ) ، وابن ماجة ( 297 ) عن علي t ، وصححه الألباني ، ورواه الطبراني في الأوسط ( 2504 ، 7066 ) عن أنس t .
[15] - مسلم ( 370 ) .
[16] - ابن ماجة ( 352 ) ، قال البوصيرى في ( مصباح الزجاجة : 1 / 102 ) : هذا إسناد حسن ا.هـ . وصححه الألباني في الصحيحة ( 197 ) .
[17] - حديث أبى سعيد : أخرجه أحمد : 3 / 36 ، وأبو داود ( 15 ) ، والنسائي في الكبرى ( 33 ) ، وابن ماجه ( 342 ) ، وصححه ابن خزيمة ( 71 ) ، وابن حبان ( 1422 ) ، والحاكم : ( 560 ) وصححه ووافقه الذهبي ؛ وحسنه النووي في المجموع : 2 / 88 ؛ ورواه النسائي في الكبرى ( 31 ) ، والطبراني في الأوسط ( 1264 ) عن أبى هريرة t ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 1 / 488 ) : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون .ا.هـ . وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب ( 155 ، 156 ) ، والصحيحة ( 3120 ) .
[18]- انظر ( شرح السنة ) للبغوي : 1 / 382 .
[19]- عزاه ابن القطان في الوهم والإيهام : 5 / 260 ، لابن السكن وصححه ؛ وصححه الألباني ( 3120 ) ، وصحح به حديثا أبي سعيد وأبي هريرة المتقدمين .
[20]- رواه البخاري ( 153 ) ، ومسلم ( 267 ) ، واللفظ لمسلم .
[21]- أحمد : 6 / 108 ، وأبو داود ( 40 ) ، والنسائي ( 44 ) ، وصححه الألباني .
[22]- البخاري ( 155 ) .
[23]- أحمد : 1 / 450 .
[24] - البخاري ( 159 ، 160 ) ، ومسلم ( 237 ) .
[25] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 3 / 156 ، 157.
[26] - البخاري ( 154 ) .
[27]- التِّرمِذي ( 18 ) وصححه الألباني ، والنَّسائي في الكبرى ( 39 ) .
[28]- الدارقطني : 1 / 56 ( 9 ) .
[29]- مسلم ( 263 ) .
[30] - أبو داود ( 36 ) ، والنسائي ( 5067 ) ، وصححه الألباني .
[31]- رواه مسلم ( 450 ) .
[32] - انظر ( إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ) لابن القيم : 1 / 143 .
[33]- أحمد : 5 / 408 ، 409، وأبو داود ( 167 ) ، وصححه الألباني ، ورواه الحاكم ( 609 ) وصححه ووافقه الذهبي .
[34]- الموطأ رواية يحيى الليثي : 1 / 41 ( 88 ) .
 
تابع الآداب المشتركة
11 – وجوب التنزه من البول :
روى أحمد وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ " ( [1] ) ؛ وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ ، فَتَنَزَّهُوا عَنْهُ " ( [2] ) ؛ وروى الجماعة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ e أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ ، فَقَالَ : " إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ " ؛ وفي رواية : " لاَ يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ " ، وفي أخرى : " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ " ( [3] ) .
فهذه الأحاديث تدل على وجوب تنزه الإنسان من بوله ، وتحريم التساهل بذلك ، وأن التساهل من أسباب عذاب القبر ، بل إن أكثر عذاب القبر منه ؛ والتنزه يكون بالبول في محل دَمِثٍ حتى لا يطير عليه شيء من رشاش ، وإذا أصابه شيء منه فليبادر إلى تطهير ما أصابه من ثوبه أو بدنه .
وقد بوب البخاري في كتاب ( الوضوء ) على حديث ابن عباس (بابٌ من الكبائر أن لا يستتر من بوله ) ، وذلك لأن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة ، وتركها كبيرة بلا شك ، وعدَّ الذهبي في كتابه ( الكبائر ) عدم التنزه من البول من الكبائر ، وكذا ابن حجر الهيتمي في كتابه ( الزواجرعنالكبائر ).

12 - أن يقدم رجله اليمنى عند الخروج ويقول : غُفْرَانَكَ ؛ أما تقديم اليمنى فتقدم أنه لتنزيهها وإكرامها ؛ وأماقول : غفرانك ، فلما رواه الخمسة عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ قَالَ : " غُفْرَانَكَ"([4]) ؛ أي : أسألك غفرانك ، أو : اغفر غفرانك ، أي : الغفران اللائق بجنابك أو الناشئ من فضلك بلا استحقاق مني .
ومحل القول إن كان في بناء بعد الخروج ، وإن كان في الصحراء قاله إذا فارق المكان الذي قضى فيه حاجته .
وأما مناسبة هذا الدعاء عقيب الخروج من الخلاء ففيه قولان ذكرهما الخطابي - رحمه الله : الأول أنه قد استغفر من تركه ذكر الله تعالى مدة لبثه على الخلاء ، فكأنه رأى هجران الذكر في تلك الحالة تقصيرًا ، فتداركه بالاستغفار ؛ وقيل : معناه التوبة من تقصيره في شكر النعمة التي أنعم اللّه تعالى بها عليه ؛ فأطعمه ، ثم هضمه ، ثم سهَّل خروج الأذى منه ، فرأى شكره قاصرًا عن بلوغ حق هذه النعم ، ففزع إلى الاستغفار منه ؛ واللّه أعلم ( [5] ) . فالإنسان إذا تذكر نعم الله المتتابعة عليه : نعمة العافية ، ونعمة رزقه الطيبات ، ثم نعمة الاستمتاع والانتفاع بهذه الطيبات ، ثم تيسير خروج فضلات هذه النعمة بعد استفادة الجسم من عناصرها ؛ واستشعر التقصير في شكر هذه النعم ، فعندها يطلب الغفران لذلك .
وإلى معنى آخر دقيق ذهب ابن القيم - رحمه الله - قال : وفي هذا من السر - والله أعلم - أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه ، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه ، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب ، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه وخفة البدن وراحته ، وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر ، ويريح قلبه منه ويخففه ( [6] ) .
وفي سنن ابن ماجة عن أنس t قَالَ : كَانَ النَّبِي e إِذا خرج من الْخَلَاء قَالَ : " الحمدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنِّي الأَذَى وعَافَانِي " ( [7] ) ؛ والحديث على ضعفه مناسب للمقام ؛ وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي ذر وأبي الدرداء وحذيفة y أنهم كانوا يقولون ذلك ( [8] ) .
قال الشوكاني - رحمه الله : وفي حمده e إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة جزيلة ، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك ، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها ؛ وحق على من أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة فَسَدَّ به جوعته ، وحفظ به صحته وقوته ، ثم لما قضى منه وطره ، ولم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة ، خرج بسهولة من مخرج معد لذلك ، أن يستكثر من محامد الله Y ، اللهم أوزعنا شكر نعمتك ( [9] ) .

13 - أن يدلك يده بعد الاستنجاء بالأرض ، أو يغسلها بصابون ونحوه ليزول ما علق بها من الرائحة الكريهة ، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ e إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ دَعَا بِمَاءٍ فَاسْتَنْجَى ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ؛ وفي لفظ : أَنَّ النَّبِيَّ e تَوَضَّأَ ؛ فَلَمَّا اسْتَنْجَى دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ ( [10] ) .
في الحديث أنه يستحب لمن فرغ من الاستنجاء أن يدلك يده بتراب أو بالحائط ، أو يغسلها بصابون ؛ ليذهب الاستقذار منها .

[1]- أحمد : 2 / 326 ، 388 ، 389 ، وابن ماجة ( 348 ) ، ورواه الحاكم ( 653 ) ، وصححه على شرطيهما ووافقه الذهبي .

[2]- أخرجه عبد بن حميد ( 642 ) ، والطبراني في الكبير : 11 / 79 ، 84 ( 11104 ، 11120 ) ، والحاكم ( 654 ) ، وحسنه الحافظ في ( التلخيص ) : 1 / 311 ، وصححه الألباني لغيره في ( صحيح الترغيب ) .

[3] - أحمد : 1 / 225 ، والبخاري ( 213 ، 215 ، 1295 ، 1312 ، 5705،5708)،ومسلم(292)،وأبوداود(20) ، والترمذي ( 70 ) ، والنسائي ( 31 ، 2068 ، 2069 ) ، وابن ماجة ( 247 ) .

[4]- أحمد : 6 / 155 ، وأبو داود ( 30 ) ، والترمذي ( 7 ) وحسنه ، والنسائي في الكبرى ( 9907 ) ، وابن ماجة ( 300 ) ،
وصححه أبو حاتم وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي والذهبي .

[5]- انظر ( معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي : 1 / 19 .

[6]- إغاثة اللهفان : 1 / 58 ، 59 .

[7] - ابن ماجة ( 301 ) عن أنس t ، ورواه النسائي في اليوم والليلة كما في تحفة الأشراف : 9 / 12003 عن أبي ذر t ، وعنه ابن السني في اليوم والليلة ( 22 ) ، وهو حديث ضعيف .

[8]- انظر مصنف ابن أبي شيبة ( 29907 ، 29909 ، 29910 ) .

[9]- انظر ( نيل الأوطار ) : 1 / 89 .

[10] - أحمد : 2 / 454 ، وأبو داود ( 45 ) ، والنسائي ( 50 ) ، وابن ماجة ( 358 ) ، وحسنه الألباني .
 
مسألتان

ها هنا مسألتان تتعلقان بآداب قضاء الحاجة :
الأولى : في البول قائمًا
روى أحمد وأهل السنن عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا ( [1] ) .
قال الترمذي : و معنى النهي عن البول قائمًا على التأديب لا على التحريم ، وقد روى عن عبد الله بن مسعود قال : إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم .ا.هـ . قيل : لمنافاته الوقار ومحاسن العادات ، ولأنه قد يتطاير عليه رشاشه ؛ فإذا أمن من الرشاش جاز .
وكلام عائشة مبني على ما علمت ، وهو لا ينافي ما في الصحيحين عَنْ حُذَيْفَةَ t قَالَ : أَتَى النَّبِيُّ e سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا .. الحديث ([2])؛ ولا ما في صحيح ابن خزيمة عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله e أتى على سباطة بني فلان ، ففرج رجليه وبال قائمًا ( [3] ) ؛ فكلٌّ تحدث بما رأى ؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله : حديث عائشة مستند إلى علمها ، في حمل على ما وقع منه في البيوت ؛ وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه ، وقد حفظه حذيفة ، وهو من كبار الصحابة ؛ وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قيامًا ، وهو دال على الجواز من غير كراهة ، إذا أمن الرشاش والله أعلم ؛ ولم يثبت عن النبي e في النهي عنه شيء ( [4] ) ؛ قال ابن المنذر - رحمه الله : البول جالسًا أحب إليَّ ، وقائمًا مباح ، وكل ذلك ثابت عن النبي u .ا.هـ . وفي موطأ مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال : رأيت عبد الله بن عمر يبول قائما ( [5] ) ؛ قال محمد بن الحسن : لا بأس بذلك ، والبول جالسًا أفضل( [6] ) .
وأما سبب بوله e قائما فذكر العلماء فيه أوجهًا : أحدها أن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بالبول قائمًا ، فلعله كان به ؛ والثاني أنه لم يجد مكانا للقعود فاضطر إلى القيام ، لكون الطرف الذي من السباطة كان عاليًا مرتفعًا ؛ والثالث أنه بال قائما لكونها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت ، ففعل ذلك لكونه قريبًا من الديار ؛ ويؤيده ما جاء عن عمر t أنه قال : البول قائمًا أحصن للدبر ( [7] ) ؛ والرابع أنه e فعله للجواز في هذه المرة ، وكانت عادته المستمرة يبول قاعدًا ، لحديث عائشة المتقدم ؛ قال ابن حجر : والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز ، وكان أكثر أحواله البول عن قعود ؛ والله أعلم ( [8] ) .

الثانية : في هيئة القعود :
روى البهقي في ( السنن الكبرى ) عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى مُدْلِجٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ فَقَالَ : عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ e إِذَا دَخَلَ أَحَدُنَا الْخَلاَءَ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى الْيُسْرَى وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى ( [9] ) ، هذا الحديث فيه جهالة المدلجي وأبيه ، وقد ضعفه الأئمة ، فلا يثبت به حكم ؛ ولكن قال بعض العلماء إن ذلك يكون أيسر لإخراج الفضلات ؛ لأن المستقيم الذي يخرج الفضلات تأتيه الفضلات من جهة اليسار ، فهذه الهيئة تسهل عملية الإخراج .
قال الشيخ الفوزان في ( شرح بلوغ المرام ) : فإن ثبت من الناحية الطبية أن هذه الجِلْسة مفيدة صارت مطلوبة ، لا من جهة أنها من السنة ، ولكن من جهة أنها من المصلحة ؛ لأن كل ما فيه مصلحة فإنه مأمور به ، ما لم يشهد الشرع ببطلانها ، والله تعالى أعلم ( [10] ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

[1]- أحمد : 6 / ، والترمذي ( 12 ) وقال : حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح ؛ والنسائي (29)،وابنماجة(307)، وصححه الألباني .

[2] - البخاري ( 222 : 224 ) ، ومسلم ( 273 ) ؛والسباطة : مُلقى القمامة والتراب ونحوهما ، تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها ؛ قال الخطابي : ويكون ذلك في الغالب سهلا دمثًا ، لا يخد فيه البول ، ولا يرتد على البائل .

[3] - رواه ابن خزيمة ( 63 ) .

[4] - انظر فتح الباري : 1 / 330 .

[5]- انظر ( الموطأ ) رواية يحيى الليثي : 1 / 358 ( 143 ) .

[6]- انظر ( الموطأ ) رواية محمد بن الحسن ( 994 ) .

[7] - رواه البيهقي في الكبرى : 1 / 102 ( 498 ) .

[8]- انظر ( شرح النووي على مسلم ) : / 165 ، 166 ، وفتح الباري : 1 / 329 وما بعدها .

[9]- السنن الكبرى للبيهقي ( 466 ) ، وضعفه النووي والحازمي وابن حجر وغيرهم .

[10]- منحة العلام في شرح بلوغ المرام : 1 / 336 .
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذه السطور ، وقد أغفلت بعض ما ذكره الفقهاء من الآداب لعدم صحة الرواية فيه ، أو لكونه لم يرد فيه عن النبي e شيء .
والله الكريم أسأل أن يتقبل ذلك مني ، وأن يجعل له القبول في الأرض ، وأن ينفع به كاتبه وناشره وقارئه والدال عليه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .

وكتبه


أفقر العباد إلى عفو رب البرية


محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
عودة
أعلى