(قراءة نقدية في منهج طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر) لحازم محيي الدين

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,331
مستوى التفاعل
138
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
يُعد تفسير "الجواهر" آخر مؤلفات الشيخ طنطاوي جوهري، ويمكن اعتباره خلاصة عامة جامعة، ومركزة لكل الأفكار التي أفنى عمره كله في سبيل اكتسابها، ونشرها بين الناس. وفي الحقيقة، فقد بدأت علاقة جوهري بالتفسير في وقت مبكر في حياته، حيث بدأ يفسِّر بعض الآيات القرآنية، ويلقيها على مسامع طلابه منذ أن كان مدرساً في مدرسة دار العلوم، ثم بدأ يكتب بعض المقالات التي تتناول تفسير بعض الآيات الكريمة ممزوجة بالعلوم الكونية الحديثة، وكان يقوم بنشر هذه المقالات في بعض المجلات مثل "الملاجئ العباسية"، وجريدة "المؤيد"، وجريدة "اللواء "[1]، وكان يقوم أيضاً بإعادة نشر هذه المقالات في كتبه التي كان ينشرها في ذلك الوقت[2]. ثم بدا له بعد أن استقال من عمله الحكومي عام (1922م)[3] أنْ يقوم بتفسير كامل للقرآن الكريم من أوله إلى آخره، فأقبل منذ ذلك التاريخ على كتابة تفسيره الذي أعطاه اسما مشتقاً من اسمه الشخصي "الجواهر في تفسير القرآن" على غرار أسلوبه في تسمية معظم كتبه السابقة.

ولقد انتهى الشيخ من كتابة تفسيره بشكل كامل سنة (1925م)، وكان التفسير آنذاك لا يزيد على 11جزءاً، ثم استمر في تنقيحه والإضافة عليه حتى وصل إلى حجمه الحالي أي 26 جزءاً تقع في 13 مجلداً. وقد طُبع في حياته مرتين بين عامي (1925ـ 1935)[4].

وقد أعلن جوهري في مقدمة تفسيره أن هدفه الرئيس من هذا التفسير هو تفهيم المسلمين العلوم الكونية وحثهم على الإقبال عليها والتفوق في دراستها كمقدمة ضرورية لاستئناف المدنية الإسلامية المجهضة[5].

وقد أشار بوضوح تام في مكان آخر أن تجديد الأمة، وترقية الجنس البشري بشكل عام هو الهدف الأخير من وضع هذا التفسير: "وعسى الله أن يُجدد لهذه الأمة أمرها، ويُرجع مجدها، ويرفع عنها نيرها، ويجعلها رحمة للعالمين. اللهم إني لا أريد بكتابي إلا رقي النوع الإنساني، وأن يكون المسلمون أرشد العالمين، وأصلح بني الإنسان، وأن يكونوا قادة وسادة ورحمة لهم لا يظلمون ولا يُظلمون"[6] .

وبهذا نفهم أن الغاية الإصلاحية هي الغاية التي هيمنت هيمنة تامة على تفسير "الجواهر"، ومن هنا يحق لنا أن نستغرب كيف تم إغفال دراسة وتحليل هذا التفسير ضمن تفاسير المدرسة الإصلاحية، وكيف تمَّ تصنيفه في مدرسة التفسير العلمي فقط مع أن التفسير العلمي بالنسبة للشيخ جوهري على الرغم من أهميته المركزية لا يزيد على أن يكون الوسيلة الرئيسة للتجديد والإصلاح، وليس هو الهدف الأخير من هذا التفسير.

المنهج وأبعاده الإصلاحية :

قد يكون من نافلة القول الإشارة هنا إلى أن الكلام عن منهج وطريقة طنطاوي جوهري في تفسيره لا يمكن إيفاؤه حقه في حدود هذه الفقرة المحدودة، وكل الذي سنقوم به هنا لا يزيد عن الإشارة العامة إلى أهم العناصر المكونة لهذا المنهج، وهذه الطريقة.

والهدف من هذه الإشارة، هو الاطلاع العام على منهج وطريقة طنطاوي في التفسير أولاً، والوقوف بعد ذلك قدر الإمكان على موقع البعد الإصلاحي في مجمل منهجيته في التفسير. ويجب التنبيه منذ البداية إلى أن طنطاوي جوهري كان يوجِّه تفسيره بشكل رئيس إلى قارئ يدعوه بالقارئ الذكي الفَطِن، فتفسيره يتوجه إلى قارئ معين، نفهم من خلال التفسير نفسه أن هذا القارئ مطلعٌ على الثقافة الإسلامية، والثقافة التاريخية والفلسفية والعلمية المعاصرة، وبهذا يمكن أن نصف مستوى خطابه بشكل عام في التفسير بأنه خطاب نخبة.

ويمكن لنا أن نفهم أن اصطناع جوهري لحوار مع شخص مفتَرض في مواضع كثيرة من تفسيره، كان عبارة عن استباق منه للإجابة على الانتقادات المتوقعة لتفسيره، ومنهجه فيه، وهذا يدل دلالة كبيرة على أن جوهري كان يعي وعياً تاماً بجدة خطابه التفسيري، وتفرّده بمنهجٍ قد يثير الكثير من الاعتراضات عليه من ناحية الشكل والمضمون[7]. ومن المحتمل أن يكون جوهري قد لجأ إلى اصطناع هذه الشخصية التي أنطقها باسم من ينقد أفكاره في مجتمعه، ليعوّض بها نفسه عن حالة التواصل والتفاعل العلمي الكبير التي كان يأمل أن يتلقاه بها المجتمع العلمي في مصر.

ولنبدأ الآن بذكر الخطوط العريضة لطريقته ومنهجه في التفسير.

ـ استخدم، أسوةً بكافة المفسرين السابقين، منهج التفسير التحليلي، بمعنى أنه فسَّر القرآن الكريم كاملا حسب الترتيب العثماني، حيث بدأ بسورة الفاتحة، وانتهى بسورة الناس. وبهذا يُعد تفسير الجواهر أول تفسير كامل للقرآن الكريم في مصر في العصر الحديث.

ـ يمكن تلخيص طريقته في التفسير بأنه كان يقسِّم كل سورة إلى عدة أقسام، يجمع في كل قسم مجموعة آيات يرى أنها تُشكل وحدة نصية واحدة، تتناول معنى واحداً، ثم يفسِّر السور قسماً قسماً مفتتحاً كلَّ قسم بتفسير لفظي موجز له، يحرص فيه على تعريف الكلمات والمفاهيم الرئيسة الواردة فيه بشكل واضح ومنضبط, ثم ينتقل بعد ذلك إلى ذكر المعنى الإجمالي لآيات القسم الذي يشرحه، وهو هنا لا يزيد على ذكر المعاني العامة المذكورة على وجه الإجمال في التفاسير السابق, ثم يختار بعض الكلمات والمعاني الواردة في القسم الذي يفسّره، ويعقد لها فقرات خاصة تحت أسماء خاصة يختارها غالبا من أسماء الجواهر وصفاتها (مثل: الجوهرة، الزمردة، الزبرجدة، الياقوتة..)، ثم يبدأ بذكر صفحات عديدة تتناول كل ما يتعلق بهذه الكلمات والمعاني من معلومات طبيعية واجتماعية ونفسية وتاريخية كشف عنها العلم الحديث. وفي نهاية كل سورة يعقد غالباً فقرة خاصة تحمل اسم "النظرة العامة للسورة" يلخص فيها أهم الأفكار والمعاني الواردة فيها.

وقد استخدم جوهري في الأقسام التي خصصها لتفسير المعنى الإجمالي، منهج التفسير بالأثر، حيث استعان، ولو بشكل مقتضب ومحدود، ودون تحقيق وعزوٍ للأقوال إلى أصحابها، على فهم المعاني العامة للآيات، بالقرآن الكريم نفسه، وبأسباب النزول، وبعض الأحاديث النبوية، واللغة والبلاغة، والقليل من الأخبار الواردة عن السلف رضوان الله عليهم أجمعين.

ـ استخدم أسلوب القص، والحكاية، والحوار بشكل متميز، والحكايات التي ذكرها إما حوادث شخصية جرت معه، أو حكايات من التراث الإسلامي، أو من ثقافات العالم الهندية، واليونانية، والأوربية[8]. وهو بهذه الحكايات قام بغرس معاني الآيات التي فسَّرها غرساً عميقاً في عقل القارىء، وقام بتوسيع آفاقه ومداركه في الوقت نفسه من خلال اطلاعه على جزءٍ من تاريخ وثقافات العالم من حوله. هذا فضلاً عن أن ذكره للحكايات في سياق تفسيره كان يساعد القارىء على استرجاع نشاطه الذهني، واستعادة تركيزه وانتباهه، وبهذا يمكن تشبيه حكايات جوهري في تفسيره بمحطات الراحة والاستجمام التي ينزل فيها القارىء في أثناء معاناته قراءة تفسيرٍ مليء بالمسائل العلمية، والقضايا الفلسفية، والمشاغل الإصلاحية.

ـ استخدم في تفسيره الرسوم التوضيحية، والجداول، وصور النباتات والحيوانات، والمناظر الطبيعية، وقام أحياناً بتلخيص تفسير آية ما عن طريق تحويل هذا التلخيص إلى جدولٍ على طريقة البيانات والمخططات الحديثة[9]. ومما لا شكَّ فيه أنه متأثرٌ بعمله هذا بخبرته التربوية الطويلة، والعميقة في ميدان التربية والتعليم، فهذه الطريقة، وإن كانت غريبة تماماً عن كتب التفسير القديمة والحديثة على السواء، فإنها لا تخلو من فائدة في توضيح المعاني، وتثبيتها في ذهن القارئ من جهة، وتشويقه، ودفعه لمتابعة قراءة التفسير دون كلل أو ملل من جهة أخرى، وفي الحقيقة، فإنه لا يوجد أي سبب أو دليل شرعي يمنعه من استخدامها.

ـ حرص في بداية كثيرٍ من السور القرآنية على بيان المعاني الكلية التي تعالجها السورة، فسورة البقرة تدور في نظره حول محورين عامين هما: الإيمان والعمل[10]، وبهذا يمكن أن نقول إن تفسير الجواهر كان خطوة مهمة على طريق الاهتمام بالوحدة الموضوعية للسور القرآنية، وهو الطريق الذي شهد تطوراً ملحوظاً على يد سيد قطب (ت1966م) في تفسيره "في ظلال القرآن".

ـ كان يحرص حرصاً شديداً على بيان وجوه الاتصال والتناسب بين السور القرآنية، وبين الآيات داخل كل سورة على حدة[11]، ولعل هذا الاهتمام يأتي متسقاً مع اهتمامه الحثيث بالبحث عن روح النظام والنسق في الكون والأمم، وكتاب الله تعالى، في نظره، يتطابق مع نظام الكون من حيث إنه كلام الله، والكون فعله، وبالتالي لا بد من التطابق بينهما على مستوى البناء والتنظيم الخارجي، وعلى مستوى المحتوى، والمضمون الداخلي.

ـ اعتنى جوهري عناية كبيرة، بإبراز السياق التاريخي والثقافي لنزول القرآن الكريم، وتحديد البيئة التاريخية، أماكنها وأحداثها وأشخاصها، التي نزل القرآن الكريم فيها، من خلال حرصه الشديد على جمع وذكر أسباب نزول الآيات الكريمة، وحرصه كذلك على ذكر العادات، وظروف البيئة العربية التي سبقت ورافقت نزول هذه الآيات [12].

فقارئ هذا التفسير يخرج من قراءته بفهم معقول للسياق التاريخي الثقافي لنزول القرآن الكريم، ولا شك أنّ جهد جوهري في هذا المجال هو جهد علمي مشكور، وقد شكَّل حجراً أساسياً لكل منْ جاء بعده من المفسرين الذين أخذوا بعين الاعتبار هذا السياق في تفسيرهم، وأخص بالذكر منهم سيد قطب (ت1966م)، وعزة دروزة (ت1984م).

ـ لم يُظهر الشيخ جوهري اهتماماً كافياً بالتفسير الفقهي للآيات التشريعية بشكل عام، وكان يكتفي في تفسير أحكام هذه الآيات بذكر الأقوال الفقهية بشكل موجز جداً، منسوبة إلى أصحابها من علماء الصحابة والسلف وأئمة المذاهب، مع عناية خاصة بالمذهبين الحنفي والشافعي، من دون اللجوء إلى ذكر أدلة كل فريق في الأغلب، أو حتى وجه دلالة الآية المفسَّرة عليها، ودون الترجيح بين هذه الأقوال في الغالب. وكان يرجع في نقل هذه الأقوال إلى كتب التفسير السابقة، كتفسير الطبري، وابن كثير، والبغوي والرازي[13].

وفي الحقيقة، فإن عدم اهتمام جوهري بالجانب الفقهي من التفسير ينسجم مع رؤيته الإصلاحية التي يضع فيها الاعتناء بالعلوم الكونية في المقام الأول، ويرى فيها أن الآيات الكونية أولى بالاهتمام والعناية من آيات الأحكام بشكل عام. وقد يكون السبب في ذلك أيضاً هو أن العلماء والمفسرين الذي سبقوه، قد أعطوا تلك الآيات التشريعية جلّ اهتمامهم في تفاسيرهم، ولم يعطوا الآيات الكونية ما تستحقه من اهتمام ودراسة وبحث، لذا انصبَّ اهتمامه الزائد على دراستها وتفسيرها، دون آيات الأحكام، التي لم يُبق السابقون في تفسيرها، واستنباط الأحكام منها مزيداً لمستزيد من اللاحقين.

ـ لم يلجأ جوهري إلى استخدام التحليل اللغوي والبلاغي إلا في أدنى الحدود، وبقدر الحاجة، وبأبسط طريقة ممكنة، وجلّ اهتمامه اللغوي كان ينصب على تحليل الكلمات الغريبة للوقوف على أصل اشتقاقها لتحديد معناها بدقة[14].

وقد كان من منهجه وخطته في التفسير بشكل عام أن لا يخوض في بحر القضايا الخلافية التي لا يرى من ورائها فائدة علمية، أو عملية ذات قيمة[15].

ولعل في اقتصاد جوهري الشديد في المسائل الشرعية، والفقهية، واللغوية، والبلاغية، والقضايا الخلافية، وتوسعه الشديد في مقابل ذلك في القضايا العلمية والروحية، والمسائل الإصلاحية، دليلاً واضحاً على مدى انسجام منهجه في التفسير مع هدفه من هذا التفسير، أي اتخاذ التفسير منبراً عالياً لتبليغ مشروعه الإصلاحي لمسلمي عصره، ولا يهمه بعد ذلك، إذا لم يُعط التفسير حقه من التمحيص والتحقيق العلمي للمسائل التي يطرحها النصُّ القرآني نفسه سواءً على الصعيد العقدي أم على الصعيد التشريعي، أم لا .

ـ تظهر في التفسير مسحة صوفية شفافة، ونزعة خلقية راقية، التفت جوهري من خلالها للمعاني الروحية العميقة التي يتضمنها كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقد عمل جوهري على استثمار هذه النزعة والفهم الصوفي الذي تقبله حدود اللغة العربية وحقل دلالتها، في سبيل تحريك طاقة المسلم نحو العمل، وحفزه إلى العلم، والسير في الأرض، وتحمل أعباء الإصلاح[16]، وهكذا فقد شكَّلت إشاراته الصوفية دافعاً إضافياً للعقل والجهد البشري للعمل في ميدان عمارة الأرض، وإصلاح أحوالها، بدل أن تكون ـ كما حدث على يد كثير من متصوفي عصره الذين انتقدهم بشدة ـ دعوة إلى استقالة العقل البشري، وتكبيل قدرة المسلم على العمل والإنجاز، والإخلاد والاستكانة لإكراهات الواقع وتصاريفه، باسم الدين ونصوصه[17].

وفي المقابل فقد أكثرَ في تفسيره من النقل عن التوراة والإنجيل، وبشكل خاص إنجيل برنابا[18].وأكثرَ النقل من كتب الإمام الغزالي، وبشكل خاص كتابيه: "جواهر القرآن"، و"إحياء علوم الدين"[19]، وأكثر النقل أيضاً من رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ذات البعد العرفاني[20]. كما أكثر جداً من النقول من كتب الفلاسفة القدماء، وخصوصا أفلاطون وسقراط[21]، وفلاسفة وعلماء الغرب المعاصرين سواء في مجال علوم الطبيعية، أم في مجال النظريات الروحية، التي تؤمن بوجود الأرواح وقدرتها على مخاطبة الأحياء والتأثير فيهم، ويقينية المعرفة المتلقاة عن طريق الأرواح!

وفي الحقيقة، فإن الشيخ طنطاوي كان يعتقد بهذه النظريات اعتقاداً راسخاً إلى درجة جعلته يشارك مشاركة فعالة في تأسيس أول جمعية روحية في مصر لتحضير الأرواح ومخاطبتها، وهي دائرة القاهرة الروحية[22]، وقد أثَّرت آراؤه الروحية في تفسيره إلى درجة يمكن لنا أن ننظر إليه على أنه تفسير "علمي" و"روحي" في آن معا[23]. ومما لا شك فيه فإن جمع جوهري بين الرؤية "الروحية" والرؤية الفلسفية العرفانية، وبين الدعوة العلمية والسننية الصارمة في تفسيره وفكره عموماً، يشير إلى مأزق عميق في بنية خطابه الإصلاحي، وقد تكون هذه الازدواجية القلقة في فكره قد ساهمت ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ في أن لا يترك تفسيره الأثر الكبير الذي كان يتوقعه له صاحبه.

ومن جهة أخرى، فإنه يمكن القول إن ظاهرة إدراج نصوص كثيرة مأخوذة من مراجع وكتب إسلامية، وأوربية عديدة، ومن مجلات وجرائد مصرية، وعربية، وأوربية متنوعة، وإدراج نصوص طويلة جداً من معظم كتبه، ومقالاته المنشورة سابقاً، هي سمة بارزة من سمات تفسير "الجواهر"، وقد تكون هذه السمة مؤشر ملحوظ على انفتاح تفكير جوهري على المصادر والمعارف البشرية بغض النظر عن أصحابها، وهذا أمر إيجابي بحد ذاته، ويمكن أن نعزو إليها السبب في ضخامة هذا التفسير الكبير الذي بلغ ثلاثة عشر مجلداً من القطع الكبير، ولكننا في الوقت نفسه نشير إلى أن هذه السمة مسؤولة عن ظاهرة تقطيع وحدة وانسجام وتماسك التفسير نفسه، وخاصة إذا عرفنا أن أغلب هذه النصوص المدرَجة بعيد الصلة عن أجواء الآيات المفسَّرة التي جاءت تلك النصوص في سياقها[24].

ـ كان يقرِّب الأشياء التي لا تخضع للتفسير العلمي المادي كإحياء الموتى، ووجود الملائكة والجن والبعث والنشور والخوارق والأمور الغيبية إلى الأذهان بشكل عام باستخدام المعلومات العلمية الموجودة بين يديه، وباستخدام أسلوب قياس الغائب على الشاهد الشائع عند متكلمي الخلف من أجل تقريب هذه المعاني الغيبية إلى مثقفي عصره الماديين. فهو يقيس الملائكة على النفس (المخ) في الإنسان، فكما أن النفس تسيطر على الجسد، وتدبر شؤونه، فكذلك الملائكة، فهي قد تكون ـ من باب التقريب ـ قوى خلقها الله تعالى تدبر وتسيطر على كل ما خلقه الله في الكون من الكواكب والشمس والقمر والنبات والحيوان[25].

وكان لا يتردد في بعض الأحيان عن تأويل بعض الآيات بما يتوافق مع النظريات الروحية التي شاعت في عصره في بعض المحافل في أوربا وأمريكا بطريقة لا تخلو من تكلف وتعسف كبيرين[26].

ـ وظِّف مجموعة من العلوم الكونية الحديثة، وقام بإدراج نصوصٍ منها بشكل مطول في تفسيره[27]

لمجرد ورود كلمة لها علاقة بأي مظهر من مظاهر الكون. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ جوهري كان يعتقد أن الإشارات التاريخية والعلمية الواردة في القرآن الكريم مذكورة بطريقة مجملة، وهي تشكِّل في مجموعها مقدماتٍ دافعة للبحث العلمي الذي يجب أن يقوم به علماء الأمم، وبشكل خاص المسلمون منهم الذين سبق لهم تلاوة الآيات التي تتضمن هذه الإشارات. فالقرآن الكريم يذكر الحقائق مجملة عامة من حيث تضمنه الإشارة إلى كل الظواهر الكونية من جهة، ويحث علماء الأمم على استقصاء هذه الحقائق والوقوف على تفاصيلها من جهة أخرى، فبيان وتفصيل المسائل العلمية والتاريخية من مهام العقل والخبرة البشرية، وليس من مهام الوحي الذي يكتفي بالإجمال، وإثارة الرغبة عند البشر في اكتشاف هذه العلوم، وليرتقوا بعد ذلك بقدر تعمقهم في دراسة هذه العلوم في مدارج الحضارة والتقدم. يقول جوهري: "واعلم أن خلق آدم وحواء ليس هناك دليل قطعي على كيفيته، والقرآن أتى به مجملاً على مقتضى ما تقبله العقول وتفهمه النفوس، فأما التفصيل، فليس للكتب السماوية، وإنما هذه مقدمات يُؤتى بها للمقاصد، فأما التفصيل فقد قام به علماء الأمم من عجم وعرب"[28].

ويقول في موضع آخر في حوارٍ له مع شخصٍ آخر نافياً عن نفسه تهمة من نسبَ له القول إنّ كل العلوم التي ظهرت في الغرب موجودة في القرآن الكريم[29]: "وأنا لم أقل إن أهل أوروبا استنتجوه من القرآن، بل استنتجوه بعقولهم، ولقد بعث الله الغراب وغير الغراب لهم كما بعث لنا، وأراهم الغراب وغير الغراب كما أرانا، ولكن هم رأوا، ونحن ما رأينا، وهذا عار على أمة الإسلام أن تجهل عقلها، وتجهل دينها، فأنا لم ألصق بالقرآن يا صاحِ علماً ولا صناعةً، وإنما أنا متبع لا مبتدع [يقصد أنه متبع لعلماء الإسلام الذين أوجبوا دراسة العلوم الكونية، واعتبروها من فروض الكفايات التي تتوقف عليها مصالح المسلمين، مثل الجويني والغزالي[30]]، فقال: لقد أحسنتَ، كل الإحسان، وأجبتَ ما في صدري، وعلمتُ اليوم أن الذي يقولون فيك ما قلتُه الآن [أي اتهامه بإلصاق كل شيء بالقرآن والدين] جُهَّال لم يقرؤوا مقالةً تامة من كلامك، فقلتُ: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"[31]. وبهذا يمكن أن نقول إنه قد تمّ فهم علاقة تفسير "الجواهر" بالعلوم الكونية بشكل مغلوط.

ومهما يكن من أمرٍ، فقد أفرط طنطاوي في استخدام العلوم الكونية في تفسيره، إلى درجة أنه اعتبرها مرجعية إجبارية لفهم القرآن وتفسيره، فها هو يقول: "هذا القرآن يستحيل أن ينتفع به المسلمون إلا إذا قرؤوا جميع العلوم، ومن أين يعرفون معنى هذه الآيات التي تُعرض على العامة والأطفال لأنها في السور الصغيرة المعروفة لكل قارئ [يقصد سور جزء عمَّ] إلا بالعلوم والمعارف، وأرجو أن يتم ذلك بعد انتشار هذا التفسير"[32]. ويقول في موضع آخر: "أوَ ليس في قوله [تعالى]: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط} ما يدعو إلى سائر العلوم، فإن القيام بالقسط هو نفس النظام، أي نظام الفلك، ونظام الطبيعة. وقد قال علماؤنا: لا يعرف معنى القيام بالقسط إلا من درس سائر العلوم، كما قالوا في قوله تعالى {ووضع الميزان}في سورة الرحمن، إن هذا الميزان لا يعقله إلا الذي درس كل علمٍ كالطبيعة والفلك والكيمياء"[33].

في كلام جوهري هذا خروجٌ عن طبيعة النص القرآني، ومنهجية فهمه، فالعلوم ضمن شروط منهجية منضبطة، قد تزيد عملية التفسير غنى وعمقاً، ولكن بلا شك فإنّّ الناس يستطيعون من دونها أن يفهموا القرآن الكريم في الحدود المعقولة الضامنة لتوظيفه في حركة التاريخ وصياغته، والدليل على ذلك ما فعله المسلمون الأوائل الذين لم تدخل العلوم الكونية في مرجعياتهم العلمية في فهم القرآن الكريم، وعلى الرغم من ذلك فقد فتحوا العالم، وأسسوا حضارة عالمية بكل المقاييس الحضارية المعروفة في تلك الأزمان.

ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ طنطاوي كان يهدف من سرد شتى العلوم والمعارف في تفسيره إلى إيقاظ رغبة الأجيال الجديدة من المسلمين في دراسة العلوم الحديثة، ودفعهم دفعاً من خلال ربطها بالقرآن الكريم إلى الإبداع في هذه العلوم، والتفوق فيها على الغربيين الذين احتلوا بلادهم، وعملوا على منع وصول هذه العلوم إليهم، خوفاً من استيقاظهم، وانتزاع بلادهم منهم[34]. يقول جوهري موضحاً هدفه من ذكر العلوم الكونية في تفسيره: "أن تترقى العقول الإسلامية كما تترقى عقول البشر بهذه العلوم، ولذلك لما دخل الفرنجة بلادنا المصرية منذ 45 سنة، منعوا هذه العلوم عن المصريين ليحصروها في الجهالة..لأن علماءهم أفهموهم أن تعليم الأمم المحكومة يجعلها مدركة الحقائق، فتطرد المستعمرين، وهذا شأن الغاصب مع صاحب البلاد، وأنا أنصح المسلمين جميعاً أن يعرفوا هذه العلوم، ويقرؤوها لينفعوا أممهم، ويطردوا عدوهم، ويرضوا ربهم"[35].

وهكذا نفهم أنّ إدراج جوهري في تفسيره مئات الصفحات من المعلومات الكونية، حتى لو يكن لها أدنى علاقة بالآيات المفسَّرة إلا ورود اسم أو لفظ له علاقة بالأمور الكونية، لم يكن إدراجاً معرفياً فقط، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كان بالإضافة إلى ذلك تكتيكاً إيديولوجياً حاول من خلاله نفع الأمة وإنهاضها، وتأهيلها للتصدي للاستعمار والانعتاق من سلطته التي تعيق نهضة وتقدّم المجتمعات الإسلامية.

ـ تسود التفسير من أقصاه إلى أقصاه روح إصلاحية متوهجة، تدعو بحماس وإخلاص منقطعي النظير إلى إصلاح أحوال العالم الإسلامي، وتدعو المسلمين إلى استئناف نهضتهم، واستعادة دورهم التاريخي في العالم، وهي لا تفتر في تشخيص علل وأمراض الأمة الإسلامية، وتقترح في مقابل هذه العلل حلولاً ومخارج، كان يرى رحمه الله تعالى أنها مصيرية، وحاسمة، ولا بدّ من الأخذ بها[36].

وبسبب شدة وضوح وحضور هذه الروح الإصلاحية، يمكن لنا أن نصف تفسير جوهري بأنه تفسير عملي نضالي، بمعنى أنّ جوهري كان يحرص دائماً على توجيه كلامه لا لمجرد الإعلام والبيان والإظهار، بل من أجل دفع القارىء إلى ميدان الحركة والعمل، ميدان الانخراط في تبني وإنجاز المشروع الإصلاحي الذي يدعو إليه. فهو لا يكف عن توجيه الخطاب إلى القارىء الذكي، وإلى عموم الأمة الإسلامية ممثلة بعلمائها وأمرائها وحكامها، وحثهم على أن ينهضوا جميعاً، ويلتفوا حول أفكاره الإصلاحية قياماً بحق الإسلام، ونهضته العتيدة في العصر الحديث[37].

وبهذا قد يحق لنا النظر إلى تفسير "الجواهر"، على أنه خطاب سياسي، بمعنى من المعاني، وذلك على اعتبار أنّ الخطاب السياسي بمعناه الواسع هو كل خطاب يتجه إلى مجموعة بشرية محددة، ويحاول توجيه سلوكها، ونمط حياتها في اتجاه محدد.

نقد وتقويم :

يقول رشيد رضا في معرض تقييمه لتفسير "الجواهر" رداً على سؤال ورد إلى مجلته من سائل تونسي يسأله عن قيمة هذا التفسير: "الأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر، ويعتقد بحق أنَّ المسلمين ما ضعفوا، وافتقروا، واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم لن يقووا، ويثروا، ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها مع محافظتهم على عقائد دينهم، وآدابه، وعباداته وتشريعه، ويعتقد حقاً أن الإسلام يرشدهم إلى هذا بل يوجبه عليهم، فألف كتباً صغيرة في الحثّ على هذه العلوم والفنون، والتشويق إليها من طريق الدين، وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم توسَّع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم، ومحبي العلم إلى هدى القرآن في الجملة، والإقناع بأنه يحث على العلم لا كما يدَّعي الجامدون من تحريمه له، أو صدِّه عنه، فهو لم يُعن ببيان معاني الآيات كلها، وما فيها من الهدى والأحكام بقدر ما عُنيبسرد المسائل العلمية، وأسرار الكون وعجائبه.. ولا يمكن أن يُقال: إنَّ كل ما أورده فيه يصح أن يُسمَّى تفسيراً له، ولا أنه مُراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا.. وجملة القول إن هذا الكتاب نافعٌ من الوجهين اللذين أشرنا إليهما.. وصاحبه جدير بالشكر عليه، والدعاء له، ولكن لا يعوّل عليه في حقائق التفسير، وفقه القرآن لمن أراده، فإنه إنما يذكر منه شيئاً مختصراً منقولاً من بعض التفاسير المتداولة"[38].

نلاحظ، من هذا النص، أنّ رشيد رضا قد أدرك عِظَم المهمة الإصلاحية التي نذر لها طنطاوي نفسه من خلال تفسيره، ألا وهي دعوة المسلمين لاستعادة نهضتهم الحضارية، واستقلالهم السياسي عن طريق تقريب العلم من أهل التدين، وتقريب الدين من أهلالعلم، ولا يستطيع أحدٌ أن يعرف قيمة هذه المهمة الجليلة إلا إذا علم أنّ مصر، وعموم بلاد العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين كانوا يعيشون أزمة روحية كبيرة كادت تقتلعهم من جذورهم، بسبب ظهور علامات تفوق الغرب الباهر على المسلمين في كافة الميادين العلمية، الأمر الذي دفع بكثير من المسلمين إلى فقدان الثقة بأنفسهم ودينهم، وإلى الاعتقاد أنّ الإسلام هو المسؤول عن تخلف المسلمين العلمي والحضاري، وقد دفع هذا الاعتقادُ الساذجُ الكثيرَ منهم إلى التخلي عن الإسلام والاستهتار به، ووصفه بأنه دين التخلف ودين القرون الوسطى المظلمة، ولا مكان له في العالم الحديث، عالم العلم والتقدُّم.

ولكن إقرار رضا لجوهري بهذا الدور الكبير الذي لعبه في خدمة وجلاء الوجه الحضاري للإسلام، لم يمنعه من نقده بسبب اقتصاده في بيان المعاني القرآنية، وبسبب حشده كماً هائلاً من المعلومات العلمية في سياق تفسيره، دون أن يكون لهذه المعلومات ضرورة في بيان المعنى المقصود من الآيات المفسَّرة، بل على العكس من ذلك فقد تقف هذه المعلومات الكثيفة حاجزاً دون الفهم المنشود من الآيات، وبالتالي تصرف ذهن القارئ لهذا التفسير عن مقاصد القرآن وهديه.

ولقد انتبه الشيخ أمين الخولي (ت 1966م) لما انتبه إليه من قبله رشيد رضا، عندما أدرك أنّ التفسير العلمي للإشارات الكونية الواردة في القرآن الكريم سيحول بين الناس ـ بسبب التفاصيل العلمية الكثيرة والمعقدة التي يستخدمها، والتي تندٌّ في مجملها عن تفكير المسلم العادي ـ وبين إدراك الدلالة المقصودة أصلاً من وراء هذه الإشارات، وهي: إثارة الشعور والفكر البشري بجمال وجلال الظواهر الكونية، وتنبيههما إلى مدى دلالتها من خلال نظامها الذي تجلت من خلاله على عظمة وقدرة الخالق الحكيم، فاطر هذا الكون، وصاحب الأمر فيه. وما يمكن أن تؤدي هذه الإثارة في النهاية من غرسٍ لعقيدة التوحيد من أقرب وأوضح طريق يشترك الناس كلهم، بنسب متفاوتة، في ملاحظته وإدراكه، ومن دفعٍ لهم بعد ذلك للإقبال على ضروب الهداية، ووجوه الإصلاح المودعة في القرآن الكريم. وهكذا، فكلُّ زيادة، وتوسُّع، وتكلُّف في تفسير هذه الإشارات القرآنية ستكون لا محالة إشغالاً للعقل الإسلامي بالوسيلة على حساب المقصد، وهذا الإشغال لا يتفق مع هدف القرآن من وراء استخدام هذه الإشارات. لذلك يرى أمين الخولي أنه "من الخير ألا توجه العناية إلى مثل هذا الضرب من التفسير العلمي، لأنه ليس بذي جدوى على القرآن نفسه، والقرآن غني عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنساني الاجتماعي في إصلاح الحياة، ورياضة نفوس الناس جميعاً على اختلاف حظهم من العلوم الطبيعية الرياضية وما إليها"[39].

وقد اتفق مصطفى الطير، وهو من علماء التفسير في العصر الحديث، في تقويمه العام لمنهج الشيخ جوهري مع الشيخ رشيد رضا، حيث أثنى، من جهةٍ على الشيخ طنطاوي وعلى جهوده المخلصة في ميدان نهضة المسلمين العلمية، ومن جهة أخرى فقد نقَدَ إسرافه في حشد العلوم بين دفتي التفسير، وانتقده أيضاً لإقحامه آراء المدرسة الروحية الحديثة في التفسير، وخصوصا تحضير الأرواح، ومعرفة الغيب عن طريق الاتصال بالأرواح، وإعطائها مشروعية دينية وعلمية انطلاقاً من آيات قرآنية لا تحتمل هذه المعاني على الإطلاق[40].

ويقول في هذا الاتجاه نفسه محمد محمد حسين: "وأكبر ما يؤخذ على طنطاوي جوهري في كتبه، وفي تفسيره على وجه الخصوص، نُقوله الكثيرة في مواضع مختلفة متعددة عن دعاة تحضير الأرواح من الغربيين وانخداعه بدعاواهم ظناً منه أن ذلك يساعد على رد تيار الإلحاد الذي ينكر الحياة الأخرى، وينكر الحساب والثواب والعقاب. والواقع أن هؤلاء الروحيين كانوا ينشرون إلحاداً من نوع جديد"[41].

ونضيف إلى ما سبق القول: إنَّ لجوء طنطاوي إلى الاجتهادات البشرية في ميدان العلم الكوني في تفسيره للآيات القرآنية التي تحمل إشارات علمية، واستعانته بما استطاع تحصيله من علوم العصر، التي أخذ مادتها بشكل أساسي من علماء الغرب الذين يقولون هم أنفسُهم عن علومهم واكتشافاتهم بأنها علوم نسبية وخاضعة دائماً للمراجعة والتغيير والنقد على ضوء المستجدات العلمية، ما هو في حقيقة الأمر إلا تسليطٌ للمعارف المتغيرة بطبيعتها على الحقائق القرآنية التي يُفترض فيها الثبات والقطعية، وبذلك فقد فتح طنطاوي الباب، بعمله هذا من حيث لا يشعر، ولا يريد قطعاً، للعبث بالمدلولات القرآنية، وجعلها ساحةً للإثبات والنفي على حسب تغيُّر المعطيات العلمية التي تُفَسَّر بها، وفي هذا العبث ما فيه من الفساد والإساءة إلى فهم القرآن الكريم وتفسيره، هذا بالإضافة إلى جعل العلوم المتغيرة بطبيعتها ـ ومِن ورائها مَنْ يُنتج هذه العلوم، وهم في الأغلب علماء الغرب على الأقل على المدى المنظور ـ مرجعيةً ضروريةً لفهم القرآن الكريم، وبالتالي جعل المعنى القرآني تابعاً بشكلٍ أو بآخر لشيءٍ خارج عنه، وفي هذا خلخلة لمرجعية فهم القرآن الكريم النابعة أساساً من داخله (أي القرآن نفسه، والسنة النبوية، واللغة العربية التي تجلَّى فيها النظم القرآني).

وفيه أيضاً إضفاءُ شيء من الهالة والتعظيم على الحضارة الغربية، التي أصبحت بهذه الطريقة أحد مقاييس صدقية الوحي، وأصبحت "الحقائق العلمية" التي تأتي بها هي إحدى الضمانات للأخذ ببعض نصوصه، وفي هذا ما فيه من زيادة الافتتان بالغرب وحضارته، وزيادة هيمنته على العقلية الإسلامية التي حصرت مهمتها في كثير من الحالات بمتابعة الإنتاج العلمي في الغرب، والبحث عن مدى مطابقة هذا الإنتاج لنصوص الوحي.

وقد يكون من الحقيقة القول: إنََّّ الذي دفع الشيخ طنطاوي جوهري في هذا الاتجاه هو رغبته الصادقة والحميمة في دفع المسلمين إلى الانخراط في ميدان البحث والإنتاج العلمي في كل المجالات الكونية الذي مكَّن الغرب من التفوق على العالم الإسلامي بمراحل كثيرة، ومكَّنه من استعباد أبنائه، واحتلال بلاده، وهي دعوة بحد ذاتها ضرورية، وأتت في وقتها المناسب، ويمكن النظر إليها على أنها جهدٌ إصلاحي كبير يصبّ في مصلحة الأمة وسيادتها وتقدّمها، لكنه رحمه الله تعالى قد أخطأ الوسيلة المناسبة للقيام بهذه الدعوة عندما أقحم العلوم الكونية بتفصيلاتها المتغيرة بين دفتي تفسيره، ودعا إلى فهم القرآن الكريم في ضوئها، حيث كان يكفيه التركيز على ضرورة الاستفادة من الآيات القرآنية الداعية إلى العلم والتفكر والتدبر، والنظر في السموات والأرض، والسير في الأرض، وقراءة التاريخ، والبحث في الآفاق والأنفس، ومعرفة سنن الله تعالى في الكون والتاريخ والأمم كما دعا القرآن الكريم نفسه إلى ذلك في آيات كثيرة؛ للفت نظر المسلمين إلى تقصيرهم في ميدان العلم بمفهومه الشامل، وأثر هذا التقصير في فساد أحوالهم وأحوال مجتمعاتهم، وحثهم على تدارك هذا التقصير التاريخي بالانفتاح على كافة العلوم الكونية والإنسانية، والبحث والإبداع فيها جنباً إلى جنب كل العاملين في هذه المجالات، دون أن يضطر إلى الوقوع في الخطأ المنهجي الذي وقع فيه، أي تسخير القرآن الكريم لدلالات العلوم المتغيرة التي قد يؤدي تغيرها، وتناقضها أحياناً إلى نزع الثقة بالقرآن الكريم نفسه عند بعض الناس، وهذا ما لا يريده جوهري قطعاً.

الآثار الاجتماعية :
وفي الحقيقة، فقد تم استقبال هذا التفسير بشيءٍ من الفتور، وأحياناً بشيء من الإعراض والتجاهل في مصر، وبعض البلاد العربية في الأوساط الدينية ذات الثقافة التقليدية[42]، وربما يعود سبب هذا الفتور والإعراض، إلى ما ذهب إليه الشيخ بحماس شديد من تفسيرٍ للقرآن الكريم على ضوء النظريات العلمية، التي لم تصل هي نفسها بعد إلى درجة الحقائق العلمية، وما قام به من حشدٍ للمسائل الكونية في تفسيره دون إحكام الصلة بينها وبين السياق التفسيري الذي جاءت فيه.

وكذلك يمكن القول إنّ أحد أسباب ضعف استقبال تفسير "الجواهر"، وزهد كثير من الناس فيه، وبشكل خاص طلاب العلوم الشرعية، هو الحضور الكثيف للعلوم، والفلسفة ومصطلحاتها فيه، وحضور علم الأرواح وحوادثه وأحواله فيه ضمن إطار ورؤية فلسفية عميقةٍ شيئاً ما، وهو الأمر الذي استفزَّ الحسَّ الديني العفوي الذي لا يطيق صبراً على الفلسفة وتجريداتها، وهو بمنهجه هذا يكون قد خالف الشيخ محمد عبده (ت 1905م)، ومن قبله ابن رشد (ت 595هـ)، اللذيْن صرّحا بأن خلط الدين بالفلسفة خطأٌ معرفي ومنهجي في الآن نفسه، في حين أن دراسة الفلسفة بشكل مستقل أمر نافع بل يشكِّل ضرورة معرفية للعقل الإسلامي الباحث عن الحقيقة، والمستكشف للكون وآفاقه، أما خلطها بالدين فهو مُفسدٌ لها، وللدين نفسِه إذ لكل منهما منهج وموضوع يختص به دون الآخر، ومصلحة الاثنين تكمن في تعاونهما دون أي دمج أو تداخل بينهما على مستوى المنهج أو الموضوع[43].

وهذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه جوهري عندما خلط الدين بالفلسفة، وقد دفع ثمن هذا الخلط غالياً، عندما زهد كثيرٌ من القراء فيه، ونظر عددٌ آخر منهم إليه نظرة ريبة وشكٍّ، وبهذا تقلصت قاعدة قرائه بشكل عام، وعجز بالتالي عن توصيل رسالته الإصلاحية كما كان يحب، ويريد من خلال تفسيره.

وفي هذا السياق نفسه، يمكن القول إنّ أحد أسباب محدودية انتشار تفسير الجواهر أيضاً، هو أنه نصٌ فاجأ قراءه آنذاك بمرجعية غربية بعيدة عن المرجعية الإسلامية الخالصة، وصادف أنَّ المرجعية الغربية في ذلك الوقت كانت تُشكِّل بالنسبة للوعي الجمعي الإسلامي، الذي يكتب من خلاله، وله، اعتداءً صارخاً عليه وعلى أرضه، ومقدساته، ورموزه لذلك حُكم بالإقصاء والإهمال على تفسير جوهري، وسبب استمرار هذا الإقصاء حتى على مستوى بعض النخبة المثقفة من المسلمين هو استمرار الظرف التاريخي المُنتج للحساسية والنفور من الغرب وثقافته من خلال استمرار حدوث ظواهر اعتداء الغرب على البلاد الإسلامية بين الحين والآخر تحت هذه الحجة أو تلك.

ولكن وفي مقابل هذا الموقف المتحفّظ بشكل عام في مصر، والعالم العربي، فقد لقي تفسير "الجواهر" إقبالاً كبيراً عند مسلمي آسيا، حيث شهد رواجاً كبيراً في الهند، وأفغانستان، وتركستان، والصين، واليابان، وبلاد الملايو، وقامت لجان مختلفة في بعض هذه البلاد بترجمته أو ترجمة أجزاء منه إلى لغاتهم المحلية.[44]

ويمكن تفسير سبب إقبال المسلمين في تلك البلاد على تفسير "الجواهر"، على خلاف ما حدث في مصر، والبلاد العربية عموماً، بأن ضعف اتصال المسلمين في تلك البلاد بالعلوم الشرعية بشكل عام، وعدم اطلاعهم الكافي على التراث التفسيري، ومناهج المفسرين السابقين فيه بشكل خاص، بسبب حاجز اللغة، وبسبب خضوع معظمهم لأزمان طويلة لسلطات أجنبية منعتهم من الاتصال بتراثهم الديني، صرفهم عن معايرة هذا التفسير بالتفاسير السابقة، وبالتالي صرفهم عن ملاحظة مدى ابتعاده عنها بما اختطه صاحبه لنفسه من منهج مختلف عما اعتمده القدماء في التفسير، هذا من جهة، وبسبب شوقهم الشديد لإنجاز نهضة إسلامية في بلادهم تضارع النهضة الكبيرة التي كانوا يراقبونها عن كَثَب تجري عند اليابانيين والصينيين والروس المجاورين لهم من جهة أخرى، والتي كانوا يُرجعونها إلى إقبال هذه الشعوب على العلوم الكونية، وتقصيرهم هم في هذا المجال بسبب النظرة الدينية الخاطئة لمنزلة العلوم واكتشاف الكون وتسخيره في الإسلام التي كان يشيعها بينهم بعض الفقهاء المقلدين، وبعض رجال الصوفية الجاهلين، لذلك فقد وجدوا في هذا التفسير الدواء الشافي الذي يتطلعون إليه للحاق بركب النهضة والتقدم الذي سبقهم إليه جيرانهم.

وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنَّ الشيخ طنطاوي كان يبالغ أحياناً في تقدير أهمية تفسيره[45]، والنظر إليه على أنه مرحلة حاسمة في تاريخ التفسير، فها هو يحدثنا عن تفسيره بهذه الكلمات الملحمية: "ولتعلمنَّ أيها الفَطِن: أنَّ هذا التفسير نفحةٌ ربانية، وإشارة قدسية، وبِشارة رمزية، أُمرتُ به بطريق الإلهام، وأيقنتُ أنَّ له شأناً سيعرفه الخلق، وسيكون من أهم أسباب رقيّ المستضعفين في الأرض"[46]. و"الأمم الحاضرة لا تصلح لرقي نوع الإنسان، واعلموا أن هذا الكتاب ستعقبه نهضة في الشرق، يتلوها رجة في الغرب، ويعقبها سعادة الإنسان، ولتعلمن نبأه بعد حين"[47].

والحق أنَّ كتابه يمتلك شخصية متميزة ومستقلة في تاريخ التفسير، ولكن هذه الشخصية المستقلة لا تعني في أي حالٍ من الأحوال أنَّ هذا التفسير قد قطع مع التفاسير السابقة، وأسس لمنهجٍ جديد كلياً في ميدان تفسير القرآن الكريم، لأننا نجده في الأقسام العامة من تفسيره التي لا يتعرض فيها للمسائل العلمية والروحية والإصلاحية، مجرد مفسِّر تقليدي في الغالب، يأخذ من التراث التفسيري أعم الأفكار وأبسطها وأقربها لعامة عقول قرائه. ويمكن القول هنا إنّ تقليدية جوهري في التفسير، وعدم حرصه على الخوض في القضايا التشريعية والأصولية واللغوية التي يمكن أن يثيرها المفسرون المتعمقون، تعكس تركيزه على تناقضه الرئيس مع منكري الوحي، وأساسه الغيبي، الذين أنكروا تبعاً لذلك ضرورة الدين في عصر العلم والتقدم.

وفي مقابل ذلك، لم يكن جوهري يرى كبير مشكلة في منظومة العلوم الشرعية الدينية ـ

كما وصلت إلى عصره ـ إلا من حيث علاقتها برؤيته الإصلاحية الداعية إلى إفساح المجال واسعاً داخل هذه المنظومة لدراسة العلوم الكونية، والاستجابة لدواعي، ومقتضيات المدنية الحديثة.

وبهذا يمكن لنا أن نقول: إنه مفكر ومصلح أكثر مما هو مفسِّر، وما التفسير بالنسبة له إلا أداة وظَّفها من أجل عرض، ونشر أفكاره الدينية والفلسفية والإصلاحية.

لذلك فهو يستحق الدراسة والعناية العلمية من حيث هو مفكرٌ ومصلح أكثر مما هو مفسِّر مع الاعتراف له بفضل التميز والإضافة في بعض النواحي المنهجية والأسلوبية في التفسير، ودون أن ننكر الدور الإصلاحي المهم الذي أداه من خلال تفسيره في عصره وسياقه التاريخي، ودون أن نبخسه حقه الذي يستحقه، ولكن من دون الإقرار له في الوقت نفسه بالدور الملحمي الذي نسبه إلى تفسيره.


ــــــ الحواشي : ــــ
[1]انظر، طنطاوي جوهري، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ( القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1350هـ )، 1/93.
[2]إن بداية علاقة جوهري بالتفسير عن طريق التدريس و الصحافة، تقودنا إلى القول: إنّ عمله في هذا الميدان قد جاء في سياق تعامله المباشر مع الناس، والواقع من حوله، وبهذا يمكن القول: إن تفسير "الجواهر" كان استجابةً عملية لتفاعل صاحبه مع الواقع، وإكراهاته التاريخية (مأزق التخلف الحضاري)، ولم يكن نتيجة قرار علمي صرف.
[3]انظر، جوهري، المصدر السابق، 7/ 2، 13/ 84 ـ 85، 14/100.
[4]انظر، جوهري، المصدر السابق، 17/185ـ 186.
[5] انظر، جوهري، المصدر السابق, 1/3.
[6]جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 5/87.
[7]انظر، جوهري، المصدر السابق، 1/ 49ـ 51.
[8]انظر على سبيل المثال، جوهري، المصدر السابق، 3/92.
[9]انظر على سبيل المثال، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 3/96، 102ـ 103.
[10]انظر، جوهري، المصدر السابق، 1/ 278.
[11]انظر، جوهري، المصدر السابق، 3/ 4ـ5.
[12]انظر على سبيل المثال، جوهري، المصدر السابق، 3/67ـ 68.
[13]انظر، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 3/28، 49، 67ـ 69، 127ـ129.
[14]انظر، جوهري، المصدر السابق، 2/154.
[15]انظر، جوهري، المصدر السابق، 1/279.
[16]انظر على سبيل المثال، جوهري، المصدر السابق، 1/ 279، وما بعدها.
[17]انظر، جوهري، المصدر السابق، 3/ 121ـ 122.
[18]انظر على سبيل المثال استشهاده بإنجيل برنابا في تفسيره سورة آل عمران، جوهري، المصدر السابق، 2/ 122 _ 123. وانظر نقله من التوراة، 1/ 101ـ 102، 229ـ 231.
[19]انظر، جوهري، المصدر السابق، 22/ 203ـ 228. حيث نقل نصاً طويلا من كتاب "الإحياء" يتحدث عن آفات اللسان.
[20]انظر، جوهري، المصدر السابق، 3/ 88.
[21]أدرج جوهري في تفسيره نصوصاً كثيراً من الفلسفة اليونانية التي كان معجباً بها إعجاباً شديداً، وكان يرى أن من أسباب إعجاز القرآن أنه أتى بأفكارٍ توافق بعض ما ذهب إليه فلاسفة اليونان من قديم الزمان. انظر، جوهري، المصدر السابق، 8/ 64ـ 68.
[22]انظر، عبد العزيز جادو، الشيخ طنطاوي جوهري: دراسة ونصوص، (القاهرة، دار المعارف، ط1، د.ت)، 73 ـ 91.
[23]انظر على سبيل المثال تفسيره لسورة النور في الجزء الحادي عشر. وانظر أيضاً، 2/ 109 ـ 112.
[24]انظر على سبيل المثال، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، ما نقله عن جريدة الأهرام، 17/ 233 وما بعدها. وما نقله من المجلة السورية التي تصدر في نيويورك، 2/37 وما بعدها، وما نقله عن جمعية المباحث النفسية الأوربية، 22/ 197ـ 203، وما نقله من كتاب أوروبي، عنوانه "قواك وكيف تستعملها"، 2/ 116. وما نقله من كتابه " الأرواح" 1/ 86ـ 88، وما نقله من كتابه "جوهر التقوى"، 22/ 228ـ 233.
[25] انظر على سبيل المثال، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 1/ 53ـ 56، 18/ 25.
[26]انظر على سبيل المثال، جوهري، المصدر السابق، 9/ 89.
[27]تُشكِّل آلية مزج العلوم الكونية بالآيات القرآنية، العمود الفقري لعلاقة تفسير "الجواهر" بالعلوم الكونية. انظر، الجواهر، 2/50.
[28]جوهري، المصدر السابق، 3/5.
[29]انظر، أنور أبو طه، وآخرون، خطاب التجديد الإسلامي: الأزمنة والأسئلة، (دمشق، دار الفكر، ط1، 1425هـ/ 2004م)، 270.
[30]انظر، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 3/ 178.
[31]جوهري، المصدر السابق، 3/179.وانظر أيضاً، 2/11.
[32]جوهري، المصدر السابق، 8/196.
[33]جوهري، المصدر السابق، 1/337ـ 338.
[34]انظر، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 1/3.
[35]جوهري، المصدر السابق، 11/94.
[36]انظر على سبيل المثال، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 12/172ـ 179، 183، 185، 222، 232. وانظر بشكل خاص الأجزاء الأخيرة من هذا التفسير.
[37] انظر، جوهري، الجواهر في تفسير القرآن، 6/115.
[38]رشيد رضا، مجلة المنار، المجلد 30، الجزء 7، سنة 1348هـ/ 1929م، ص 515 ـ 517.
[39]أمينالخولي، ، التفسير: نشأته، تدرجه، تطوره، (بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط1، 1982م)، 64ـ 65. وانظر أيضاً، 49ـ 64.
[40]انظر، مصطفى الحديدي الطير، اتجاهات التفسير في العصر الحديث من الإمام محمد عبده حتى مشروع التفسير الوسيط، (القاهرة، مجمع البحوث الإسلامية، ط1، 1391هـ/ 1971م)، 195ـ 203.
[41]محمد محمد حسين، أزمة العصر، (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2، 1405هـ/ 1985م)، 174. وانظر كتابه، الروحية الحديثة دعوة هدامة: تحضير الأرواح وصلته بالصهيونية العالمية، (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط5، 1404هـ/ 1984م). 23ـ24.
[42]يقول محمد حسين الذهبي: "ويظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف رحمه الله لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه الذي سلكه في تفسيره، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلقَ قبولا لدى كثير من المثقفين". التفسير والمفسرون، (القاهرة، دار الكتب الحديثة، ط2، 1976م) 2/545 ـ 546. وانظر الرسالة التي وجهها جوهري إلى عبد العزيز بن سعود ملك نجد والحجاز محتجاً فيها على منع علماء بلده من السماح لتفسير الجواهر من الدخول إليها، الجواهر في تفسير القرآن، 25/ 244ـ246.
[43]انظر، محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2 1980)، 3/363.
[44]انظر، محمد رجب البيومي، النهضة الإسلامية في سير أعلامها، (القاهرة، مجمع البحوث الإسلامية، 1400هـ/1980م)، 215.
[45]انظر على سبيل المثال، جوهري، المصدر السابق، 2 /9، 50.
[46]جوهري، المصدر السابق، 1/3.
[47]جوهري، المصدر السابق، 18/ 74.

نقلا عن موقع ببليوإسلام
http://www.biblioislam.net/ar/Review/BookReviews.aspx?ID=2025


منقول من الملتقى الفكري للإبداع هنا .
 
ذكر شيخنا الجليل المعمّر عبدالله بن عبدالعزيز ابن عقيل ـ حفظه الله ـ أن شيخه الشيخ عبدالرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ انتقد هذا التفسير لما اطلع عليه ، ولعلي ـ إن قدرت ـ أن أسأل شيخنا عن طبيعة ما انتقد به هذا التفسير ـ إن شاء الله تعالى ـ.
 

قال الزركلي: " في 26 جزءاً، نحا فيه منحى خاصاً، ابتعد في أكثره عن معنى التفسير، وأغرق في سرد أقاصيص وفنون عصرية وأساطير".اهـ (15)
وذكره كحالة في معجمه.اهـ (16)
وقال المرعشلي: " تفسير القرآن في (24) جزءاً ". (17)

وقال في "معجم البابطين ": "وهو محاولة مبكرة لما عرف بعد ذلك بالتفسير العلمي، إذ تلمس الإعجاز في مقولات العلوم العصرية".اهـ (18)

وبعث علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن ناصر السعدي الحنبلي العنيزي القصيمي النجدي:{1376:ت}:رسالة إلى الشيخ رشيد رضا قال فيها:
من عنيزة إلى قاهرة مصر
في رجب سنة 1346
بسم الله الرحمن الرحيم
أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسدده في كل أحواله آمين، أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فالداعي لذلك ما اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم، وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمه الظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاء الضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم منأصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير من الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشد وابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر، وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير من الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي(19) قد ذكر في مواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلى قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخيلات وضرب أمثال لا حقيقة لها، وأنه يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدين الإسلام وتكذيب لله ورسوله، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها وأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها، ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب إهمال علمها وعملها. وَيْح من قال ذلك، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي أوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة الفلاسفة، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما في الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد والشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بذلك، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين، ويتأولون قصة آدم وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة له، وإنما قصد به ضرب الأمثال، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها بكثير، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد تصورها، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع، وأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن.
وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي:
التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترون بالإسلام، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفة ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولاشعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه، ولتقليد من يعظمه وخضوعًا أيضًا، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل.
فالأمل قد تعلق بأمثالكم لتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاء فضلاً عمن دونهم، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون، وتقوم به الحجة على المعاندين، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه والإشارة؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم؛ لأن فيه الخطر العظيم على المسلمين، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًا فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار ؟
والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم، وصلى الله علىمحمد وسلم.
محبكم الداعي
عبد الرحمن بن ناصر السعدي (20)

وقال الشيخ رشيد عندما سئل عنه:
" إنني كنت رأيت الجزء الأول من هذا التفسير في دار صديق لي منذ بضع سنين، وقلبت بعض أوراقه في بضع دقائق فرأيته أحق بأن يوصف بما وصف به بعض الفضلاء تفسير الفخر الرازي بقوله: فيه كل شيء إلا التفسير، وقد ظُلم الرازي بهذا القول فإن في تفسيره خلاصة حسنة من أشهر التفاسير التي كانت منتشرة في عصره، مع بعض المباحث والآراء الخاصة به، كما أن فيه استطرادات طويلة من العلوم الطبيعية والعقلية والفلكية والجدليات الكلامية التي بها أعطي لقب ( الإمام ) لرواج سوقها في عصره.
والأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر، ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم لن يقووا ويثروا ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها مع محافظتهم على عقائد دينهم وآدابه وعباراته وتشريعه، ويعتقد حقًا أن الإسلام يرشدهم إلى هذا، بل يوجبه عليهم، فألَّف أولاً كتبًا صغيرة في الحث على هذه العلوم والفنون والتشويق إليها من طريق الدين وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم توسع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم،ومحبي العلم إلى هدي القرآن في الجملة والإقناع بأنه يحث على العلم، لا كما يدعي الجامدون من تحريمه له أو صده عنه؛ ولكن الأمر الأول هو الأهم عنده، فهو لم يعن ببيان معاني الآيات كلها وما فيها من الهدى والأحكام والحِكَم بقدر ما عني به من سرد المسائل العلمية وأسرار الكون وعجائبه ( ولهذا قلنا إنه أحق من تفسير الرازي بتلك الكلمة التي قيلت فيه ).
ولا يمكن أن يقال إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمى تفسيرًا له، ولا أنه مراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا، إذ يصح أن يقال حينئذ إنه يمكن تفسير كلمة { رَبِّ العَالَمِينَ } ( الفاتحة: 2 ) بألف سفر أو أكثر من الأسفار الكبار تضعه جمعيات كثيرة كل جمعية تعنى بعالم من العالمين، فتدون كل ما يصل إليه علم البشر فيه، ولا يمكن أن يقال إنه لا يمكن انتقاده، بل الانتقاد على ما فيه من التفسير ومن مسائل العلوم ممكن { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } ( يوسف: 76 )وقد قلنا إنه لم يعن بقسم التفسير منه كثيرًا ولا سيما التفسير المأثور، وأما هذه العلوم فالبشر يتوسعون فيها عامًا بعد عام، فينقضون اليوم بعض ما أبرموا بالأمس، فليس كل ما دوَّنه أهلها صحيحًا في نفسه، فضلاً عن كونه مرادًا لله من كتابه، وإنما أُنزل الكتاب هدى للناس لا لبيان ما يصلون إليه بكسبهم من العلوم والصناعات؛ ولكنَّه أرشدَ إلى النظر والتفكر فيها ليزداد النَّاظرون المتفكرون إيمانًا بخالقها ، وعلمًا بصفاته وحكمه .
وأما السؤال عن رضاء الله عنه وإثابته عليه فلا يقدر بشر على الجواب عنه بالتحقيق؛ لأن علمه عند الله تعالى وحده؛ وإنما نقول بحسب قواعد الشرع الإلهي إنه إذا كان قد ألَّفه لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته فإن الله تعالى يثيبه عليه، فما أصاب فيه فله عليه أجران، أجر الإصابة وأجر الاجتهاد وحسن النية، وما أخطأ فيه فله عليه الأجر الثاني مع رجاء العفو عن الخطأ، وهذا ما نظنه فيه.
وجملة القول إن هذا الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا الجواب، وصاحبه جدير بالشكر عليه والدعاء له؛ ولكن لا يُعوَّل عليه في فهم حقائق التفسير وفقه القرآن لمن أراده؛ فإنه إنما يذكر منه شيئًا مختصرًا منقولاً من بعض التفاسير المتداولة، ولا يُعتمد على ما يذكره فيه من الأحاديث المرفوعة والآثار لأنه لا يلتزم نقل الصحيح، ولا ذكر مخرِّجي الحديث ليُرجع إلى كتبهم فلابد من مراجعتها في مظانها، وما ينفرد به من التأويلات فهو يعلم أنه يخالف فيه جماهير العلماء وهم يخالفونه؛ وإنما راجعت بعضه في أثناء كتابة هذا الجواب فزادني ثقة بما قلته فيه من قبل، والله أعلم ".اهـ (21)

قال في معجم المفسرين: " تفسيره نحا فيه منحاً خاصاً، ابتعد أكثره عن معنى التفسير وأغرق في سرد أقاصيص وفنون عصرية وأساطير ".اهـ (22)

قال في الموسوعة الميسرة: " من يلاحظ تفسيره وما وضع فيه من الخزعبلات والخرافات وترك الموضوع الرئيسي ألا وهو تفسير القرآن، وبدأ يسرد القصص وأنواع العلوم والفنون والاكتشافات العصرية الكبيرة والمعجزات الكثيرة الموجودة في القرآن وغير ذلك، ووضع في تفسيره الصور واللوحات وخصص جزءاً قليلاً إلى التفسير الفعلي للآيات، أو ما يسمى التفسير اللغوي لها، وقد نقلنا بعض المواضع التي تغني عن الكثير حيث كان يستخدم التأويل أو المجاز، ولا يثبت لله سبحانه اليد أو السمع أو البصر أو غيرها وإليك بعض المواضع التي نقلنها من تفسيره المسمى الجواهر في تفسير القرآن حيث قال في تفسير القرآن الكريم:
حيث قال في تفسير { استوى على العرش }[يونس:4ـ6]
" استعلى بالقهر والغلبة كما جاء في الآية الأخرى:
{ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكرا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} والعرش إما بمعنى البناء، فكل بناء يسمى عرشاً وبانيه يسمى عارشاً ".
وقال في تفسير سورة هود ( 6/128):" {كان عرشه على الماء } وقد تقدم تفسير هذا في أول سورة يونس بأن الماء العلم: أي وكان ملكه قائماً على العلم ولايزال كذلك وإنما خلق السموات والأرض ليربي ذوي الأرواح فيهما بالخير والشر ".
وقال في تفسير سورة البقرة (1/114):
" {فأينما تولوا وجهكم فثم وجه الله }: أي جهة رضاه وليس الله مختصاً بمكان، بل هو (واسع) الفضل ( عليم ) بتدبير خلقه ".
وفي تفسير سورة المائدة (3/196):" {قالت اليهود يد الله مغلولة } فهو مجاز إما عن البخل أو الفقر... { بل يداه مبسوطتان } ثنى اليد مبالغة في نفي البخل وإثبات الجود.اهـ (23)

وقال الباحث أنور يوسف في رسالته " طنطاوي جوهري، ومنهجه في التفسير:
" بعد أن وقفنا طويلاً على تفسير الجواهر ومضامينه، وعشنا بين جنباته وصفحاته، وأفكاره وآرائه، صار لزاماً علي أن أقول رأيي فيه، وكم ترددت في ألاّ أصدر حكماً أراه الأخير في هذا البحث، لكنَّ خطورة وأهمية الموضوع والأمانة الشرعية فرضت عليّ أن أذكر قناعاتي المتواضعة اتجاه هذا التفسير، والله من وراء القصد.

أولاً: لقد كان تفسير الجواهر نتاج مرحلة قلقة عاشت الأمة الإسلامية، وظروف قاسية هيمنت على جل العالم الإسلامي ومنه مصر، لذلك حاول الشيخ طنطاوي أن يمد يد العون، حتى يرفع شأن الأمة ما استطاع، وقد أوصله اجتهاده إلى أن العلم طريق الخلاص، لكنه أخطأ الطريق حينما سخر القرآن الكريم من أجل نشر العلم وتعليم المسلمين . وفي رأيي أنه لم يوفق في الوصول إلى هدف القرآن، كما أنه لم يوفق في تحديد الوسيلة المناسبة لعرض آرائه وأفكاره، وكنا نود لو أنه صنف كتاباً أو كتباً خاصة تتضمن هذه الآراء والأفكار.

ثانياً: إن تفسير الجواهر يمثل اتجاهاً موازياً لمدرسة فكرية قديمة ، كان روادها من الفلاسفة الذين حالوا التوفيق بين الدين والفلسفة ، على أثر انبهار أولئك من الفلسفة اليونانية حينما ترجمت كتبها إلى العربية وغزت العالم الإسلامي .
وهكذا يعيد التاريخ نفسه، فحينما ذهل المسلمون من التفوق العلمي الذي نهض في أوربا راحوا يسعون إلى التوفيق بين الدين والعلم، وبهذا يكون العلم الحديث قد حلّ مكان الفلسفة في الاتجاه المعاصر.

ثالثاً: يلاحظ أن تفسير الجواهر جاء يخاطب عصره لا أكثر، لأنه محمّل بطبيعة ذلك العصر وأحواله ومشكلاته، ولقد أضعف ذلك صلاحية التفسير لزمن تجاوز زمن المؤلف أو تجاوز المشكلات التي ذكرها بعد أن تمّ حلها. ولئن كان للجواهر شهرة في عصره أو كان ذا تأثير قوي ـ بخاصة ـ خارج مصر؛ فإننا نلمح فعاليته تكاد تتلاشى في هذا الزمن الذي تجاوز دعوة الشيخ، ولعل من دلائل ما أقول انصراف العلماء والناس عنه إلى حد بعيد.

رابعاً: لقد قضى الشيخ الطنطاوي ـ رحمه الله ـ سنوات من عمره في تحضير وتحبير تفسيره، ربما ضاع معظمها سدى ـ والأجر من الله ـ لأنه لم يأت بجديد على تفسير الأولين، بل خرج عن مناهج السلف في تفسير كتاب الله تعالى.
ولأن الجديد الذي فيه من العلوم هي علوم موجودة في كتب العلم لم يخترعها الشيخ ولا أبدع فيها، و إنما ساقها إلى غير أماكنها المعهودة في كتاب الله الذي لم يأت موسوعة للعلم ونظرياته وتجاربه، ولم يكن ولن يكون ـ حقلاً للعلوم البشرية المضطربة.

خامساً: إن طنطاوي لم يقدم لنا تفسيراً كاملاً للقرآن بجهده وفكره، ولو أنه جعل من تفسير آيات العلوم التي رآها كتاباً سماه مثلاً تفسير آيات العلوم أو أي اسم يشابه ذلك لكان أولى .

سادساً: أرى أنه لا يمكن اعتماد تفسير الجواهر على أنه تفسير يعتد بما فيه لأنه ترك التفسير بالمأثور، وغالى في الاعتماد على العقل فأكثر من التفسير برأيه وخالف قواعد التفسير. لكنّه يصلح أن تؤخذ منه بعض اللطائف الجيدة ـ بعد التأكد من صحتها ـ وبعض الموضوعات التي أجاد فيها.

سابعاً: يظهر لي من خلال دراسة شخصية طنطاوي وآثاره أنه كان حسن النية فيما ذهب إليه، وأن تفسيره كان اجتهاداً اجتهده، ورأيا رآه وأجره عند ربه.
لكن طيب النية ـ التي مجالها الآخرة ـ لا يغير شيئاً مما أخذه العلماء على تفسيره، أو مما نقدته به".اهـ(24)

وقال فيه د. محمد حسين الذهبي ـ رحمه الله ـ:
" لقد وضع المؤلف في تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام، والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق، مما يَشوِّق المسلمين والمسلمات - كما يقول - إلى الوقوف على حقائق معانى الآيات البيِّنات في الحيوان والنبات، والأرض والسموات.
هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - ليقرر في تفسيره أن في القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، في حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية، كما يقرر " أن الإسلام جاء لأُمم كثيرة، وأن سور القرآن متممات لأُمور أظهرها العلم الحديث".
وكثيراً ما نجد المؤلف - رحمه الله - في تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون، ويحثهم على العمل بما فيها، ويندد بمن يُغفل هذه الآيات على كثرتها، وينعى على مَن أغفلها من السابقين الأوَّلين، ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأُمور العقيدة .
نجد المؤلف يكرر هذه النغمة في كثير من مواضع الكتاب فيقول في موضع منه: "يا أمة الإسلام؛ آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعاً من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها... هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعري.. لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله ... الحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله وهى فرض عَيْن على كل قادر... إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن، هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدى مَن يشاء إلى صراط مستقيم".
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في الآية [61] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}... الآية، نجده يقول: "الفوائد الطيبة في هذه الآية" ثم يأخذ في بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا في الطب، ثم يقول: "أَوَ ليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن؟ أَوَ ليس قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} رمزاً لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى... وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقي والحياة الحرة، أفضل من حياة شقية في المدن بأكل التوابل، واللحم، والإكثار من ألوان الطعام، مع الذلة، وجور الحكام، والجبن، وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم في حين غفلة وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا تُفسِّر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في الآيات [67] وما بعدها من سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}.... الآيات إلى آخر القصة، نجده يعقد بحثاً في عجائب القرآن وغرائبه، فيذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب، ويذكر - فيما يذكر - علم تحضير الأرواح فيقول: ".. وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تُتلى، والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولاً، ثم بسائر أوروبا ثانياً".. ثم ذكر نُبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم، ثم قال أخيراً: "ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الطاعون، فماتوا ثم أحياهم.. وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بنى إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها. فلا تيأسوا من ذلك، فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذِكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن ليكن المُحَضِّر ذا قلب نفى خالص على قدم الأنبياء والمرسلين، كالعزير، وإبراهيم، وموسى، فهؤلاء لعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدى بهم فقلت: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران: {آلم} نجده يعقد بحثاً طويلاً عنوانه: "الأسرار الكيميائية، في الحروف الهجائية، للأمم الإسلامية، في أوائل السور القرآنية" وفيه يقول: "انظر رعاك الله - تأمل - يقول الله: {أ.ل.م}، {طس}، {حم} .. وهكذا يقول لنا: أيها الناس؛ إن الحروف الهجائية، إليها تحلل الكلمات اللُّغوية، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللُّغة العربية أم اللُّغات الأعجمية، شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها، وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون.
ولا جرَمَ أن العلوم قسمان: لُغوية وغير لُغوية، فالعلوم اللُّغوية مقدمة في التعليم، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية، فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تُعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أُصولها الأوَّلية التي لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم".
ومثلاً نراه يعرض لقوله تعالى في الآية [24] من سورة النور: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}..
وقوله فى الآيات [20 - 22] من سورة فُصِّلت: {حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ}.
وقوله فى الآية [65] من سورة يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
ثم يقول: "أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدي في أيامنا حاضرة، هو نفس الذي صرَّح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما في المواطن بل هو القائل للإنسان: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}، والقائل: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}، أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبيِّنات المشهورة عند المسلمين؟ وأن هناك ما هو أفضل منها؟ ... وهى التي يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أن الأيدي فيها أسرار، وفى الأرجل أسرار، وفى النفوس أسرار: فالأيدي لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم.. أوَ ليس في الحق أن أقول: إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه؟ وإلا فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في الآيتين [5، 6] من سورة طه: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}.. نجده يقول: ".. قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى "الآثار العلوية" وهو من علوم الطبيعة قديماً وحديثاً، وقوله {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} يشير لعلمين لم يُعرفا إلا في زماننا، وهما علم طبقات الأرض، المتقدم مراراً في هذا التفسير، وعلم الآثار، المتقدم بعضه في سورة يونس.. فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى".
ومثلاً عند قوله تعالى في الآية [30] من سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُو?اْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً}.... الآية، يقول: "ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين، من أن السموات والأرض - أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم - كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى، وقلنا: إن هذه معجزة، لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا في هذه العصور، ألا ترى أن كثيراً من المفسِّرين قالوا: إن الكفار في ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم. فكان جوابهم على ذلك أنهم أخبروا به في نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الأمور لم تُخلق. وقد أخذ العلماء يُؤوِّلون تأويلات شتَّى لفرط ذكائهم وحرصهم رحمهم الله، وها نحن أُولاء نجد هذه العوالم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدي الفرنجة، كما نطق القرآن هنا، كأنه يقول: سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضيفقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}.. وهذه معجزة تامة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا"..
ومثلاً عند قوله تعالى في الآية [15] من سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}.. نجده يقول: "والمارج المختلط بعضه ببعض، فيكون اللَّهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللَّهب مختلطات، ولقد ظهر في الكشف الحديث أن الضوء مركّب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه. فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائماً، وإنما خُلِق الجن من ذلك المارج المضطرب، إشارة إلى أن نفوس الجان لا تزال في حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة فإنها تكون قلقة مضطربة".
وعند قوله تعالى في الآية [35] من السورة نفسها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ}.. يقول: "إنه عبَّر هنا بـ {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} وفيما تقدم بقوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}، والشواظ والمارج كلاهما اللَّهب الخالص، فلماذا جعل الجان مخلوقاً من مارج ولم يقل من شواظ؟ فاعلم أن المارج فيه معنى الاضطراب كما تقدم.
وقد أثبتذلك هناك، وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم في علم الأرواح، وأيضاً اختلاط الألوان الآن معروف في التحليل فهو من هذا القبيل.. وهذه الفكرة لم تُعرف قط إلا في زماننا هذا، فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط، والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة وأنها مضطربة، لم يكن إلا في زماننا، وهذا من أعاجيب القرآن التي لا تُدرك إلا بقراءة العلوم، وليس يعقلها الناس بفن البلاغة المعروف، فلا أصحاب المعلقات يدركونها، ولا الذين بعدهم يعلمونها، فهل لمثل امرىء القيس، أو لأبى العلاء، أو المتنبي أن يتناولوا هذه المعاني في أقوالهم؟ كلا .. فهذه البلاغة لا تخطر ببالهم، وأنَّى لهم علم الروح حتى يخصصوها بلفظ مارج؟ وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ".
ومثلاً في سورة الزلزلة نجده يُفسِّرها تفسيراً لفظياً مختصراً، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضاً ما وقع من حوادث الزلزال في إيطاليا، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم والبترول من الأرض، وما كثر في هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض، مثل ما كُشِف في مصر من آثار قدمائها، ثم يقول - بعد ما يفيض في هذا وغيره: "ألست ترى أن هذه السورة - وإن كانت واردة لأحوال الآخرة - تشير من طرف خفى إلى ما ذكرنا في الدنيا؟ فالأرض الآن كأنها في حالة زلزلة، وقد أخرجت أثقالها، كنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون، وها هم أُولاء يُلهمون الاختراع، وها هم أُولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال بحيث تكون كل أمة في عمل يناسبها، وكل إنسان في عمله الخاص به وينتفع به".
ومثلاً نجده بعد أن يفرغ من تفسير سورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر، يذكر لنا بحثاً مستفيضاً عنوانه: "تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما" وفيه نجده يتأثر بنزعته التفسيرية العلمية إلى درجة جعلته يُحَمِّل نصوص الشارع من المعاني الرمزية ما يُستبعد أن يكون مراداً لها. وذلك أنه يقرر أولاً أن هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة، ولا بفتح مكة ونصر جيشها، لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور في أول عمرها، وسيطول إن شاء الله، وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات.
ثم قال: "وإذا كان الأمر كما وصفنا ونحن أبناء العرب، وورثة النبي الذي جاء منا - صلى الله عليه وسلم، ولغتنا في مصر، والشام، والعراق، وشمال إفريقيا، هي لغة القرآن فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها، خوفاً من أهل زمانهم، ولكنَّا الآن يجب علينا إبرازه وإظهاره، لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظها من الحياة، وحصتها من الإصلاح".
ثم أخذ يُبيِّن لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وطيره، وأوصاف مَن سيرد عليه من المسلمين، بما جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم قال - بعد هذا كله: "اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم أُمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة، وصورة مفرحة، وبهجة وجمال. ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة. جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال، والحكمة، والعلم، ورقى الأُمة بهيئة تسر الجمهور".
ثم يقول: "الجاهل يسمع الدُّر والياقوت، وشراباً أحلى من العسل، فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللَّذت التي تقر بها عينه.. والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم، لأني أرى في خلال القول عجائب. فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء! وأي دخل لنجوم السماء هنا؟ ولماذا عبَّر به"؟.. ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولِمَ؟ ... ولِمَ؟ .. الحق أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يريد أمرين: أمراً واضحاً جلياً يفرح به جميع الناس، وأمراً يختص بالقُوَّاد والعظماء.
إن النبوة بأمر الله، والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوماً، وكُلٌ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قُوَّاد الأُمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد معانى أرقى. إن الجنة فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شيء هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأي شيء عدد نجوم السماء؟ ولماذا اختُصَّت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذي نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الأذفر، ولا أنواع الجواهر النفسية من دُّرٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين..."، ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التي هي لفظ أُطلق وأُريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي، ثم يقول - بعد بيان هذه الكناية: ".. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكفرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجاً. وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها، ورأوا المسلمين تقدَّموا ونصروا العلم على الجهل في العالَم الإنساني، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر في زماننا، وهو الفتح، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه".. إلخ.
هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.
والكتاب - كما ترى - موسوعة علمية، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يُوصف بما وُصِف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير" بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلَّ الكتاب على شيء، فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيراً ما يسبح في ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف في نواح شتَّى من العلم بعقله وقلبه، ليُجلى للناس آيات الله في الآفاق وفى أنفسهم، لم ليُظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمناً لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقاً لقول الله تعالى في كتابه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}.. ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.
* * *
إنكار بعض العلماء المعاصرين لهذا اللَّون من التفسير:
لم يقف العلماء في هذا العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللَّون من التفسير، بل نراهم مختلفين في قبوله والقول به، كما كان الشأن بين مَن سبقهم من العلماء الأقدمين..
وإذا كنا قد وجدنا من العلماء المحدَثين مَن انحاز إلى هذه الفكرة في التفسير وتأثر بها في مؤلفاته، فإنَّا نجد بجوار هؤلاء أيضاً كثرة من العلماء لم ترض عن هذا اللَّون من التفسير، ولم تستسغ أن تشرح به كتاب الله تعالى، ولم تغمض عينها أو تمسك قلمها عن رد هذه الفكرة على أهلها وتناولهم إياها بالنقد والتفنيد.
نجد هذه المعارضة في كثير من المحاورات والاعتراضات التي وُجِّهَت إلى صاحب الجواهر، وذكرها لنا في تفسيره.
كما نجد بعض أساتذتنا المعاصرين ينعون على مَن يأخذ بهذه الفكرة ويقول بها، ومن بين هؤلاء أستاذنا الشيخ محمود شلتوت. فقد تناول هذا الموضوع بالبحث في العدد (407)، (408) من السنة التاسعة لمجلة الرسالة. - إبريل سنة 1941 - وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللَّون من التفسير بحجج قوية واضحة.
وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولى يتناول هذا الموضوع في كتابه "التفسير: معالم حياته. منهجه اليوم"، وفيه يرد على أنصار هذا المذهب في التفسير بحجج قوية واضحة، استفدنا منها كثيراً في تأييد ما اخترنا من المذهبين.
وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضانجده في مقدمة تفسيره ينعى على مَن تأثروا في تفسيرهم بنزعاتهم العلمية، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعانى، والبيان، والإسرائيليات... وغير ذلك، ويعد هذا صارفاً يصرف الناس عن القرآن وهَدْيه، ثم ينعى على الفخر الرازي ما أورده في تفسيره من العلوم الحادثة في المِلَّة، ويعد هذا صارفاً يصرف الإنسان عن القرآن وهَدْيه، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على مَن قلَّد الفخر الرازي في مسلكه من المعاصرين، وأظنه أراد صاحب الجواهر، وذلك حيث يقول: ".. وقد زاد الفخر الرازي صارفاً آخر عن القرآن، هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل هذا من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولاً طويلة - بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض -، من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن".
وأخيراً.. فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى - رحمه الله رحمة واسعة - نجده في تقريظه لكتاب "الإسلام والطب الحديث" لا يرضى عن هذا المسلك في التفسير، رغم أنه مدح الكتاب وأشاد بمجهود مؤلفه، وذلك حيث يقول: "لست أريد من هذا - يعنى ثناءه على الكتاب ومؤلفه - أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلاً بالأسلوب التعليميالمعروف، وإنما أريد أن أقول إنه أتى بأُصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به، ليبلغ درجة الكمال جسداً وروحاً، وترك الباب مفتوحاً لأهل الذِكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة، ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أُوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه".
وفى موضع آخر يقول: "يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم كي نُفسِّرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها".
ومن هذا كله يتبين أن التفسير العلمي في العصر الحديث إن كان قد لقى قبولاً ورواجاً عند بعض العلماء، فإنه لم يلق مثل هذا القبول والرواج عند كثير منهم، وقدعلمتَ فيما سبق أي الرأيين أقرب إلى الحق وأحرى بالقبول". (25)
______________________________
(16) عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين ( ج/ 2صـ 15).
(17) يوسف المرعشلي، نثر الدرر والجواهر في علماء القرن الرابع عشر ( ج1/ صـ 551).
(18) http://www.almoajam.org/poet_details.php?id=3268
(19) انظر أخي الكريم إلى أدب العلامة السعدي في النقد قال ـ رحمه الله ـ: "رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي" أرأيت قال منسوب ولم يقل للطنطاوي لثقته به ولأنه لا يثق بالأمر إلا إذا تبين لله دره ودر أهل نجد فلقد كان يحبهم الشيخ رشيد ويفسح لهم في مجلته المجال لنقدها وكان يثق بهم غاية الثقة رحمهم الله وغفر لهم وألحقنا بهم.
(20) مجلة المنار ( ج29، صـ 143)
(21) مجلة المنار ( ج30،صـ 511)
(22) عادل نويهض، معجم المفسرين (ج1، صـ242).
(23) مجموعة من الباحثين ( الزبيري ـ القيسي1 ـ القيسي2 ـ البغدادي ـ الحبيب)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة(صـ 1801: 1082).
(24) مجموعة من الباحثين ( الزبيري ـ القيسي1 ـ القيسي2 ـ البغدادي ـ الحبيب)، الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة(صـ1085: 1087).
(25) محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون ( ج2، صـ 371ـ381).
 
أخي أبا الفداء
جزاك الله عنا خيراً بنقل هذه النقول المفيدة والتي قد لا يتمكن من الوصول إليها كلُّ أحد .
 
عودة
أعلى