قراءة نقدية في كتاب ( مذهب المنفعة العامة ) لجون ستيوارت مِلْ

محمد براء

New member
إنضم
12/03/2006
المشاركات
375
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة نقدية في كتاب ( مذهب المنفعة العامة )
لجون ستيوارت مِلْ
(الحلقة الأولى)​

الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن البحث في العلل الفاعلة والعلل الغائية هو حقيقة العلم ، الذي يبحث الإنسان فيه من حيث هو إنسان ، ولا يخلو ذهنه عن إثارة الأسئلة المتعلقة به ، لشدة احتياجه له في ضبط أفعاله .
وأشرف الأسئلة المتعلقة به هما سؤالان :
السؤال الأول : عن علَّةِ العلل الفاعلة ؛ من الذي أوجد هذا العالَم ؟
والسؤال الثاني : عن علة العلل الغائية ؛ ما هي الغاية من وجودي ؟
والجواب عن هذين السؤالين هما أصل كل دين من الأديان وفلسفة من الفلسفات ، وعنهما تتفرع سائر النظريات والمقالات .
والمسلمون يثبتون إلهًا متصفًا بصفات الجلال والكمال حيًّا عليمًا قادرًا سميعًا بصيرًا حكيمًا فعالا لما يريد متنزهًا عن جميع أوصاف النقص والعيب ، ويجعلون إفراده بالعبادة والمحبة غاية غاياتهم ومنتهى قُصُودِهم .
أما الفلسفة الغربية الحديثة فهي تدور في إثبات الخالق بين الإلحاد والتعطيل التام ، وبين إثبات خالق ناقص معطَّلٍ عن صفات الكمال ، وبناء على هذا انبنى جوابهم عن السؤال الثاني المتعلق بالغاية من الوجود الإنساني ، إذ ليس للمعارف الإلهية فيه أي مدخل .
وقد رأيت أن مناظرتهم في الجواب عن السؤال الثاني حسنة نافعة ، سيما وأنهم سلكوا مسالك خبيثة في إيهام سائر الخلق بإمكانية الأخذ بالفلسفات الغربية المتعلقة بشؤون الحياة من اقتصاد وسياسة وأخلاق ، دون أن يعود ذلك بالنقض لعقائدهم في الله تعالى ، وقد انخدع بذلك قوم من المسلمين لضعف معرفتهم بالله تعالى وصفاته ، وآل ذلك إلى أنهم لم يعودوا يرون فرقًا ظاهرًا بينهم وبين الغربيين الكفار المعطلة سوى في أمور تتعلق بالاعتقاد القلبي الذي لا أثر له في الحياة ، وفروقات في السلوك تعود إلى الاختلاف بين الناس في الطبائع والعوائد ، مع الغفلة التامة عن أن اعتقاد المرء في الله وصفاته عز وجل هو الأصل الذي تتفرع عنه تصرفاته في هذه الحياة الدنيا .
وهذه الرؤية الجاهلية من أسباب انطماس عقيدة الولاء والبراء في القلوب أو اضمحلالها ، وإن لم يتدارك الله عباده برحمته فمآل ذلك انطماس الإيمان بالكلية من القلب ، بل النزوع إلى التعطيل والإلحاد ، فإليك يا رب وحدك نضرع بأن تثبت قلوبنا على توحيدك .
فما الفرق بيننا وبين الغربيين في النظرة إلى الغاية من الحياة ؟ وما محل الاتفاق بيننا وبنيهم ؟ وما أصل ذلك ؟ وما أثره ؟
وقد رأيت أن أجعل الأجوبة عن هذه الأسئلة في مناقشة لأحد الفلاسفة الغربيين في القرن التاسع عشر الميلادي ، وهو جون ستيوارت مِلْ المتوفى سنة ( 1873 م ) في كتابه ( مذهب المنفعة العامة ) .
و(مِلْ) هو أحد منظري مذهب المنفعة ، تلقاه عن أبيه جيمس ميل ، وصديق أبيه جيرمي بنتام الذي كان يطلق على مبدأ المنفعة اسم مبدأ " أكبر قدر من السعادة " ، يقول وِلْ ديورانت في (قصة الحضارة) : " وقد اقتبس بنتام مبدأ السعادة هذا من هلفتيوس وهيوم وبريستلي وبكاريا ، وتكونت وجهة نظره العامة من قراءته لجماعة الفلاسفة " ([1]) .

(1) الأساس الفطري لنظرية المنفعة :
جميع الفلسفات تنطلق في تقرير نظرياتها وآرائها من أسس تكون مسلمة لدى الناس ، سواء كانت تلك الأسس علومًا ضرورية أو أمورًا مشتهرة بينهم .
وهذه الأسس الفطرية والمشهورة إذا أُعطيت حقَّها وتميَّز ما فيها من حقٍّ وباطل ، فإنها تدل على الحق ولا تدل على الباطل ، بل يمكن أن تدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه .
ونظرية المنفعة تنطلق من أساس حسيٍّ وهو أن الغاية من أفعال الأحياء هي تحصيل اللذة واجتناب الألم .
يقول جون ستيوارت مِلْ في شرحه لمرتَكز مبدأ المنفعة : " نظرية الحياة التي ترتكز عليها هذه النظرية الأخلاقية هي أن اللذة والتحرر من الألم هما الشيئان الوحيدان المرغوبان كغايات ، وأن كل الأشياء المرغوب فيها هي مرغوب فيها إما بسبب اللذة الكامنة فيها أو كوسيلة لزيادة اللذة وتجنب الألم " ([2]) .
ويقول : " الغاية القصوى التي بالإشارة إليها ومن أجلها تكون جميع الأشياء مرغوب فيها هي ضرب من الوجود يتحرر بقدر الإمكان من الألم وغني بقدر المستطاع بالمتع من حيث الكم والكيف معًا " ([3]) .
وهذا الأساس قد قرر علماء المسلمين ثبوته ، وفي ذلك يقول العلامة فخر الدين الرَّازي رحمه الله تعالى : " لا شك أن ها هنا شيئًا يميل الطبع إليه وتحكم أصل الفطرة بالرغبة في تحصيله ، وإن ها هنا شيئا آخر يحكم صريح الفطرة بالنفرة عنه والهرب منه . إذا عرفت هذا فنقول : لا يجوز أن يقال : إن كل شيء يراد تحصيله فإنما يراد تحصيله لأجل شيء آخر ، وكل شيء أريدَ دَفعه فإنما أريد دفعه لأجل أن يُتوسَّل بدفعه إلى دفع شيء آخر ، وإلا لزِمَ إما الدَّور وإما التَّسلسل بل لا بد من الاعتراف ، بوجود أشياء تكون مطلوبةً لذواتها وأعيانها ، ولا بد من الاعتراف بوجود أشياء مهروبة عنها لذواتها وأعيانها ، ثم إذا تأملنا ورجعنا إلى أنفسنا علمنا أن الشيء الذي يكون مطلوب الحصول لذاته أحد أمرين : إما اللذة وإما السرور ، وأن الشيء الذي يكون مكروه الحصول لذاته : إما الألم وإما الغمّ .
وأما كل ما يفضي حصوله إلى حصول اللذة والسرور، فإنه يكون مطلوب الحصول لغيره ، وكل ما يفضي حصوله إلى حصول الألم والغمّ ، فهو مطلوب لغيره " ([4]) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " كل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته ، فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد ، كما أن التعذب والتألم هو المكروه أولا ، وهو سبب كل بغض وكل حركة امتناع " ([5]) .
ويقول الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : " اللذة مقصود كلِّ حي وذلك أمر ضروريٌّ من وجوده ، وذلك في المقاصد والغايات بمنزلة الحس والعلوم البديهية في المبادىء والمقدمات ، فإنَّ كُلَّ حيٍّ له علمٌ وإحساس وله عمل وإرادة ، وعلمُ الإنسان لا يجُوز أن يَّكون كلُّه نظريًّا استدلاليًّا لاستحالة الدور والتسلسل ، بل لا بد له من علم أوله بديهي يبدَهُ النَّفسَ ويبتدىء فيها ، فلذلك يسمى بديهيًّا وأوليًّا ، وهو من نوع ما تضطر إليه النفس ، ويسمى ضروريًّا فإن النفس تضطر إلى العلم تارة وإلى العمل أخرى ، وكذلك العمل الاختياري المرادي له مرادٌ ، فذلك المراد إما أن يراد لنفسه أو لشيء آخر ولا يجوز أن يكون كلُّ مرادٍ مرادًا لغيره حذرًا من الدور والتسلسل ، فلا بد من مُرادٍ مطلوبٍ محبوبٍ لنفسه " ([6]) .
وهكذا نرى أن نظرية المنفعة مرتكزة على أصل حسيٍّ مُسلَّمٍ به ، بيَّنَه علماء المسلمون الخائضون في دروب الحقائق .
وسوف نبين بإذن الله أن هذا الأساس عندما يعطى حقه فإنه لا يصلح أساسًا إلا لعقيدة المسلمين في إثبات الخالق تعالى وصفات الكمال له وإفراده بالتوحيد والمحبة والعبادة ، وأن وجود السعادة الأبدية مع اجتياز عتبة العبودية من المحالات .

(2) ضوابط واقعية في السير نحو السعادة :
هناك ضوابط واقعية لا يمكن للإنسان في سعيه نحو تحقيق اللذات واجتناب الآلام أن يتغافل عنها ، ويمكننا أن نذكر منها ضابطين : الضابط الأول : وجود موجودات غيره . والضابط الثاني : المَلَكات التي خُصَّ بها عن سائر الموجودات .
وممت يسهل علينا في مناظرة جون ستيوارت مِلْ أنه يسلم بوجود هذين الضابطين ويبني فلسفته الأخلاقية مع اعتبارهما .
أما الضابط الأول : فهو يظهر من لقب هذه النظرية فإنه يسميها ( المنفعة العامة ) أي أن العموم محدد رئيسي في اعتبار النفع لديه ، ولذلك يقول : " يجب أن أكرر مرة أخرى أن الشيء الذي نادرًا ما يعترف به خصوم نظرية المنفعة ألا وهو : أن السعادة التي تشكل المعيار النفعي للسلوك الصائب ليس سعادة الفرد الخاصة ، بل سعادة جميع الذين يتأثرون بالفعل ، وتتطلب منه نظرية المنفعة العامة فيما بين سعادته هو وسعادة الآخرين أن يكون نزيهًا على نحو صارم كالمشاهد النزيه والخيِّر .
ونحن نقرأ القاعدة الذهبية ليسوع الناصري الروحَ الكاملة لأخلاق المنفعة : " افعل كما تريد أن يفعل بك الناس ، وأحب جارك كنفسك " ، فذلك هو المثل الأعلى لأخلاق المنفعة .
وتفترض نظرية المنفعة كوسيلة للوصول إلى أقرب قدر ممكن من هذا المثال ما يلي :
أولًا : يجب على القوانين والتنظيمات الاجتماعية أن تضع سعادة - أو إذا تكلمنا عمليًّا يمكن تسميتها مصلحة - كل فرد إلى أقرب حد ممكن على حد سواء مع مصلحة الجميع .
وثانيًا : يجبُ على الثقافة والرأي العام اللذان لهما سلطة واسعة فوق الشخصية الإنسانية استعمال هذه السلطة لإنشاء علاقة متينة في عقل كل فرد بين سعادته الخاصة وسعادة الجميع ، خاصة بين سعادته الخاصة وممارسة أنماط السلوك السلبية والإيجابية التي يفرضها احترام السعادة الشاملة ، وليس ذلك حتى لا يتمكن فحسب من أن يتصور إمكانية سعادته بصورة مضادة للصالح العام ، ولكن أيضًا لإمكانية وجود دفعة مباشرة لزيادة الصالح العام في كل بواعث السلوك المعتاد للفرد ، وحتى تتمكن المشاعر المرتبطة بهذا السلوك من أن تحتل مكانًا مرموقًا في الوجود الحساس لكل موجود بشري " ([7]).
أما الضابط الثاني : فهو يعترف بأن ملكات الإنسان العليا تحدد اختياره بين اللذات ولذلك يقول : "قليل من الموجودات البشرية هم الذين يوافقون أن يتحولوا إلى أي من الحيوانات الدنيا لقاء وعد للحصول على أكبر نصيب من ملذات الحيوان ، وليس ثمة موجود إنساني عاقل يقبل أن يصبح أحمق ولا شخص متعلم أن يكون إنسانًا جاهلا ، ولا إنسان ذو شعور وضمير يقبل أن يكون أنانيًّا وحقيرًا ، حتى ولو أنهم اقتنعوا بأن الإنسان الأحمق أوالغبي أو الوغد يرضى بحياته أكثر مما يفعلون هم أنفسهم .
فهم يرضون التنازل عما يملكون أكثر من لقاء إشباع أكبر لجميع الرغبات التي يشتركون فيها مع هذا الإنسان ، وأن يتخيلوا أنهم في أي وقت يمكن أن يفعلوا ذلك فإنما يكون ذلك فقط في حالات التعاسة القصوى ، حيث يتمنون أن يستبدلوا بنصيبهم أي شيء آخر ، رغم بشاعته في أعينهم لكي يتهربوا منه.
إن الموجود المزود بملكات عليا يحتاج إلى الكثير لكي يصبح سعيدًا ، فهو قد يتحمل كمية أكبر من الألم الحاد ، وهو بكل تأكيد معرض لهذا الألم في نقاط كثيرة أكثر من الموجود الذي يمتلك نوعًا أدنى من الملكات . ولكن على الرغم من هذه الاحتمالات فإنه لا يرغب قط في أن يغوص إلى ما يعتبره درجة دنيا من الوجود " ([8]) .
فإذا تقرر أن جون ستيوارت يأخذ هذين الضابطين بعين الاعتبار ، فلنجعلهما مقدمتين مسلمتين بيننا وبينه ، نلزمه بناء عليهما بما سيأتي ..

(3)نظرية المنفعة العامَّة .. وعقيدة التعطيل :
لاحظنا في كلام جون ستيوارت في شأن الضابط الأول أنه يهتم بجميع العناصر المتأثرة بالفعل : " سعادة جميع الذين يتأثرون بالفعل " ، وهؤلاء لا ينحصرون بالجنس البشري ، بل هم عنده " جميع الكائنات الحساسة القادرة على فعل الخير بقدر ما تسمح به طبيعة الأشياء " وفي ذلك يقول في تعريف نظريته : " قواعد وتعاليم السلوك البشري التي يمكن أن تحقق عند تطبيقها ذلك الضرب من الوجود الذي يتحرر بقدر الإمكان من الألم وغني بقدر المستطاع بالمتع من حيث الكم والكيف معًا إلى أقصى حد ممكن لجميع البشر ، وليس لجميع البشر فحسب بل أيضًا لجميع الكائنات الحساسة القادرة على فعل الخير بقدر ما تسمح به طبيعة الأشياء " ([9]) .
إذا نظرنا في الضابط الذي وضعه جون ستيوارت بقوله : " وليس لجميع البشر فحسب بل أيضًا لجميع الكائنات الحساسة القادرة على فعل الخير بقدر ما تسمح به طبيعة الأشياء " ، يمكننا أن نقول : ما تريد بالكائنات الحساسة القادرة على فعل الخير ؟ هل تريد بها موجودات قادرة لها إدراك الحب والبغض والرضا والغضب ؟
إن المسلمين يثبتون وجود إله حيٍّ قيوم ، يُحبُّ أنواعًا من أفعال العباد ويكره أنواعًا ، ثم إن هذا الإله هو رب البشر وخالقهم ومدبر أمورهم ، ولذا فإن محابه ومراضيه ينبغي أن تكون فوق جميع محاب ومراضي سائر البشر الذين يتأثرون بذلك الفعل محل النظر ، بحيث لو افتُرض تعارض بين ما يحبه ويرضاه وبين ما يحبه أحد من البشر سواء كان فردًا أو جماعة فإن ما يحبه ويرضاه يكون مقدَّمًا .
فيحنئذٍ يقال يلزمك أحد أمرين :
الأمر الأول : أن تقر بذلك الموجود المتصف بصفات الجلال والكمال - تعالى وتقدَّس - ، وإذا أقررت به يلزمك أن تجعل مراضيه ومحابه هي المعيار الأول في الحكم على ما يأتي الإنسان وما يذر من اللذات والآلام ، لأنه خالق سائر الموجودات ومدبِّر أمورها وهي تحت قهره وملكه وسلطانه ، فلا يجوز للإنسان العاقل في نظره في تحصيل لذاته واجتناب آلامه أن يُهمِل النظر في محاب الإله القادر ومراضيه ، لأنه إذا غضب عليه مع اتصافه بالقدرة فسوف يحل به أليم عذابه ولا ينجيه من ذلك أحد من سائر الموجودات.
وبناء على هذا نقول : إن النظر المصلحي الصحيح يقتضي ما يلي :
أولًا : يجب على القوانين والتنظيمات الاجتماعية أن تضع ما يحبه الله عز وجل ويرضاه فوق كل اعتبار ، وسائر الموجودات من الأعيان والصفات والأفعال إنما تُحبُّ بمحبة الله تعالى لها .
وثانيًا : يجبُ على الثقافة والرأي العام اللذين لهما سلطة واسعة فوق الشخصية الإنسانية استعمال هذه السلطة لإنشاء علاقة متينة في عقل كل فرد بين سعادته الخاصة ورضا ربه سبحانه .
الأمر الثاني : أن تلتزم عقيدة الإلحاد والتعطيل ، فتعطل الرب عن صفات المحبة والبغض والرضى والغضب ، أو تجحده بالكلية .
وحينئذٍ نقول : إنك قد اعتمدت في إثبات نظريتك هذه على ما ذكرته بقولك : " إن البرهان الوحيد على أن الشيء مرئي هو أن الناس يرونه بالفعل ، والدليل الوحيد على أن الصوت مسموع هو أن الناس يسمعونه بالفعل ، ومثل هذا يقال في سائر منابع التجربة عندنا ، وأعتقد أننا نستطيع أن نقول إن الدليل الوحيد الذي يمكن الإدلاء به على أن شيئًا ما مرغوب فيه ، هو أن الناس يرغبون فيه بالفعل ، فإذا لم يعترف الناس نظريًّا وعمليًّا بالغاية التي تقترحها النظرية النفعية ؛ تعذر إقناع الناس بهذه الغاية ، وليس هناك من سبب يمكننا أن ندلل به على أن سعادة المجموع شيء مرغوب فيه سوى أن كل فرد يرغب فعلا في سعادته الشخصية كلما اعتقد إمكان الحصول عليه وإذا صح هذا كنا قد أثبتنا لا بالدليل الذي تحتمله هذه القضية فحسب ، بل بالدليل الذي يمكن أن نفتقر إليه ؛ أن السعادة خير ، وأن سعادة كل فرد خير لذلك الفرد ، وإذًا فسعادة المجموع خير لمجموع أفراده ، وبهذا كانت السعادة إحدى غايات السلوك ، وبالتالي إحدى معايير الأخلاق " ([10]) .
قال مقيده - عفا الله عنه - : قد أقررت أن عدم اعتراف الناس نظريًّا وعمليًّا بالغاية التي تقترحها النظرية النفعية يتعذر معه إقناع الناس بهذه الغاية ، وبناء عليه يقال : إن المسلمين لا يعرفون من وجودهم إلا غاية واحدة ، وهي عبادة الله تعالى وحده ، التي يلزم منها أن تجعل محابُّه ومراضيه فوق محاب ومراضي المجموع والأفراد ، بل لا ينظر في سعادة المجموع والأفراد إلا من جهة أنها محققة لما يحبه الربُّ ويرضاه أو لا ، وإنما يلجأ إلى جعل سعادة المجموع المؤثر الوحيد في سعادة الفرد الجاحدون المعطِّلون أمثالك وأمثال أُمَّتِك الذين لا يثبتون خالقًا قادرًا يحب ويرضى ويسخط ويغضب .
أما ستر هذه النظرية بكلام عيسى عليه السلام ، والزعم بأن كلامه مثل أعلى لأخلاق المنفعة ، فهو محض تلبيس ، يغتر به نصارى أمته فقط .
(4) هل يقبل العاقل بمسخ فطرته ؟
ثم إذا انتقلنا إلى ما ذكره جون ستيوارت بشأن انضباط اختيارات الإنسان للذاته بضابط الملكات العليا ، وجدنا أنه يقر بأنه " ليس ثمة موجود إنساني عاقل يقبل أن يصبح أحمق ولا شخص متعلم أن يكون إنسانًا جاهلا ، ولا إنسان ذو شعور وضمير يقبل أن يكون أنانيًّا وحقيرًا ، حتى ولو أنهم اقتنعوا بأن الإنسان الأحمق أو الغبي أو الوغد يرضى بحياته أكثر مما يفعلون هم أنفسهم " .
قال مُقيِّده - عفا الله عنه - : وأيضًا فليس ثمة موجود إنساني عاقل يقبل أن تمسخ فطرته التي فطره الله عليها ، والتي بها يدرك النافع من الضار ، والحسن من القبيح ، مقابل تحصيل ملذَّاتٍ وشهواتٍ من لذات مرتكسي الفطرة .
ولهذا فإن المسلم ينظر إلى الكافر على أنه موجود إنساني تعرضت فطرته إلى مسخ وتغيير ، ولا يرضى أبدًا أن ينال ما يناله هذا الكافر من لذات الدنيا إذا كان الثمن أن ترتكس فطرته وتمسخ ، ويختل بذلك نظام إدراكه ، بل إن هذا الشعور بذاته شعور لذيذ يذوق به الإنسان حلاوة الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " .
يقول ابن تيمية : " إنما يقع غلط أكثر الناس أنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها ، ولم يذق لذات أهل البر ولم يخبرها ، ولكن أكثر الناس جهال كما لا يسمعون ولا يعقلون ، وهذا الجهل لعدم شهود حقيقة الإيمان ووجود حلاوته وذوق طعمِه " ([11]) .

_______________

([1]) «قصة الحضارة» لول ديورانت (42/125) .
([2]) «أسس الليبرالية السياسية» مجموع فيه كتابان لجون ستيوارت مِلْ هما : مذهب المنفعة العامة ، وعن الحرية ترجمة وتقديم وتعليق إمام عبد الفتاح إمام وميشيل متياس (ص44) .
([3]) «أسس الليبرالية السياسية» (ص49) .
([4]) «المطالب العالية من العلم الإلهي» للفخر الرازي (3/21-22) .
([5]) «قاعدة في المحبة» (ص204) .
([6]) «روضة المحبين» (ص233-234) .
([7]) «أسس الليبرالية السياسية» (ص56) .
([8]) «أسس الليبرالية السياسية» (ص46) .
([9]) «أسس الليبرالية السياسية» (ص50) .
([10]) «أسس الليبرالية السياسية» (ص77-78) .
([11]) «قاعدة في المحبة» لابن تيمية (ص250) .
 
عودة
أعلى