سعيد محمود أحمد
New member
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه:
*
قراءة مختصرة في بيان "عقدة لسان" نبي الله موسى عليه السلام:
في مسألته ربه جل وعلا، قدم موسى عليه السلام طلب انشراح الصدر: "رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي"، وتيسير الأمر: "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي" على طلب حل عقدة اللسان: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي"؛ لأن الثاني مترتب على الأول؛ كما بينه في موضع سورة الشعراء: "وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَـٰرُونَ"، وجعل العلة في ذلك عند القوم: "يَفْقَهُوا قَوْلِي"، ولم يجعل الآفة عنده هو؛ فلم يقل: يفقه قولى أنا، وإنما أحال الآفة إليهم: "يفقهوا" هم قولي.
والحل والفك ضد الربط والحبس، وهما شيئان لا يشيران بحال من الأحوال إلى علة أو آفة عضوية؛ لأن الإنسان يتصف بهما في وقت وحال، ويتصف بضدهما في وقت آخر وحال آخر، وليس الوصف بهما من قبيل المرض المزمن الذي لا ينفك عن صاحبه، وأراد موسى عليه السلام بحل العقدة أن ينطلق لسانه بالحجة، كما دلت عليه صراحة آية سورة الشعراء.
وطلاقة اللسان استرساله في البيان دون انقطاع، وهو ما يعبر عنه في علم المناظرات الحديث بطول النفس، وقوة الحجة؛ فلو كان ألثغا؛ لأعذر موسى نفسه بذلك، وسأل حدّ الإبانة في الكلام: كي يتبينوا قولي، لا حدّ الطلاقة في البيان: كي يفقهوا قولي.
ولم تسند العقدة إلى اللسان بطريق الإضافة الخالصة: عقدة لساني، ليفيد بالإضافة المحضة أن هذا شيء معروف ومشهور لا ينكر، وإنما أتى البيان بطريق الإضافة البيانية: عقدة من لساني: أي مردها إلى لساني حال مخاطبتي إياه وإياهم، ليفيد أن هذا غير معهود عني، ولا أعرف به.
"عقدة من لساني": وصف حالة طارئة، وليس علة وعطب عضو اللسان؛ وإلا ناسب معه: "وأصلح" وليس "واحلل" كما في حالة نبي الله زكريا عليه السلام: "وأصلحنا له زوجه" أي من عقرها؛ لأنه بمنزلة الداء العضال، الذي لا يزال،
وكذلك لو سأل ربه جل وعلا أن يذهب عيب لسانه، وليس حل عقدة منه.
"واحلل عقدة": كما تنحل عقدة الخيط من العقد؛ فتنفرط حبّاته، واحدة تلو الآخرى، وكأن موسى عليه السلام يريد من ربه أن يلقنه الحجة تلو الأخرى في محاورته لفرعون وملإه، وألا تنقطع حجته في المناظرة؛ فيكون كمن عقد لسانه وانحبس وكف عن محاورة ومجاراة الخصم فتكون له الغلبة عليه.
والمتدبر في جميع حوارات القرءان بين موسى وفرعون؛ يجد قوة في البيان، ونصاعة في الحجة وبلاغة في الأسلوب، واختصارا في العبارة من جانب موسى عليه السلام؛ بما ألجأ فرعون وملإه أن يحشر وينادي في القوم بمعايرة موسى بأنه مهين ولا يكاد يبين له أصل يعرف به، أما هو على ما هو عليه من ملك مصر والأنهار التي تجري من تحته، وأسورة الذهب والفضة الملقاة عليه.
"عقدة من لساني"، لا تشير من قريب أو بعيد إلى عقد أخرى، كما توهم وفهم خطأ من سياق الإفراد والتنكير لكلمة عقدة.
"عقدة من لساني"، لا تعنى بحال من الأحوال عيبا من عيوب النطق المتعلقة بعطب في آلة الكلام، مثل اللثغة والرتة واللدغة واللعثمة، ونحوها.
وأجود ما قرأت في كتب علمائنا الأوائل، رحمهم الله ونفع بشريف علومهم، ولطيف فهومهم، ما أورده صاحب النكت والعيون:
"(واحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسانِي﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّها عُقْدَةٌ كانَتْ بِلِسانِهِ مِنَ الجَمْرَةِ الَّتِي ألْقاها بِفِيهِ في صِغَرِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ.
الثّانِي: عُقْدَةٌ كانَتْ بِلِسانِهِ عِنْدَ مُناجاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتّى لا يُكَلِّمَ غَيْرَهُ إلّا بِإذْنِهِ.
الثّالِثُ: اسْتِحْيائِهِ مِنَ اللَّهِ مِن كَلامِ غَيْرِهِ بَعْدَ مُناجاتِهِ.
﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: بِبَيانِ كَلامِهِ.
الثّانِي: بِتَصْدِيقِهِ عَلى قَوْلِهِ.".أ.هـ
تأمل حلو منطق موسى عليه السلام وفصاحته واسترساله في الإيناس في المحاورة الأولى مع الرب تبارك وتعالى: "قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها ومآرب أخرى"، ثم تأمل هذه الفصاحة والبيان في هذا الدعاء نفسه: "رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي" إلى آخر هذا البيان الرائع من الكليم عليه السلام؛ فكيف يوصف بما قالوا وتوهموا.
"يَفْقَهُوا قَوْلِي": ترشح أنه طلب الفصاحة في اللسان الذي سوف يخاطب به فرعون وقومه، لا في لسانه هو الذي يخاطب به قومه من بني إسرائيل، كما دل عليه وصفه لأخيه هارون عليه السلام: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا".
نحن من أصابتنا العجمة في الفهم واللسان معا.
والله أعلم.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه:
*
قراءة مختصرة في بيان "عقدة لسان" نبي الله موسى عليه السلام:
في مسألته ربه جل وعلا، قدم موسى عليه السلام طلب انشراح الصدر: "رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي"، وتيسير الأمر: "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي" على طلب حل عقدة اللسان: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي"؛ لأن الثاني مترتب على الأول؛ كما بينه في موضع سورة الشعراء: "وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَـٰرُونَ"، وجعل العلة في ذلك عند القوم: "يَفْقَهُوا قَوْلِي"، ولم يجعل الآفة عنده هو؛ فلم يقل: يفقه قولى أنا، وإنما أحال الآفة إليهم: "يفقهوا" هم قولي.
والحل والفك ضد الربط والحبس، وهما شيئان لا يشيران بحال من الأحوال إلى علة أو آفة عضوية؛ لأن الإنسان يتصف بهما في وقت وحال، ويتصف بضدهما في وقت آخر وحال آخر، وليس الوصف بهما من قبيل المرض المزمن الذي لا ينفك عن صاحبه، وأراد موسى عليه السلام بحل العقدة أن ينطلق لسانه بالحجة، كما دلت عليه صراحة آية سورة الشعراء.
وطلاقة اللسان استرساله في البيان دون انقطاع، وهو ما يعبر عنه في علم المناظرات الحديث بطول النفس، وقوة الحجة؛ فلو كان ألثغا؛ لأعذر موسى نفسه بذلك، وسأل حدّ الإبانة في الكلام: كي يتبينوا قولي، لا حدّ الطلاقة في البيان: كي يفقهوا قولي.
ولم تسند العقدة إلى اللسان بطريق الإضافة الخالصة: عقدة لساني، ليفيد بالإضافة المحضة أن هذا شيء معروف ومشهور لا ينكر، وإنما أتى البيان بطريق الإضافة البيانية: عقدة من لساني: أي مردها إلى لساني حال مخاطبتي إياه وإياهم، ليفيد أن هذا غير معهود عني، ولا أعرف به.
"عقدة من لساني": وصف حالة طارئة، وليس علة وعطب عضو اللسان؛ وإلا ناسب معه: "وأصلح" وليس "واحلل" كما في حالة نبي الله زكريا عليه السلام: "وأصلحنا له زوجه" أي من عقرها؛ لأنه بمنزلة الداء العضال، الذي لا يزال،
وكذلك لو سأل ربه جل وعلا أن يذهب عيب لسانه، وليس حل عقدة منه.
"واحلل عقدة": كما تنحل عقدة الخيط من العقد؛ فتنفرط حبّاته، واحدة تلو الآخرى، وكأن موسى عليه السلام يريد من ربه أن يلقنه الحجة تلو الأخرى في محاورته لفرعون وملإه، وألا تنقطع حجته في المناظرة؛ فيكون كمن عقد لسانه وانحبس وكف عن محاورة ومجاراة الخصم فتكون له الغلبة عليه.
والمتدبر في جميع حوارات القرءان بين موسى وفرعون؛ يجد قوة في البيان، ونصاعة في الحجة وبلاغة في الأسلوب، واختصارا في العبارة من جانب موسى عليه السلام؛ بما ألجأ فرعون وملإه أن يحشر وينادي في القوم بمعايرة موسى بأنه مهين ولا يكاد يبين له أصل يعرف به، أما هو على ما هو عليه من ملك مصر والأنهار التي تجري من تحته، وأسورة الذهب والفضة الملقاة عليه.
"عقدة من لساني"، لا تشير من قريب أو بعيد إلى عقد أخرى، كما توهم وفهم خطأ من سياق الإفراد والتنكير لكلمة عقدة.
"عقدة من لساني"، لا تعنى بحال من الأحوال عيبا من عيوب النطق المتعلقة بعطب في آلة الكلام، مثل اللثغة والرتة واللدغة واللعثمة، ونحوها.
وأجود ما قرأت في كتب علمائنا الأوائل، رحمهم الله ونفع بشريف علومهم، ولطيف فهومهم، ما أورده صاحب النكت والعيون:
"(واحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسانِي﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّها عُقْدَةٌ كانَتْ بِلِسانِهِ مِنَ الجَمْرَةِ الَّتِي ألْقاها بِفِيهِ في صِغَرِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ.
الثّانِي: عُقْدَةٌ كانَتْ بِلِسانِهِ عِنْدَ مُناجاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتّى لا يُكَلِّمَ غَيْرَهُ إلّا بِإذْنِهِ.
الثّالِثُ: اسْتِحْيائِهِ مِنَ اللَّهِ مِن كَلامِ غَيْرِهِ بَعْدَ مُناجاتِهِ.
﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: بِبَيانِ كَلامِهِ.
الثّانِي: بِتَصْدِيقِهِ عَلى قَوْلِهِ.".أ.هـ
تأمل حلو منطق موسى عليه السلام وفصاحته واسترساله في الإيناس في المحاورة الأولى مع الرب تبارك وتعالى: "قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها ومآرب أخرى"، ثم تأمل هذه الفصاحة والبيان في هذا الدعاء نفسه: "رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي" إلى آخر هذا البيان الرائع من الكليم عليه السلام؛ فكيف يوصف بما قالوا وتوهموا.
"يَفْقَهُوا قَوْلِي": ترشح أنه طلب الفصاحة في اللسان الذي سوف يخاطب به فرعون وقومه، لا في لسانه هو الذي يخاطب به قومه من بني إسرائيل، كما دل عليه وصفه لأخيه هارون عليه السلام: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا".
نحن من أصابتنا العجمة في الفهم واللسان معا.
والله أعلم.