قراءة في مقدمة تفسير المنار
رحلة رشيد رضا إلى حكيمي الشرق
مصطفى محمد الحسن / صحيفة عكاظ ـ الخميس 29 / 12 / 1427هـ
تجيء هذه المقالة بعد مرور مئة عام وأكثر قليلا على وفاة الإمام محمد عبده، حيث كان رحمه الله ركناً رئيساً في إدارة الصراع الفكري في فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حين بدأ الانهيار يظهر في الدولة العثمانية، وقامت على إثره الدول الأوروبية باقتسام تركة الرجل المريض، وتوافق ذلك مع غزو فكري بدخول نابليون إلى مصر، كل ذلك مهّد إلى ظهور عمل فكري إصلاحي يقوم على رجلين حكيمين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن بعدهما أستاذ التفسير محمد رشيد رضا، والحديث عن هذا الاتجاه أو هذه المدرسة لا تكفيه مقالة أو اثنتان، لذلك سأحصر كلامي في قراءة فكرية لمقدمة (تفسير القرآن الحكيم) والمشهور بتفسير المنار، هذا التفسير الذي حمل في طيّاته منهجاً جديداً في التعامل مع القرآن الكريم أثار جدلاً واسعاً لم يهدأ حتى اليوم، ويمكنك القول إن تفسير المنار هو المعبّر الحقيقي عن النظرة الشرعية لاتجاه الإمام محمد عبده، فحديثنا إذن حول مرتكز فكره ومحور عقليته وأساس تجديده، مقدمة المنار تحتاج إلى رعاية وعناية ونظرة فاحصة، وكنت وددت في أول مرّة قرأت فيها المقدمة أن لو انبرى لها أريب لبيب فقلب أفكارها وأدار رحاها وحرّك سواكنها، فإن ذلك لن يخرج منه بأقل من مجلد ضخم، وهي تستحق ذلك، وأنا هنا أحاول أن أقرأ بعض أفكارها قراءة عجلى تناسب المقام.
أنقل بداية قصة الإمام مع تلميذه محمد رشيد رضا، ففيها معانٍ جليلة ضمَّنها المقدمة، كان رشيد رضا يعيش في موطنه لبنان، يحترق ألماً لما أصاب العالم الإسلامي من وهن، يبحث عن الداء فيتيه عقله بين تزمتِ وجهلِ فارتاحت نفسه إلى شيء من هذا وذاك، وكان ينظر إلى القرآن باعتباره سبيل الخلاص إلا أنّ المعاني كانت تتراءى له مثل الخيال لا يكاد يتبين منها شيء، عثرت يداه صدفة على أوراق من مجلة (العروة الوثقى) التي كان يصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من المنفى، فكأنه وجد ضالته المفقودة، قرأ شيئاً لم يكن يعهده فيما يقرأ، من ذلك سنن الله تعالى في الخلق ونظام الاجتماع البشري وأسباب قيام الحضارات وسقوطها، وغير ذلك، يقول «تلك المقالات التي حبّبت إليّ حكيميّ الشرق، السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري، وهما اللذان عملا على انشاء جريدة العروة الوثقى في باريس سنة 1301هـ عقب احتلال الإنكليز لمصر في أواخر سنة 1299هـ، وكان الكاتب لتلك المقالات العالية فيها هو الثاني ولكن بإرشاد الأول وإدارته وسياسته، وهو أستاذه في هذا المنهج ومربيه عليه).
توفي الأفغاني قبل أن يلتقي برشيد رضا، فارتحل الشيخ رشيد إلى القاهرة لملازمة الإمام محمد عبده، وتمّ له ذلك، قال له رشيد رضا ذات يوم: لو كتبت تفسيراً تقتصر فيه على حاجة العصر وتترك ما يصدّ عن ذلك مما هو موجود في كثير من كتب التفسير، فأجابه الإمام بأمرين اثنين:
الأول: إذا كان التفسير كتاباً، فما أكثر الكتب في المكتبات والمساجد والبيوت، فأين الناس عنها؟ أين من يدخل المكتبة ليبحث عن كتاب يقرأ فيه؟ وإذا وُجد القارئون فإنهم يطلبون ما يوافق هواهم، وإذا وقعت أيديهم على ما يخالف رأيهم تأولوه لصالحهم، أو أعرضوا عنه.
الثاني: إذا كان التفسير درساً يُلقى ويستمعه الحاضرون، فذلك أكثر تأثيراً في النفس والعقل، ولكنّ الإمام خاض تجربة اعتبرها فاشلة حين عقد درساً حضره بعض طلبة العلم، فوجد من بلادتهم وقلة فهمهم ما زهّده في الاستمرار!! كان الإمام في حالة إحباط شديدة، كان يسبح في أفق واسع من الفكر والمعرفة، والناس حوله في نوم عميق، وهذا أشدّ ما يكون على النفوس الحرّة، يقول “فإنني ربما أتصور أن أكتب بموضوع وعندما أوجه قواي لجمع ما يحسن كتابته تتوارد على فكري معانٍ كثيرة ووجوه للكلام جمّة، ثم يأتيني خاطر: لمن ألقي هذا الكلام؟ ومن ينتفع به؟ فأتوقف عن الكتابة، وأرى تلك المعاني التي اجتمعت عندي قد امتصّ بعضها بعضاً حتى تلاشت، ولا أكتب شيئاً”()، أرأيت الإحباط كيف يصنع بأرباب المعرفة؟ إنه كفيل بأن يميت عالِماً وعالَماً من حرائر الفكر، كان بإمكانها أن تحيي أمة هامدة، وإذا هيّأ الله تعالى من يملأ هذه النفوس حيوية وتفاؤلاً فإنها تحدث من الحِراك والوعي ما لم يكن بالحسبان.
كان الشيخ رشيد على مستوى عالٍ من النباهة فأجابه بأمرين:
الأول: أن الدنيا لا تخلو من أذكياء، والأفكار الجديدة لا تصلح بطبيعتها لكل الناس، وإنما هي بحاجة إلى عقول متنورة ونفوس حرّة، ذلك أن تبعات الخروج عن المألوف كبيرة، فلا قيمة لها بدون تضحيات، ومثل هذه الأفكار يكفيها في أوّل حياتها الواحد والاثنان، ثم يتزايد الناس عليها. الثاني: ان التعامل مع وسائل الإعلام الملائمة للعصر له أثر في نشر الفكرة، فأوراق (العروة الوثقى) البالية، هيجت نفس رشيد رضا ليترك أهله ووطنه ويضع نفسه بين يدي رجل لا يملك من الدنيا سوى أفكار تقبع في رأسه، يقول رشيد رضا “ولم أزل به حتى أقنعته بقراءة التفسير في الأزهر فاقتنع وبدأ الدرس بعد ثلاثة أشهر ونصف، أي في غرّة المحرم سنة 1317هـ، وانتهى منه في منتصف المحرم سنة 1323هـ عند تفسير قوله تعالى {وكان الله بكل شيء محيطا} من الآية 125 من سورة النساء، فقرأ زهاء خمسة أجزاء في ست سنين”(). وهذا ما جعل رشيد رضا يفكّر بطريقة إبداعية تجعل من تفسير الإمام فكراً عالمياً، خصوصاً أنه منبع فكره ومحور أفكاره، فأنشأ مجلة المنار وكان يحضر درس الإمام ثم يكتبه بأسلوبه ثم يعرضه عليه ثم ينشره في المجلة، فطار التفسير في الآفاق بشكل يفوق التصور وصار حديث الركبان
رحلة رشيد رضا إلى حكيمي الشرق
مصطفى محمد الحسن / صحيفة عكاظ ـ الخميس 29 / 12 / 1427هـ
تجيء هذه المقالة بعد مرور مئة عام وأكثر قليلا على وفاة الإمام محمد عبده، حيث كان رحمه الله ركناً رئيساً في إدارة الصراع الفكري في فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حين بدأ الانهيار يظهر في الدولة العثمانية، وقامت على إثره الدول الأوروبية باقتسام تركة الرجل المريض، وتوافق ذلك مع غزو فكري بدخول نابليون إلى مصر، كل ذلك مهّد إلى ظهور عمل فكري إصلاحي يقوم على رجلين حكيمين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن بعدهما أستاذ التفسير محمد رشيد رضا، والحديث عن هذا الاتجاه أو هذه المدرسة لا تكفيه مقالة أو اثنتان، لذلك سأحصر كلامي في قراءة فكرية لمقدمة (تفسير القرآن الحكيم) والمشهور بتفسير المنار، هذا التفسير الذي حمل في طيّاته منهجاً جديداً في التعامل مع القرآن الكريم أثار جدلاً واسعاً لم يهدأ حتى اليوم، ويمكنك القول إن تفسير المنار هو المعبّر الحقيقي عن النظرة الشرعية لاتجاه الإمام محمد عبده، فحديثنا إذن حول مرتكز فكره ومحور عقليته وأساس تجديده، مقدمة المنار تحتاج إلى رعاية وعناية ونظرة فاحصة، وكنت وددت في أول مرّة قرأت فيها المقدمة أن لو انبرى لها أريب لبيب فقلب أفكارها وأدار رحاها وحرّك سواكنها، فإن ذلك لن يخرج منه بأقل من مجلد ضخم، وهي تستحق ذلك، وأنا هنا أحاول أن أقرأ بعض أفكارها قراءة عجلى تناسب المقام.
أنقل بداية قصة الإمام مع تلميذه محمد رشيد رضا، ففيها معانٍ جليلة ضمَّنها المقدمة، كان رشيد رضا يعيش في موطنه لبنان، يحترق ألماً لما أصاب العالم الإسلامي من وهن، يبحث عن الداء فيتيه عقله بين تزمتِ وجهلِ فارتاحت نفسه إلى شيء من هذا وذاك، وكان ينظر إلى القرآن باعتباره سبيل الخلاص إلا أنّ المعاني كانت تتراءى له مثل الخيال لا يكاد يتبين منها شيء، عثرت يداه صدفة على أوراق من مجلة (العروة الوثقى) التي كان يصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من المنفى، فكأنه وجد ضالته المفقودة، قرأ شيئاً لم يكن يعهده فيما يقرأ، من ذلك سنن الله تعالى في الخلق ونظام الاجتماع البشري وأسباب قيام الحضارات وسقوطها، وغير ذلك، يقول «تلك المقالات التي حبّبت إليّ حكيميّ الشرق، السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري، وهما اللذان عملا على انشاء جريدة العروة الوثقى في باريس سنة 1301هـ عقب احتلال الإنكليز لمصر في أواخر سنة 1299هـ، وكان الكاتب لتلك المقالات العالية فيها هو الثاني ولكن بإرشاد الأول وإدارته وسياسته، وهو أستاذه في هذا المنهج ومربيه عليه).
توفي الأفغاني قبل أن يلتقي برشيد رضا، فارتحل الشيخ رشيد إلى القاهرة لملازمة الإمام محمد عبده، وتمّ له ذلك، قال له رشيد رضا ذات يوم: لو كتبت تفسيراً تقتصر فيه على حاجة العصر وتترك ما يصدّ عن ذلك مما هو موجود في كثير من كتب التفسير، فأجابه الإمام بأمرين اثنين:
الأول: إذا كان التفسير كتاباً، فما أكثر الكتب في المكتبات والمساجد والبيوت، فأين الناس عنها؟ أين من يدخل المكتبة ليبحث عن كتاب يقرأ فيه؟ وإذا وُجد القارئون فإنهم يطلبون ما يوافق هواهم، وإذا وقعت أيديهم على ما يخالف رأيهم تأولوه لصالحهم، أو أعرضوا عنه.
الثاني: إذا كان التفسير درساً يُلقى ويستمعه الحاضرون، فذلك أكثر تأثيراً في النفس والعقل، ولكنّ الإمام خاض تجربة اعتبرها فاشلة حين عقد درساً حضره بعض طلبة العلم، فوجد من بلادتهم وقلة فهمهم ما زهّده في الاستمرار!! كان الإمام في حالة إحباط شديدة، كان يسبح في أفق واسع من الفكر والمعرفة، والناس حوله في نوم عميق، وهذا أشدّ ما يكون على النفوس الحرّة، يقول “فإنني ربما أتصور أن أكتب بموضوع وعندما أوجه قواي لجمع ما يحسن كتابته تتوارد على فكري معانٍ كثيرة ووجوه للكلام جمّة، ثم يأتيني خاطر: لمن ألقي هذا الكلام؟ ومن ينتفع به؟ فأتوقف عن الكتابة، وأرى تلك المعاني التي اجتمعت عندي قد امتصّ بعضها بعضاً حتى تلاشت، ولا أكتب شيئاً”()، أرأيت الإحباط كيف يصنع بأرباب المعرفة؟ إنه كفيل بأن يميت عالِماً وعالَماً من حرائر الفكر، كان بإمكانها أن تحيي أمة هامدة، وإذا هيّأ الله تعالى من يملأ هذه النفوس حيوية وتفاؤلاً فإنها تحدث من الحِراك والوعي ما لم يكن بالحسبان.
كان الشيخ رشيد على مستوى عالٍ من النباهة فأجابه بأمرين:
الأول: أن الدنيا لا تخلو من أذكياء، والأفكار الجديدة لا تصلح بطبيعتها لكل الناس، وإنما هي بحاجة إلى عقول متنورة ونفوس حرّة، ذلك أن تبعات الخروج عن المألوف كبيرة، فلا قيمة لها بدون تضحيات، ومثل هذه الأفكار يكفيها في أوّل حياتها الواحد والاثنان، ثم يتزايد الناس عليها. الثاني: ان التعامل مع وسائل الإعلام الملائمة للعصر له أثر في نشر الفكرة، فأوراق (العروة الوثقى) البالية، هيجت نفس رشيد رضا ليترك أهله ووطنه ويضع نفسه بين يدي رجل لا يملك من الدنيا سوى أفكار تقبع في رأسه، يقول رشيد رضا “ولم أزل به حتى أقنعته بقراءة التفسير في الأزهر فاقتنع وبدأ الدرس بعد ثلاثة أشهر ونصف، أي في غرّة المحرم سنة 1317هـ، وانتهى منه في منتصف المحرم سنة 1323هـ عند تفسير قوله تعالى {وكان الله بكل شيء محيطا} من الآية 125 من سورة النساء، فقرأ زهاء خمسة أجزاء في ست سنين”(). وهذا ما جعل رشيد رضا يفكّر بطريقة إبداعية تجعل من تفسير الإمام فكراً عالمياً، خصوصاً أنه منبع فكره ومحور أفكاره، فأنشأ مجلة المنار وكان يحضر درس الإمام ثم يكتبه بأسلوبه ثم يعرضه عليه ثم ينشره في المجلة، فطار التفسير في الآفاق بشكل يفوق التصور وصار حديث الركبان