محمد بن إبراهيم الحمد
New member
[align=center]أسرار التنزيل تفسير آيات قرآنية كريمة
للشيخ محمد الخضر حسين 1293-1377هـ
جمعه وحققه ونشره الأستاذ/ علي الرضا التونسي الحسيني[/align]
[align=justify]هذا الكتاب يقع في مجلد واحد، وعدد صفحاته 361 صفحة، وقد طُبع عام 1396هـ - 1976م.
يقول الناشر الأستاذ علي الرضا -ابن أخ الشيخ محمد الخضر- في مقدمة الكتاب مبيناً قصة تأليف هذا الكتاب: "ما إن ارتقى فضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه- المرتبة العلمية الرفيعة التي انتهى إليها في قمة مجده العلمي، وفي أواخر حياته المليئة بالجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وما إن أضحى بحراً لا ساحل له في مختلف العلوم الإسلامية واللغوية - باشر في وضع تفسير محكم لكتاب الله العزيز، ينبع من صفاء علمه، وعرفانه وهدايته وتقواه.
وبقلمه البليغ بدأ -رحمه الله- نشر التفسير الذي وضعه في مجلة "لواء الإسلام" التي كانت تصدر بالقاهرة، وكان رئيساً لتحريرها، بدءاً من العدد الأول الصادر بتاريخ الأول من شهر رمضان المبارك لعام 1366هـ الموافق التاسع عشر من شهر يوليو تموز 1947م.
واستمر في هذا العمل الجليل حتى أثقلته السنون وقد قارب عمره الطاهر على الثمانين عاماً.
وتحت وطأة الشيخوخة توقف عن متابعة هذا الجهد الرائع والإنتاج الفكري العظيم، وكانت آخر الصفحات من التفسير هي تلك التي نشرها في العدد الثاني عشر من السنة الرابعة لمجلة لواء الإسلام والصادر في شهر شعبان لعام 1370هـ الموافق شهر مايو أيار لعام 1951م.
قام المؤلف بتفسير القسم الأكبر من سورة البقرة حتى الآية 195 بالإضافة إلى سورة الفاتحة، وبتفسير آيات قرآنية كريمة من سور مختلفة وهي: آية من سورة آل عمران - آيات من سورة الحج - آيات الصيام - ثلاث آيات من سورة الأنفال - أربع آيات من سورة يونس - خمس آيات من سورة ص.
وقد ضممنا في هذا الكتاب تفسير آيات سورة البقرة من 1-195 والمنشور في أعداد مجلة لواء الإسلام، ودروس التفسير التي ألقاها في بعض النوادي والجمعيات الإسلامية ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها المؤلف في القاهرة.
والله نسأل السداد والتوفيق في خدمة رسالة الإسلام". ص3-4
[align=center]عرض مجمل للتعريف بالكتاب ومنهجه[/align]
رغبة في التعريف والتنويه بذلك الكتاب هذا عرض مجمل عن ذلك الكتاب، وميزاته، والمنهج الذي سار عليه مؤلفه فيما يلي:
1- أنه كُتب بلغة عالية جزلة واضحة؛ ولا غرو في ذلك؛ فالمؤلف من أرباب البيان، وأمرائه.
2- أنه سار في مسائل العقيدة -خصوصاً في باب الصفات- على منهج السلف؛ فإذا مر بشيء من ذلك أثناء تفسيره لم يتعرض لها بتأويل يصرفها عن ظواهرها، وإنما يسير فيها على وفق منهج السلف من حيث إثباتها لله -عز وجل- على الوجه اللائق به دون نفي لها أو تعرض لكيفيتها.
3- أن هذا الكتاب حافل بالعلم الغزير، والفوائد الجمة، واللفتات البارعة، والاستنباطات الرائعة، والنكت البديعة، والإشارات التربوية والإصلاحية.
4- أن المؤلف -رحمه الله- حرص على ربط تفسيره بواقعه الذي يعيش فيه؛ فلذا تراه يتعرض لهداية الآيات وعلاجها لكثير من مشكلات العصر.
وتراه يرد على بعض المعاصرين الذين تأولوا بعض الآيات على غير وجهها الصحيح كما في ص 119 من الكتاب.
5- أنه كان يميل إلى الإيجاز، والبعد عن الحشو والتطويل، في إيراد الأقوال؛ فتراه لا يستقصي، ولا يفصل، وإنما يبين ما يظهر له من معنى الآية، وربما استشهد بأقوال وآراء بعض أهل العلم السابقين كابن القيم وغيره.
ولعل الحامل له على ذلك أن كتابه كان عبارة عن مقالات أو محاضرات في التفسير، وذلك المقام لا يسمح بالاستقصاء.
6- أنه كان يُعنى بتحليل الألفاظ وشرحها دون تطويل -كما سبق-.
7- عنايته بجناب التوحيد، وتحذيره من الشرك ومظاهره المعاصرة، وذلك إذا مرَّ بآيات في هذا الشأن -كما سيأتي أمثلة لذلك عند تفسيره لقوله -تعالى-: [فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً].
8- تعرض لبعض المسائل الفقهية كما في تفسيره لقوله -تعالى-: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ] الآيةَ، ص286-290، وكما في تفسيره لقوله -تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] الآيةَ، ص292-295.
9- تنويهه بمكارم الأخلاق، وأثرها في سيادة الأمة، والرقي بها.
فهذا مجمل ما جاء في الكتاب، وطريقة مؤلفه فيه.
[align=center]نماذج لنقول من الكتاب[/align]
1- قال -رحمه الله- مبيناً مقاصد سورة الفاتحة: "اشتملت هذه السورة بوجه إجمالي على مقاصد الدين: من توحيد، وتعبد وأحكام، ووعد ووعيد.
ولهذه المزية سميت أم القرآن، وافْتُتِح بها الكتاب المجيد، وأُمر الناس بقراءتها في كل صلاة، وهي مقولة على ألسنة العباد لتعليمهم كيف يناجون البارئ -تعالى-، ويحمدونه ويتضرعون إليه". ص7
2- وقال في تفسير قوله -تعالى-:[الرَّحْمنِ الرَّحيمِ]: "هما صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله -تعالى-، ففسرها بعض العلماء بإرادة الإحسان، وفسرها آخرون بالإحسان نفسه، والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته -تعالى- لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان.
وليست الصفتان -أعني الرحمن الرحيم- بمعنى واحد، بل روعي في كل منهما معنىً لم يراع في الآخر؛ فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة؛ لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ولا يلزم منه الدوام، كغضبان وسكران، والرحيم بمعنى دائم الرحمة؛ لأن صيغة فَعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف؛ فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمها". ص7-8
3- وقال في تفسير قوله -تعالى-: [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]: "عني القرآن الكريم بمدح المنفقين والحثِّ على الإنفاق؛ إذ كان من أعظم الوسائل إلى رقي الأمم وسلامتها من كوارث شتى: مثل الفقر، والجهل، والأمراض المتفشية؛ فببذل المال تسد حاجات الفقراء، وتشاد معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، إلى ما يشاكل هذا من جلائل الأعمال". ص16
4- وقال في تفسير قوله -تعالى-: [وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]: "للإيمان باليوم الآخر أثر عظيم في اجتناب الشر، والاستكثار من الخير". ص17
5- وقال في خاتمة تفسيره لقصة آدم -عليه السلام- الواردة في سورة البقرة: "والقصة مع كونها حقيقة واقعة تنطوي على حكم شائقة، وعبر لامعة، يجدها المتدبر لكتاب الله قريبة المنال، غزيرة المثال، كأن يفهم منها أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من العلم، ويفهم منها أن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت في نفس، ذهبت البراهين عندها ضائعة، ولا يوجهها إلى الخير وعد ولا يردعها عن الشر وعيد.
ويستفيد منها الرئيس الأعلى كيف يفسح المجال لمرؤوسيه المخلصين يجادلونه في أمر يريد قضاءه، ولا يزيد على أن يبين لهم وجهة نظره في رفق، وإذا تجاوزوا حد الأدب اللائق به راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب، وتلقي أوامره بحسن الطاعة.
ويستفيد منها المُتَقَلِّبُ في نعمة يغبط عليها أن مخالفة ما أمر الله قد تكون سبباً لزوال النعمة، وذلك ما يدعوه إلى تحصينها بالتزام الطاعة في كل حال". ص69
6- وقال في معرض تفسيره لقوله -تعالى-: [وَاسْتَعِنُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ]: "ووجه كون الصبر معيناً على تلقي الأوامر بحسن الطاعة، هو أن يتربى بالنظر في عواقب الأمور.
ومن رسخت قدمه في هذا الشأن، وأصبح يقيس الأعمال بعواقبها وما يترتب عليها من آثار يحمدها - تضاءلت أمامه المصاعب، ولم يقف به عن العمل ما يلاقيه في سبيله من مشقة.
وكانت الصلاة معينة على النهوض بالأعمال الجليلة من جهة أنها عبادة يقوم بها العبد في كل يوم خمس مرات يناجي فيها ربه، ويقرأ فيها من القرآن ما فيه حكمة وموعظة حسنة، فتزكو نفسه، وتصفو سريرته، ويستمر هذا الحال في غير أوقات الصلاة؛ حتى إذا حضر وقت عمل واجب غير الصلاة، وجد في نفسه إقبالاً عليه، واستهانة بكل ما يلاقيه في سبيل الله من مكاره وآلام". ص78
7- وقال في تفسير قوله -تعالى-: [وَإِنَّهَا لَكَبِيْرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ]: "والمعنى أن الصلاة صعبة إلا على الخاضعين الذين أسلموا وجوههم لله.
والصلاة من حيث إنها قيام، وركوع، وسجود، وجلوس ليس فيها صعوبةٌ، والصعوبةُ من جهة أن الصلاة بحق ما يدخلها المصلي بقلب حاضر؛ فيؤديها مبتغياً رضا الله، تالياً القرآن بتدبر، ناطقاً بالدعوات والأذكار التي تشمل عليها عن قصد إلى كل معنى دون أن تجري على لسانه، وهو في غفلة عن معانيها التي هي روح العبادة.
ويضاف إلى هذا في معنى صعوبة الصلاة أنها فريضة شرعت لأن يقيمها العبد في كل يوم خمس مرات مدى الحياة.
وإنما كانت سهلة على الخاشعين؛ لإيقانهم أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها ارتياحاً واطمئناناً يجعل نفوسهم ناشطة للقيام بها كلما حل وقتها". ص79
8- وقال في قوله -تعالى-: [فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ]: "من أين جاءت هذه العصا إلى موسى -عليه السلام-؟ وكيف كانت صفتها؟
يحكي في ذلك المفسرون أقوالاً مختلفة، كما أن الآثار اختلفت في مصدر هذا الحجر الذي ضرب بها، وفي وصفه.
ويكفي في فهم معنى الآية واستفادة أن ما تضمنته من واقعة انفجار الماء إنما كان على وجه المعجزة، أن تعلم أن العصا كانت لموسى (بعصاك) وأن الحجر الذي ضرب بها كان من الصخر الذي ليس من شأنه الانفجار بماء". ص100
9- وقال عند قوله -تعالى-: [وَلاَ تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتٌ...]: "والمعروف أن أرواح السعداء من غير الشهداء في حياة ونعيم بعد الموت، ولكن للشهداء حياة أرقى تمتاز عن حياة غيرهم من السعداء، نؤمن بها كما ذكرها الله -تعالى- ولا ندرك حقيقتها؛ إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحي، كما قال -تعالى-: [ولكن لا تشعرون] أي لا تحسُّون ولا تدركون حالهم بالمشاعر؛ لأنها من شؤون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي". ص246
10- وقال عند قوله -تعالى-: [وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ...]: "والإيمان باليوم الآخر: التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب، وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان.
ومما دلت عليه نصوص الشريعة الغراء دلالة لا تحوم بها شبهة أن للأجسام نصيباً من ذلك النعيم أو العذاب، ولا يختص به الأرواح، كما يزعم بعض من لا يريد أو لا يستطيع أن يأتي الحقائق من أبوابها". ص276
11- وقال في قوله -تعالى-: [فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ]: "الأنداد: جمع ند، والند المماثل المكافئ، وفسر في الآية بمعنى الشريك، فكل من عظم مخلوقاً التعظيم الذي لا يليق إلا بالله -تعالى-، فقد اتخذ ذلك المخلوق نداً لله.
وتتناول الآية مشركي العرب لعبادتهم الأصنام، والصابئين لعبادتهم الكواكب، والمجوس لعبادتهم النار، والنصارى لتعظيمهم المسيح -عليه السلام- تعظيماً لا يحق إلا لله.
وممن يجعلون لله أنداداً أولئك الفرق الضالة الذين يعتقدون إلهية زعمائهم، كطائفة البهائية الذين يعتقدون إلهية زعيم مذهبهم.
ومن واجب دعاة الإصلاح أن يراقبوا أحوال من يزورون قبور الصالحين؛ حتى إذا أحسوا مِنْ زائرٍ المبالغةَ في تعظيم صاحب القبر كالانحناء أمامه في هيئة الراكع أو الساجد؛ نبّهوه برفق، وأنقذوه من الوقوع في اعتقاد أن الولي يملك لنفسه أو لغيره نفعاً أو ضراً، وأعادوه إلى ما يوافق التوحيد الخالص من أن النفع والضر من طريق غيبي إنما هو بيد الله الذي بيده ملكوت كل شيء". ص316-317
12- وقال في قوله -تعالى-: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ]: "والرحمة يوصف بها الإنسان فتكون بمعنى العطف والحنو، وهذا المعنى هو رقة القلب لا يصح أن تفسر به الرحمة الواردة وصفاً للباري -جل جلاله- بل نقول: إن رحمة الله صفة ثابتة له -تعالى- لا نعلم حقيقتها وإنما نعرف أثرها الذي هو إيصال الخير، كما أننا لا نعلم حقيقة علمه -تعالى- وإنما نعرف أنه صفة تحيط بالأشياء على ما هي عليه.
دلت الآية على أن لينه -عليه الصلاة والسلام- لمن خالفوا أمره، وتولوا عن موقع القتال إنما كان برحمة من الله؛ فالله حقيق بحمد النبي-صلى الله عليه وسلم- إذ وفقه لفضيلة الرفق بأولئك المؤمنين، وحقيق بحمد أولئك المؤمنين؛ إذ كان لين رسول الله إنما هو أثر من أثر رحمة الله". ص330
13- وقال في قوله -تعالى-: [وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضوا مِنْ حَوْلِكَ]:
"الفظاظة: الخشونة، وغلظُ القلبِ: قسوتُه، والانفضاضُ: الانصراف.
والمعنى: لو كنت خشناً في قولك أو فعلك، قاسي القلب - لانصرفوا من مجلسك، ولما استضاؤوا بنور هديك.
والفعل الواقع بعد لو الشرطية في حكم المنفي، فقوله -تعالى-: [وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً] ينفي عنه -عليه الصلاة والسلام- الفظاظة التي تظهر في قول أو فعل.
وقوله: [غَلِيظَ القَلْبِ] ينفي عنه سبب الفظاظة الذي هو جفاء الطبع.
وبهذا يثبت له -عليه الصلاة والسلام- لين الجانب وسماحة الخلق، وكأن الآية تقول: هو ليّن في قوله وفعله، وأن لينه هذا لم يصدر عن أمر عارض من نحو رغبة أو رهبة، بل كان عن طبيعة كريمة في النفس.
وليعتبر في هذه الآية من يتولى أمراً يستدعي أن يكون بجانبه أصحاب يظاهرونه عليه، حتى يعلم يقينا أن قوة الذكاء، وغزارة العلم، وسعة الحياة، وعظم الثروة - لا تكسبه أنصاراً مخلصين، ولا تجمع عليه من فضلاء الناس من يثق بصحبتهم إلا أن يكون صاحب خلق كريم من اللين والصفح والاحتمال.
وطبيعة اللين وسماحة الخلق، لا تنافي مزية الحزم والأخذ بالتي هي أشد عندما يقتضي الحال ذلك:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,5,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع = وحلم الفتى في غير موضعه جهل[/poem]
وتمييز موضع اللين من موضع الشدة يرجع إلى ذكاء الإنسان، وإدراكه لطبائع الأشخاص الذين ينالونه بمكروه". ص330-331
14- وقال في قوله -تعالى-: [فَاعْفُ عَنْهُمْ]:
"العفو: عدم المؤاخذة على الإساءة مع القدرة على المؤاخذة عليها، والحلم ضبط النفس في هيجان الغضب، وإذا قيل: إن العفو والحلم متقاربا المعنى فلأن عدم المؤاخذة على الإساءة المسمى عفواً إنما يعد في مكارم الأخلاق متى صار طبيعة للنفس، وإذا صار طبيعة لها سهل ضبطها عن هيجان الغضب.
وكذلك ضبط النفس عن هيجان الغضب يعد في مكارم الأخلاق بالنظر لما يتبعه من عدم المؤاخذة على الإساءة، فَأَمْرُ الرجل بأحد الوصفين: العفو والحلم، أو مدحه به، يغني في نظر علماء الأخلاق عن أمره أو مدحه بالآخر.
والعفو الخالص أن لا يُؤَاخِذَ الرجلَ بالإساءة، ولا يبقى له في نفسه أثر من غيظ، حتى يكون حاله في معاملة المسيء، وحبه له الخير كحاله لو لم يسيء إليه.
أُمِرَ -عليه الصلاة والسلام- بالعفو، وإنما يعفو فيما يختص به من الحقوق، كأن يؤذيه شخص في مال أو يسيء إليه بكلمة جافية لا تبلغ حد الكفر.
وأما الإساءة فيما هو حق الله، كترك الصلاة، أو الصيام، أو شرب الخمر - فلا يملك عنه إلا الله.
قالت عائشة -رضي الله عنها- فيما روي في الصحيح: "مارأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله".
وكان -صلى الله عليه وسلم- المثال الأكمل في هذا الخلق العظيم، وشواهد هذا ثابتة في كتب السيرة والحديث". ص331
15- وقال في قوله -تعالى-: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]:
"المشاورة في الأمر: المراجعة فيه لاستطلاع الرأي الصالح، أي راجعهم في الأمر؛ لترى رأيهم فيه.
والمراد من الأمر ما يعرض من أمور الدنيا من نحو تدبير الحروب، وأما أمور الدين فقد أغناه الله عن الشورى فيها بما ينزل عليه من الوحي، أو بالاجتهاد الذي ينظر فيه بنور الله إن قلنا: أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يجتهد في بعض الأحكام العملية.
وهذه الآية قررت أصلاً عظيماً من أصول السياسة الرشيدة، وهو أن لا يستبد ولي الأمر في تصريف الأمور دون أن يأخذ رأي أولي العلم.
وقد قررت هذا الأصل بأبلغ وجه؛ إذ وجهت الأمر فيه إلى أكبر الناس عقلاً، وأعرفهم بطرق المصالح، وأقلهم حاجة إلى الاستعانة برأي غيره، وهو أكمل الخليقة -صلوات الله عليه- فليس لأحد بعد هذا أن يتخيل أنه في غنى عن المشاورة بما أوتيه من كمال العقل، وسداد الرأي.
وفي الشورى استبانة الرأي الحق من بين آراء متعددة، وفيها تطييب خواطر مَنْ يهمهم أن يُدَبَّرَ الأمرُ على بصيرة، وفيها تأليف قلوبهم بما في مراجعة ولي الأمر لهم من التنبيه على رفعة أقدارهم في نظره.
وقد يتوهم الرجل أن الاستشارة تنبئ عن الاحتياج إلى رأي غيره؛ فهي من علامات اعتقادِه بضعف رأيه.
والحقيقة أن الإنسان -وإن بلغ عقله الغاية- لا يستغني عن الاستعانة في مشكلات الأمور بآراء الرجال؛ إذ العقول قد تكون نافذة في ناحية من الأمر، واقفة عند الظاهر في ناحية أخرى منه.
ولعلك لا تجد عقلاً في الناس ينفذ في كل ناحية وجهته إليها، ومن أدرك هذه الحقيقة، عرف يقيناً أن احتياج الإنسان إلى الاستشارة من مقتضيات الفطرة البشرية، ومن يجري على مقتضى الفطرة البشرية التي ليس في طاقته الخروج عنها إلا بعصمة من الله، لا يحق لأحد أن ينسبه إلى نقص.
وإن قلنا على وجه الفرض: إن احتياج الرجل إلى رأي غيره في بعض الأمور نقص - فإنا إذا وضعنا هذا النقص في كفة، ووضعنا الفوائد التي تحصل من الاستشارة في كفة، رجحت هذه الفوائد، وغطت على ذلك النقص حتى كأنه ذهب ولم يبق له عين ولا أثر". ص332-333
16- وقال في قوله -تعالى-: [إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ]:
"المحبة من الإنسان ميل الطبع إلى الشيء، وهذا المعنى ممتنع في حق البارئ -جل جلاله- فإذا أضيفت المحبة إليه -تعالى- فهي صفة ثابتة له -تعالى- لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف من آثارها إيصال الخير إلى المحبوب وحفظه في الدنيا، وإعلاء منزلته في الدار الباقية". ص333
وعلى كل حال، فالكتاب لم يأخذ حظه من الذيوع والانتشار، فلعل الله يقيض له من يسعى إلى إعادة طبعه ونشره، والعناية به؛ لتعم الفائدة به، ويكون إضافة إلى ما شاده الأوائل من بناء.
ولعل الأستاذ علي الرضا الحسيني -وهو الحريص على تراث عمه الشيخ الخضر- أن يُعيد طباعة الكتاب مرة أخرى.[/align]
للشيخ محمد الخضر حسين 1293-1377هـ
جمعه وحققه ونشره الأستاذ/ علي الرضا التونسي الحسيني[/align]
[align=justify]هذا الكتاب يقع في مجلد واحد، وعدد صفحاته 361 صفحة، وقد طُبع عام 1396هـ - 1976م.
يقول الناشر الأستاذ علي الرضا -ابن أخ الشيخ محمد الخضر- في مقدمة الكتاب مبيناً قصة تأليف هذا الكتاب: "ما إن ارتقى فضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه- المرتبة العلمية الرفيعة التي انتهى إليها في قمة مجده العلمي، وفي أواخر حياته المليئة بالجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وما إن أضحى بحراً لا ساحل له في مختلف العلوم الإسلامية واللغوية - باشر في وضع تفسير محكم لكتاب الله العزيز، ينبع من صفاء علمه، وعرفانه وهدايته وتقواه.
وبقلمه البليغ بدأ -رحمه الله- نشر التفسير الذي وضعه في مجلة "لواء الإسلام" التي كانت تصدر بالقاهرة، وكان رئيساً لتحريرها، بدءاً من العدد الأول الصادر بتاريخ الأول من شهر رمضان المبارك لعام 1366هـ الموافق التاسع عشر من شهر يوليو تموز 1947م.
واستمر في هذا العمل الجليل حتى أثقلته السنون وقد قارب عمره الطاهر على الثمانين عاماً.
وتحت وطأة الشيخوخة توقف عن متابعة هذا الجهد الرائع والإنتاج الفكري العظيم، وكانت آخر الصفحات من التفسير هي تلك التي نشرها في العدد الثاني عشر من السنة الرابعة لمجلة لواء الإسلام والصادر في شهر شعبان لعام 1370هـ الموافق شهر مايو أيار لعام 1951م.
قام المؤلف بتفسير القسم الأكبر من سورة البقرة حتى الآية 195 بالإضافة إلى سورة الفاتحة، وبتفسير آيات قرآنية كريمة من سور مختلفة وهي: آية من سورة آل عمران - آيات من سورة الحج - آيات الصيام - ثلاث آيات من سورة الأنفال - أربع آيات من سورة يونس - خمس آيات من سورة ص.
وقد ضممنا في هذا الكتاب تفسير آيات سورة البقرة من 1-195 والمنشور في أعداد مجلة لواء الإسلام، ودروس التفسير التي ألقاها في بعض النوادي والجمعيات الإسلامية ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها المؤلف في القاهرة.
والله نسأل السداد والتوفيق في خدمة رسالة الإسلام". ص3-4
[align=center]عرض مجمل للتعريف بالكتاب ومنهجه[/align]
رغبة في التعريف والتنويه بذلك الكتاب هذا عرض مجمل عن ذلك الكتاب، وميزاته، والمنهج الذي سار عليه مؤلفه فيما يلي:
1- أنه كُتب بلغة عالية جزلة واضحة؛ ولا غرو في ذلك؛ فالمؤلف من أرباب البيان، وأمرائه.
2- أنه سار في مسائل العقيدة -خصوصاً في باب الصفات- على منهج السلف؛ فإذا مر بشيء من ذلك أثناء تفسيره لم يتعرض لها بتأويل يصرفها عن ظواهرها، وإنما يسير فيها على وفق منهج السلف من حيث إثباتها لله -عز وجل- على الوجه اللائق به دون نفي لها أو تعرض لكيفيتها.
3- أن هذا الكتاب حافل بالعلم الغزير، والفوائد الجمة، واللفتات البارعة، والاستنباطات الرائعة، والنكت البديعة، والإشارات التربوية والإصلاحية.
4- أن المؤلف -رحمه الله- حرص على ربط تفسيره بواقعه الذي يعيش فيه؛ فلذا تراه يتعرض لهداية الآيات وعلاجها لكثير من مشكلات العصر.
وتراه يرد على بعض المعاصرين الذين تأولوا بعض الآيات على غير وجهها الصحيح كما في ص 119 من الكتاب.
5- أنه كان يميل إلى الإيجاز، والبعد عن الحشو والتطويل، في إيراد الأقوال؛ فتراه لا يستقصي، ولا يفصل، وإنما يبين ما يظهر له من معنى الآية، وربما استشهد بأقوال وآراء بعض أهل العلم السابقين كابن القيم وغيره.
ولعل الحامل له على ذلك أن كتابه كان عبارة عن مقالات أو محاضرات في التفسير، وذلك المقام لا يسمح بالاستقصاء.
6- أنه كان يُعنى بتحليل الألفاظ وشرحها دون تطويل -كما سبق-.
7- عنايته بجناب التوحيد، وتحذيره من الشرك ومظاهره المعاصرة، وذلك إذا مرَّ بآيات في هذا الشأن -كما سيأتي أمثلة لذلك عند تفسيره لقوله -تعالى-: [فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً].
8- تعرض لبعض المسائل الفقهية كما في تفسيره لقوله -تعالى-: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ] الآيةَ، ص286-290، وكما في تفسيره لقوله -تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] الآيةَ، ص292-295.
9- تنويهه بمكارم الأخلاق، وأثرها في سيادة الأمة، والرقي بها.
فهذا مجمل ما جاء في الكتاب، وطريقة مؤلفه فيه.
[align=center]نماذج لنقول من الكتاب[/align]
1- قال -رحمه الله- مبيناً مقاصد سورة الفاتحة: "اشتملت هذه السورة بوجه إجمالي على مقاصد الدين: من توحيد، وتعبد وأحكام، ووعد ووعيد.
ولهذه المزية سميت أم القرآن، وافْتُتِح بها الكتاب المجيد، وأُمر الناس بقراءتها في كل صلاة، وهي مقولة على ألسنة العباد لتعليمهم كيف يناجون البارئ -تعالى-، ويحمدونه ويتضرعون إليه". ص7
2- وقال في تفسير قوله -تعالى-:[الرَّحْمنِ الرَّحيمِ]: "هما صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله -تعالى-، ففسرها بعض العلماء بإرادة الإحسان، وفسرها آخرون بالإحسان نفسه، والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته -تعالى- لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان.
وليست الصفتان -أعني الرحمن الرحيم- بمعنى واحد، بل روعي في كل منهما معنىً لم يراع في الآخر؛ فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة؛ لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ولا يلزم منه الدوام، كغضبان وسكران، والرحيم بمعنى دائم الرحمة؛ لأن صيغة فَعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف؛ فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمها". ص7-8
3- وقال في تفسير قوله -تعالى-: [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]: "عني القرآن الكريم بمدح المنفقين والحثِّ على الإنفاق؛ إذ كان من أعظم الوسائل إلى رقي الأمم وسلامتها من كوارث شتى: مثل الفقر، والجهل، والأمراض المتفشية؛ فببذل المال تسد حاجات الفقراء، وتشاد معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، إلى ما يشاكل هذا من جلائل الأعمال". ص16
4- وقال في تفسير قوله -تعالى-: [وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]: "للإيمان باليوم الآخر أثر عظيم في اجتناب الشر، والاستكثار من الخير". ص17
5- وقال في خاتمة تفسيره لقصة آدم -عليه السلام- الواردة في سورة البقرة: "والقصة مع كونها حقيقة واقعة تنطوي على حكم شائقة، وعبر لامعة، يجدها المتدبر لكتاب الله قريبة المنال، غزيرة المثال، كأن يفهم منها أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من العلم، ويفهم منها أن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت في نفس، ذهبت البراهين عندها ضائعة، ولا يوجهها إلى الخير وعد ولا يردعها عن الشر وعيد.
ويستفيد منها الرئيس الأعلى كيف يفسح المجال لمرؤوسيه المخلصين يجادلونه في أمر يريد قضاءه، ولا يزيد على أن يبين لهم وجهة نظره في رفق، وإذا تجاوزوا حد الأدب اللائق به راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب، وتلقي أوامره بحسن الطاعة.
ويستفيد منها المُتَقَلِّبُ في نعمة يغبط عليها أن مخالفة ما أمر الله قد تكون سبباً لزوال النعمة، وذلك ما يدعوه إلى تحصينها بالتزام الطاعة في كل حال". ص69
6- وقال في معرض تفسيره لقوله -تعالى-: [وَاسْتَعِنُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ]: "ووجه كون الصبر معيناً على تلقي الأوامر بحسن الطاعة، هو أن يتربى بالنظر في عواقب الأمور.
ومن رسخت قدمه في هذا الشأن، وأصبح يقيس الأعمال بعواقبها وما يترتب عليها من آثار يحمدها - تضاءلت أمامه المصاعب، ولم يقف به عن العمل ما يلاقيه في سبيله من مشقة.
وكانت الصلاة معينة على النهوض بالأعمال الجليلة من جهة أنها عبادة يقوم بها العبد في كل يوم خمس مرات يناجي فيها ربه، ويقرأ فيها من القرآن ما فيه حكمة وموعظة حسنة، فتزكو نفسه، وتصفو سريرته، ويستمر هذا الحال في غير أوقات الصلاة؛ حتى إذا حضر وقت عمل واجب غير الصلاة، وجد في نفسه إقبالاً عليه، واستهانة بكل ما يلاقيه في سبيل الله من مكاره وآلام". ص78
7- وقال في تفسير قوله -تعالى-: [وَإِنَّهَا لَكَبِيْرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ]: "والمعنى أن الصلاة صعبة إلا على الخاضعين الذين أسلموا وجوههم لله.
والصلاة من حيث إنها قيام، وركوع، وسجود، وجلوس ليس فيها صعوبةٌ، والصعوبةُ من جهة أن الصلاة بحق ما يدخلها المصلي بقلب حاضر؛ فيؤديها مبتغياً رضا الله، تالياً القرآن بتدبر، ناطقاً بالدعوات والأذكار التي تشمل عليها عن قصد إلى كل معنى دون أن تجري على لسانه، وهو في غفلة عن معانيها التي هي روح العبادة.
ويضاف إلى هذا في معنى صعوبة الصلاة أنها فريضة شرعت لأن يقيمها العبد في كل يوم خمس مرات مدى الحياة.
وإنما كانت سهلة على الخاشعين؛ لإيقانهم أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها ارتياحاً واطمئناناً يجعل نفوسهم ناشطة للقيام بها كلما حل وقتها". ص79
8- وقال في قوله -تعالى-: [فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ]: "من أين جاءت هذه العصا إلى موسى -عليه السلام-؟ وكيف كانت صفتها؟
يحكي في ذلك المفسرون أقوالاً مختلفة، كما أن الآثار اختلفت في مصدر هذا الحجر الذي ضرب بها، وفي وصفه.
ويكفي في فهم معنى الآية واستفادة أن ما تضمنته من واقعة انفجار الماء إنما كان على وجه المعجزة، أن تعلم أن العصا كانت لموسى (بعصاك) وأن الحجر الذي ضرب بها كان من الصخر الذي ليس من شأنه الانفجار بماء". ص100
9- وقال عند قوله -تعالى-: [وَلاَ تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتٌ...]: "والمعروف أن أرواح السعداء من غير الشهداء في حياة ونعيم بعد الموت، ولكن للشهداء حياة أرقى تمتاز عن حياة غيرهم من السعداء، نؤمن بها كما ذكرها الله -تعالى- ولا ندرك حقيقتها؛ إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحي، كما قال -تعالى-: [ولكن لا تشعرون] أي لا تحسُّون ولا تدركون حالهم بالمشاعر؛ لأنها من شؤون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي". ص246
10- وقال عند قوله -تعالى-: [وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ...]: "والإيمان باليوم الآخر: التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب، وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان.
ومما دلت عليه نصوص الشريعة الغراء دلالة لا تحوم بها شبهة أن للأجسام نصيباً من ذلك النعيم أو العذاب، ولا يختص به الأرواح، كما يزعم بعض من لا يريد أو لا يستطيع أن يأتي الحقائق من أبوابها". ص276
11- وقال في قوله -تعالى-: [فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ]: "الأنداد: جمع ند، والند المماثل المكافئ، وفسر في الآية بمعنى الشريك، فكل من عظم مخلوقاً التعظيم الذي لا يليق إلا بالله -تعالى-، فقد اتخذ ذلك المخلوق نداً لله.
وتتناول الآية مشركي العرب لعبادتهم الأصنام، والصابئين لعبادتهم الكواكب، والمجوس لعبادتهم النار، والنصارى لتعظيمهم المسيح -عليه السلام- تعظيماً لا يحق إلا لله.
وممن يجعلون لله أنداداً أولئك الفرق الضالة الذين يعتقدون إلهية زعمائهم، كطائفة البهائية الذين يعتقدون إلهية زعيم مذهبهم.
ومن واجب دعاة الإصلاح أن يراقبوا أحوال من يزورون قبور الصالحين؛ حتى إذا أحسوا مِنْ زائرٍ المبالغةَ في تعظيم صاحب القبر كالانحناء أمامه في هيئة الراكع أو الساجد؛ نبّهوه برفق، وأنقذوه من الوقوع في اعتقاد أن الولي يملك لنفسه أو لغيره نفعاً أو ضراً، وأعادوه إلى ما يوافق التوحيد الخالص من أن النفع والضر من طريق غيبي إنما هو بيد الله الذي بيده ملكوت كل شيء". ص316-317
12- وقال في قوله -تعالى-: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ]: "والرحمة يوصف بها الإنسان فتكون بمعنى العطف والحنو، وهذا المعنى هو رقة القلب لا يصح أن تفسر به الرحمة الواردة وصفاً للباري -جل جلاله- بل نقول: إن رحمة الله صفة ثابتة له -تعالى- لا نعلم حقيقتها وإنما نعرف أثرها الذي هو إيصال الخير، كما أننا لا نعلم حقيقة علمه -تعالى- وإنما نعرف أنه صفة تحيط بالأشياء على ما هي عليه.
دلت الآية على أن لينه -عليه الصلاة والسلام- لمن خالفوا أمره، وتولوا عن موقع القتال إنما كان برحمة من الله؛ فالله حقيق بحمد النبي-صلى الله عليه وسلم- إذ وفقه لفضيلة الرفق بأولئك المؤمنين، وحقيق بحمد أولئك المؤمنين؛ إذ كان لين رسول الله إنما هو أثر من أثر رحمة الله". ص330
13- وقال في قوله -تعالى-: [وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضوا مِنْ حَوْلِكَ]:
"الفظاظة: الخشونة، وغلظُ القلبِ: قسوتُه، والانفضاضُ: الانصراف.
والمعنى: لو كنت خشناً في قولك أو فعلك، قاسي القلب - لانصرفوا من مجلسك، ولما استضاؤوا بنور هديك.
والفعل الواقع بعد لو الشرطية في حكم المنفي، فقوله -تعالى-: [وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً] ينفي عنه -عليه الصلاة والسلام- الفظاظة التي تظهر في قول أو فعل.
وقوله: [غَلِيظَ القَلْبِ] ينفي عنه سبب الفظاظة الذي هو جفاء الطبع.
وبهذا يثبت له -عليه الصلاة والسلام- لين الجانب وسماحة الخلق، وكأن الآية تقول: هو ليّن في قوله وفعله، وأن لينه هذا لم يصدر عن أمر عارض من نحو رغبة أو رهبة، بل كان عن طبيعة كريمة في النفس.
وليعتبر في هذه الآية من يتولى أمراً يستدعي أن يكون بجانبه أصحاب يظاهرونه عليه، حتى يعلم يقينا أن قوة الذكاء، وغزارة العلم، وسعة الحياة، وعظم الثروة - لا تكسبه أنصاراً مخلصين، ولا تجمع عليه من فضلاء الناس من يثق بصحبتهم إلا أن يكون صاحب خلق كريم من اللين والصفح والاحتمال.
وطبيعة اللين وسماحة الخلق، لا تنافي مزية الحزم والأخذ بالتي هي أشد عندما يقتضي الحال ذلك:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,5,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع = وحلم الفتى في غير موضعه جهل[/poem]
وتمييز موضع اللين من موضع الشدة يرجع إلى ذكاء الإنسان، وإدراكه لطبائع الأشخاص الذين ينالونه بمكروه". ص330-331
14- وقال في قوله -تعالى-: [فَاعْفُ عَنْهُمْ]:
"العفو: عدم المؤاخذة على الإساءة مع القدرة على المؤاخذة عليها، والحلم ضبط النفس في هيجان الغضب، وإذا قيل: إن العفو والحلم متقاربا المعنى فلأن عدم المؤاخذة على الإساءة المسمى عفواً إنما يعد في مكارم الأخلاق متى صار طبيعة للنفس، وإذا صار طبيعة لها سهل ضبطها عن هيجان الغضب.
وكذلك ضبط النفس عن هيجان الغضب يعد في مكارم الأخلاق بالنظر لما يتبعه من عدم المؤاخذة على الإساءة، فَأَمْرُ الرجل بأحد الوصفين: العفو والحلم، أو مدحه به، يغني في نظر علماء الأخلاق عن أمره أو مدحه بالآخر.
والعفو الخالص أن لا يُؤَاخِذَ الرجلَ بالإساءة، ولا يبقى له في نفسه أثر من غيظ، حتى يكون حاله في معاملة المسيء، وحبه له الخير كحاله لو لم يسيء إليه.
أُمِرَ -عليه الصلاة والسلام- بالعفو، وإنما يعفو فيما يختص به من الحقوق، كأن يؤذيه شخص في مال أو يسيء إليه بكلمة جافية لا تبلغ حد الكفر.
وأما الإساءة فيما هو حق الله، كترك الصلاة، أو الصيام، أو شرب الخمر - فلا يملك عنه إلا الله.
قالت عائشة -رضي الله عنها- فيما روي في الصحيح: "مارأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله".
وكان -صلى الله عليه وسلم- المثال الأكمل في هذا الخلق العظيم، وشواهد هذا ثابتة في كتب السيرة والحديث". ص331
15- وقال في قوله -تعالى-: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]:
"المشاورة في الأمر: المراجعة فيه لاستطلاع الرأي الصالح، أي راجعهم في الأمر؛ لترى رأيهم فيه.
والمراد من الأمر ما يعرض من أمور الدنيا من نحو تدبير الحروب، وأما أمور الدين فقد أغناه الله عن الشورى فيها بما ينزل عليه من الوحي، أو بالاجتهاد الذي ينظر فيه بنور الله إن قلنا: أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يجتهد في بعض الأحكام العملية.
وهذه الآية قررت أصلاً عظيماً من أصول السياسة الرشيدة، وهو أن لا يستبد ولي الأمر في تصريف الأمور دون أن يأخذ رأي أولي العلم.
وقد قررت هذا الأصل بأبلغ وجه؛ إذ وجهت الأمر فيه إلى أكبر الناس عقلاً، وأعرفهم بطرق المصالح، وأقلهم حاجة إلى الاستعانة برأي غيره، وهو أكمل الخليقة -صلوات الله عليه- فليس لأحد بعد هذا أن يتخيل أنه في غنى عن المشاورة بما أوتيه من كمال العقل، وسداد الرأي.
وفي الشورى استبانة الرأي الحق من بين آراء متعددة، وفيها تطييب خواطر مَنْ يهمهم أن يُدَبَّرَ الأمرُ على بصيرة، وفيها تأليف قلوبهم بما في مراجعة ولي الأمر لهم من التنبيه على رفعة أقدارهم في نظره.
وقد يتوهم الرجل أن الاستشارة تنبئ عن الاحتياج إلى رأي غيره؛ فهي من علامات اعتقادِه بضعف رأيه.
والحقيقة أن الإنسان -وإن بلغ عقله الغاية- لا يستغني عن الاستعانة في مشكلات الأمور بآراء الرجال؛ إذ العقول قد تكون نافذة في ناحية من الأمر، واقفة عند الظاهر في ناحية أخرى منه.
ولعلك لا تجد عقلاً في الناس ينفذ في كل ناحية وجهته إليها، ومن أدرك هذه الحقيقة، عرف يقيناً أن احتياج الإنسان إلى الاستشارة من مقتضيات الفطرة البشرية، ومن يجري على مقتضى الفطرة البشرية التي ليس في طاقته الخروج عنها إلا بعصمة من الله، لا يحق لأحد أن ينسبه إلى نقص.
وإن قلنا على وجه الفرض: إن احتياج الرجل إلى رأي غيره في بعض الأمور نقص - فإنا إذا وضعنا هذا النقص في كفة، ووضعنا الفوائد التي تحصل من الاستشارة في كفة، رجحت هذه الفوائد، وغطت على ذلك النقص حتى كأنه ذهب ولم يبق له عين ولا أثر". ص332-333
16- وقال في قوله -تعالى-: [إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ]:
"المحبة من الإنسان ميل الطبع إلى الشيء، وهذا المعنى ممتنع في حق البارئ -جل جلاله- فإذا أضيفت المحبة إليه -تعالى- فهي صفة ثابتة له -تعالى- لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف من آثارها إيصال الخير إلى المحبوب وحفظه في الدنيا، وإعلاء منزلته في الدار الباقية". ص333
وعلى كل حال، فالكتاب لم يأخذ حظه من الذيوع والانتشار، فلعل الله يقيض له من يسعى إلى إعادة طبعه ونشره، والعناية به؛ لتعم الفائدة به، ويكون إضافة إلى ما شاده الأوائل من بناء.
ولعل الأستاذ علي الرضا الحسيني -وهو الحريص على تراث عمه الشيخ الخضر- أن يُعيد طباعة الكتاب مرة أخرى.[/align]