قبسات من روائع البيان

إنضم
07/05/2004
المشاركات
2,562
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الخبر - المملكة ا
الموقع الالكتروني
www.islamiyyat.com
من برنامج (ورتل القرآن ترتيلاً) الذي يعرض على قناة الرسالة وبعض القنوات الفضائية الأخرى اخترت لكم فقرة (قبسات من روائع البيان) قمت بتفريغها يومياً وأضعها بين أيديكم للفائدة:


سورة الفاتحة:

(الْحَمْدُ للّهِ (2) الفاتحة) هل سألنا أنفسنا ما معنى الحمد لله؟ إن الحمد هو الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد أن تذكر محاسن الغير ولا يكون الحمد إلا للحيّ العاقل أما المدح فلا يختص بشيء معين فقد تمدح حيواناً مثلاً كأن تمدح الديك ولكنك لا تحمده. وفرق آخر أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان لذلك لا نحمد إلا من يستحق الحمد بفعل جميل أو صفة حسنة أما المدح فقد أمدح إنساناً ولم يفعل شيئاً من المحاسن ولذا نهينا عن المدح وأُمرنا بالحمد فقد قال [FONT=&quot]r[/FONT]: "احثوا التراب في وجوه المدّاحين" في حين قال " من لم يحمد الناس لم يحمد الله" فكان الحمد أولى من المدح.
لو تقصينا الفرق بين المدح والشكر نجد أن الشكر لا يكون إلا عقب نعمة أو إحسان أُسدي إليك دون غيرك ولا يكون في الصفات فأنت لا تشكر الشخص على عِلمه أما الحمد فإنه لا يختص بذلك فأنت تحمد الله على إنعامه لك ولغيرك وتحمد الله على قدرته وعلمه وفضله فكان اختيار الحمد أولى من الشكر أيضاً.

(الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) الفاتحة) فيه إضفاء الأمل في قلبك أيها العبد الفقير إلى رحمة ربك فصيغة فعلان أي (الرحمن) تفيد الدلالة على التجدد كقولنا عطشان فهي لا تدل على الثبوت بل على التجدد والامتلاء بهذا الوصف وصيغة فعيل أي الرحيم تدل على الثبوت في الصفة كقولنا طويل أو جميل فجاء السياق القرآني بهاتين الصيغتين للدلالة على أن رحمته سبحانه وتعالى ثابتة ومتجددة فالعطشان يذهب ظمأه إن شرِب ولكن الكريم لا تزول عنه هذه الصفة ولو افتقر فكان الترادف بين الصيغتين فعلان وفعيل أي الرحمن الرحيم يبث في الحنايا الرحمة الدائمة التي تباشر العباد.
 
سورة البقرة:

(الم (1) البقرة) تأمل هذه البداية التي تبهر الأنظار وتدفع الإنسان للتساؤل ماذا تعني (ألم)؟ أتت هذه الحروف لتتحدى صناديد العرب وفصحاءهم وشعراءهم هذه حروفكم التي طالما نسجتم بها ألواناً من القول ورسمتم بها لوحات من الأدب والفن ومع ذلك ستقفون عاجزين عن محاكاة القرآن في أسلوبه.

(ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ (2) البقرة) ألا ترى أن المرء يقول للقريب هذا وللبعيد ذلك فلِمَ قال تعالى عن كتابه (ذلك) مع أنه قريب؟ قال الله تعالى (ذلك) أنه أراد أن يُظهر لنا رفعة شأن هذا القرآن فهو بعيد في منزلته ومكانته. ألا ترى أن الشيء النفيس العزيز على نفوسنا نجعله في موتفع صوناً له فكان قوله تعالى (ذلك الكتاب) بعد قوله (ألم) كالشيء العزيز المنال بالنسبة للمخلوقات على أن تعارضه.

(هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) الهدى هو الدلالة التي توصلك إلى مبتغاك والقرآن هو الذي يوصلك إلى التقوى والنعيم.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ (3) البقرة) لِمَ قال يؤمنون ولم يقل آمنوا بالغيب مع أن إيمان المتقين بالعيب مؤكد في الآية (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)؟ قال تعالى يؤمنون بصيغة المضارع ولم يقل آمنوا بصيغة الماضي لأن الإيمان منا مستمر متجدد لا يطرأ عليه شك ولا ريبة.

(خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ (7) البقرة) تأمل الآية وانظر كيف جعل الله تعالى القلوب والأبصار جمعاً بينما أفرد السمع وأنت تعلم أن الإنسان يملك قلباً واحداً بينما يملك عينين وأذنين فكان الأوْلى من حيث الظاهر أن يُفرِد القلب فيقول ختم على قلبهم، فلِمَ أفرد السمع دون القلوب والأبصار؟ إن السمع يتعلق بما تسمع وما يُلقى إليك فكل الناس يسمعون الخبر متساوياً لا تفاوت فيه ولا تفاضل وإنما نختلف أنا وأنت والناس جميعاً بتحليل المسموع وتدبره وهذا يتم عبر القلوب.

(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ (10) البقرة) المرض هو الضعف والفتور فهل كل كافر مصاب بمرض في قلبه؟ تخيل شخصاً مريضاً ما الذي يبدو عليه؟ وماذا يفعل المرض بجسده؟ إن مظهره يبدو شاحباً والمرض يقتل جسده وروحه رويداً رويداً وكذلكم الأمر بالنسبة إلى النفاق فالجهل وسوء العقيدة مرض إيماني وأخلاقي يميت نور الإيمان في قلب صاحبه.

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) البقرة) لِمَ قال يعمهون ولم يقل يعمون؟ العمى فقد البصر وذهاب نور العين أما العَمَه فهو الخطأ في الرأي والمنافقون لم يفقدوا بصرهم وإنما فقدوا المنطق السليم فهم في طغيانهم يعمهون.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) البقرة): انظر إلى هذه الصورة التي رسمها لك الله تعالى لحالة المنافق فهو كهيئة موقِد النار فما وجه الشبه المشترك بينهما؟ إن بينهما اشتراكاً واضحاً جلياً. تأمل حالة ذلك الإنسان الذي أوقد ناراً في ليل دامس مظلم فاستنار بها ثم سرعان ما انطفأت هذه النار لا شك أنه سيتيه في ذلك الليل الحالك ويفقد رؤيته وهذا هو حال المنافق الذي آتاه الله نور الإيمان وضياء القرآن في أيام جهل كالليل المظلم ولكنه رفضها فانقلب نور الإيمان في قلبه إلى ظلام النفاق والكفر. ويقول تعالى أيضاً (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) لِمَ قال تعالى ذهب الله بنورهم؟ فإنه يعني مضى به واستصحبه وهذا يدلك أنه لم يبقى لهم مطمع في عودة النور الذي افتقدوه كما تقول عن خبر لا يعرفه إلا شخص واحد وقد مات فتقول ذهب فلان بالخبر إذا لم يعد لك أمل في معرفته.

(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ (27) البقرة) تأمل قوله تعالى (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) انظر كيف جعل الله تعالى التخلي عن الميثاق والوعد نقضاً. فما سبب اختيار لفظ النقض في هذه الآية؟ إن النقض يدل على فسخ ما وصله المرء وركّبه فنقض الحبل يعني حلّ ما كنت قد أبرمته وقطعك الحبل يعني جعله أجزاءً ونقض الإنسان لعهد ربّه يدلك على عظمة ما أتى به الإنسان من أخذ العهد وتوثيقه ثم حلّ هذا العهد والتخلي عنه فهو أبلغ من القطع لأن فيه إفساداً لما عمله الإنسان بنفسه من ذي قبل.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ (28) البقرة) بدأت الآية بأسلوب استفهام فاستعملت إسم الاستفهام (كيف) الذي يدل على الحال إلا أن الاستفهام قد يخرج عن معناه إلى معان أخرى يدلك عليها الكلام فما غرض الإستفهام في الآية؟ إن الاستفهام الحقيقي يحتاج إلى جواب فإذا سألك أحد كيف حالك؟ قلت الحمد لله وهذا جواب لسؤاله أما إذا قلت لولدك وهو يضيع وقته أيام الامتحانات كيف تضيع وقتك على التلفاز هل تنتظر منه جواباً؟ وكذلك قوله تعالى (كيف تكفرون) هو استفهام ولكنه خرج إلى غرض آخر وهو التعجب والإنكار.

(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ (29) البقرة) قال تعالى (فسواهنّ) ولم يقل خلقهنّ لأن التسوية خلقٌ وبناءٌ وتزيين أما كلمة خلق فهي تدل على الإيجاد والبناء ولو تأملت السموات لرأيت بدعة الخلق ودقّته ونظاماً لا يختلُّ ولا يغيب.


(يتبع)
 
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) البقرة): هل من فارق بين نقدس لك ونقدسك؟ الفعل يقدس فعل متعدي يأخذ مفعولاً به دون حرف الجر اللام فنقول نقدس الله لكن الآية أدخلت اللام على الكاف فما فائدة اللام؟ فائدتها للتخصيص أي التقديس لك لا لغيرك. الملائكة لا تعصي الله ما أمرها فهي لا تقدس إلا لله بخلاف البشر الذين قد يقدسون الله ومع تقديس الله يقدسون غيره.

(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) البقرة): نهي آدم وزوده عن الاقتراب من الشجرة فأكلا منها ووقعا في النهي. فلِمَ قال تعالى (ولا تقربا) ولم يقل ولا تأكلا؟ نهى الله تعالى آدم عن القرب من الشجرة حتى لا تضعف نفسه عند مشاهدة ثمارها وتتوق نفسه للأكل من ثمرها ولو نهي عن الأكل لاقترب منها وعندها سيقاوم نفسه التي تريد تناول ثمارها وإما يأكل منها وإما لا يأكل أما إن ابتعد عنها فلن تتوق نفسه إلى ثمار لم يرها.

(وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) البقرة): الآيات جمع آية وهي الشيء الذي يدل على أمر من شأنه أن يخفى. ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنها وضعت لإرشاد الناس إلى الطرق الخفية في الرمال. وسميت جُمَل القرآن آيات لأنها ترشد الضالّ في متاهة الحياة إلى الفلاح وطريق الخير.

(وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) البقرة): إختار تعالى لفظ العهد لليهود ولم يقل أوفوا وعدكم فهل لهذا بُعدٌ آخر؟. هذا من لطائف القرآن خاطبهم الله تعالى بإسم التوراة المعروف عندهم، أليست التوراة تسمى عندهم العهد لذلك الكلمة مزدوجة الدلالة لأمرين: لأنها تأمرهم بإلتزام أوامر الله وتأمرهم بالتزام وصايا الله تعالى المبثوثة في طيّات العهد القديم والتي فيها الإيمان بمحمد [FONT=&quot]r[/FONT].

(وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) البقرة): عندما تشتري أمراً ما من السوق تقول اشتريت هذا بمائة درهم فانظر إلى الباء في (بمائة) أي دخلت على ثمن السعر وفي الآية دخلت الباء على آياتي (بآياتي) لتعلمنا أن اليهود جعلوا آيات الله تعالى كدراهم واشتروا به عرضاً من أعراض الدنيا لا قيمة له ولذلك جاء وصفه قليلا لأنهم بذلوا أنفس شيء واشتروا به حظاً قليلاً.

(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ (49) البقرة) الآل هم الأهل والأقراب والعشيرة. وكلمة آل لا تضاف إلا لشيء له شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا تستطيع أن مثلاً أن تقول آل الجاني بل تقول أهل الجاني.

(وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) البقرة) تقدّم المفعول به وهو (أنفسهم) على الفعل وهو (يظلمون) أفكان التقديم لتناسب الفاصلة القرآنية وحسب أم كان لنكتة بلاغية ولغوية؟ إن في تقديم المفعول به على فعله تأكيداً وتنويهاً: فيه تأكيد على أن حالهم كحال الجاهل بنفسه فالجاهل يفعل بنفسه ما يفعله العدو بعدوّه، وفيه تنويه لك أيها المسلم أن الخروج من طاعة الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً فيه ظلم ولكنه ظلمٌ لنفسك قبل ظلمك لغيرك.

(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ (60) البقرة) لِمَ قال تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) ولم يقل وإذ استسقى موسى ربّه؟ أليس موسى [FONT=&quot]u[/FONT] أحد أفراد القوم؟ في هذا السؤال دلالة على عناية الله تعالى بعباده الصالحين فهذا الدعاء والاستسقاء يدلك على أن موسى [FONT=&quot]u[/FONT] لم يصبه العطش لأن الله تعالى وقاه الجوع والظمأ كما قال [FONT=&quot]r[/FONT] "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني". وانظر كيف كان الاستسقاء لموسى [FONT=&quot]u[/FONT]وحده دون قومه فلم يقل ربنا سبحانه وتعالى : وإذا استسقى موسى ومومه ربهم وذلك ليظهر لنا ربنا كرامة موسىِ[FONT=&quot]u[/FONT] وحده ولئلا يظن القوم أن الله تعالى أجاب دعاءهم.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (61) البقرة) لِمَ لم يقل ربنا سبحانه وتعالى أصابتهم الذلة والمسكنة؟ أليس هذه الصيغة تؤدي معنى ضربت عليهم الذلة والمسكنة؟ تخيل قوماً أقاموا في مكان ما فضربت عليهم قُبّة كيف تشاهد هذه الصورة؟ إنك تتخيل أفراداً ماكثين تحت قُبّة بحيث تحوطهم من كل جانب وتظلّهم وكذلك هذه الآية فقد شبّه الله تعالى الذلة والمسكنة بالقبة التي أحاطت أهلها فلازموها ولم يغادروها فكانت الذلة والمسكنة بيتهم الذي لايغادرونه ولا يحولون عنه. والمسكنة هي الفقر وأُخِذ هذا المعنى من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه ويجعله يؤثِر السكون.
 
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة): لِمَ عبّر تعالى هنا بالذين هادوا؟ في هذا التعبير إشارة إلى أنهم ليسوا اليهود وإنما هم الذين انتسبوا إلى اليهود ولم يكونوا من سبط يهوذا. والنصارى إسم جمع نصرى نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت فيها مريم عليها السلام أم المسيح وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة البيت المقدس فولدت المسيح u في بيت لحم ولذا سمي عيسى يسوع الناصري ومن ثَم أُطلق على أتباعه إسم النصارى.

(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) البقرة): لو قال تعالى بقرة صفراء لعلِم بنو إسرائيل أنه لون الصُفرة سيما أن هذا اللون نادر في البقر فلم قيّد الصفرة بصفة فاقع؟ في هذا التعبير مزيد من التعجيز والتقييد وتحديد لبقرة بعينها دون سواها وهنا تضييق على بني إسرائيل فعندما شدّدوا شدّد الله تعالى عليهم.

(إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا (70) البقرة) لم قالوا هذه الجملة في هذه الآية مع أنهم لم يقولوها في المرات السابقة؟: طلب بنو إسرائيل صفات البقرة على ثلاث مراحل طلبوا تحديد ماهيتها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ (68) البقرة) ومرة طلبوا تحديد لونها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا (69) البقرة) ولم يعللوا سبب طلبهم فلما لجأوا للتعليل في المرة الثالثة قالوا (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) البقرة) لأن فعل الشيء ثلاث مرات يكون له في المرة الأخيرة وقع في النفس من الضجر والملل فلا بد من إضافة جديد أو تعليل في المرة الثالثة. ولذلك إنتشر في حياتنا التوكيد في الرقم 3.

(أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) البقرة): في هذه الآية استفهام ولكن هل هذا الاستفهام حقيقي؟ أي هل ينتظر المتسفهِم جواباً لسؤاله؟ إنك قد تقول لولدك أو عاملك ألم تعلم أني أكره هذا الأمر؟ فسؤالك لا تنتظر له جواباً وإنما غايتك لوم الفاعل. هذا لا ينتظر منه جواباً وإنما الغاية لوم الفاعل وفي قوله تعالى (أولا يعلمون) استفهام غايته التوبيخ ولوم القوم.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) البقرة): الأمي هو من لا يعرف القراءة ولا الكتابة لكن من أين أتى هذا اللفظ؟ ومن أين اكتسب معناه؟ إن كلمة أميّ إسم منسوب والنسبة هي كل اسم انتهى بياء مشددة فإذا أردنا أن ننسب رجلاً إلى اليمن نقول هو يمنيّ فما الكلمة التي نُسِب إليها الأميّ؟ إن هذا الإسم منسوب إلى الأم أي الوالدة لأنه بقي على الحال التي بقي عليها مدة حضانة أمه له فلم يكتسب علماً جديداً لذلك قيا عنه أميّ.

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) البقرة) لو قال تعالى فويل لهم مما كتبوا لعُرِف بداهة أنهم كتبوا بأيديهم فلِمَ ذكر كلمة (أيديهم) إذن؟ ذكر كلمة (أيديهم) مع أن الكتابة تتم باليدّ لتأكيد وقوع الكتابة من قِبَلهم وتبيان أنهم عامدون في ذلك كما تقول نظر بعينه مع أن النظر لا يكون إلا يتم إلا بالعين وتقول تكلّم بفمك فالغاية من هذا كله تأكيد العمل.

(بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) البقرة): الخطيئة إسم لما يقترفه الإنسان من آثام جرائم، فكيف تحيط الخطايا والإثم بالإنسان؟ تأمل السِوار الذي يحيط بالمعصم لا يبقي منفذاً من اليد خالياً دون إحاطة وهذه صورة الخطايا والآثام عندما تكثر فهي تلتف حول الجسم والروح ولا تدع للإنسان مجالاً لحرية من الهروب من الخطأ كذلك الفاسق لو أبصر أيمن منه وأيسر منه ولو أبصر فوقه أو أسفل منه لما رأى إلا المنكر الذي ألِفَه واعتاده.

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) البقرة) هذه الآية تخاطب بني إسرائيل الذين مضوا ومع ذلك جاءت بصيغة المخاطب (لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) فما السبب في مخاطبة من مضى؟ إن المخاطبة جاءت للخَلَف من بني إسرائيل لتبين للمؤمنين أن الخلف من بني إسرائيل هم بمنزلة أسلافهم فأفعالهم واحدة وتصرفاتهم موروثة.

(لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) جاء النهي لبني إسرائيل عن سفك دمائهم وإخراج أنفسهم من ديارهم وهل يقتل الإنسان نفسه أو يُخرِج نفسه من منزله؟ لا شك أن النهي لا يراد به نهي الإنسان عن سفك دمه أو طرد نفسه من منزله وإنما المُراد بالنهي هنا هو أن لا يسفك أحدٌ دم أحد ولا يخرجه من دياره لأن الأمة مهما تعددت أفرادها ومصالحها ولكنها تبقى كالجسد الواحد فكما لا يحب الإنسان أن يلحق الضرر بنفسه ينبغي أن يمتنع عن إلحاق الضرر بالآخرين ومن هذا القبيل قول الشاعر:
قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللاً ولئن رميت لأوهنن عظمي
أراد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضر بنفسه وهذا كله من باب تشبيه الآخر بالنفس لشدة اتصالهم ببعضهم في الأصل والدين.
والمراد أن الذين يكونون في ديانة واحدة فكأنهم نفس واحدة فاليهود عندما كانوا في ديانة واحدة فحينما يقتلون إخوانهم أو يظاهرون عليهم كأنهم يقتلون أنفسهم وحينما يُخرجون إخوانهم من ديارهم كأنما أخرجوا أنفسهم ونحن قال لنا الله تبارك وتعالى (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ (11) الحجرات) تلمزوا أنفسكم، هل هناك إنسان يعيب نفسه؟ إذا عبت أخاك فكأنما عِبت نفسك لأن أمة الإسلام أمة واحدة فينبغي إذن أن ننتبه إلى هذه الأخلاق فكما نحاسب أعداءنا عليه كذلك نقول لأنفسنا أين نحن من هذه التعاليم؟!

(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (87) البقرة): معنى أيّدناه أي قوّيناه وشددنا أزره وعضده والعفل أيدناه مأخوذ من اليد فما صلة اليد بقويّناه؟ اليد تطلق عادة على القدرة والمنعة لأنها آلة القوة والدفاع عن النفس ومنع الآخرين من الاعتداء.

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) البقرة) جاء الفعل (تقتلون) بصيغة المضارع مع أن هذا الأمر قد مضى في عهود سابقة ولكن الله تعالى عبّر عنه بالمضارع لتبقى مستحضراً لهذا الفعل الشنيع الذي قد ارتكبه اليهود من قتلهم لأنبياء الله.

(وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ (93) البقرة) الإشراب هو أن تسقي غيرك وتجعله يشرب، فكيف أُشربوا العجل؟. إن الشرب هو جريان الماء في عروق الإنسان وقد عبّر الله تعالى عن شدة شغف اليهود بالعجل بشرب الماء لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذلك يقال الماء مطية الأدوية ومركبها التي تسافر به في أقطار البدن فجعل شدة حبهم للعجل وعدم قدرتهم على إخراج هذا الحب الذي خالطهم أشبه ما يكون بالماء الذي لا غنى لأحد عنه وهو يسري في عروق الإنسان فيصبح جزءاً من جسم الإنسان وكذلك حُب بني إسرائيل للعجل خالط لحومهم ودماءهم حتى غدا جزءاً منهم.

(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (95) البقرة) انظر كيف عبّر الله تعالى عن الذنوب والمعاصي التي ارتكبها بنو إسرائيل بقوله (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فلِمَ خصّ اليد بالذنب دون غيرها مع أنهم أساءوا لعيسى u بلسانهم وكذبهم عليه؟ إذا رجعت إلى فظائعهم وجدت أفظعها باليد فأكثر ما صنعوه هو تحريف التوراة ووسيلته اليد وأفظع ما اقترفوه قتل الأنبياء وآلته اليد. تُعدّ هذه الآية بما فيها من تحدٍّ سافر لليهود إحدى معجزات القرآن وإحدى دلائل النبوة، ألا ترى أنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب النبي r فكان تمني الموت فيه تكذيب لهذه الآية ومن ثم تكذيب للنبي r ومع ذلك لم يُنقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت.
 
(قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ (97) البقرة) (جبريل) إسم عبراني للملك المرسَل من الله تعالى بالوحي لرسله وهو مركّب من كلمتين: كلمة (جِبر) وكلمة (إيل) فأما كلمة جِبر فمعناها عبد أو القوة وكلمة إيل تعني إسماً من أسماء الله في العبرانية. وقد ورد إسم جبريل في القرآن في عدة صور منها: جِبريل وبها قرأ الجمهور ومنها جَبريل وبها قرأ ابن كثير ومنها جبرائيل وبها قرأ حمزة والكسائي وجَبرائيل وبها قرأ أبو بكر عن عاصم.

(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100) البقرة) لِمَ عبّر الله تعالى عن نقض اليهود للعهد والميثاق بالنبذ وأنت تعلم أن النبذ هو الطرح والإلقاء فما علاقة الطرح بنقض الميثاق؟ لقد جعل الله تعالى العهد والميثاق الذي أقرّ به اليهود بكتاب أحكموا قبضته بيدهم حتى لا يقع ولكنهم سرعان ما تخلوا عن عهدهم وألقوا هذا الكتاب وطرحوه أرضاً إشارة إلى نقضهم للميثاق.

(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102) البقرة) نسب الله تعالى تعليم السحر لليهود لأنهم اشتُهروا في هذا المجال وعُرِفوا به وعُرف بهم حتى غدا سمة من سماتهم وقد اعتقد المسلمون في المدينة أن اليهود سحروا المسلمين فلا يولد لهم فلذلك استبشروا لما وُلِد عبد الله بن الزبير وهو أول ولد للمهاجرين في المدينة.

(حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ (102) البقرة) الفتنة هي إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته والفتنة للإنسان هي إختبار وامتحان تُسبر به قوة إيمانه وصلابة عقيدته وثقته بالله تبارك وتعالى وهذه الفتن تكشف النفوس فمنهم من تظهر جودته ومنهم من تظهر رداءته.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا (104) البقرة) نُهيَ المؤمنون عن التلفظ بكلمة راعنا وهذه كلمة تشبه كلمة في العبرانية تعني المسبّة فقال المنافقون واليهود كنا نسبّ الرسول r سرّاً فأعلنوا بها الآن فأنزل الله تعالى النهي عن هذه الكلمة وكشف عمل اليهود والمنافقين لكن ما مناسبة نزول هذه الآية عقب آيات السحر؟ لو رجعنا إلى أصل السحر لرأيناه يرجع إلى التمويه وأن من ضروب السحر ما هو تمويه الألفاظ فأذى الشخص بقول أو فعل لا يُعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم به أذى كما فعل المنافقون بقولهم (راعنا) فهم يظهرون معنى ويبطنون غيره.

(مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ (105) البقرة) لِمَ عطف الله تعالى قوله (ولا المشركين) على (الذين كفروا من أهل الكتاب) مع أن المشركين كافرون؟ لقد عطف الله تعالى قوله (ولا المشركين) على (الذين كفروا من أهل الكتاب) لئلا يقع في الظن أن الحسد يقع من أهل الكتاب وحدهم دون غيرهم فالكفر سبب البُغض والحسد لأينما كان وفي أي زمن كان.

(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (106) البقرة) هناك قراءتان لكلمة (ننسها) قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخَلَف (نُنسها) وقرأه ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها) فأما قراءة نُنسها فهي من النسيان أي نُنسي الناس إياها وذلك بأمر الرسول r بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون، وقراءة (ننسأها) بمعنى نؤخرها أي نؤخر تلاوتها أو نؤخر العمل بها مما يؤدي إلى إبطال العمل بقراءتها أو بحكمها.
ولكن لِمَ قال تعالى (نأت بخير منها) ولم يبين بأي شيء هي أفضل وخير من الآية المنسوخة؟ (نأتي بخير منها) أُجمِلت جهة الخيرية ولم يُذكر وجه الخير في قوله (نأت بخير منها) لتذهب نفسك كل مذهب ممكن فقد ترى أن الخيرية في الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس ويرى غيرك ما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وهكذا.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم (109) البقرة) لم قال تعالى (من عند أنفسهم) ولم يقل منهم؟ في قوله (من عند أنفسهم) تأكيد على تأصيل هذا الحسد فيهم وصدوره من أنفسهم أكثر من قوله منهم.

(فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ (109) البقرة) العفو ترك عقوبة المذنب والصفح هو الجانب لصفحة الوجه والصفح هو ترك اللوم والتثريب وهو أبلغ من العفو لأنك قد تعفو عن ذنب امرئ لكنك تبقى له لائماً وأما الصفح فهو ترك اللوم ولذلك هو أبلغ من العفو لذا قال تعالى (فاعفوا واصفحوا).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا (114) البقرة) هاهنا في هذه الآية استفهام بـ (من) وليس الغرض منه الاستفهام وإنتظار جواب وإنما هو استفهام إنكاري خرج إلى النفي أي لا أحد أظلمُ ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه.
وما هي المساجد المقصودة بقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) حتى جُمِعت؟ نزلت الآية في أهل مكة لأنهم منعوا المسلمين دخول المسجد الحرام ومع ذلك نرى أن الآية قد جُمِع فيها المسجد (مساجد) للتعظيم من شأن المسجد وهذا واضح كما يقول الفرد في معرض الفخر والتعظيم لنفسه (نحن نقول) وكذلك كلمة المساجد أتت جمعاً ليكون الوعيد شاملاً لكل مخرِّب لمسجد أو مانع العبادة فيه.

(وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (115) البقرة) لِمَ خصّ الله تعالى ملكه بالمشرق والمغرب؟ لم تذكر الآية جهة الشمال والجنوب وإنما ذكرت فقط المشرق والمغرب لأن الأرض تنقسم بالنسبة لمسير الشمس إلى قسمين قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي من حيث تغرب الشمس.

(وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ (116) البقرة) في قوله تعالى في كلمة (سبحانه) تنزيه لله تبارك وتعالى عن شنيع هذا القول وللمتأمل فيه إشارة إلى أن الولدية نقصٌ بالنسبة لله تعالى بينما الولدية بالنسبة للإنسان كمال لأنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر والله تبارك وتعالى منزّه عن جميع ذلك.

(بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) البقرة) القنوت هو الخضوع والانقياد مع الخوف وهذا الأمر لا يقوم به إلا كل عاقل مبصر فلذلك جمع الله تعالى في هذه الآية كلمة قانت جمع مذكر سالم (قانتون) وهو مختص بجمع الذكور العقلاء ليبيّن لنا سمة أهل الخشوع والقنوت إنهم أصحاب العقول الراجحة التي تخشى الله عن إرادة وبصيرة.

(وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ (123) البقرة) إذا استحضرنا الآية المماثلة لهذه الآية وجدنا اختلافاً في العدل والشفاعة فهناك قدّم (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ (48)) واخّر (وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) وهنا قدّم (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) لنُكتة أدبية وبلاغية وذاك أن أحوال الأقوام في طلب الفِكاك عن الجُناة تختلف فمرة تراهم يٌقدّمون الفِداء فإذا لم يُقبل منهم يُقدِّمون الشفعاء وتارة يُقدِّمون أولاً الشفعاء فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء فعرضت الآيتان أحوال نفوس الناس في فِكاك الجُناة.

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (124) البقرة) الابتلاء هو الاختبار فإن كلّفت شخصاً بشيء ما يكون تكليفك له متضمناً إنتظار فعله أو تركه وابتلاء الله لإبراهيم تكليف له لأن الله كلفه بأوامر ونواهٍ. وفي هذه الآية تقديم ما حقه التأخير فـ (إبراهيم) مفعول به وقد تقدّم على الفاعل (ربه) فما الهدف من هذا التقديم؟ المقصود من هذا تشريف سيدنا إبراهيم u بإضافة إسم ربه إلى اسمه وهو الهاء في قوله (ربه) أي رب إبراهيم.

(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (124) البقرة) سمّى الله تعالى إبراهيم في هذه الآية إماماً وقصد بإمامته أنه رسول فلِمَ عدل عن تسميته رسولاً إلى تسميته إماماً؟ ليكون ذلك دالاً على أن رسالته تنفع الأمة المرسَل إليها بالتبليغ وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الامتداد سيما وأن إبراهيم u قد طوّف بالآفاق.

(قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي (124) البقرة) لِمَ خصّ إبراهيم u بالدعاء بعض ذريته فقال (ومن ذريتي)؟ ولم يقل ذريتي لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي ألا يكون جميع أبناء الرجل ممن يصلحون لأن يُقتدى بهم ولذلك لم يسأل الله تعالى ما هو مستحيل عادة لأن ذلك ليس من آداب الدعاء ولم يجعل الدعاء عاماً شاملاً لكل الذرية بحيث يقول وذريتي.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة) جاء الخبر (السميع العليم) معرفة ووقع بين (إن) والخبر (السميع) ضمير الفصل (أنت) بقصد المبالغة في كمال الوصفين السميع والعليم له سبحانه وتعالى ولينزَل سمع وعلم غيره منزلة العدم. ألا ترى أنك لو قلت لرجل أنت سامع إذا أردت أنه أحد السامعين أما إذا عرّفت فقلت أنت السامع فهذا يعني أنه السامع لا غيره.

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129) البقرة) هذا الترتيب في الآية لأن آيات القرآن تعلمنا التفكير والمنطق ودقة اللفظ وترتيب الأفكار والله سبحانه وتعالى رتب هذه الصفات على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة القرآن ثم يكون تعليم معانيه كما في قوله في موضع آخر (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) فإذا ما حصلت على علم القرآن انتقلت إلى المرحلة الأخيرة وهي التزكية.

(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ (133) البقرة) في هذه الآية إستفهام إنكاري لدحض معتقدهم ولتنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك مما يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم فالمرء لا يتحدث إلا بما شاهد أو كان كالمشاهِد.

(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (135) البقرة): الحنف هو الميل عن الضلال إلى الإستقامة. والحنف الميل في المشي عن الطريق المعتاد. وسمي دين إبراهيم حنيفاً على سبيل المدح للمِلّة لأن الناس يوم ظهور ملّة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلاً عنهم فلُقّب بالحنيف لقب مدح.

(فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ (137) البقرة): (إن) حرف شرط جازم ولكنه يفيد الشك خلافاً لـ (إذا) وقد جاء الشرط هنا في الآية بـ (إن) إيذاناً بأن إيمانهم غير مرجو وميؤوس منه.

(قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ (139) البقرة): في قوله تعالى (أتحاجوننا) إستفهام ولكنه خرج عن دلالة الأصلية وهو الإستفهام عن شيء مجهول إلى التعجب والتوبيخ.

(وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ (139) البقرة): لِمَ قال تعالى لنا أعمالنا ولم يقل أعمالنا لنا لا سيما أن (لنا) متعلق بخبر محذوف للمبتدأ (أعمالنا)؟ قدّم تعالى الجار والمجرور (لنا) على قوله (أعمالنا) للإختصاص أي لنا أعمالنا الخاصة بنا ولا قِبَل للآخرين بها فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا.
 
تبث قناة الرسالة حلقات جديدة من برنامج (ورتل القرآن ترتيلا) يومياً الساعة الرابعة عصرا ويعاد صباح اليوم التالي الساعة السابعة بتوقيت مكة المكرمة. والحلقات بدأت هذه الدورة البرامجية مع سورة الرعد وقد وفقني الله تعالى اليوم لمتابعة الحلقة وهذا تفريغ فقرة (قبسات من روائع البيان)


سورة الرعد

(وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15)) من عجيب قدرة الله عز وجل أن جعل وحدانيته سارية على كل كائن في السموات والأرض فمنهم من يسجد طواعية وتقربًا إلى الله محبة وتعظيمًا له. ومنهم من يسجد مضطرًا عند نزول الشدة أو اشتداد مصيبة. ولكن الملفت للنظر أن يعطف الظلال على من يسجد ولذك لأنها انعكاس لهذه الأجسام على وجه الأرض وهي مرتبطة بسقوط أشعة الشمس عليها فتقع على الأرض وقوع الساجد وإن كان صاحبها يأبى السجود لله أو يعرض عنه منشغلًا بالسجود لغيره. ويكون سجوده دالًا على استحقاق الله جل شأنه للسجود فلو خلق الله شمسين لانعدمت الظلال لكنه جعل هذا النظام الذي تراه مهيأ للدلالة على انفراده تعالى بالألوهية والوحدانية وحاجة المخلوقات إليه شاءت أم أبت.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ (16)) لعلك تساءلت لم جمع ربنا الظلمات وأفرد النور؟ ذلك لأن النور يحتاج في مقابله ظلمات كثيرة حتى تحجب ضياءه ثم إن الظلمات رمز للضلالة وطرق الفساد وهي كثيرة إذا ما قيست بسبيل الحق والرشاد الذي يرمز إليه النور فالضلال له طرائق متعددة أما الحق فواضح بيّن واحد

(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ (17)) انظر إلى حكمة الله عز وجل في ضرب الأمثال فذكر أن الماء الهاطل من السماء يشكل سيلًا يطفو عليه زبد زائف ثم أعقبه بمثال آخر لتقريب الصورة فقال تعالى (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ). قد يقول قائل لم ذكر المثال الثاني؟ أما كان المثال الأول كافياً؟ ذلك لأن صورة تشكيل السيول ليست مدركة عند كثير من سكان البوادي ممن أنزل عليهم القرآن من عرب شبه الجزيرة لذلك قرب إليهم الفكرة بصورة معروفة بالنسبة إليهم وهي صياغة الذهب والفضة وصهرها في بواتق وما تنفيه من الخبث الذي يماثل زبد السيل فهما مما لا ينتفع به وهذا من بديع التصوير القرآني حيث ذكر زبد الأجسام السائلة وخبث الأجسام الصلبة.
 
(أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى (19)) تبصَّر في هذه الصورة العجيبة فقد عقد الله عز وجل مقابلة بين من يعلم وبين الأعمى. فلِمَ لم يقل ربنا (أفمن يعمل أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن لا يعلم)؟ ذلك لأن الأعمى قد انتفى علمه بما حوله وإبصاره لما يجري هنا وهناك وهذا حال الضالّ فهو أعمى عن إدراك الحقائق لا يستوعب ما يدور حوله ولا يفهم حقيقة الأشياء ولا يدري أين تكون مصلحته. فلو قال "كمن لا يعلم" لاقتصر ذلك على عدم العلم بأحقيّة ما أنزل الله سبحانه، لكن عندما قال (كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) صار عدم علم ذلك الكافر عامًا شاملًا

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)) إذا تأملت هذه الاية الكريمة وجدت أن الله عز وجل ذكر الوفاء مضافًا إلى اسمه تبارك وتعالى قال (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ) ولما ذكر نقض إخلاف الوعد لم يضفه إلى اسمه الأعلى فقال (وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) وذلك لأن من يفي بعهد الله لا يمكن أن ينقضه لكن يمكن أن تسول له نفسه الأمارة بالسوء نقض عهد غيره من البشر فعندما قال (وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) شمل بذلك عهد الله عز وجل وجميع العهود والمواثيق المبرمة بين الناس
 
(لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ (30)) لاحظ لِمَ جاء فعل الكفر مضارعًا ولم يأت ماضيًا، فلم يقل (وقد كفروا بالرحمن)؟ ولِمَ جاء باسم الرحمن من بين أسمائه تعالى؟ ذلك ليدل على تجدد كفرهم واستمرار عنادهم ومواظبتهم على الشرك. وخص ذكر الرحمن من بين أسماء الله تعالى لأنه هو الرحمن الذي أرسل إليهم رسول رحيمًا وجعلهم رحماء فيما بينهم وأنزل عليهم القرآن هدى ورحمة وبعدها يقابلونه بالكفر والشكر وهو الذي حرص في كل ذلك على ما فيه صلاحهم ومنفعتهم.

(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)) أنظر إلى هذه الصياغة البلاغية (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) فلِمَ قدّم ربنا الجار والمجرور في الموضعين (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) ولم يقل توكلت عليه ومتابي إليه؟ ذلك لإفادة الحصر والقصر فعلى الله التوكل لا على غيره وإليه الرجوع والتوبة لا إلى غيره. فهو المتوحد بالألوهية والمتفرد بالربوبية فلا يحسن التوكل على غيره ولا الرجوع إلى من سواه.

(وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ (33)) إن أمر الله سبحانه وتعالى يفيد الوجوب بإجماع أهل اللغة والفقه إلا إذا صرفه صارف إلى غير ذلك فهل أمرُ الله عز وجل بتسمية الشركاء واجب؟ ولم أمر سبحانه وتعالى بذلك؟ أولًا إن الأمر على سبيل الإباحة والمراد به التهكم والسخرية من المشركين أي سموهم شركاء فليس لهم حظ من ذلك إلا التسمية فقط. ثانيًا أمر الله بذلك تعريضًا بالمشركين وزيادة في عدم الاكتراث بما يقولون كأن تقول لمن يخطئ في حقك في كلامه قل ما شئت مظهرًا بذلك عدم مبالاتك بما يقول.
 
(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ (36)) أُنظر كيف ذكر الله تعالى الفرح بما أُنزِل دون الإيمان به فقال (يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) ولم يقل يؤمنون بما أنزل إليك. ذلك لأن المعنيّ بهذا هم أهل الكتاب فقد سُرّ اليهود بنزول القرآن مصدقًا للتوراة وهم يحسبون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على العرب فكانوا يستظهرون بالقرآن على النصارى كما فرح النصارى بالقرآن وكان يستظهرون بالقرآن على اليهود ثم ما لبث الفريقان أن كفرا حينما علما أن دعوة الإسلام عامة لكل الناس على اختلاف أديانهم وانتماءاتهم وأطيافهم وألوانهم وقومياتهم وبذلك يكون قد صدر منهم فرحٌ بما أُنزِل ولم يصدر منهم إيمان به.

(وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا (37)) قد يتبادر لأذهان كثير منا سؤال مضمونه لِمَ أنزل الله القرآن باللغة العربية؟ ذلك لأن الله عز وجل جعل القرآن حكمة بما فيه من المعاني والمقاصد والحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف اللغات وأفصحها وأصلحها للتعبير فاختار اللغة العربية لما فيها من البلاغة والفصاحة والقدرة على الإبلاغ والذي لم يتسنى لأي لغة أخرى.
 
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً (43) الرعد) لِمَ جاء فعل القول مضارعًا (يقول) مع أنه صدر عن الكافرين في وقت مضى وانقضى ولم يأت ماضيًا (وقال الذين كفروا)؟ ذلك لأن صيغة المضارع تدل على تكرار هذا الفعل منهم واستمرارهم في غيِّهم وإصرارهم على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم رغم ما رأوا من دلائل على صدقه وفي ذلك استحضار لحالتهم العجيبة التي كانوا عليها واستمروا بها
 
سورة ابراهيم

(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ (3)) نحن نعلم أن أي زيادة في المبنى تتطلب زيادة في المعنى. فما الذي أراده الله من الزيادة في (يَسْتَحِبُّونَ)؟ إن زيادة السين والتاء تفيد التأكيد على حب الدنيا فهم يحبونها حبًا جمًا لكنهم لم يكتفوا بهذا الحد بل فضلوا حبها على الآخرة وهذا ما أفاده الفعل (يَسْتَحِبُّونَ) وهو الحب مع الإيثار لذلك عُدي بـ (على) أي يؤثرون حب الدنيا على حب الآخرة. ولو جاء الفعل يحبون دون زيادة للزم أن يقال يحبون الحياة الدنيا أكثر من حب الآخرة فاختصر هذا التفاضل بهذه الزيادة البسيطة.

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ (6)) إذا تأملت في هذه الآية لتساءلت لِمَ قال (اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ) ولم يقل (تذكروا نعمة الله عليكم)؟ ذلك لأن فعل التذكير يتطلب استرجاعًا للحالة واستحضارًا لمجرياتها. أما الفعل (اذْكُرُواْ) فيفيد هذا الاسترجاع والاستحضار مع دوام ذلك في كل وقت وحين وتكرار التذكر لتحصل منه الموعظة والعبرة.

(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ (6)) إن هذه التراكيب قد ورد نظيرها في سورة البقرة وكذلك في سورة الأعراف بلفظ (يُقتِّلون) بدل (يُذَبِّحُونَ) وفي السورتين السابقتين لم يؤت بحرف العطف فقال (يذبِّحون أبناءكم) (يقتِّلون أبناءكم) أما هنا فقال (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ) وذلك لخطورته وبيان أهميته في كونه يختلف عن سوء العذاب. أما الملفت للنظر أن جملة (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ) لم ترد دون حرف عطف في السور الثلاث وذلك لأنه نوع جديد يختلف عن سوء العذاب لم تألفه البشرية من قبل فالاستحياء في أصله خير ونعمة أي جعلهن يستحين ويخجلن لكنه عندما على عطف على ألوان من العذاب تبين أنه نمط جديد وممارسة قذرة تجعل النساء يستحيين لما في تعذيبهن من كشف لعوراتهن وهتك لأعراضهن وغير ذلك.

(فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ (9)) تأمل هذا التصوير العجيب الذي لم يسبق مثله في كلام العرب فقال (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ) ولم يقل فجعلوا أو فوضعوا وذلك لأن فعل الرد أفاد التكرار في جعل الأيدي على الأفواه فقال وضعوها على أفواههم ثم أزالوها ثم وضعوها ثم أزالوها وهكذا. وهذه هي الحال التي أراد الله تصويرها وهي استهزاؤهم وسخريتهم من البينات التي جاء بها الرسل فهم يضعون أيديهم على أفواههم مما تغشاهم من الضحك والسخرية ثم يزيلونها مشيرين إلى المتحدث ثم يعيدون الكرة مرارًا كالذي نراه من فعل بعض الناس في هذه الأيام.
 
يقول تعالى على لسان الرسل (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا (12)) تأمل هذا الإيجاز البديع فقد أقسم الرسل على أنهم سيصبرون مستقبلًا على أذى مضى فقالوا (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا) ولم يقولوا (ولقد صبرنا على ما آذيتمونا). ومعنى ذلك أننا سنستمر بالصبر على أي أذى متوقع كما صبرنا في السابق على أذى مضى وفي ذلك زيادة في تيئيس قومهم من تأثرهم بالأذى.

(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)) لِمَ قال ربنا (خَافَ مَقَامِي) ولم يقل خافني؟ ذكر ربنا خاف مقامي للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله ولإظهار أهميته فالمقام يدل على مكان القيام والله لا يحده زمان أو مكان أي أنه له مطلق الوجود وبما أن الخوف متعلق بالمقام فهذا يعني أنه أبلغ وأشد لأنه سيكون خوفًأ من الله عز وجل في كل زمان ومكان.

(مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ (18)) تأمل كيف شبه ربنا أعمال الكفار بالرماد ولم يشبهها بغير ذلك؟ وذلك أن صورة الرماد معروفة لدى عرب الجزيرة ممن نزل فيهم القرآن الكريم. ثم إن كثرة الرماد كناية عن خلق نبيل ألا وهو الكرم فيأتي كفرهم كريح عاصف فيتشتت هذا الرماد فتذهب أعمالهم سدى دون أن ينتفعوا منها بشيء.
 
(إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)) إنه خطاب عام وشامل إلى كل الناس، فلم يقل الله (إن يشأ يذهبكم أيها المشركون، أيها الكفار) وذلك لإظهار عظيم قدرته عز وجل في إهلاك أهل الأرض جميعًا متى ما شاء وكيفما شاء. وفي ذلك وعيد للمعاندين والملحدين وتهديد للمؤمنين المتقاعسين في الدعوة إلى الحق الساكتين عن الباطل والضلال لأنهم لم يتناهوا عن منكر فعله غيرهم على مسمع منهم ومرأى لذلك أعقب بقوله (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) فلم يحدد ماهية هذا الخلق أهو مؤمن أو كافر لأن جيل من الخلق ليسوا على درجة واحدة من الإيمان أو الإشراك لكن إهلاك قوم والإتيان بآخرين يومئ إلى أفضلية ما اختزنها الله في علمه.

(وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا (21)) هذا أحد مشاهد القيامة ومع ذلك لم يقل تعالى (ويبرزون) أو (سيبرزون لله جميعًا) بل قال (وَبَرَزُواْ) وذلك للتنبيه على أن هذا الفعل هو بحكم الواقع فهو أمر مفروغ منه وسيكون فيه النقاش المرتقب بين الضعفاء والمستكبرين لتبادل الاتهامات بشأن كفرهم وضلالهم.

يقول تعالى حاكيًا كلات إبليس لأولئايه (إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ (22)) تأمل هذا الإيجاز وهذه البلاغة. فلم يقل (إن الله وعدكم وعد الحق فوفى بعهده ووعدتكم وعد الكذب فأخلفتكم) وذلك لأن إضافة الوعد إلى الحق فيه مبالغة وتخصيص بهذه الصفة وإشارة إلى أن هذا الوعد لا رجعة عنه ولا نكول ما دام وعدًا حقًا، أما وعد الشيطان فلا حاجة لذكر أنه وعد كاذب بل اكتفى بذكر نتائجه (فَأَخْلَفْتُكُمْ) ليدل على أنه وعد كذب وضلال وفساد.
 
(وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً (31)) إن الله قد أجمل في هذه الآية حالات الإنفاق بين السر والعلن والتطوع والواجب والصدقة والزكاة لكن ما الدافع لذكر السر قبل العلانية؟ تلك حكمة ربانية يرفع الله بها منازل من ينفق في سبيله ولا تعلم شماله ما أنفقت يمينه لما في ذلك من بعد عن خواطر الرياء واستبقاء لكرامة المنفَق عليهم.

(اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ (32)) تأمل تلك الحكمة من هذه الافتتاحية حيث قال تعالى (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ) ولم يقل (ربكم الذي خلق) مع أن في ذلك مزيدًا من التشريف لنا. ذلك لأن الأهمية تكمن في تعيين الخالق سبحانه وتعالى وهو الله عز وجل وهو ربكم ورب غيركم ورب كل شيء ومليكه. إضافة إلى أن المشركين مسلِّمون بأن الله خالقهم لقوله تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (87) الزخرف) مما يعني أنهم يمكن أن يتقبلوا ما يذكره رب العزة من خلق السموات والأرض وما تبعه من ذكر للنعم والمنافع. ولو أنه قال ربكم الذي خلق السموات والأرض لم يكن عند المشركين أدنى قبول به لأنهم لم يعترفوا بهذه الربوبية أصلًا.
 
عودة
أعلى