عبد الرحمن محمد طه
New member
إنّ توقّع الجميع استمرار سلسلة النبوّة في نسل يعقوب، عليه السّلام، يجعل كلّ واحد من أبنائه ينتظر أن يتمّ اختياره دون إخوته؛ فهذا شرف يطلبه كلّ واحد، ولا يلام من يطلبه لنفسه دون غيره."
ونحن عُصبة!!
بقلم: الشيخ بسام جرار
جاء في الآية 8 من سورة يوسف:"إذ قالوا ليوسفُ وأخوهُ أحبُّ إلى أبينا منّا ونحن عُصبة، إنّ أبانا لفي ضلال مُبين".
ترجع هذه القصة إلى ما يقارب الـ 3600 سنة، بل أكثر. وكان المجتمع آنذاك مجتمعاً بدويّاً، بدليل قوله تعالى، على لسان يوسف، عليه السّلام:"وقد أحسنَ بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو...". وفي مثل هذه المجتمعات تُحَدّد قيمة الفرد على أساس ما يقدّمه لمجتمعه من حماية، وفعاليّة في الكسب، لذا فقد كان غريباً أن يُقَدّم الأب أبناءه الصغار على الكبار الأشدّاء، الذين يشكّلون عُصْبة تأوي إليها القبيلة:"ونحن عُصبة!!". وهم يرون في ذلك إساءة لهم، وضلالاً واضحاً، لمخالفته الصريحة قيم المجتمع:"إنّ أبانا لفي ضلال مبين". ولأنّ المجتمع سيعتبر تقديم الصغار على الكبار العصبة احتقاراً لهم، وتصغيراً لشأنهم، وإهمالاً لهم، وهذا يُحْرجهم أمام الناس، لذا وجدناهم يجتمعون لمناقشة الأمر، كيف لا، وهم الأشدُّ حساسيّةً تجاه القيم؟!
لم يكن باستطاعة يعقوب أن يُخفي حبّه الشديد ليوسف، عليهما السلام؛ فقد استيقن بعد رؤيا ولده أنّه الرسول المُجتبى، الذي ستكتمل فيه النعمة على آل يعقوب. في المقابل كانت لديه المسوِّغات التي تحمله على كتمان هذا الخبر:"قال يا بُنيّ لا تَقصُص رؤياك على إخوتك...". واللافت هنا أنّ أخوة يوسف قد ظنّوا أنّ يعقوب، عليه السلام، يُقدّم يوسف وأخاه. وقد يشير هذا إلى أنّ يعقوب، عليه السلام، كان يُكثر من التردد على الخِباء الذي يسكن فيه يوسف وأخوه مع أمّهم. ثم إنّ الحرصَ الشديد من يعقوب،عليه السلام، على ولده المصطفى، ورغبته الشديدة في حمايته والاحتفاظ به، جعلهم يستيقنون أنّه يخرق قيم المجتمع؛ فيقدّم الصغار على الكبار الذين هم عُصبة، وفي ذلك إهانة لهم. ولو كشف لهم يعقوب، عليه السلام، عن حقيقة الأمر لعلموا أنّ ما يفعله، عليه السّلام، هو عين الحقّ، فليس الأمر أمر صغير أو كبير، وليس هو اختيار بشر لبشر، بل هو اختيار ربّاني، وتقديم إلهي.
ولكن لماذا لا يكشف يعقوب، عليه السّلام، عن هذه الحقيقة، فتهدأ النفوس، ويعلم الناس حقيقة الاختيار الربّانيّ؟!
إنّ توقّع الجميع استمرار سلسلة النبوّة في نسل يعقوب، عليه السّلام، يجعل كلّ واحد من أبنائه ينتظر أن يتمّ اختياره دون إخوته؛ فهذا شرف يطلبه كلّ واحد، ولا يلام من يطلبه لنفسه دون غيره. ويبدو أنّ يعقوب، عليه السّلام، قد توقّع نوعاً من ردود الفعل لدى إخوة يوسف، وإن كانت هذه الردود تحتمل وجوهاً. وتوقّع عليه السلام، أن تكون معرفتهم بالأمر مدخلاً لوسوسة الشيطان، الذي هو عدوٌ للإنسان يستغل حالات ضعفه وجهله. من هنا نلاحظ التنكير في قول يعقوب، عليه السلام:"يا بنيّ لا تَقصُص رؤياكَ على إخوتك فيكيدوا لك كيداً، إنّ الشيطانَ للإنسانِ عَدوٌ مُبين". نعم، إنّها الخيبةُ التي ستكون آثارها عميقة في تلك النفوس التي استشرفت طويلاً أن يختارها الرّب. ولا يسهل توقّع ردّ الفعل عند حصول الصدمة. وقد يكون من الرحمة بهم أن يتمّ تأخير خبر الاصطفاء إلى وقتِ وقوعه، حيث يكون معظمهم قد غادر سن الشباب ودخل طور النضوج والاتزان. وإذا كان سنّ الأربعين هو سن الاختيار في الغالب، فإنّهم سيعلمون الحقيقة قبل اختيار يوسف، عليه السلام. ثمّ إنّ إخبارهم بالخبر قبل الأوان ليس من الحكمة، ولا يترتّب عليه فائدة تُرجى.
ولكنّها الحكمة الربانيّة، أن يعلم يعقوب، عليه السّلام، باصطفاء ولده قبل سنين من الاصطفاء، فيترتب على ذلك غِيرة شديدة لدى الأبناء، الذين يرون في قربهم من أبيهم مقياساً لصلاحهم، وذلك في نظر أنفسهم، وفي نظر المجتمع أيضاً:"اقتلوا يوسفَ أو اطرحوهُ أرضاً يَخلُ لكم وجهُ أبيكم وتكونوا من بعدِه قوماً صالحين". فإذا لم يكن أبوهم قد انتبه إلى مأزقهم، ولا إلى الحرج الذي هم فيه، وفق تصوّرهم، فما عليهم إلا أن يُغَيّبوا يوسف، وبذلك يزول الحاجز، ويقتربوا من والدهم، الذي يمنحهم بقربه المكانة الاجتماعيّة. فتآمرهم، إذن، لم يكن من جهة فسادهم، بل كان من جهة شعورهم بالإقصاء، ورغبتهم في القبول، وهذه حالة من حالات الضعف البشريّ التي يمكن أن تسيطر على الشباب أكثر من الشيوخ الناضجين. من هنا نجد أنّ القرآن الكريم قد أشار إلى موقف متميّز لكبيرهم:"..قال كبيرُهُم ألم تعلموا أنّ أباكم قد أخذ عليكم مَوثِقاً من الله، ومِن قَبلُ ما فرّطتم في يوسف، فلن أَبرَحَ الأرضَ حتى يأذنَ لي أبي أو يَحكُم اللهُ لي، وهو خيرُ الحاكمين". (يوسف: 80)
إنّ الحكمة الربّانية في كشف غيب الاصطفاء تَجلَّت في المآلات التي آلت إليها الأمور؛ فالله، سبحانه وتعالى، يريد يوسف رسولاً إلى أمّة عظيمة ومتحضّرة. فانظر إلى عجيب القدَر، وكيف أنّ الإلقاء في البئر كان مقدمةً لإكرام مثوى يوسف،عليه السلام، يقول سبحانه تعقيباً على هذا الحدث:".. وكذلك مَكنّا ليوسفَ في الأرض، ولِنُعلّمه من تأويل الأحاديث...". ثم انظر كيف كان السجن هو المقدمة للتمكين في الأرض:"وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء..."، وبإمكانك بعد ذلك أن تتصور التأثير الكبير الناتج عن كون الرسول الكريم يتبوأ منصب العزيز في بلد كمصر.
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1657686467795471&id=1511850595712393&ref=bookmarks
ونحن عُصبة!!
بقلم: الشيخ بسام جرار
جاء في الآية 8 من سورة يوسف:"إذ قالوا ليوسفُ وأخوهُ أحبُّ إلى أبينا منّا ونحن عُصبة، إنّ أبانا لفي ضلال مُبين".
ترجع هذه القصة إلى ما يقارب الـ 3600 سنة، بل أكثر. وكان المجتمع آنذاك مجتمعاً بدويّاً، بدليل قوله تعالى، على لسان يوسف، عليه السّلام:"وقد أحسنَ بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو...". وفي مثل هذه المجتمعات تُحَدّد قيمة الفرد على أساس ما يقدّمه لمجتمعه من حماية، وفعاليّة في الكسب، لذا فقد كان غريباً أن يُقَدّم الأب أبناءه الصغار على الكبار الأشدّاء، الذين يشكّلون عُصْبة تأوي إليها القبيلة:"ونحن عُصبة!!". وهم يرون في ذلك إساءة لهم، وضلالاً واضحاً، لمخالفته الصريحة قيم المجتمع:"إنّ أبانا لفي ضلال مبين". ولأنّ المجتمع سيعتبر تقديم الصغار على الكبار العصبة احتقاراً لهم، وتصغيراً لشأنهم، وإهمالاً لهم، وهذا يُحْرجهم أمام الناس، لذا وجدناهم يجتمعون لمناقشة الأمر، كيف لا، وهم الأشدُّ حساسيّةً تجاه القيم؟!
لم يكن باستطاعة يعقوب أن يُخفي حبّه الشديد ليوسف، عليهما السلام؛ فقد استيقن بعد رؤيا ولده أنّه الرسول المُجتبى، الذي ستكتمل فيه النعمة على آل يعقوب. في المقابل كانت لديه المسوِّغات التي تحمله على كتمان هذا الخبر:"قال يا بُنيّ لا تَقصُص رؤياك على إخوتك...". واللافت هنا أنّ أخوة يوسف قد ظنّوا أنّ يعقوب، عليه السلام، يُقدّم يوسف وأخاه. وقد يشير هذا إلى أنّ يعقوب، عليه السلام، كان يُكثر من التردد على الخِباء الذي يسكن فيه يوسف وأخوه مع أمّهم. ثم إنّ الحرصَ الشديد من يعقوب،عليه السلام، على ولده المصطفى، ورغبته الشديدة في حمايته والاحتفاظ به، جعلهم يستيقنون أنّه يخرق قيم المجتمع؛ فيقدّم الصغار على الكبار الذين هم عُصبة، وفي ذلك إهانة لهم. ولو كشف لهم يعقوب، عليه السلام، عن حقيقة الأمر لعلموا أنّ ما يفعله، عليه السّلام، هو عين الحقّ، فليس الأمر أمر صغير أو كبير، وليس هو اختيار بشر لبشر، بل هو اختيار ربّاني، وتقديم إلهي.
ولكن لماذا لا يكشف يعقوب، عليه السّلام، عن هذه الحقيقة، فتهدأ النفوس، ويعلم الناس حقيقة الاختيار الربّانيّ؟!
إنّ توقّع الجميع استمرار سلسلة النبوّة في نسل يعقوب، عليه السّلام، يجعل كلّ واحد من أبنائه ينتظر أن يتمّ اختياره دون إخوته؛ فهذا شرف يطلبه كلّ واحد، ولا يلام من يطلبه لنفسه دون غيره. ويبدو أنّ يعقوب، عليه السّلام، قد توقّع نوعاً من ردود الفعل لدى إخوة يوسف، وإن كانت هذه الردود تحتمل وجوهاً. وتوقّع عليه السلام، أن تكون معرفتهم بالأمر مدخلاً لوسوسة الشيطان، الذي هو عدوٌ للإنسان يستغل حالات ضعفه وجهله. من هنا نلاحظ التنكير في قول يعقوب، عليه السلام:"يا بنيّ لا تَقصُص رؤياكَ على إخوتك فيكيدوا لك كيداً، إنّ الشيطانَ للإنسانِ عَدوٌ مُبين". نعم، إنّها الخيبةُ التي ستكون آثارها عميقة في تلك النفوس التي استشرفت طويلاً أن يختارها الرّب. ولا يسهل توقّع ردّ الفعل عند حصول الصدمة. وقد يكون من الرحمة بهم أن يتمّ تأخير خبر الاصطفاء إلى وقتِ وقوعه، حيث يكون معظمهم قد غادر سن الشباب ودخل طور النضوج والاتزان. وإذا كان سنّ الأربعين هو سن الاختيار في الغالب، فإنّهم سيعلمون الحقيقة قبل اختيار يوسف، عليه السلام. ثمّ إنّ إخبارهم بالخبر قبل الأوان ليس من الحكمة، ولا يترتّب عليه فائدة تُرجى.
ولكنّها الحكمة الربانيّة، أن يعلم يعقوب، عليه السّلام، باصطفاء ولده قبل سنين من الاصطفاء، فيترتب على ذلك غِيرة شديدة لدى الأبناء، الذين يرون في قربهم من أبيهم مقياساً لصلاحهم، وذلك في نظر أنفسهم، وفي نظر المجتمع أيضاً:"اقتلوا يوسفَ أو اطرحوهُ أرضاً يَخلُ لكم وجهُ أبيكم وتكونوا من بعدِه قوماً صالحين". فإذا لم يكن أبوهم قد انتبه إلى مأزقهم، ولا إلى الحرج الذي هم فيه، وفق تصوّرهم، فما عليهم إلا أن يُغَيّبوا يوسف، وبذلك يزول الحاجز، ويقتربوا من والدهم، الذي يمنحهم بقربه المكانة الاجتماعيّة. فتآمرهم، إذن، لم يكن من جهة فسادهم، بل كان من جهة شعورهم بالإقصاء، ورغبتهم في القبول، وهذه حالة من حالات الضعف البشريّ التي يمكن أن تسيطر على الشباب أكثر من الشيوخ الناضجين. من هنا نجد أنّ القرآن الكريم قد أشار إلى موقف متميّز لكبيرهم:"..قال كبيرُهُم ألم تعلموا أنّ أباكم قد أخذ عليكم مَوثِقاً من الله، ومِن قَبلُ ما فرّطتم في يوسف، فلن أَبرَحَ الأرضَ حتى يأذنَ لي أبي أو يَحكُم اللهُ لي، وهو خيرُ الحاكمين". (يوسف: 80)
إنّ الحكمة الربّانية في كشف غيب الاصطفاء تَجلَّت في المآلات التي آلت إليها الأمور؛ فالله، سبحانه وتعالى، يريد يوسف رسولاً إلى أمّة عظيمة ومتحضّرة. فانظر إلى عجيب القدَر، وكيف أنّ الإلقاء في البئر كان مقدمةً لإكرام مثوى يوسف،عليه السلام، يقول سبحانه تعقيباً على هذا الحدث:".. وكذلك مَكنّا ليوسفَ في الأرض، ولِنُعلّمه من تأويل الأحاديث...". ثم انظر كيف كان السجن هو المقدمة للتمكين في الأرض:"وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء..."، وبإمكانك بعد ذلك أن تتصور التأثير الكبير الناتج عن كون الرسول الكريم يتبوأ منصب العزيز في بلد كمصر.
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1657686467795471&id=1511850595712393&ref=bookmarks