في نشأة علوم القرآن وتطورها (عبد الرحمن حللي)

إنضم
23/01/2007
المشاركات
1,211
مستوى التفاعل
2
النقاط
38
الإقامة
كندا
الموقع الالكتروني
www.muslimdiversity.net
في نشأة علوم القرآن وتطورها
عبد الرحمن حللي - كاتب سوري

المصدر: موقع الملتقى الفكري

نشأت علوم القرآن تدريجياً بحسب الحاجة لفهم معاني القرآن، فكان العرب والصحابة يفهمون القرآن كونه نزل بلغتهم وقلما يغيب عنهم معنى أو يستشكل ظاهر من القرآن، ومع شروع الصحابة في جمع القرآن بدأ يتشكل علم خاص برسم القرآن، وقد تطور هذا العلم مع تطور الخط العربي ونقط المصحف وإعجامه، كما رافق ذلك الحديث عن إعراب القرآن، ومع انتشار الإسلام وتوسع الفتوحات ودخول الأعاجم في الإسلام، وكذلك توسع المعارف والعلوم، ظهرت أنواع علوم القرآن المختلفة، فظهر مبكراً الحديث عن أسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ وعلم الغريب، وكان ذلك متداخلاً مع رواية الحديث التي شكلت في واحد من فصولها نشأة علم التفسير الذي استقل فيما بعد، فكان أقدم ما وصل إلينا مستقلاً من تفسير القرآن كاملاً هو تفسير مقاتل بن سليمان (150هـ)، وأما في موضوعات علوم القرآن فألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (209هـ) في مجاز القرآن، وأبو عبيد القاسم بن سلام (224هـ) في الناسخ والمنسوخ وفي القراءات، وعلي بن المديني (234هـ) في أسباب النزول، وينسب صاحب الفهرست إلى محمد بن خلف بن المزربان (309هـ) كتاب "الحاوي في علوم القرآن"، ولعله أقدم استعمال لتعبير علوم القرآن، وجرى بعد ذلك استعمال التعبير المركب "علوم القرآن" في القرن الرابع دون أن يحمل دلالة اصطلاحية، وجاء علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي (ت:430هـ) ليؤلف كتابه "البرهان في علوم القرآن"، وهو تفسير يقع في ثلاثين مجلداً يوجد ما يقرب من نصفه مخطوطاً في مصر وغيرها، وقد ضمنه علوم القرآن في تفسير كل سورة، ويرجع الشيخ عبد العظيم الزرقاني إليه بداية إطلاق علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي الشامل لها، لكنه تناولها تطبيقاً في التفسير لا تنظيراً، "فأتى على علوم القرآن ولكن لا على طريقة ضم النظائر والأشباه بعضها إلى بعض تحت عنوان واحد لنوع واحد بل على طريقة النشر والتوزيع تبعا لانتشار الألفاظ المتشاكلة في القرآن وتوزعها حتى كأن هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات"، وقد ذكر مصطفى عبد القادر عطا في مقدمة تحقيقه للبرهان للزركشي، أن الزركشي نقل في كتابه البرهان ما قاله الحوفي في كتابه مختصراً إضافة إلى غيره، لكنه لم يذكر مستنده في ذلك، وأستبعد أن يكون عقد مقارنة بين الكتابين لأن كتاب الحوفي مخطوط وناقص وهو كتاب في التفسير، ولم يذكر الزركشي الحوفي في كتابه غير مرتين إحداهما في سياق تأليفه في إعراب القرآن، والثانية ينقل عنه رأياً من تفسيره حول آية القصاص وفصاحة القرآن، ولم أعثر له ذكراً في غير هذين الموضعين، مع ملاحظة اهتمام الزركشي بنسبة الأقوال إلى أصحابها، وكذلك تأريخه لما كتب في علوم القرآن، فيستبعد أن يكون الزركشي لخص كتاب الحوفي ضمن البرهان دون أن يشير إلى ذلك.

وفي القرنين السادس والسابع نجد ابن الجوزي (ت 597هـ) وله : "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن" و"المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن"، كما صنف علم الدين السخاوي (ت643هـ) "جمال القراء وكمال الإقراء"، و ألف أبو شامة (ت665هـ) "المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقران العزيز"، وهي كتب في جوانب متخصصة من علوم القرآن.

أما في القرن الثامن فنجد بدر الدين الزركشي، (ت794هـ)‍، وكتابه "البرهان في علوم القرآن"‍، وقد كان الزركشي من علماء الأصول والفقه الشافعي، وصنف في عدة علوم كالفقه والأصول والتفسير وغيرها، وأما كتابه البرهان فهو مطبوع في أربعة مجلدات، وقد حققه محمد أبو الفضل إبراهيم، وفيه عرض شامل وموسوعي لعلوم القرآن، حيث اختصر ما ضمنه فيه من معلومات من كتب التفسير واللغة والفقه وغيرها، فجمع آراء العلماء وأضاف إليها، وقد ذكر العشرات من أسماء الكتب والمؤلفين الذين نقل عنهم، فكان كتابه عصارة لفكرهم مضافاً إليها ما رآه الزركشي أو رجحه، لذلك كان كتابه فريداً في موضوعه من حيث كونه أول كتاب يشتمل على مختلف علوم القرآن ويعرف بها، ويمكن اعتباره أول من ألف في علوم القرآن بمعناها الاصطلاحي الذي يختص بجمع ضوابط العلوم المتصلة بالقرآن الكريم من ناحية كلية عامة.

وفي القرن التاسع: نجد جلال الدين البلقيني(ت824هـ) وكتابه:"مواقع العلوم من مواقع النجوم"، ومحمد بن سليمان الكافيجي (ت879هـ)وكتابه : "التيسير في قواعد التفسير"، ومع نهاية القرن التاسع وبداية العاشر نجد جلال الدين السيوطي (911 ه‍(، المعروف بكثرة التأليف في مختلف العلوم وبالخصوص في علمي التفسير والحديث، والمتميز بالجمع والموسوعية في التأليف، وكتابه الشهير "الإتقان في علوم القرآن" الذي يعتبر من أكثر كتب الدراسات القرآنية استيعاباً لعلوم القرآن ومن أحسنها تصنيفاً وتبويباً، وهو اختصار لكتاب آخر أسهب فيه وهو" التحبير في علم التفسير"، وقد ضمن التحبير كتاب شيخه الإمام جلال الدين البلقيني (مواقع العلوم من مواقع النجوم)،كما استفاد فيه من شيخه الكافيجي، ويبدو أنه في أثناء تصنيفه "التحبير" لم يكن قد اطلع على كتاب البرهان للإمام الزركشي، أما كتاب "الإتقان" فقد صنفه بعد أن اطلع على كتاب البرهان للإمام الزركشي، فاختصره مع إضافات كثيرة، وجعله مقدمة لتفسير كبير شرع فيه ولم يتمه. ويؤخذ عليه أنه يورد الكثير من الروايات الضعيفة والأحاديث التي لم تثبت دون تعقيب، وكذلك ذكره لبعض الآراء دون ذكر أصحابها أو التعقيب عليها رغم تفردها. ويعتبر كتاب "الإتقان" أهم مصدر للباحثين والكاتبين في علوم القرآن بل إن معظم ما ألف حديثاً في علوم القرآن مقتبس منه. ويعتبر من أوائل الكتب التي طبعت في القرن التاسع عشر فطبع في كلكتا (1271هـ/1854م)، وقد توالى طبعه، ولم يحظ بتحقيق يليق بأهميته.

ثم بعد ذلك لا نجد تأليفاً متميزاً في علوم القرآن إلى أن ظهرت النهضة الحديثة في التأليف في القرن الرابع عشر الهجري، فظهرت عشرات المؤلفات الحديثة التي اختصرت ما تقدم وأضافت إليه، وكان من عوامل تجديد التأليف فيها ظهور موضوعات جديدة وتطور أساليب التدريس، وكانت جهود المستشرقين وما أثاروه من أهم المحفزات لإعادة النظر وتمحيصه في علوم القرآن، كما ظهرت محاولات جديدة تعيد النظر في علوم القرآن من منطلق إعادة النظر في الوحي والقرآن نفسه كمصدر ورسالة وتاريخ، كمحاولات نصر حامد أبو زيد.

وتجدر الإشارة أخيراً إلى أهم ثلاثة كتب حديثة شكلت إضافة في التآليف الحديثة في علوم القرآن وكانت مرجعاً لمعظم المؤلفات الحديثة، وهي:

- مناهل العرفان في علوم القرآن، تأليف الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، وهو كتاب جامع يعتمد أسلوباً سهلاً، ضم الكثير من المادة العلمية من كتابي الزركشي والسيوطي، وأضاف إليهما مباحث جديدة لاسيما حول شبهات المستشرقين، وترجمة القرآن.

-مباحث في علوم القرآن، للدكتور صبحي الصالح، وهو بالإضافة إلى الاختصار والجمع من المصادر عني بالتدقيق في مسائل جمع القرآن ووجوه الإعجاز والبلاغة، وتطرق إلى مسائل مثارة في عصره.

- النبأ العظيم، للدكتور محمد عبد الله دراز ، وهو طريقة جديدة في تناول القرآن الكريم تركز على خصائص القرآن ومزاياه المعجزة، يتناول بعض علوم القرآن بمنهج جديد، رقيق الأسلوب والتعبير.

ولا تزال علوم القرآن بحاجة إلى جهود علمية أكثر تسد النقص في جوانب من مباحثه، وتعيد النظر في جوانب أخرى، فعلوم القرآن فيها الكثير مما يحتاج إلى المراجعة والدرس.
 
التعريف بالباحث

الدكتور: عبد الرحمن حللي
التخصص: التفسير

عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بجامعة حلب - سوريا

حصل على إجازة في الشريعة من جامعة دمشق عام 1994
وحصل على درجة الماجستير عام 1998 من جامعة الزيتونة بتونس
وحصل على درجة الدكتوراه عام 2004 من جامعة الزيتونة بتونس بتقدير: مشرف جداً
وكانت رسالته: دعوة الرسل بين الخصوصية والتكامل في القرآن الكريم

الكتب التي ألفها (عدا الماجستير والدكتوراه)
حجية مذهب الصحابي – المكتب الإسلامي – بيروت 1997
مفهوم الكنز في الإسلام - المكتب الإسلامي – بيروت 1997
خطاب التجديد الإسلامي (بالاشتراك) – دار الفكر – دمشق 2004
الإسلام والإرهاب – تحت الطبع
باحث مشارك في الموسوعة الإسلامية الميسرة الصادرة في حلب 1997 .
باحث مشارك في موسوعة أعلام العرب والمسلمين التي تعدها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (السكو).

وله العديد من البحوث في المجلات العلمية المحكمة
 
جزيتم خيراً
قد يكون ما وصل إليه الدكتور حللي هو ما توصل إليه د. محمد يوسف الشربجي في بحث منشور محكم في مجلة جامعة دمشق 1996/ من أن أول من ألف في علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي هو ابن الجوزي في القرن السادس عندما وضع كتابه فنون الأفنان في عيون علوم القرآن وناقش في بحثه هذا جميع الأقول بهذه الأولية، والله أعلم بالصواب.
 
وهناك مقال آخر للكاتب، مشور في رابطة أدباء الشام، أحببت نقله هنا.


المصدر
في نشأة علم «أصول التفسير»
وصلته بالعلوم الأخرى


عبد الرحمن حللي *
التأمل في الخطاب القرآني المتعلق بالنظر والمعرفة كموجه ومرشد يبرز الآفاق الرحبة التي لا حدود لها في الحضِّ على المعرفة والتأمل في الآفاق والأنفس، بل وفي النص نفسه وتدبر كلماته وآياته، وفي ذلك اشارة صريحة الى وجوب البحث، مع الإقرار باستحالة انسداد آفاقه سواء في النص أو الكون، ففيهما أسرار إلهية ومعان وسنن جعلها الله منارات يصل من خلالها الإنسان الى المعرفة والقوانين التي أقام الله الحياة على أساسها، من هذا المنطلق القرآني تحركت المعرفة في سياقها الحضارية الإسلامي، منضبطة بالقيم والمحفزات القرآنية دون أن تكون أسيرة لنصه أو متعسفة في البحث فيه عما أرشد الى وجوده في غيره.
وقد سارت الحضارة الإسلامية وتعاقبت طبقات التاريخ بين مد وجزر الى أن آلت الى مراحل تراجعت فيها المعرفة، دون أن تنهار العلاقة القدسية مع النص، لكن هذه العلاقة أخذت النص الى مسار مختلف لم يأت من أجله، فجعلت منه كتاباً يحوي كل العلوم، واتجه التأويل لاستخراج العلوم منه من دون لحظ طبيعة النص وخصائصه والرسالة التي جاء من أجلها، فحل الإسقاط على النص محل الاستمداد منه، وتم الأمر نفسه لدواع أخرى مذهبية أو سياسية أو غيرها، بوعي أو من دونه، لكن هذا الإسقاط متنوع المظاهر والدواعي لا يلغي وجود صلة ما بين النص وبين المجالات التي رُبط بها، على أن هذه الصلة ينبغي أن تؤخذ ضمن مسارها الطبيعي المرتبط بمسار النص كحامل للرسالة الخاتمة.
ومما يعزز هذه الصلة بين القرآن والمعرفة عموماً، الأثر الذي تركه القرآن في مختلف العلوم والمعارف، فأصبح علم التفسير الحاضن الأساسي للعلوم التي ولدت في الحضارة الإسلامية، فعاشت تلك العلوم في كنفه الى أن بلغت الرشد واستقلت بذاتها، وأصبحت علماً له قوانينه التي لا بد لدارس القرآن من معرفتها.
ومع ظهور إفراد تفسير القرآن بالتأليف في القرن الثاني للهجرة، بدأت تظهر حاجة المفسرين الى العلوم الأخرى، بحسب موضوعات القرآن، بل ولد من رحم تفسير القرآن علوم جديدة اختصت بالقرآن الكريم، وذلك في ضوء الحاجة الى ذلك، وفي القرن الثامن الهجري ظهر اصطلاح علمي خاص يجمع أصول هذه العلوم التي تدور حول القرآن وما يحتاجه المفسر، ويعرِّف بها في علم واحد هو «علوم القرآن»، وذلك مع الإمام بدر الدين الزركشي (ت 794هـ)، صاحب «البرهان في علوم القرآن»، فكان أول من ألف في علوم القرآن بمعناها الاصطلاحي الذي يختص بجمع ضوابط العلوم المتصلة بالقرآن الكريم من ناحية كلية عامة، ودرج من بعده الحديث عن علوم القرآن كمصطلح خاص.
وكان من بين القضايا التي تطرقت اليها كتب علوم القرآن شروط المفسر، والأصول والقواعد والضوابط التي يحتاجها المفسر، وهي موضوعات سبق وتطرقت اليه كتب خاصة، وهي بعض ما غدا يعرف حديثاً بـ «أصول التفسير»، أو ما كان يسمى «القواعد الكلية» بحسب ابن تيمية، أو «قانون التأويل» بحسب تسمية الغزالي وتلميذه ابن العربي، أو «علم التفسير» بحسب تسمية الطوخي.
فأصول التفسير مبحث تفرقت موضوعاته في مقدمات بعض المفسرين لتفاسيرهم، وفي كتب علوم القرآن وكتب اللغة وأصول الفقه، ويتناول دراسة الشروط الواجب توفرها في المفسر، والعلوم التي يحتاج اليها المفسر، وأهم قواعد التفسير، اللغوية والأصولية والاستقرائية، فموضوعه «قواعد كلية تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه»، فهو أحد علوم القرآن، وقد ضمن المصنفون - المتقدمون والمتأخرون - في علوم القرآن موضوعاته ضمن كتبهم، فثمة تداخل بين أصول التفسير وعلوم القرآن، لكن علوم القرآن أشمل، وقد تتوسع بعض كتب أصول التفسير الى مسائل من علوم القرآن، كما أن من علوم القرآن ما لا علاقة له بالتفسير، انما هو من قبيل الإحصاء والتوثيق والتأريخ، وأهم وظيفة يؤديها علم أصول التفسير هي ضبط الاستنباط والفهم، والترجيح عند الاختلاف، إذ فيه الأسس والقواعد التي يعرف بها تفسير كلام الله، والشروط والمقدمات العلمية التي يحتاجها المفسر. وقد أصبح البحث عن أصول للتفسير والتأويل هاجساً لدى المشتغلين بالتفسير حديثاً، وقد اهتم به من المتأخرين المعلم عبدالحميد الفراهي الهندي في كتابه «التكميل في أصول التأويل»، لكن هذا المشروع لم يكتمل مساره، رغم كثرة اللبنات في بنائه، إذ المطلوب من هذا العلم أن يعمل في التفسير ما عملته أصول الفقه في الفقه، وأصول الحديث في الحديث، أي أن يصبح هذا العلم بمثابة قانون يضبط العملية التفسيرية.
لكن عدم اكتمال بناء أصول التفسير كعلم لا يعني عدم وجود تلك الأصول والضوابط والمعايير، والتي تمثل كليات في العلوم التي يحتاجها المفسر، لذلك كانوا يشترطون لمن يمارس التفسير أن يكون عالماً بتلك العلوم، لكن العلم بها لا يغني عن استخلاصها وتجريدها كمبادئ ذات صلة مباشرة بالتفسير.
وتبرز أهمية العناية بأصول التفسير في العصر الحديث من ناحيتين، الأولى صعوبة إحاطة المفسر بالعلوم التي ذكرت كشرط للتفسير نظراً لتطور هذه العلوم واتساعها، ومن ناحية ثانية انه عندما يتعمق الباحث بواحد من هذه العلوم يطغى على العلوم الأخرى ويترك أثره في تفسيره، وهذا ما نلمسه في مناهج المفسرين المتقدمين، حتى أصبحت التفاسير توسم بالعلم الذي اصطبغت به أو أثر ذلك العلم فيها، كالتفسير اللغوي، والتفسير الفقهي، والتفسير بالمأثور، والتفسير الصوفي...، وهذا ان كان لوناً من التفسير إلا أنه ليس التفسير الأمثل الذي تقتضيه الضوابط التي وضعها المفسرون، بل لا يصح واحد منها ما لم يلتزم بمقتضيات العلوم الأخرى.
هذا التواشج بين العلوم وبين التفسير والجدل التاريخي بينها (استيلاداً للعلوم أو توظيفاً لها) أصبح في العصر الحديث أشد الحاحاً وأعمق إشكالاً، من ناحيتي دعوى احتواء القرآن على بعض العلوم أو كلها أو صلاحية أي علم لأن يوظف في فهم القرآن، وقد وجد المخلص والمسيء بين مدعي كل من الإشكالين أو معارضيهما، كما وجد العالم والمتعالم في تعاطيهما، لكن الدقة تقتضي الحذر في الأحكام المطلقة في القضيتين، وارجاع تعاطيهما الى اعتبارين أساسيين في أي مقاربة للقرآن: الأول هو لحظ طبيعة القرآن عند درسه وهي كونه حاملاً لرسالة إلهية، وخطاباً للعالمين يتضمن محتوى يطلب من المخاطب التعاطي معه، وأي تجاوز لهذا المستوى يدخل في اسقاط معنى على القرآن لم يأت لبيانه وإن كان أشار اليه. والاعتبار الثاني هو لحظ كون القرآن انما هو نص صيغ بلغة عربية لها قوانينها ومعانيها وأساليبها، ولا يستقيم فهم القرآن من غير الأخذ في الاعتبار البعد النصي والبعد اللغوي للقرآن، ففي البعد النصي ينبغي لحظ تكامل النص وإفصاح بعضه عن بعضه، وأثر بنيته في فهمه، وكيفية صوغ أساليبه وخطابه، وفي البعد اللغوي ينبغي لحظ لغة عصر نزوله وما قبلها، ولغة القرآن في علاقته مع هذه اللغة، فضلاً عن قوانين العربية ومعاني مفرداتها.
وعند مرعاة هذين المعيارين يمكن نقد الدراسات المعاصرة للقرآن ومدى الدقة العلمية فيها على تنوع مناهجها وتخصصاتها. ولا بد للدارس عند مراعاتهما أن يلحظ متفرعات عنهما ولوازم لهما، وستكون مشكلات كالتي يثيرها ما يسمى التفسير أو الإعجاز العلمي، أو القراءة المعاصرة للقرآن، أو استخدام العلوم الحديثة في فهم القرآن، غير ذات بال أو أثر لأن لحظ البعد الإلهي والهدائي للقرآن كرسالة سيبعد نسبة شيء الى القرآن لا يدخل في هذا الإطار، وكذلك الشأن في لحظ الضابط النصي واللغوي يمنع الإسقاط ويساهم في الاستمداد المنهجي للمعنى من القرآن، وهذا هو موضوع «أصول التفسير» كعلم لم يكتمل بناؤه.
adab18.gif
adab18.gif
adab18.gif


* كاتب سوري.
 
عودة
أعلى