عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 136
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
هذا مقال نشر في جريدة عكاظ يوم الخميس 14/8/1427هـ (7/9/2006م) العدد 1908 بعنوان :
[align=center]في مفهومية المرجعية القرآنية
النص الإلهي يدعو إلى التفكير وينهى عن التبعية[/align]
للكاتب وليد سامي أبو الخير- طالب دراسات العليا في اصول الفقه .
[email protected]
وقد طرح الكاتب في مقاله مسائل جديرة بالنقاش ، فإليكم نص المقال :
تبقى إشكالية ماهية المرجعية المعرفية للفرد المسلم ومن ثم الجماعة المسلمة هي الاشكالية الاعمق غوراً في التراث الاسلامي، باعتبارها الاعوص تاريخياً من جهة،ومن جهةاخرى بالنظر الى حجم ما يعتور هذه القضية من التباس مفاهيمي عميم، وفي كل الاحوال فإنني سأقصر الحديث هنا على معالجة بعض الالتباسات المصاحبة لمفهومية المرجعية القرآنية دون غيرها، تقدمة لما هو اولى بالتقديم، ثم لكيلا يتشعب بنا المقام ويطول.
ان جمعا من المفسرين الذين عمموا مدلول الآيتين التاليتين دونما مستند يصح التوكؤ عليه، هما قوله تعالى:«ما فرطنا في الكتاب من شيء «وقوله»: «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء». فالقرطبي مثلا في كتابه احكام القرآن استطرد قائلاً: وقد قال بعض من طعن في الدين ان الله يقول:«ما فرطنا في الكتاب من شي» فأين التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك؟ فقيل له في قوله تعالى:«بما ينفع الناس» وفي قوله:«وما انزل الله من السماء من ماء»!
كما ان ابن كثير في تفسيره احتج برأي ابن مسعود القائل فيه:«قد تبين لنا في هذا القرآن علم كل شيء لكن علمنا يقصر عما بين لنا» رادا باحتجاجه ذاك رأي مجاهد بأن التبيان المقصود به كل حلال وكل حرام ليقول ان رأي ابن مسعود اعم واشمل، فالقرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام وما الناس اليه محتاجون في امر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم.
وان كنا لسنا في حاجة لأن نطيل الرد على هذا الرأي المشتهر تراثيا بيد اننا نلفت سريعا عناية القارئ المهتم الى التفات ابن الجوزي لهذا الخطأ الدلالي الكبير والذي وقع فيه كثير ممن سبقه وممن لحقه من علماء الامة، فبين ان تلكما الآيتين انما هي الفاظ عامة اريد بها معنى خاص،حالها حال قوله تعالى الذي جاء واصفا لريح عاد:«تدمر كل شيء بأمر ربها» فهل دمرت السماوات والارض؟ وقوله تعالى عن ملكة سبأ:«واوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم» فهل ملكت السماوات والارض؟ اذن لا مفر من تخصيص العام والقول بأن القرآن جاء تبيانا للأمور الكلية التي يستقيم بها امر الدين، ولم يأت مضمنا معانيه توابل الطعام او منافع الدنيا او حوادث الكون (تجدر الاشارة هنا الى ان بعضا من المفسرين قد حمل الاية الاولى على معنى آية سورة الكهف «مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها» وهو حمل جيد يعضّده السياق) ومما تناثر في كتب اصول الفقه ان المعاني المستنبطة اما ان تكون مقصودة جاء النص الشرعي لها واما ان تكون غير مقصودة، فإن كانت الاخيرة غدت على ضربين اما ان السياق يقتضيها باشارته او بدلالته لها لغة او باقتضائه لها عقلا، وبناء على ما سبق فإنك لن تجد ابدا معنى التوابل في القرآن، اللهم الا أن يكون الزاما بما لا يلزم، الالزام الذي ان تنبهنا له لوجدنا وبتقديراولي ان ما يربو عن ثلث موروثاتنا الشرعية هي من ذلكم القبيل، لا سيما ما كان منها متعلقا باجتهادات الأئمة السابقين، وما دام ان الامر كذلك فليس خافيا عظم قيمة الدعوات الرامية الى تجديد التراث واعادة النظر فيه.
اننا ان قلنا بأن القرآن كتاب هداية فالذي يلزم قائله ان القرآن لم يفرط في شيء مما يتصل من قريب او من بعيد بموضوع الهداية، والكلام من هذه الجهة لا يعتريه لبس او غموض، بيد اننا ان قلنا بأن القرآن شفاء عضوي للأمراض للزم من ذلك ان تصدقه الوقائع المتكاثرة المفيدة للقطع، وكذلك اذا قلنا بأن القران كتاب معرفي شامل فالذي يجب الا تخلو منه نظرية معرفية كبرى سواء اكان ذكرها قد ورد تحديدا ام تعريضا ومن هذه الجهة يبدأ الخلط والتلبيس، وتتجلى الممارسة الانتقائية لعدد ممن انتسبوا للظاهرة الاسلامية، فعلى سبيل المثال نقف على استشهادات عدة لبعض من حمّل معاني القرآن فوق ما تحتمل، كقوله تعالى:«بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم. تدمر كل شيء بأمر ربها» باعتبارها ذات دلالة مستقبلية على توافر القنبلة النووية، وكقوله تعالى:« ويخلق ما لاتعلمون» على ان المراد بها وسائل النقل الحديثة، وقوله تعالى:«فيه شفاء للناس». على ان به علاج من الايدز والسرطان، الى ما هنالك من امثلة عجيبة، بعضها يشتط ليلوي اعناق الآيات القرانية تدليلا بها على جريان الحوادث الكونية،كما تناهى الى سمع الكثيرين من ان وقائع احداث 11 سبتمبر لها علاقة وطيدة بآيات سورة التوبة، وان نهاية دولة اسرائيل لها ارتباط وثيق بسورة الاسراء!!
صحيح ان ما توصل اليه العلم الحديث يعين الباحث الشرعي على فهم بعض مفردات القرآن كلفظة «البسط» لكن الخطأ بعينه يوم ان يقحم الباحث المعارف جلها في تضاعيف القرآن بحيث يتماشى معها موافقة كلما تغيرت نظرياتها من وقت الى وقت ومن مكان الى مكان، وهذا الذي حدث بالفعل عندما كفر قوم نعرفهم قديما وحديثا من قال بدوران الارض واستدارتها اعتمادا على ما ظنوه هم دلالة قرآنية قطعية وهي ليست كذلك.
انه لما كان النص القرآني يدعو الى التفكير المطلق وينهى عن التقييد والتبعية كان حريا بالمؤمنين به ان يجعلوه في منأى بعيد عن الحاقه بنظريات العلوم وكيفيات الكون، فالاخيرة ليست هي مناطات بحثه حتى تلصق به تبعا وتقييدا تارة وتلفيقا او توفيقا تارة اخرى. لقد كانت فضيلة القرآن الكبرى انه هدى العقل الى البحث والتعمق وقبول كل مستحدثات العلوم والمعارف الانسانية على اختلاف مشاربها ومن ثم سبرها وتحصيل الصالح منها،ولم تكن فضيلته قط باقعاد المؤمنين به واكتفائهم بما حووا في الازمان الغابرة مرددين دوما ان الاسلام هو الحل وان القران هو الدستور، معتقدين بذلك انهم قد حصلوا على جميع العلوم،بينما الحقيقة تقول انهم في مؤخرة الركب المعرفي، فأضحى القران بالنسة لهم دستورا «شعاراتيا» وهم من هم؟ الا انهم لا دستور لهم، فالذي يعجز عن استحداث دواء للأدواء المستعصية يلوذ بالقول ان القرآن فيه الشفاء، ومن لم يحمل طيلة حياته مناظير فلكية راح ينتشي بترائي الكون له من خلال النص القرآني!.
لقد شاع الطب بين المسلمين وتقدم تقدما هائلاً في الحضارة الاسلامية لما لم يكن الفقهاء يشيعون بين الناس ظاهرة المعالجة بالقرآن، وعُرف في حينها ومن بعدها اسماء لامعة على مستوى العالم اجمع، مثل ابي بكر الرازي، وابن سينا، وابن رشد، والزهراوي وغيرهم من المسلمين، وكتب هؤلاء انتشرت في العالم مثل (الحاوي) للرازي، و (القانون) لا بن سينا، و (الكليات) لابن رشد، و (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي، بل وجدنا من علماء المسلمين الفقهاء من يجيد الطب، فابن رشد نفسه كان فقيهاً والف كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن، والضروري في اصول الفقيه، وفخر الدين الرازي صاحب الكتب الشهيرة في التفسير والاصول وعلم الكلام وغيرها، ومع كل ذلك فقد قالوا عنهما:«كانت شهرتهما في علم الطب لا تقل عن شهرتهما في علوم الدين» وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى يعد من فقهاء الشافعية، وترجم له تاج الدين السبكي في كتاب(طبقات الشافعية) على انه احد فقهاء هذا المذهب، واليوم وياللاسف نجد الذي اتخذ القرآن دستوره في المعالجة العضوية هو من عامة المسلمين، جهلا بأحكام الشريعة فضلا عن احكام الطب، فلا هو ملك هذا ولا ذاك، وانما راح يتاجر باحدهما! وادعوك ايها القارئ العزيز لأن نتأمل جيدا حال اولئك الذن اشتهروا بمسمى (الراقي فلان) وما يكون منهم من اشاعة لاعمال هي في تاريخنا التشريعي لم تكن البتة من عمل الصحابة ولا من عمل سلف الامة في خير قرونها.
وان نحن عرجنا قليلا على الواقع السياسي الاسلامي القديم نجد ازمة التحكيم ممثلة نقطة البداية في مسار الانحدار المعرفي، وقد انقسم الناس ازاءها الى فرق كثيرة كلها ترفع القرآن اعلى رأسها وتدعي المحاكمة اليه، وتمسكت كل فرقة برأيها واستندت في تأييده الى آية من القرآن، كما انها كفرت الآخرين استناداً ايضاً الى اية من القرآن، وهكذا حدث تحريف لمعاني الآيات القرآنية التي استخدمت لتحقيق أهداف سياسية، او اغراض حزبية، وغابت عن الاذهان الى اليوم مقولة عمر بن الخطاب «فإن جادلوك فجادلهم بالسنة فإن القرآن حمّال وجوه» وظل جمع غفير من حامليه مزيفيه، حتى لما حارب الطهطاوي حديثا ما أسماه بالظاهرة الصوتية مناديا بضرورة استحداث تيار تجديدي احيائي ما لبثت دعوته تلك ان خفت صوتها دون ابواق «الشعاراتية» الذين اول ما حاربوا حاربوا الطهطاوي نفسه !! وهو القائل:« انه لم تخرج احكام السياسة عن المذاهب الشرعية، لأنها اصل وجميع مذاهب السياسات عنها بمنزلة الفرع «الا ان الذين ادانوه قد ركبوا شططا وكسبوا تعسا.
ورغم كل ذلك فإن الله جل في علاه قد قال بعد انقضاء قصص القوم الغابرين :«تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم «فنحن لسنا مسؤولين ابدا عن تبعات اعمال غيرنا، كما اننا لسنا حائزين على فضلهم واجرهم، انما نحن نحن، علينا ان نكد ونشقى في سبيل التحصيل الدنيوي والمعرفي مطلقين العنان لحرية الفكر والتعبير والنظر، هذا اذا اردنا ان نجسد تعاليم القرآن واقعا فينا والا فسنبقى دهورا طويلة نردد جذلين: القرآن منهجنا، القرآن دستورنا، القرآن هو الحل .. ولا شيء من قرآننا يكون على ارض واقعنا !
المصدر
[align=center]في مفهومية المرجعية القرآنية
النص الإلهي يدعو إلى التفكير وينهى عن التبعية[/align]
للكاتب وليد سامي أبو الخير- طالب دراسات العليا في اصول الفقه .
[email protected]
وقد طرح الكاتب في مقاله مسائل جديرة بالنقاش ، فإليكم نص المقال :
تبقى إشكالية ماهية المرجعية المعرفية للفرد المسلم ومن ثم الجماعة المسلمة هي الاشكالية الاعمق غوراً في التراث الاسلامي، باعتبارها الاعوص تاريخياً من جهة،ومن جهةاخرى بالنظر الى حجم ما يعتور هذه القضية من التباس مفاهيمي عميم، وفي كل الاحوال فإنني سأقصر الحديث هنا على معالجة بعض الالتباسات المصاحبة لمفهومية المرجعية القرآنية دون غيرها، تقدمة لما هو اولى بالتقديم، ثم لكيلا يتشعب بنا المقام ويطول.
ان جمعا من المفسرين الذين عمموا مدلول الآيتين التاليتين دونما مستند يصح التوكؤ عليه، هما قوله تعالى:«ما فرطنا في الكتاب من شيء «وقوله»: «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء». فالقرطبي مثلا في كتابه احكام القرآن استطرد قائلاً: وقد قال بعض من طعن في الدين ان الله يقول:«ما فرطنا في الكتاب من شي» فأين التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك؟ فقيل له في قوله تعالى:«بما ينفع الناس» وفي قوله:«وما انزل الله من السماء من ماء»!
كما ان ابن كثير في تفسيره احتج برأي ابن مسعود القائل فيه:«قد تبين لنا في هذا القرآن علم كل شيء لكن علمنا يقصر عما بين لنا» رادا باحتجاجه ذاك رأي مجاهد بأن التبيان المقصود به كل حلال وكل حرام ليقول ان رأي ابن مسعود اعم واشمل، فالقرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام وما الناس اليه محتاجون في امر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم.
وان كنا لسنا في حاجة لأن نطيل الرد على هذا الرأي المشتهر تراثيا بيد اننا نلفت سريعا عناية القارئ المهتم الى التفات ابن الجوزي لهذا الخطأ الدلالي الكبير والذي وقع فيه كثير ممن سبقه وممن لحقه من علماء الامة، فبين ان تلكما الآيتين انما هي الفاظ عامة اريد بها معنى خاص،حالها حال قوله تعالى الذي جاء واصفا لريح عاد:«تدمر كل شيء بأمر ربها» فهل دمرت السماوات والارض؟ وقوله تعالى عن ملكة سبأ:«واوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم» فهل ملكت السماوات والارض؟ اذن لا مفر من تخصيص العام والقول بأن القرآن جاء تبيانا للأمور الكلية التي يستقيم بها امر الدين، ولم يأت مضمنا معانيه توابل الطعام او منافع الدنيا او حوادث الكون (تجدر الاشارة هنا الى ان بعضا من المفسرين قد حمل الاية الاولى على معنى آية سورة الكهف «مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها» وهو حمل جيد يعضّده السياق) ومما تناثر في كتب اصول الفقه ان المعاني المستنبطة اما ان تكون مقصودة جاء النص الشرعي لها واما ان تكون غير مقصودة، فإن كانت الاخيرة غدت على ضربين اما ان السياق يقتضيها باشارته او بدلالته لها لغة او باقتضائه لها عقلا، وبناء على ما سبق فإنك لن تجد ابدا معنى التوابل في القرآن، اللهم الا أن يكون الزاما بما لا يلزم، الالزام الذي ان تنبهنا له لوجدنا وبتقديراولي ان ما يربو عن ثلث موروثاتنا الشرعية هي من ذلكم القبيل، لا سيما ما كان منها متعلقا باجتهادات الأئمة السابقين، وما دام ان الامر كذلك فليس خافيا عظم قيمة الدعوات الرامية الى تجديد التراث واعادة النظر فيه.
اننا ان قلنا بأن القرآن كتاب هداية فالذي يلزم قائله ان القرآن لم يفرط في شيء مما يتصل من قريب او من بعيد بموضوع الهداية، والكلام من هذه الجهة لا يعتريه لبس او غموض، بيد اننا ان قلنا بأن القرآن شفاء عضوي للأمراض للزم من ذلك ان تصدقه الوقائع المتكاثرة المفيدة للقطع، وكذلك اذا قلنا بأن القران كتاب معرفي شامل فالذي يجب الا تخلو منه نظرية معرفية كبرى سواء اكان ذكرها قد ورد تحديدا ام تعريضا ومن هذه الجهة يبدأ الخلط والتلبيس، وتتجلى الممارسة الانتقائية لعدد ممن انتسبوا للظاهرة الاسلامية، فعلى سبيل المثال نقف على استشهادات عدة لبعض من حمّل معاني القرآن فوق ما تحتمل، كقوله تعالى:«بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم. تدمر كل شيء بأمر ربها» باعتبارها ذات دلالة مستقبلية على توافر القنبلة النووية، وكقوله تعالى:« ويخلق ما لاتعلمون» على ان المراد بها وسائل النقل الحديثة، وقوله تعالى:«فيه شفاء للناس». على ان به علاج من الايدز والسرطان، الى ما هنالك من امثلة عجيبة، بعضها يشتط ليلوي اعناق الآيات القرانية تدليلا بها على جريان الحوادث الكونية،كما تناهى الى سمع الكثيرين من ان وقائع احداث 11 سبتمبر لها علاقة وطيدة بآيات سورة التوبة، وان نهاية دولة اسرائيل لها ارتباط وثيق بسورة الاسراء!!
صحيح ان ما توصل اليه العلم الحديث يعين الباحث الشرعي على فهم بعض مفردات القرآن كلفظة «البسط» لكن الخطأ بعينه يوم ان يقحم الباحث المعارف جلها في تضاعيف القرآن بحيث يتماشى معها موافقة كلما تغيرت نظرياتها من وقت الى وقت ومن مكان الى مكان، وهذا الذي حدث بالفعل عندما كفر قوم نعرفهم قديما وحديثا من قال بدوران الارض واستدارتها اعتمادا على ما ظنوه هم دلالة قرآنية قطعية وهي ليست كذلك.
انه لما كان النص القرآني يدعو الى التفكير المطلق وينهى عن التقييد والتبعية كان حريا بالمؤمنين به ان يجعلوه في منأى بعيد عن الحاقه بنظريات العلوم وكيفيات الكون، فالاخيرة ليست هي مناطات بحثه حتى تلصق به تبعا وتقييدا تارة وتلفيقا او توفيقا تارة اخرى. لقد كانت فضيلة القرآن الكبرى انه هدى العقل الى البحث والتعمق وقبول كل مستحدثات العلوم والمعارف الانسانية على اختلاف مشاربها ومن ثم سبرها وتحصيل الصالح منها،ولم تكن فضيلته قط باقعاد المؤمنين به واكتفائهم بما حووا في الازمان الغابرة مرددين دوما ان الاسلام هو الحل وان القران هو الدستور، معتقدين بذلك انهم قد حصلوا على جميع العلوم،بينما الحقيقة تقول انهم في مؤخرة الركب المعرفي، فأضحى القران بالنسة لهم دستورا «شعاراتيا» وهم من هم؟ الا انهم لا دستور لهم، فالذي يعجز عن استحداث دواء للأدواء المستعصية يلوذ بالقول ان القرآن فيه الشفاء، ومن لم يحمل طيلة حياته مناظير فلكية راح ينتشي بترائي الكون له من خلال النص القرآني!.
لقد شاع الطب بين المسلمين وتقدم تقدما هائلاً في الحضارة الاسلامية لما لم يكن الفقهاء يشيعون بين الناس ظاهرة المعالجة بالقرآن، وعُرف في حينها ومن بعدها اسماء لامعة على مستوى العالم اجمع، مثل ابي بكر الرازي، وابن سينا، وابن رشد، والزهراوي وغيرهم من المسلمين، وكتب هؤلاء انتشرت في العالم مثل (الحاوي) للرازي، و (القانون) لا بن سينا، و (الكليات) لابن رشد، و (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي، بل وجدنا من علماء المسلمين الفقهاء من يجيد الطب، فابن رشد نفسه كان فقيهاً والف كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن، والضروري في اصول الفقيه، وفخر الدين الرازي صاحب الكتب الشهيرة في التفسير والاصول وعلم الكلام وغيرها، ومع كل ذلك فقد قالوا عنهما:«كانت شهرتهما في علم الطب لا تقل عن شهرتهما في علوم الدين» وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى يعد من فقهاء الشافعية، وترجم له تاج الدين السبكي في كتاب(طبقات الشافعية) على انه احد فقهاء هذا المذهب، واليوم وياللاسف نجد الذي اتخذ القرآن دستوره في المعالجة العضوية هو من عامة المسلمين، جهلا بأحكام الشريعة فضلا عن احكام الطب، فلا هو ملك هذا ولا ذاك، وانما راح يتاجر باحدهما! وادعوك ايها القارئ العزيز لأن نتأمل جيدا حال اولئك الذن اشتهروا بمسمى (الراقي فلان) وما يكون منهم من اشاعة لاعمال هي في تاريخنا التشريعي لم تكن البتة من عمل الصحابة ولا من عمل سلف الامة في خير قرونها.
وان نحن عرجنا قليلا على الواقع السياسي الاسلامي القديم نجد ازمة التحكيم ممثلة نقطة البداية في مسار الانحدار المعرفي، وقد انقسم الناس ازاءها الى فرق كثيرة كلها ترفع القرآن اعلى رأسها وتدعي المحاكمة اليه، وتمسكت كل فرقة برأيها واستندت في تأييده الى آية من القرآن، كما انها كفرت الآخرين استناداً ايضاً الى اية من القرآن، وهكذا حدث تحريف لمعاني الآيات القرآنية التي استخدمت لتحقيق أهداف سياسية، او اغراض حزبية، وغابت عن الاذهان الى اليوم مقولة عمر بن الخطاب «فإن جادلوك فجادلهم بالسنة فإن القرآن حمّال وجوه» وظل جمع غفير من حامليه مزيفيه، حتى لما حارب الطهطاوي حديثا ما أسماه بالظاهرة الصوتية مناديا بضرورة استحداث تيار تجديدي احيائي ما لبثت دعوته تلك ان خفت صوتها دون ابواق «الشعاراتية» الذين اول ما حاربوا حاربوا الطهطاوي نفسه !! وهو القائل:« انه لم تخرج احكام السياسة عن المذاهب الشرعية، لأنها اصل وجميع مذاهب السياسات عنها بمنزلة الفرع «الا ان الذين ادانوه قد ركبوا شططا وكسبوا تعسا.
ورغم كل ذلك فإن الله جل في علاه قد قال بعد انقضاء قصص القوم الغابرين :«تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم «فنحن لسنا مسؤولين ابدا عن تبعات اعمال غيرنا، كما اننا لسنا حائزين على فضلهم واجرهم، انما نحن نحن، علينا ان نكد ونشقى في سبيل التحصيل الدنيوي والمعرفي مطلقين العنان لحرية الفكر والتعبير والنظر، هذا اذا اردنا ان نجسد تعاليم القرآن واقعا فينا والا فسنبقى دهورا طويلة نردد جذلين: القرآن منهجنا، القرآن دستورنا، القرآن هو الحل .. ولا شيء من قرآننا يكون على ارض واقعنا !
المصدر