طارق مصطفى حميدة
New member
في ظلال أسماء السور القرآنية (9)
وقد سبق حديث عن بني إسرائيل، وهذه المقالة مخصصة عن سورة الروم، ويستدعي الحديث عنها عدداً من الأسئلة، من مثل: ما الحكمة من تسمية المغلوب وعدم تسمية الغالب؟ وما حكمة التعبير عن غلَبهم بالمبني للمجهول: " غُلبت"؟ وما الحكمة من جعل الروم اسماً لسورة وعدم الاكتفاء بالإخبار عما وقع عليهم وما سيقع منهم؟ وهل من أحاديث نبوية أو أقوال للصحابة في موضوع الروم؟
بداية فإن للأستاذين الكريمين بسام جرار وأحمد نوفل، وغيرهما من أهل العلم والفضل، كلاماً نفيساَ في الموضوع لن نتوانى عن الاقتباس منه.
فأما أن السورة تحدثت عما أصاب الروم بصيغة المبني للمجهول فيبدو، والله أعلم، أنها لبيان أن هؤلاء القوم مهما بلغوا من القوة، وكثيراً ما يكونون أقوياء ظاهرين، فإن هزيمته ليست بالمستحيلة، ولئن أمكن في هذه المعركة التي سجلها القرآن الكريم، أن يغلبهم الفرس الوثنيون، فما أيسر أن يهزمهم شرَّ هزيمة المسلمون الموحدون، وكان هذا الدرس ضروريا للمسلمين أن ينغرس في نفوسهم حتى وهم لا يزالون مستضعفين في مكة، حتى إذا قامت دولتهم بعد الهجرة فقد كانت الاحتكاكات العسكرية الأولى للمسلمين خارج الجزيرة العربية هي مع الروم وذلك في مؤتة وتبوك وبعث أسامة الذي ألحّ الرسول عليه السلام على ضرورة إنفاذه وهو في مرض موته، ثم أنفذه أبو بكر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بالرغم مما كان يهدد دولة المسلمين الفتية آنذاك خاصة بالنسبة للمرتدين، وظل هذا الدرس يلهم المسلمين في كل مواجهاتهم الهجومية والدفاعية مع الروم، منذ ذلك التاريخ.
وأما أن السورة قد ذكرت المغلوب ولم تسمّ الغالب، واستحق الروم أن تسمى باسمهم سورة تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ فلعله أولاً لأن الروم سيظلون في حالة عداء وصراع مع أمة القرآن آماداً طويلة، وسيكون بين الفريقين صولات وجولات، وسيكونون التحدي الأكبرمن لدن العهد النبوي وحتى قيام الساعة، من مؤتة إلى تبوك إلى بعث أسامة، فاليرموك، وفتوح الأندلس وإخراج المسلمين منها بعد قرون، ثم الحروب الصليبية ففتح القسطنطينية، وليس أخيراً إسقاط الخلافة والاستعمار الحديث وإقامة كيان مغتصب في فلسطين، وتمزيقنا بخطط سايكس- بيكو ورعاية الدكتاتوريات التي تحول دون وحدتنا وعودتنا لديننا.
هذا بخلاف الفرس الذين دخلوا بجملتهم في الإسلام واندمجوا في أمة المسلمين وظلت عامة بلادهم منذ زمن الفتوح ضمن ديار المسلمين، ولا يعتد بسيطرة البدعة في العقود الأخيرة على ما كان يمثل دولة الفرس، وما يجري من محاربة السنة والإكراه على التشيع.
واللافت أن عمرو بن العاص رضي الله عنه، لما تأكد له إخبار النبي عليه السلام أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس، قد اعتبر ذلك ثناء عليهم، وإقراراً بفضلهم، وتأكيداً على نفاسة معدنهم؛ على قاعدة البقاء للأصلح، ولذلك أورد رضي الله عنه عدداً من خصائصهم التي يتميزون بها، مع أن بالإمكان فهم هذا القول النبوي أيضا في ضوء الأحاديث الشريفة التي تخبر أن الساعة تقوم على شرار الناس.
لكن في البداية يجدر التنبيه إلى صفتين للروم أوردهما ابن العاص هما الألصق بمطلع سورة الروم والدرس الخالد المطلوب، وهما أنهم: ( أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة)ْ، ما يعني أن الروم، في صراعهم المتوقع أن يكون طويلاً مع المسلمين، وحيث إن لديهم القابلية للانهزام وليسوا عصيين، فإنهم مع ذلك، سرعان ما يفيقون من مصيبتهم، ويوشك أن يتحولوا بعد الانهزام والفرار إلى الهجوم والغلبة، وهو ما يؤكده مطلع السورة، في معركتهم مع الفرس: ( غُلبت الروم ... وهم من بعد غَلَبهم سيَغلبون في بضع سنين).
ولئن فتح المسلمون بلاد الشام ومصر وغيرهما مما كان تابعا للروم، فقد استعصت عليهم عاصمة الروم الشرقيين/ القسطنطينية قرونا عدة حتى العام ( 875ه/ 1453م)، بينما ظل الروم الغربيون هم الذين يقودون الحروب الدائمة ضد الأمة الإسلامية، وعلى رأسها الحروب الصليبية وطرد المسلمين من الأندلس والاستعمار الحديث وتوابعه كما سبق القول.
وعودة إلى الخصال المميزة للروم بحسب عمرو بن العاص رضي الله عنه، حيث ( إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ).
فقد لفت انتباهه أنهم أحلم الناس عند فتنة، فهم لا يفقدون صوابهم ولا تطيش عقولهم عندما تحل بهم الفتن التي تدع الحليم حيران، أو بالأصح إنهم أكثر الأمم حلماً وعقلاً عند الفتن، ولذلك فإن آثارها وأضرارها عليهم أقل، ولذلك أيضاً فإنهم أسرع الناس إفاقة.
ثم إنهم خير الناس لمسكين ويتيم وضعيف، وهذا في مقابل أن القرآن الكريم لطالما ندد بالقوم الذين نزل فيهم أنهم لا يكرمون اليتيم ولا يحاضون على طعام المسكين، فإذا كان الكثيرون في البيئة العربية لا يلتفتون للمساكين واليتامى والضعفاء إلا إذا حسن إسلامهم، فإن مجتمع الروم، من خصائصه العناية الدائمة بهذه الفئات، وهي بالتالي من عوامل بقاء هذا المجتمع متماسكاً وقوياً.
ثم ختم عمرو بن العاص رضي الله عنه بالخصلة الخامسة، والتي قدّم بوصفها أنها حسنة جميلة وهي أنهم أمنع الناس من ظلم الملوك، فمن جهة يلفت رضي الله عنه إلى أن من سنن بقاء الأمم وسيادتها امتناع المحكومين من ظلم الحكام، وإلا فإن المظلوم المستعبد لن يكون عنده إحساس بالكرامة، ولا تستحق البقاء أمة مستعبدة، ولا شك أن ابن العاص قد عاين العرب الذين كانوا يدورون في فلك الروم والفرس كيف كانوا مضطهدين مظلومين بأيدي حكامهم، فوق أنهم كانوا تابعين أذلاء للدول العظمى، هذا بخلاف الروم.
ولئن تغير الوضع بدخول الناس في الإسلام، وتولي خلفاء وأمراء عادلين، فإن هذا الوضع لدى الأمم التي يقارن ابن العاص بينها وبين الروم وبالذات قومه الذين يعيش بين ظهرانيهم، لا يبقى على حاله، وتكفي مقارنة أوضاع الكثير من شعوبنا التي تستخذي أمام أمرائها الجلادين، والروم الذين يمتنعون في الغالب من ظلم الملوك، بل يستجديهم زعماؤهم ليتولوا أمرهم وليبقوا في مراكزهم، ولا يطول مقام الكثيرين منهم، ليس فقط بحسب المدة الدستورية بل بالاستقالة أو الإقالةعند أي بادرة إخفاق أو تقصير أو هزيمة.
والقاعدة أن تلك الخاصية عميقة أصيلة لدى الروم، بينما وجودها لدى غيرهم أقل عمقاً وأصالة، ولولا أن فطرة التدين عميقة لدى العرب المسلمين بحيث تظل تشدهم إلى أن التوحيد دافع إلى العزة والكرامة ورفض الضيم لما كان أمل في نهوض، ولا تحرر وثورة.
مما يلفت الانتباه في السورة الكريمة، قوله عز وجل: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)، وكأن السورة الكريمة تقول للمسلمين إنه قد عم الفساد وطم بسيطرة الروم والفرس على مصائر البشر، ولا بد أن يتحرك الموحدون ليوقفوا هذا الفساد.
وفي السورة حديث عن الربا ( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ)، وهو أول كلام عن الربا في القرآن الكريم والوحيد في القرآن المكي، ولعله إشارة إلى أن الربا من الأدوات الأساسية لدى الروم في التعاملات الاقتصادية الداخلية، وكذلك في امتصاص ونهب خيرات الأمم الأخرى واستعبادها.
وفي السورة أن أكثر الناس لا يعلمون، وقصارى علمهم أنهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)،
ويصدق هذا الأمر بشكل أكبر لدى الروم الذي ألّهوا العلم أو بالأصح آراء العلماء الذي رسموا لهم مبادئ العقيدة الجديدة بعد أن أعلنوا لهم موت الإله، وبدلا من أن تقودهم كشوفاتهم العلمية إلى تذكر الآخرة، كانوا عنها غافلين، وإذ قد كشف لهم الكثير من آياته في الكون وفي أنفسهم، فإن ذلك كله لم يجد نفعا في توجههم إلى صاحب الآيات، ولا للإيمان برسوله وكتابه، بل العجيب الغريب أن تكون تلك المجتمعات من أكثر الأمم كفرا وفجورا وحربا على الدين الحق وأهله.
والطريف أن يجتمع لدى هؤلاء القوم عوامل القوة والبقاء، مع أسباب الضعف والفناء، وتلك لفتات ذكية من صحابي عبقري أضاء لنا السبيل لفهم السورة الكريمة وحديث المصطفى، وعرفنا على الأمة الأبرز في تحدي أمة الإسلام، ودعانا لنتمثل خصال الخير ونتبع قوانين البقاء.
غُلبت الروم .. وغابت الفرس!!
طارق مصطفى حميدة
مركز نون للدراسات القرآنية
مما يسترعي النظر والتدبر في أسماء السور القرآنية، تسمية بعضها بأسماء أقوام وأمم أو شعوب ِوقبائل معينة وغياب أسماء أمم أخرى، ومن الجماعات البشرية التي سميت بأسمائها سور كريمة: سبأ وقريش وبني إسرائيل والروم.مركز نون للدراسات القرآنية
وقد سبق حديث عن بني إسرائيل، وهذه المقالة مخصصة عن سورة الروم، ويستدعي الحديث عنها عدداً من الأسئلة، من مثل: ما الحكمة من تسمية المغلوب وعدم تسمية الغالب؟ وما حكمة التعبير عن غلَبهم بالمبني للمجهول: " غُلبت"؟ وما الحكمة من جعل الروم اسماً لسورة وعدم الاكتفاء بالإخبار عما وقع عليهم وما سيقع منهم؟ وهل من أحاديث نبوية أو أقوال للصحابة في موضوع الروم؟
بداية فإن للأستاذين الكريمين بسام جرار وأحمد نوفل، وغيرهما من أهل العلم والفضل، كلاماً نفيساَ في الموضوع لن نتوانى عن الاقتباس منه.
فأما أن السورة تحدثت عما أصاب الروم بصيغة المبني للمجهول فيبدو، والله أعلم، أنها لبيان أن هؤلاء القوم مهما بلغوا من القوة، وكثيراً ما يكونون أقوياء ظاهرين، فإن هزيمته ليست بالمستحيلة، ولئن أمكن في هذه المعركة التي سجلها القرآن الكريم، أن يغلبهم الفرس الوثنيون، فما أيسر أن يهزمهم شرَّ هزيمة المسلمون الموحدون، وكان هذا الدرس ضروريا للمسلمين أن ينغرس في نفوسهم حتى وهم لا يزالون مستضعفين في مكة، حتى إذا قامت دولتهم بعد الهجرة فقد كانت الاحتكاكات العسكرية الأولى للمسلمين خارج الجزيرة العربية هي مع الروم وذلك في مؤتة وتبوك وبعث أسامة الذي ألحّ الرسول عليه السلام على ضرورة إنفاذه وهو في مرض موته، ثم أنفذه أبو بكر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بالرغم مما كان يهدد دولة المسلمين الفتية آنذاك خاصة بالنسبة للمرتدين، وظل هذا الدرس يلهم المسلمين في كل مواجهاتهم الهجومية والدفاعية مع الروم، منذ ذلك التاريخ.
وأما أن السورة قد ذكرت المغلوب ولم تسمّ الغالب، واستحق الروم أن تسمى باسمهم سورة تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ فلعله أولاً لأن الروم سيظلون في حالة عداء وصراع مع أمة القرآن آماداً طويلة، وسيكون بين الفريقين صولات وجولات، وسيكونون التحدي الأكبرمن لدن العهد النبوي وحتى قيام الساعة، من مؤتة إلى تبوك إلى بعث أسامة، فاليرموك، وفتوح الأندلس وإخراج المسلمين منها بعد قرون، ثم الحروب الصليبية ففتح القسطنطينية، وليس أخيراً إسقاط الخلافة والاستعمار الحديث وإقامة كيان مغتصب في فلسطين، وتمزيقنا بخطط سايكس- بيكو ورعاية الدكتاتوريات التي تحول دون وحدتنا وعودتنا لديننا.
هذا بخلاف الفرس الذين دخلوا بجملتهم في الإسلام واندمجوا في أمة المسلمين وظلت عامة بلادهم منذ زمن الفتوح ضمن ديار المسلمين، ولا يعتد بسيطرة البدعة في العقود الأخيرة على ما كان يمثل دولة الفرس، وما يجري من محاربة السنة والإكراه على التشيع.
- والروم أكثر الناس
واللافت أن عمرو بن العاص رضي الله عنه، لما تأكد له إخبار النبي عليه السلام أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس، قد اعتبر ذلك ثناء عليهم، وإقراراً بفضلهم، وتأكيداً على نفاسة معدنهم؛ على قاعدة البقاء للأصلح، ولذلك أورد رضي الله عنه عدداً من خصائصهم التي يتميزون بها، مع أن بالإمكان فهم هذا القول النبوي أيضا في ضوء الأحاديث الشريفة التي تخبر أن الساعة تقوم على شرار الناس.
لكن في البداية يجدر التنبيه إلى صفتين للروم أوردهما ابن العاص هما الألصق بمطلع سورة الروم والدرس الخالد المطلوب، وهما أنهم: ( أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة)ْ، ما يعني أن الروم، في صراعهم المتوقع أن يكون طويلاً مع المسلمين، وحيث إن لديهم القابلية للانهزام وليسوا عصيين، فإنهم مع ذلك، سرعان ما يفيقون من مصيبتهم، ويوشك أن يتحولوا بعد الانهزام والفرار إلى الهجوم والغلبة، وهو ما يؤكده مطلع السورة، في معركتهم مع الفرس: ( غُلبت الروم ... وهم من بعد غَلَبهم سيَغلبون في بضع سنين).
ولئن فتح المسلمون بلاد الشام ومصر وغيرهما مما كان تابعا للروم، فقد استعصت عليهم عاصمة الروم الشرقيين/ القسطنطينية قرونا عدة حتى العام ( 875ه/ 1453م)، بينما ظل الروم الغربيون هم الذين يقودون الحروب الدائمة ضد الأمة الإسلامية، وعلى رأسها الحروب الصليبية وطرد المسلمين من الأندلس والاستعمار الحديث وتوابعه كما سبق القول.
- خصال مميزة أخرى
وعودة إلى الخصال المميزة للروم بحسب عمرو بن العاص رضي الله عنه، حيث ( إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ).
فقد لفت انتباهه أنهم أحلم الناس عند فتنة، فهم لا يفقدون صوابهم ولا تطيش عقولهم عندما تحل بهم الفتن التي تدع الحليم حيران، أو بالأصح إنهم أكثر الأمم حلماً وعقلاً عند الفتن، ولذلك فإن آثارها وأضرارها عليهم أقل، ولذلك أيضاً فإنهم أسرع الناس إفاقة.
ثم إنهم خير الناس لمسكين ويتيم وضعيف، وهذا في مقابل أن القرآن الكريم لطالما ندد بالقوم الذين نزل فيهم أنهم لا يكرمون اليتيم ولا يحاضون على طعام المسكين، فإذا كان الكثيرون في البيئة العربية لا يلتفتون للمساكين واليتامى والضعفاء إلا إذا حسن إسلامهم، فإن مجتمع الروم، من خصائصه العناية الدائمة بهذه الفئات، وهي بالتالي من عوامل بقاء هذا المجتمع متماسكاً وقوياً.
ثم ختم عمرو بن العاص رضي الله عنه بالخصلة الخامسة، والتي قدّم بوصفها أنها حسنة جميلة وهي أنهم أمنع الناس من ظلم الملوك، فمن جهة يلفت رضي الله عنه إلى أن من سنن بقاء الأمم وسيادتها امتناع المحكومين من ظلم الحكام، وإلا فإن المظلوم المستعبد لن يكون عنده إحساس بالكرامة، ولا تستحق البقاء أمة مستعبدة، ولا شك أن ابن العاص قد عاين العرب الذين كانوا يدورون في فلك الروم والفرس كيف كانوا مضطهدين مظلومين بأيدي حكامهم، فوق أنهم كانوا تابعين أذلاء للدول العظمى، هذا بخلاف الروم.
ولئن تغير الوضع بدخول الناس في الإسلام، وتولي خلفاء وأمراء عادلين، فإن هذا الوضع لدى الأمم التي يقارن ابن العاص بينها وبين الروم وبالذات قومه الذين يعيش بين ظهرانيهم، لا يبقى على حاله، وتكفي مقارنة أوضاع الكثير من شعوبنا التي تستخذي أمام أمرائها الجلادين، والروم الذين يمتنعون في الغالب من ظلم الملوك، بل يستجديهم زعماؤهم ليتولوا أمرهم وليبقوا في مراكزهم، ولا يطول مقام الكثيرين منهم، ليس فقط بحسب المدة الدستورية بل بالاستقالة أو الإقالةعند أي بادرة إخفاق أو تقصير أو هزيمة.
والقاعدة أن تلك الخاصية عميقة أصيلة لدى الروم، بينما وجودها لدى غيرهم أقل عمقاً وأصالة، ولولا أن فطرة التدين عميقة لدى العرب المسلمين بحيث تظل تشدهم إلى أن التوحيد دافع إلى العزة والكرامة ورفض الضيم لما كان أمل في نهوض، ولا تحرر وثورة.
- قضايا في السورة تتصل بالروم
مما يلفت الانتباه في السورة الكريمة، قوله عز وجل: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)، وكأن السورة الكريمة تقول للمسلمين إنه قد عم الفساد وطم بسيطرة الروم والفرس على مصائر البشر، ولا بد أن يتحرك الموحدون ليوقفوا هذا الفساد.
وفي السورة حديث عن الربا ( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ)، وهو أول كلام عن الربا في القرآن الكريم والوحيد في القرآن المكي، ولعله إشارة إلى أن الربا من الأدوات الأساسية لدى الروم في التعاملات الاقتصادية الداخلية، وكذلك في امتصاص ونهب خيرات الأمم الأخرى واستعبادها.
وفي السورة أن أكثر الناس لا يعلمون، وقصارى علمهم أنهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)،
ويصدق هذا الأمر بشكل أكبر لدى الروم الذي ألّهوا العلم أو بالأصح آراء العلماء الذي رسموا لهم مبادئ العقيدة الجديدة بعد أن أعلنوا لهم موت الإله، وبدلا من أن تقودهم كشوفاتهم العلمية إلى تذكر الآخرة، كانوا عنها غافلين، وإذ قد كشف لهم الكثير من آياته في الكون وفي أنفسهم، فإن ذلك كله لم يجد نفعا في توجههم إلى صاحب الآيات، ولا للإيمان برسوله وكتابه، بل العجيب الغريب أن تكون تلك المجتمعات من أكثر الأمم كفرا وفجورا وحربا على الدين الحق وأهله.
والطريف أن يجتمع لدى هؤلاء القوم عوامل القوة والبقاء، مع أسباب الضعف والفناء، وتلك لفتات ذكية من صحابي عبقري أضاء لنا السبيل لفهم السورة الكريمة وحديث المصطفى، وعرفنا على الأمة الأبرز في تحدي أمة الإسلام، ودعانا لنتمثل خصال الخير ونتبع قوانين البقاء.