طارق مصطفى حميدة
New member
في ظلال أسماء السور (4)
سورتا: الحمد .. ومحمد
سورتا: الحمد .. ومحمد
طارق مصطفى حميدة
مركز نون للدراسات القرآنية
مركز نون للدراسات القرآنية
بعض السور في القرآن الكريم تشترك أسماؤها في الجذر نفسه، كالحجر والحجرات، والصف والصافات، والفاتحة والفتح، والتكاثر والكوثر، والحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم.
والحمد- الذي هو موضوع هذه المقالة-يعني الثناء الكامل، كما يقول ابن عطية المفسر، وبالتالي فحمد شخص أو شيء يعني بلوغه الكمال بالنسبة لأفراد جنسه مطلقاً أو على الأقل في الصفة التي حُمدت به.
وكان اسم الله تعالى الحميد، أي المحمود في ذاته لاتصافه بصفات الكمال، وتنزهه عن كل نقص، وهو سبحانه الذي يسبغ الحمد على من يشاء من عباده، فيكمّلهم ويجعلهم محلاً للحمد، كي يصبحوا مثلا عليا، ومن هنا جاء في آخر الصلاة الإبراهيمية: ( إنك حميد مجيد).
واسم محمد، اسم مفعول من المضعّف ( حمّد)، ويمكن أن تدل على أنه يُحمد كثيراً من ربه الذي جعله مثالاً للكمال البشري، ويمكن أن تدل على جعله كثير الحمد لربه، بل الأكثر حمداً له سبحانه، وهو أيضا في هذه القدوة والمثل الأعلى.
وصيغة ( مُفَعَّل) يمكن أن تدل على الحالين، فالمكرّم الذي أُكرم كثيراً، والمعلَّم والمؤدَّب، الذي جُعل أديبا عليما، فمحمد يحمده الخالق والمخلوقون كثيرا، وجُعل حمّادا فهو الأكثر حمداً لربه، ومن هنا جاء التبشير به أن ( اسمه أحمد).
وأهم ما تدل عليه الصلاة على النبي معنى الحمد والثناء، ثم نحن ندعو الله أن يصلي عليه، حتى تظل صورة المثل الأعلى، ناصعة لا تطالها المبالغة فترفعها إلى مقام الألوهية، ولا تنحط بها أهواء الفاسدين فتلوثها وتجعلها في السافلين
وكان مما أورد كاتب هذه السطور في أطروحة الماجستير عن التناسب في سورة البقرة، تجت عنوان: الخلافة بين سورة الحمد والتسبيح بالحمد:
جاء في رد الملائكة حين أخبرهم الله تعالى أنه جاعل في الأرض خليفة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30 ] .
ومعنى كلامهم، أن الخلافة تقتضي التقديس لله تعالى والتسبيح بحمده، والملائكة يفعلون ذلك فهم أولى بالخلافة.
والرد الإلهي عليهم لم ينف معنى الخلافة الذي فهموه، بل أظهر لهم تفوق آدم عليهم وتميز خصائصه عنهم؛ وهذا يستدعي التمعن في معاني التسبيح والتقديس.
الذي يظهر أن التسبيح أقرب ما يكون إلى الإيمان والاعتقاد، بينما التقديس يشير إلى الإسلام والطاعة؛ فالتسبيح: هو تنزيه الله تعالى عن كل نقص؛ وحين يخصص الملائكة التسبيح بأنه تسبيح بالحمد؛ فذلك يعني "أننا نبرئك عن صفات النقص حال إثباتنا لك صفات الكمال" ("كما في نظم الدرر للبقاعي)، وهذا هو الجانب الاعتقادي الإيماني في الدين.
وأما التقديس فمعناه: التطهير؛ تطهير النفس وتطهير الواقع الخارجي، ومعنى نقدس لك:" أي نطهر كل شيء نقدر عليه من نفوسنا وغيرها"(البقاعي، أيضاً)، وهل يصلح السلوك إلا بصلاح التصور؟ وهل يكون العمل الصالح إلا تالياً للإيمان ومقترناً به؟، لقد ورد في القرآن وصف الأمكنة بالتقديس، ( بالواد المقدس)، ( الأرض المقدسة)، وجاء في السنة الحديث عن تقديس الناس، (كيف يقدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها)، والمعنى واحد لأن تقديس المكان يحصل بتطهيره من غلبة الأشرار، وتقديس الناس بتزكيتهم أو بإظهار خيارهم. وقد ورد اسم الله تعالى "القدوس" مرتين تالياً لاسمه سبحانه الملك، ( الملك القدوس)، ما يشير إلى علاقة التقديس بالمُلك، في سورتي الحشر والجمعة، وأولاهما تتحدث عن جلاء بني النضير، ومعنى التقديس هنا واضح، وأما سورة الجمعة فتتحدث عن بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، في الأميين، ليتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة،
و"يزكيهم"، فضلاً عن اتصال يوم الجمعة بخلق آدم وإسكانه الأرض واستخلافه فيها، لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خير يوم طلعت فيه الشمس: يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة).
وعودة إلى التناسب بين البقرة والفاتحة في هذا الجانب ؛ حيث نستنتج أن الركن الأول في الخلافة هو التسبيح بالحمد: أي التسبيح المتلبس به. وكتاب الخلافة ـ كما نعلم ـ هو القرآن، وسورة الحمد هي فاتحة القرآن، وأم الكتاب، وأوله؛ والكتاب يُقرأ من عنوانه ـ كما يُقال ـ فكأن موضوع الخلافة، وأساسها، وركنها الركين: هو الحمد.
الفاتحة اسمها الحمد، وحامل الرسالة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حامل لواء الحمد يوم القيامة، على ما روى أبو سعيد الخدري أن الرسول- صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا سيّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فخرَ ، وبيدي لواءُ الحمدَ)، وهو الذي بشر به عيسى عليه السلام: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ الصف:6 }؛ و"أحمد" على وزن صيغة التفضيل، أي أكثر حمداً. ولعل هذا هو السبب في توقف الخلافة في بني إسرائيل وانتقالها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته. حيث توقف فيهم تنزيه الله تعالى وحمده، إذ لا بد لتحمل ثقل الخلافة، من أمة مميزة في تسبيحها، وحمدها لله تعالى.