في ذكرى هجرة النبي (دُرُوُسُ الهِجْرَةِ وَوَاقِعُنَا المُعَاصِر)

إنضم
22/03/2011
المشاركات
50
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
جمهورية مصر العربية - الق
[align=justify]
دُرُوُسُ الهِجْرَةِ وَوَاقِعُنَا المُعَاصِر​
إِنَّ الحمدَ للهِ -تَعالَى- نحمَدُه، ونستعينُه ونستهدِيه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنفسِنا وسيئاتِ أَعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مضلَّ لَه، ومَنْ يضللْ فلا هَادي لَه، وأَشهدُ أَن لا إِلَه إِلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشهدُ أَنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، مَنْ يطعِ اللهَ ورسولَه فقدْ رشُد، ومَنْ يعصِ اللهَ ورسولَه فقدْ غَوَى، ومَنْ يخالفُ هديَهُما فإِنَّهُ لا يضرُ إِلا نفسَه.
أَمَّا بعدُ: فهذهِ بعضُ الدروسِ والعبرِ مِنَ الهجرةِ النبويةِ –علَى صاحِبها أَفضلُ الصلاةِ والسلام-، أَردتُ أَنْ أُذكرَ بهَا نفسي أَولاً ثمَّ أَهلِي وأَحبَابِي، وأُبينُ فيهَا كيفَ استطاعَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يحولَ هذهِ المرحلةَ العظيمةَ مِنْ حياتِه إِلى رحلةٍ دعويةٍ تربوية، ربَّى فيهَا أَصحابَه تربيةً إِيمانيةً عملية، فاقتْ حدودَ الوصفِ والخيال، ليكوِّنَ بِهمْ ومِنهمْ أُمَّةً ساميةً راقيةً استطاعتْ أَنْ تنشرَ الإسلامَ في ربوعِ العالمِ كلِه.
ثُمَّ أُسقطُ بعدَ ذلكَ هذهِ الدروسَ علَى حياتِنا الحالية، مبينًا كيفَ يُمْكنُ لنَا أَنْ نستفيدَ مِنْها في واقعِنا المعاصِر، أَسأَلُ اللهَ –عَزَّ وَجَلَّ- التوفيقَ والسَّداد.
• حِينَما يضيقُ الوطنُ علَى أَهلِه، وَلا قدرةَ علَى الإِصلاحِ بِه، فلابدَّ مِنْ تَرْكِه:
فحينَما بدأَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعوةَ إِلَى الإسلامِ في سريةٍ تامة، ثمَّ أُومرَ بعدَ ذلكَ بالجهرِ بها بينَ أَهلِه وقومِه، حينَما قالَ لهُ ربُه –عَزَّ وَجَلَّ-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الْحِجْر:94]، حينَها بدأَ المشركونَ بالتضييقِ علَى النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصحبِه، وبالاستهزاءِ والتنكيلِ والتعذيبِ لِمَنْ آمنَ بِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بلْ وتعدَ الأمرُ بعدَ ذلكَ إِلَى قتلِ الضعفاءِ والفقراءِ الذينَ سارُوا معَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علَى طريقِه، وفي ظلالِ دعوتِه.
في بادِئ الأمرِ تحمَّلَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا التضييِق، وتغاضَى عنْ هذا التهكُّمَ والتعذِيب؛ فحينَما مرَّ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علَى أَصحابِه وهمْ يعذبون، ما بينَ صحابِي يُجلَد، وآخرَ يُسحَل، وثالثٍ يُصلب؛ فينظرُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَصحابِه بشفقةٍ ليواسيهِم ويصبِّرَهم، ويربطَ علَى قلوبِهم، ويقوي مِنْ عزيمتِهم، ويُعْلِي مِنْ هِمتِهم، فيلتفتُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلى آلِ ياسرٍ قائلاً لهم: "أَبْشِرُوا آلَ يَاسِر مَوْعِدُكُمُ الجَنَّةُ" ذكرَه الهيثمي، والشوكاني، وقالَ الأَلبَاني: حسنٌ صحيح.
إِنَّها غايةٌ عظيمة، لكنَّها تحتاجُ إِلى تضحيةٍ كبيرة.
وحينَما ذهبَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلى الطائفِ بحثًا عنْ عاقلٍ رشيدٍ يقدرُ كلمتَه، ويُصغِي إِلى دعوتِه، ويُؤمنُ برسالتِه؛ وإِذْ بالردِ يكونُ أَكثرَ عنفًا مِنْهُ في مكَّة، وأَكثرَ سخريةً وإِهانةً لَه؛ فينزلُ سيدُنا جبريلُ علَى النَّبِي الجليلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعهُ ملكُ الجِبال، قائلاً لَه: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْن. (متفقٌ عليْه).
لكنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمْ يذهبْ إِليهمْ لتكونَ النهايةُ أَنَْ يأْمرَ بذلكَ، لكنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ ينظرُ ويتطلعُ إِلَى ماهوَ أَسمى وأَبعدَ مِنْ ذلك، فيردُ عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائلاً: "بَلْ أَرْجُوُ أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". (متفقٌ عليْه).
النَّبِي يريدُ أَنْ ينشرَ الإسلامَ في مكةَ وما جاورَها مِنْ قبائلَ وبلدان، يريدُ أَنْ يُصلحَ مِنْ أَحوالِ أَهلِ كلِ البِلاد، يريدُ أَنْ يأخذَ بأَيْدِي الجميعِ إِلى عبادةِ ربِ العِباد.
وَلَكِنْ، وبعدَ كلِ هذا الصَّبر، وبعدَ هذا التغاضِي الكثير، يَشعرُ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّه لا فائدةَ مِنْ طولِ البقاءِ في مكة، فمعَ كلِ هذا الصبرِ والإيبَاء؛ فإنَّه لمْ يُسلمْ معَه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلا ثلةٌ مِنَ الفقَراء، وقليلٌ مِنَ الأَغنِياءِ الأَثرِيَاء، فضلاً عمَّا حدثَ لهمْ مِنْ تنكيلٍ وتعذيبٍ وقَتل؛ فكانَ لابدَّ مِنْ تركِ هذه البلدِ وما فيها، والاستغناءِ عنْ الوطنِ والمالِ والأَرض؛ نجاةً وحفاظًا علَى أَرواحِ أَصحابِه الكرام، وأَملاً في وجودِ بيئةٍ نقية، وأَرضٍ خصبةٍ وحَيَّة؛ تُزرعُ فيها بذورُ الإسلام، وتغرسُ فيها تعاليمُ القُرآن؛ فكانَ قرارُ الهجرةِ إِلى يثْرب.
نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا المشْهَدِ: أَنَّه إِذا كان الإنسانُ يعيشُ في بيئةٍ فاسِدة، وسلكَ كلَ السبلِ مِنْ أَجلِ تحويلِها إِلى بيئةٍ صالِحة، بلْ وربما خشِي أَنْ يتعدَّ الفسادَ إِلى نفسِه أَو إِلى أَهلِه، فإِنَّه مِنَ الأَفضلِ والأَولَى أَنْ يفارقَ الإنسانُ بيئةَ الفسادِ ليلحقَ ببيئةٍ نقيةٍ صالحةٍ تعينُه علَى أَداءِ حقوقِ اللهِ وحقوقِ خلقِه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
• الـخُرُوجُ مِنَ الوَطَن، كنزْعِ الرُّوحِ مِنَ البَدَن:
يظهرُ هذا الملمحُ القاسِي واضحًا جليًا في موقفٍ عظيمٍ مِنْ مواقفِ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فحينَما أَخذَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرارَ الخروجِ مِنْ مكةَ والهجرةِ إِلى المديِنة، وبعدما تركَ الحبِيبُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ديارَ الأَهلِ والأَحبَاب، وفارقَ أَرضَ الصِبا وبلوغِ الشبَاب، وعلَى حدودِ أَرضِ بيتِ اللهِ الحرامِ يقفُ النَّبِي العظِيم، ويلتفتُ إِلى مكة، يودعُ أَرضَها وبيوتَها، وينظرُ إِلى جبالِها وسمائِها؛ يستعيدُ المواقفَ والذكرَيات، ويتذكرُ الأَحداثَ وينطقُ بهذه الكلمات "وَاللهِ إِنَّي أَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبَّهَا إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"، وفي رِوَاية: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِليَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ". رواهُ التِرْمِذِي، والبيْهَقِي، وابنُ عبدِ البَر، والبزَّار، وقالَ الشيخُ الأَلبانِي: حديثٌ صحِيح.
كلماتٌ معبرةٌ مؤَثرة، تبُينُ وتوضحُ حالَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهي تدلُ علَى شدةِ محبتِه لهذا البلدِ العظِيم، كما تدلُ علَى شدةِ حزنِه لمفارقتِه لَه، معَ أَنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هوَ صاحبُ قرارِ الهجْرة، إِلا أَنَّه قدْ اضطرَ لذلك.
نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا المشْهَدِ: أَنَّ حُبَّ الوطنِ نازعٌ فِطْرِي، وواجبٌ إِيمَانِي، وإِحساسُ قلبِي لاَ يستطيعُ العاقلُ أَنْ يتركَه أَوينفكَ عنْه إِلاَ إِذَا أُجِبرَ عليْه.
• الصَّدِيقُ الصَالحُ الرَّفِيق، نورٌ يُضِئُ ظلمةَ الطَّرِيق:
حينَما يفكرُ الإنسانُ في الخروجِ لرحلةٍ طويلَة، لها أهدافٌ قيمةٌ عظيمَة، وغايةٌ مرجوةٌ منشودَة، فإِنَّ أَولَ شئ لابدَّ أَنْ يفكرَ فيهِ -بَعْدَ عَوْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ- هو ما يعينُه علَى إِكمالِ هذه الرحلةِ بسلاَم: كوسيلةٍ مريِحة، وصديقٍ صالحٍ مخلصٍ ينفعُ عندَ الضِّيق، ويضئُ الحياةَ عند ظلمةِ الطريق، حتى تتمَ الغايةُ المرجوةُ المنشودَة، ويصلَ الطالبُ إِلى الهدفِ المأمولِ المطلُوب.
هكذَا فكرَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ليعلمنَا درسًا عمليًا في اتخاذِ الأَسباب، بعد حسنِ التوكلِ علَى مسببِ الأَسبابِ –عَزَّ وَجَلَّ-، فحينَما فكرَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأَخذَ قرارَ الهجرةِ المباركة، بدأَ في اتخاذِ الأَسبابِ المعينةِ على اكتمالِ هذه الرحْلَة: فجهزَ الراحِلة، وفكرَ في أَفضلِ طريقٍ يوصِّلُه بسلامٍ إِلى المدينة، ثمَّ اختارَ الرفيقَ الصديقَ الذي يعينُه علَى وعارةِ وطولِ هذا الطريق.
فمَنْ هو هذا الرفيقُ الصديقُ الذي سينالُ صحبةَ هذا النَّبِي الرقيق؟ لابدَّ أَنْ يكونَ ذُو منزلةٍ عالِية، ومكانةٍ عظيمةٍ عندَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
نَعَمْ، إِنَّ هذا الصديقَ الرفيقَ رجُلٌ لكنَّه ليسَ ككلِ الرجِال، إِنه أَفضلُ رجلٍ في الإسلامِ بعدَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِنَّه الصَّدِيقُ الصِّدِّيقُ، إِنَّه الحبيبُ الرفِيق، إِنَّه صاحبُ القلبِ الرَّقِيق، إِنَّه سيدُنا أَبو بكرٍ الصِّدَّيقِ –رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ الكِرَام-.
تركَ دينَ آبائِه وأَجدادِه فآمنَ بالنَّبِي حينَما كفرَ بِه النَّاس، وصدَّقَه حينَما كذَّبَه النَّاس، واستأمنَه علَى ابنتِه فزوجَهُ إِياهَا لتكونَ رفيقةَ دربِهِ وشريكةَ عُمْرِه، وفي طريقِ الهجرةِ يسابقُ الصديقُ حبيبَه النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دخولِ الغارِ حتى لا يصلَ إِلى الحبيبِ أَذى، ولا يصيبَه مكروهٌ مِنْ هوامِ الأَرض، ثمَّ هو في الطريقِ تارةً يسيرُ وراءَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مخافةَ أَنْ يُصابَ مِنْ خلفِه، ثمَّ يسرعُ تارةً ليسيرَ أَمامَه مخافةَ أَنْ يُصابَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بينِ يديْه، وتارةً ثالثةً يسيرُ علَى يمينِه حتى لا يُنالَ مِنْ جنبِه، وتارةً رابعةً يسيرُ علَى شمِالِه حتى لا يُنالَ مِنْ جنبِه الآخَر.
إِنَّها محبةٌ جعلتِ الصديقَ يُضَحِي بحياتِه فداءً لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهذا الرجلُ يستحقُ بجدارةِ أَنْ يكونَ رفيقً للمصطفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه الرحلةِ المباركةِ العظِيمة.
هذه هي الصداقةُ الحقِيقِية، فَاللَّهُمَّ ارضْ عنْ هذا الصحابِي الجلِيل، وعنْ سائرِ الصحابةِ الكرامِ أَجمعين.
نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا المشْهَدِ: أَنَّ مِنْ وسائلِ النجاحِ التي بها يبلغُ الإنسانُ بُغْيَتَه، اختيارُ صديقٍ رفيقٍ صالحٍ مخلِص، يُقَوِّي وقتَ الضَّعْف، ويَدفعُ عند الخمُول، ويشاركُ ولوْ بكلمةٍ طيبةٍ تنفعُ وقتَ الحاجةِ إِليهَا.
• بِنَاءُ الإِنسَان، أَهمَّ مِنْ إِنْشَاءِ البُنيَان:
"التربيةُ السليمةُ القويمةُ للإنسان، يترتبُ عليهَا أُمةٌ متماسكةٌ قويةُ البنيَان"، إِلى هذا المعنَى فِطنَ الحبيبُ المربِي، وعلَى هذا الطريقِ سارَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَدركَ أَنهَّ لكي تقومَ دولةُ الإسلامِ علَى أَساسٍ متينٍ قوي، فلابدَّ مِنْ وجودِ عاملينِ رئيسيَين:
الأَوَّلُ: أَنْ يتربَّى أَفرادُ هذه الأُمةِ على عقيدةٍ إِيمانيةٍ صحيِحة، وصلةٍ وثيقةٍ قويةٍ بينهُم وبينَ خالقِهم –عَزَّ وَجَلَّ-.
لِذَلِكْ، فإِنَّ أَولَ شئ فعلَه النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينَما وصلَ إِلى المدينةِ النبويةِ الشريفَة، أَنَّه بدأَ في تأسيسِ وبناءِ مسجدِ قِباء، الذي يعدُ أَولَ مسجدِ بُني بعدَ النُّبوة، بنَاه النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليكونَ جَامِعًا وجَامِعَةً ومُجَمَّعًا.
وبالفعلِ أَصبحَ المسجدُ جَامِعًا تقامُ فيه الفرائضُ والعبَادات، وجامعةً يتعلمُ فيها المسلمونَ مكارمَ الأَخلاقِ وفقهَ المعاملاَت، ومُجَمَّعًا يجتمعُ فيه النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأَصحابِه للمشاورةِ في أُمورِ السرايا والغزَوات.
أَمَّا العاملُ الثَّاني الذي ستقومُ عليهِ دولةُ الإسْلاَم: هو أَنَّه لابدَّ أَنْ تكونَ علاقةُ أَفرادِ هذه الدولةِ الإسلاميةِ ببعضِهم علاقةَ ترابطٍ وتماسكٍ وتناصح؛ فالقوي يَحمِي الضَّعِيف، والغَنِي يُعطِي الفَقِير.
لذلكَ قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤمِنُ لِلْمُؤمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وشبّكَ النَّبِي بينَ أَصابعِه. (متفق عليه).
وعلَى هذا الأساسِ بدأَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تأكيدِ هذه العلاقةِ القوِيمة، وتحقيقِ روحِ الترابطِ والتماسكِ بينَ المهاجرينَ والأَنصَار؛ فقامَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمؤَاخاةِ بينهُم ليذيبَ الاختلافَ بينَ اللغاتِ واللهجَات، ويمحوَ غضاضةَ الفوارقِ بينَ الدرجاتِ والطبَقات.
فقامَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمؤَاخاةِ بينَ الفَارِسِي والعَرَبِي، وبينَ الرُّومِي والحبَشِى، وبينَ المكِي والمدَنِي، وبينَ القُرشِي والدَّوْسِي؛ لِكي ينصهَر الجميعُ في معينٍ واحدِ وبوتقةٍ واحدَة، أَلا وهي بوتقةُ الإسلاَم.
فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيِجَةُ؟
النَّتِيجَةُ: دولةٌ إِسلاميةٌ قويةٌ متماسكةٌ مترابطَة، تعرفٌ قدرَ ربِها –سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وقدرَ نبيِها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقدرَ دينِها؛ ومِنْ ثَمَّ عَرِفَ كلُّ فردِ في هذه الدولةِ ما علَى الابنِ لأَبِيه، وحقَ الأَخِ علَى أَخِيه، وحقَ الصاحبِ علَى صاحبِه، وحقَ الفقيرِ عند الغنِي، وحقَ الضعيفِ علَى القوِي.
نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا المشْهَدِ: أَنَّه إِذا أرادَ القائدُ والمربِي أَنْ يُنشئُ جيلاً قويًا ينشرُ الحَق فيعلُو بهِ ويدافعُ عنه، فإِنَّه لابدَّ أَولاً أَنْ يُعدَّ أَفرادَ هذا الجيلِ إِعدادًا إِيمانيًا ونفسيًا؛ فيُربِي أَروحَهم ونفوسَهم، ويُوحِّدُ قلوبَهم وأَلسنتَهم، ويُقوي همتَهم وحماسَهم. بهذه التربيةِ يسمُو الفرْد، وتسودُ الأُلفةُ بينَ الجماعَة؛ فيتماسكُ المجتَمع، فترقَى الأُمةُ وتعودُ إِلى مجدِها وعزِّها، وقيادتِه وريادِتها بإِذنِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ-.
وَبَعْدُ: فهكذا استطاعَ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهجرتِه المباركةِ مِنْ مكةَ إِلى المدينةِ أَنْ يحافظَ علَى حياةِ أَصحابِهِ الكرَام، وأَنْ يربيَهم تربيةً دينيةً سليمةً بعيدةً عنْ مظاهرِ الكفرِ والشركِ التي كانتْ تعيشُ فيها قريش، وأَنْ يُوحِّدَ بينَ صفوفِهم ويُؤلفَ بينَ قلوبِهم؛ ليُكَوِّنَ منهُم قوةً إِيمانيةً تنشرُ شرعَ اللهِ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وتدافعُ عنه، قوةً تضَحِّي بنفسِها ومالِها لتنالَ رضَى خالقِها في الدنيا، وجنةَ ربِها في الآخرة.
وَقَدْ كَانْ، فهاهمْ قدْ تعلمُوا فتأَدبُوا، وفهِمُوا فنفَّذُوا، فسعِدُوا واطمأَنُّوا؛ فاستحقُوا ما نالُوا وأَخذُوا، وقالَ فيهِم ربُنَّا –عَزَّ وَجَلَّ-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100]. اللَّهمَّ احشرنَا معهُم ياربَ العالمِين.
الحديثُ عنْ دروسِ الهجرةِ يطول، ولكنْ هذه بعضُ الدروسِ والعبرِ التي يمكنُ لنا أَنْ نستفيدَ منها لنسقِطَها علَى واقعِنا المعاصِرِ وحياتِنا القائِمة، أَردتُ –قَدْرَ استِطَاعَتِي الْمُتَوَاضِعَةِ- أَنْ أُسلِّطَ الضَّوْءَ عليها لعلنَا أَنْ نتعلمَ منها، أَو ننالَ شيئًا مِنْ بركاتِها وثمارِها.
وآخرُ دعْوانا أَنِ الحمدِ للهِ ربِّ العالمَين، وصلِّ اللَّهمَّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى النَّبِي الْمُصْطَفَى، وعلَى آلِه الأَطهَار، وأَصحابِه الأَخيَار، وتابعِيهم الأَبرَار، عددَ قطراتِ مياهِ البحارِ والأَنْهار، وعددَ نسماتِ الليلِ وأَنفاسِ النهَار، اللَّهمَّ آمِين.[/align]
 
عودة
أعلى