د.عبدالرحمن الصالح
New member
في فتوى مشهورة للشيخ ابن عثيمين رحمه الله موجودة على الرابط:
استمع للفتوى بصوت الشيخ
ملخصها: ما تقولون في رجل ذبح بعيرا بخمسة آلاف ريال ولم يُسمّ؟ والجواب في قول الشيخ ابن عثيمين له: يجرها للكلاب! لأنها تعد ميتة خبيثة ليست مالا وفي رميها للكلاب تنزه عن الخبائث لا إضاعة مال...وإذا قلنا له مرة اسحبها إلى الكلاب فلن ينسى أبدا التسمية لكن إذا قلنا له أنت معذور بالنسيان فإنه سوف ينسى في المرة الثانية...
وفي هذا المقال بيان لحجة الشيخ في الموضوع وعرض لأقوال العلماء في المسألة وبيان الصواب فيها
فمما يقوي حجة الشيخ في القول بذلك ظاهر قوله تعالى: "وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: (121)]" فالآية تنهى في ظاهر معناها عن الأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه ولكنها لا تتعرض لأكل ما نسي المسلم أن يذكر اسم الله تعالى عليه. وقد أورد ابن جرير روايات عن ابن سيرين توحي في ظاهرها أنه يمكن عدُّه سلفا للشيخ ابن عثيمين في فتواه، كما أوردت كتب الفقه أن من العلماء من عد التسمية فرضا دون تعرض لحكمها إذا نُسي هذا الفرض وهم أهل الظاهر ، وابن عمر والشعبي ، لكن سيتبين أن فتوى الشيخ ابن عثيمين بشكلها الذي هي عليه في التسجيل لا تصمُد أمام النقد الفقهي وأن ما عليه جمهور الفقهاء من أن المسلم إذا نسي التسمية لا تحرُم ذبيحته هو الصواب.
لكن لما كان معنى الآية مقيدًا بأمور أهمها:
١. بسياق ورودها ضمن النصّ
٢. وبسياق زمنها الذي نزل فيه النص مما يبينه علم أسباب النزول
٣.وباتساق معناها مع كليات الدين التي وردت بنصوص أخرى قطعية إذ لا تتعارض قواعد الشرع الشريف مع بعضها
٤.وبمقيدات إجماع علماء الإسلام على معنى معين من المعاني المحتملة للنصّ
٥. وبهل تكون الآية منسوخة - كما نُقل عن الحسن وعكرمة- بقوله تعالى:
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
[سورة المائدة: 5] ، أم هي محكمة كما هو قول عامة أهل العلم؟. وهل يختلف حكمها على أحد القولين أم أن حكمها واحد على كلا القولين؟
كان لأخذ ذلك كله في الحسبان في تقييم فتوى الشيخ رحمه الله أهمية لأنه هو وغيره من أهل العلم خاضعون لقواعد العلم والاستنباط وأهمها الأمور المذكورة آنفاً.
وملخص ما جاء في الطبري وأحسن طبعاته على الشبكة طبعة موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف [لولا أن الطباعين سامحهم الله يستخدمون فواصل أجنبية لا تلائم النص العربي]:
القول في تأويل قوله :
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منـزل، فإنه حرام عليكم، ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم، فإن أكل ذلك " فسق "، يعني: معصية كفر.
والآية كما هو معلوم لا تكتفي بالنهي عن أكل ما لم يُذكر اسم الله تعالى عليه بل فيها بيان أن محاجة قد حصلت من غير المؤمنين للمؤمنين تقوم على منطق أن الميتة قد ذبحها الله فكيف تستجيزون أكل ما ذبحتم أنتم بسكاكينكم وتحرمون ما ذبحه الله بالطبيعة أو بقدره؟ فيورد الطبري تفسير بقية الآية:
(وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم).
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس (إلى أوليائهم)، من مردة مشركي قريش، يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة .
وملخص جدالهم أن جادلوا بقولهم تأكلون ما ذبحتم انتم وتحرمون ما ذبح الله يعني الميتة؟ ثم يورد أقوال من قال إنهم اليهود وأقوال من قال إنهم بعض مشركي العرب.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم. وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم، وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس، وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
، [سورة الأنعام: 112]. بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس، كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة، ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم.
ثم خلص إلى لب موضوعنا وهو نوع المنهي عن أكله في الآية:
واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه.
١.فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها.
* ذكر من قال ذلك:
13826- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله:
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح . قلت لعطاء: فما قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان، كانت تذبحها العرب وقريش .
٢. وقال آخرون: هي الميتة
* ذكر من قال ذلك:
13827- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، قال: الميتة .
٣. وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها .[وهذا القول هو الذي قال به الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتواه المصدر بها ]
* ذكر من قال ذلك:
13828- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن، سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى،
فمنه ما ذبح فذكر اسم الله عليه، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه، كُله ! قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) .
[فظاهر الرواية عن ابن سيرين أنه احتج بظاهر الآية للمنع من أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه ولو ذبحه مسلم]
13829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب وهشام، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه.
[وفي هذه الرواية نظر فهو قد قابل بين المجموعتين وما زال قوله محتاجا إلى بيان لم تذكره الرواية ]
13830- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد قال: كنت أجلس إليه في حلقة، فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم، فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون . قال: فجاءه رجل فسأله، فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، حتى فرغ منها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة، وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته.وأما من قال: " عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله "، فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، وكفى بذلك شاهدًا على فساده. وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى: " لطيف القول في أحكام شرائع الدين "، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله "(وإنه لفسق)، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق " .
واختلف أهل التأويل في معنى: " الفسق "، في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: المعصية .
فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم.
* ذكر من قال ذلك:
13831- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإنه لفسق)، قال: " الفسق "، المعصية .
وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر .
وأما قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم)، فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون) ، والصوابَ من القول فيه وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم، فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه: إما بقول وإما برسالة وإما بكتاب .
ويعني بقوله: (ليجادلوكم)، ليخاصموكم، بالمعنى الذي قد ذكرت قبل.
وأما قوله: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم: كما:-
13833- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وإن أطعتموهم)، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه .
13834- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن أطعتموهم)، فأكلتم الميتة .
وأما قوله: (إنكم لمشركون)، يعني: إنكم إذًا مثلهم، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين .
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم .
وروي عن الحسن البصري وعكرمة، ما:- 13835- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال:
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ
. (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)، فنسخ واستثنى من ذلك فقال:
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
[سورة المائدة: 5] .
وخلاصة الحكم الشرعي في المسألة لخصه الطبري رحمه الله تعالى بقوله:
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن هذه الآية محكمة فيما أنـزلت، لم ينسخ منها شيء، وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة . وذلك [بمعزل]مما حرم الله على المؤمنين أكلَه بقوله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أُهلّ به للطواغيت، وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سَمَّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها، يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه، سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه، إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل، أو بعبادة شيء سوى الله، فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسمّ.
اهـ كلام الطبري ملخصا آراء أهل العلم
وقد فصّل ابن رشد في "بداية المجتهد" في أقوال الفقهاء في المسألة فقال:
واختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال : فقيل : هي فرض على الإطلاق ، وقيل : بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان ، وقيل : بل هي سنة مؤكدة . وبالقول الأول قال أهل الظاهر ، وابن عمر والشعبي ، وابن سيرين ، وبالقول الثاني قال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وبالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه ، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة .
وسبب اختلافهم : معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر .
فأما الكتاب : فقوله تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) . وأما السنة المعارضة لهذه الآية : فما رواه مالك عن هشام عن أبيه أنه قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سموا الله عليها ثم كلوها " .
فذهب مالك إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث ، وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام ، ولم ير ذلك الشافعي ، لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة ، وآية التسمية مكية ، فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب . وأما من اشترط الذكر في الوجوب فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
الباب الخامس فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز .
والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف : صنف اتفق على جواز تذكيته ، وصنف اتفق على منع ذكاته ، وصنف اختلف فيه .
فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته : فمن جمع خمسة شروط : الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضييع الصلاة .
وأما الذي اتفق على منع تذكيته : فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى : ( وما ذبح على النصب ) ، ولقوله : ( وما أهل به لغير الله ) .
وأما الذين اختلف فيهم : فأصناف كثيرة ، لكن المشهور منها عشرة : أهل الكتاب ، والمجوس ، والصابئون ، والمرأة ، والصبي ، والمجنون ، والسكران ، والذي يضيع الصلاة ، والسارق ، والغاصب .
فأما أهل الكتاب : فالعلماء مجمعون على جواز ذبائحهم لقوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) ومختلفون في التفصيل . فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين ، وذبحوا لأنفسهم ، وعلم أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم ، وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها هم على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم .
واختلفوا في مقابلات هذه الشروط ( أعني : إذا ذبحوا لمسلم باستنابته ، أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين ، وإذا لم يعلم أنهم سموا الله ، أو جهل مقصود ذبحهم ، أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم ، أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى : ( كل ذي ظفر ) أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية ) . وكذلك اختلفوا في الشحوم .
وأما المسألة الثانية : وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين : فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب ، وهو قول ابن عباس . ومنهم من لم يجز ذبائحهم ، وهو أحد قولي الشافعي ، وهو مروي عن علي رضي الله عنه .
وسبب الخلاف : هل يتناول العرب المتنصرين والمتهودين اسم الذين أوتوا الكتاب ، كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب ، وهم بنو إسرائيل والروم .
وأما المرتد : فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل . وقال إسحاق : ذبيحته جائزة . وقال الثوري : مكروهة .
وسبب الخلاف : هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناوله ؟
وأما المسألة الثالثة ( وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة ) : فقال الجمهور : تؤكل ، وهو مروي عن علي ، ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا ، ويتطرق إليه الاحتمال بأن يقال : إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام ، فإذا قيل على هذا : إن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك .
وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه ، وهو قول مالك . ومنهم من أباحه ، وهو قول أشهب . ومنهم من حرمه ، وهو الشافعي .
وسبب اختلافهم : تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب ، وذلك أن قوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) . ويحتمل أن يكون قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) مخصصا لقوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر .
فمن جعل قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) مخصصا لقوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) قال : لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد . ومن عكس الأمر قال : يجوز .
وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم ، فقيل : يجوز ، وقيل : لا يجوز ، وقيل : بالفرق بين أن تكون محرمة عليهم بالتوراة ، أو من قبل أنفسهم ( أعني : بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم ) ، وقيل : يكره ولا يمنع ، والأقاويل الأربعة موجودة في المذهب : المنع عن ابن القاسم ، [ ص: 372 ] والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم ، والتفرقة عن أشهب .
وأصل الاختلاف : معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة ( أعني : اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية ) .
لكن تبقى فتوى الشيخ ابن عثيمين محترمة للأسباب الآتية:
١. لأن فيها حثاً على تعظيم شعائر الله تعالى (ذلك ومن يُعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
٢. لأن فيها تحذيرا من التساهل في نسيان التسمية وهي واجبة لا يجوز تعمد تركها
٣. أنها استحثت طلاب العلم على تتبع الموضوع.
٤. وأنها صادرة من عالم جليل القدر رحمه الله تعالى.
والله أعلم
استمع للفتوى بصوت الشيخ
ملخصها: ما تقولون في رجل ذبح بعيرا بخمسة آلاف ريال ولم يُسمّ؟ والجواب في قول الشيخ ابن عثيمين له: يجرها للكلاب! لأنها تعد ميتة خبيثة ليست مالا وفي رميها للكلاب تنزه عن الخبائث لا إضاعة مال...وإذا قلنا له مرة اسحبها إلى الكلاب فلن ينسى أبدا التسمية لكن إذا قلنا له أنت معذور بالنسيان فإنه سوف ينسى في المرة الثانية...
وفي هذا المقال بيان لحجة الشيخ في الموضوع وعرض لأقوال العلماء في المسألة وبيان الصواب فيها
فمما يقوي حجة الشيخ في القول بذلك ظاهر قوله تعالى: "وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: (121)]" فالآية تنهى في ظاهر معناها عن الأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه ولكنها لا تتعرض لأكل ما نسي المسلم أن يذكر اسم الله تعالى عليه. وقد أورد ابن جرير روايات عن ابن سيرين توحي في ظاهرها أنه يمكن عدُّه سلفا للشيخ ابن عثيمين في فتواه، كما أوردت كتب الفقه أن من العلماء من عد التسمية فرضا دون تعرض لحكمها إذا نُسي هذا الفرض وهم أهل الظاهر ، وابن عمر والشعبي ، لكن سيتبين أن فتوى الشيخ ابن عثيمين بشكلها الذي هي عليه في التسجيل لا تصمُد أمام النقد الفقهي وأن ما عليه جمهور الفقهاء من أن المسلم إذا نسي التسمية لا تحرُم ذبيحته هو الصواب.
لكن لما كان معنى الآية مقيدًا بأمور أهمها:
١. بسياق ورودها ضمن النصّ
٢. وبسياق زمنها الذي نزل فيه النص مما يبينه علم أسباب النزول
٣.وباتساق معناها مع كليات الدين التي وردت بنصوص أخرى قطعية إذ لا تتعارض قواعد الشرع الشريف مع بعضها
٤.وبمقيدات إجماع علماء الإسلام على معنى معين من المعاني المحتملة للنصّ
٥. وبهل تكون الآية منسوخة - كما نُقل عن الحسن وعكرمة- بقوله تعالى:
كان لأخذ ذلك كله في الحسبان في تقييم فتوى الشيخ رحمه الله أهمية لأنه هو وغيره من أهل العلم خاضعون لقواعد العلم والاستنباط وأهمها الأمور المذكورة آنفاً.
وملخص ما جاء في الطبري وأحسن طبعاته على الشبكة طبعة موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف [لولا أن الطباعين سامحهم الله يستخدمون فواصل أجنبية لا تلائم النص العربي]:
القول في تأويل قوله :
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منـزل، فإنه حرام عليكم، ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم، فإن أكل ذلك " فسق "، يعني: معصية كفر.
والآية كما هو معلوم لا تكتفي بالنهي عن أكل ما لم يُذكر اسم الله تعالى عليه بل فيها بيان أن محاجة قد حصلت من غير المؤمنين للمؤمنين تقوم على منطق أن الميتة قد ذبحها الله فكيف تستجيزون أكل ما ذبحتم أنتم بسكاكينكم وتحرمون ما ذبحه الله بالطبيعة أو بقدره؟ فيورد الطبري تفسير بقية الآية:
(وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم).
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس (إلى أوليائهم)، من مردة مشركي قريش، يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة .
وملخص جدالهم أن جادلوا بقولهم تأكلون ما ذبحتم انتم وتحرمون ما ذبح الله يعني الميتة؟ ثم يورد أقوال من قال إنهم اليهود وأقوال من قال إنهم بعض مشركي العرب.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم. وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم، وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس، وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها:
ثم خلص إلى لب موضوعنا وهو نوع المنهي عن أكله في الآية:
١.فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها.
* ذكر من قال ذلك:
13826- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله:
* ذكر من قال ذلك:
13827- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، قال: الميتة .
٣. وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها .[وهذا القول هو الذي قال به الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتواه المصدر بها ]
* ذكر من قال ذلك:
13828- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن، سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى،
[فظاهر الرواية عن ابن سيرين أنه احتج بظاهر الآية للمنع من أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه ولو ذبحه مسلم]
13829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب وهشام، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه.
[وفي هذه الرواية نظر فهو قد قابل بين المجموعتين وما زال قوله محتاجا إلى بيان لم تذكره الرواية ]
13830- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد قال: كنت أجلس إليه في حلقة، فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم، فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون . قال: فجاءه رجل فسأله، فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، حتى فرغ منها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة، وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته.وأما من قال: " عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله "، فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، وكفى بذلك شاهدًا على فساده. وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى: " لطيف القول في أحكام شرائع الدين "، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله "(وإنه لفسق)، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق " .
واختلف أهل التأويل في معنى: " الفسق "، في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: المعصية .
فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم.
* ذكر من قال ذلك:
13831- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإنه لفسق)، قال: " الفسق "، المعصية .
وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر .
ويعني بقوله: (ليجادلوكم)، ليخاصموكم، بالمعنى الذي قد ذكرت قبل.
13833- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وإن أطعتموهم)، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه .
13834- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن أطعتموهم)، فأكلتم الميتة .
وأما قوله: (إنكم لمشركون)، يعني: إنكم إذًا مثلهم، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين .
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم .
وروي عن الحسن البصري وعكرمة، ما:- 13835- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال:
وخلاصة الحكم الشرعي في المسألة لخصه الطبري رحمه الله تعالى بقوله:
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن هذه الآية محكمة فيما أنـزلت، لم ينسخ منها شيء، وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة . وذلك [بمعزل]مما حرم الله على المؤمنين أكلَه بقوله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أُهلّ به للطواغيت، وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سَمَّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها، يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه، سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه، إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل، أو بعبادة شيء سوى الله، فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسمّ.
اهـ كلام الطبري ملخصا آراء أهل العلم
وقد فصّل ابن رشد في "بداية المجتهد" في أقوال الفقهاء في المسألة فقال:
واختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال : فقيل : هي فرض على الإطلاق ، وقيل : بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان ، وقيل : بل هي سنة مؤكدة . وبالقول الأول قال أهل الظاهر ، وابن عمر والشعبي ، وابن سيرين ، وبالقول الثاني قال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وبالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه ، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة .
وسبب اختلافهم : معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر .
فأما الكتاب : فقوله تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) . وأما السنة المعارضة لهذه الآية : فما رواه مالك عن هشام عن أبيه أنه قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سموا الله عليها ثم كلوها " .
فذهب مالك إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث ، وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام ، ولم ير ذلك الشافعي ، لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة ، وآية التسمية مكية ، فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب . وأما من اشترط الذكر في الوجوب فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
الباب الخامس فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز .
والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف : صنف اتفق على جواز تذكيته ، وصنف اتفق على منع ذكاته ، وصنف اختلف فيه .
فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته : فمن جمع خمسة شروط : الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضييع الصلاة .
وأما الذي اتفق على منع تذكيته : فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى : ( وما ذبح على النصب ) ، ولقوله : ( وما أهل به لغير الله ) .
وأما الذين اختلف فيهم : فأصناف كثيرة ، لكن المشهور منها عشرة : أهل الكتاب ، والمجوس ، والصابئون ، والمرأة ، والصبي ، والمجنون ، والسكران ، والذي يضيع الصلاة ، والسارق ، والغاصب .
فأما أهل الكتاب : فالعلماء مجمعون على جواز ذبائحهم لقوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) ومختلفون في التفصيل . فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين ، وذبحوا لأنفسهم ، وعلم أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم ، وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها هم على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم .
واختلفوا في مقابلات هذه الشروط ( أعني : إذا ذبحوا لمسلم باستنابته ، أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين ، وإذا لم يعلم أنهم سموا الله ، أو جهل مقصود ذبحهم ، أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم ، أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى : ( كل ذي ظفر ) أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية ) . وكذلك اختلفوا في الشحوم .
وأما المسألة الثانية : وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين : فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب ، وهو قول ابن عباس . ومنهم من لم يجز ذبائحهم ، وهو أحد قولي الشافعي ، وهو مروي عن علي رضي الله عنه .
وسبب الخلاف : هل يتناول العرب المتنصرين والمتهودين اسم الذين أوتوا الكتاب ، كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب ، وهم بنو إسرائيل والروم .
وأما المرتد : فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل . وقال إسحاق : ذبيحته جائزة . وقال الثوري : مكروهة .
وسبب الخلاف : هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناوله ؟
وأما المسألة الثالثة ( وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة ) : فقال الجمهور : تؤكل ، وهو مروي عن علي ، ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا ، ويتطرق إليه الاحتمال بأن يقال : إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام ، فإذا قيل على هذا : إن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك .
وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه ، وهو قول مالك . ومنهم من أباحه ، وهو قول أشهب . ومنهم من حرمه ، وهو الشافعي .
وسبب اختلافهم : تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب ، وذلك أن قوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) . ويحتمل أن يكون قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) مخصصا لقوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر .
فمن جعل قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) مخصصا لقوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) قال : لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد . ومن عكس الأمر قال : يجوز .
وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم ، فقيل : يجوز ، وقيل : لا يجوز ، وقيل : بالفرق بين أن تكون محرمة عليهم بالتوراة ، أو من قبل أنفسهم ( أعني : بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم ) ، وقيل : يكره ولا يمنع ، والأقاويل الأربعة موجودة في المذهب : المنع عن ابن القاسم ، [ ص: 372 ] والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم ، والتفرقة عن أشهب .
وأصل الاختلاف : معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة ( أعني : اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية ) .
١. لأن فيها حثاً على تعظيم شعائر الله تعالى (ذلك ومن يُعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
٢. لأن فيها تحذيرا من التساهل في نسيان التسمية وهي واجبة لا يجوز تعمد تركها
٣. أنها استحثت طلاب العلم على تتبع الموضوع.
٤. وأنها صادرة من عالم جليل القدر رحمه الله تعالى.
والله أعلم