فوائد ولطائف وطرائف من كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع ضيف
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
ض

ضيف

Guest
الحمد لله الذي وهب لنا العقول والأذهان ، ومنحنا فصاحة اللسان ، وألهمنا التبيان ، نحمده تعالى والحمد من إحسانه الجسيم ، ونشكره والشكر من إنعامه العميم ، ونصلي ونسلم على محمدٍ النبي الأمي الكريم ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
في البداية أحييكم أيها الأحبة في الله بتحية من عند الله مباركة طيبة : سأتحفكم في هذه المشاركة بالأصعب وهو مايقول عنه الندوي رحمه الله : ( الاختيار مثل التأليف أو أصعب منه ، فإنه يتجلى فيه ذوق المؤلف ودقة نظره ولطف حسه ) .لذا يطيب لي أيها المباركون أن أقدم لكم شيئاً مما جمعته من فوائد من كتب الشيخ على الطنطاوي رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ، وهذا الجمع يأتي استكمالاً لما تم الشروع فيه من جمع الفوائد من كتب الأئمة وإيفاءً بالوعد الذي وعدته بجمع الفوائد منها ، والأصل أن فوائد كل كتاب تعرض في حلقة واحدة إلا إن طالت فوائد الكتاب فتعرض في جملة من الحلقات .

الكتاب الأول : فصول في الثقافة والأدب ، الطبعة الأولى 2007م ، دار المنارة ، جمع وترتيب حفيد المؤلف مجاهد ديرانية .

1 ـ فيما يتعلق بالسرقات الأدبية أعرض واحدة لها صلة بالعلم والعلماء ، وهي سر لم يُرفع عنه الستار إلى الآن . ذلك أن عندنا كتابين متماثلين تماماً في موضوع جديد ، لم يؤلف فيه قبلهما ولم يؤلف فيه بعدهما إلا القليل ، هما كتاب ( الأحكام السلطانية ) للماوردي ، وكتاب ( الأحكام السلطانية ) للقاضي أبي يعلى ، والكتابان متشابهان متطابقان لأن أحدهما منسوخ عن الآخر ، فمن هو صاحب الكتاب الأول ؟
الماوردي من أفقه فقهاء الشافعية وكان يلقب بأقضى القضاة ، وأبو يعلى من أفقه فقهاء الحنابلة ، وإذا قيل ( القاضي ) انصرف اللقب إليه . والاختلاف بينهما أن الماوردي حين يسرد الأحكام يسردها على المذهب الشافعي وأبو يعلى على مذهب الإمام أحمد ، وكانا في عصر واحد ، وبلد واحد ، وأظنهما كانا قاضيين في محكمة واحدة !
فلعل أحد الأساتذة أو الطلاب الذين يُعِدون رسائل الشهادات العالية يدرس هذا الموضوع ويُثبت بالأدلة من منهما المؤلف الأول . أما أنا فأميل إلى أنه الماوردي ، لأن للماوردي كتاباً آخر قريباً في أسلوبه ونهجه وطريقته من هذا الكتاب ، والله أعلم بالصواب . ص24 .
2 ـ من الطرائف التي وجدتها وأنا أنظر في الكتب أن باب إبراهيم المعروف الآن في الحرم المكي ، وهو بقرب باب الحزورة ، ليس منسوباً إلى سيدنا إبراهيم كما يظن الناس ، بل هو منسوب إلى خياط معمر كبير السن اسمه إبراهيم ، كان يجلس عند هذا الباب فنُسب إليه وخلد اسمه واشتهر . فليست الشهرة مقياساً للعظمة ، بل ربما اشتهر من لا يستحق الشهرة وربما نُسي من كان مستحقاً لخلود الذكر . ص33 .
3 ـ كانت الكعبة تُكسى الديباج الأبيض ، حتى جاء الخليفة العباسي الناصر فكساها الديباج الأسود سنة 521هـ ، واستمر ذلك إلى الآن . ص34 .
4 ـ في سنة 352هـ بعث بطرك الأرمن إلى ناصر الدولة ( ابن حمدان ) برجلين ملتصقين ، وهما توأمان وعمرهما خمس وعشرون سنة ، والالتصاق في الجنب ، ولهما بطنان وسرتان ومعدتان ، ويختلف وقت جوعهما وعطشهما . ثم مات أحدهما وأنتن ، وجمع ناصر الدولة الأطباء ليفصلوا الحي عن الميت ، فلم يستطيعوا فمات الآخر . هذا مارواه المؤرخون ، فما رأي الأطباء ؟ . ص34 .
5 ـ في سنة 304هـ أُهدي إلى المقتدر العباسي طائر أسود يتكلم الفارسية والهندية ، أفصح من الببغاء، وبمناسبة الكلام عن هذا الطائر : وقعت لي واقعة أحلف لكم بالله أني أرويها كما وقعت ، لا أتزيد ولا أبالغ ، هي أني لما كنت في لكنو في الهند سنة 1954م مللت في الفندق ، فاستعرت من مكتبة ندوة العلماء كتباً منها ( تاريخ الخلفاء ) للسيوطي ، وأنا مولع بهذا الكتاب وقد قرأته مرات كثيرة ، فجعلت أطالع فيه ، فوقفت على هذا الخبر الذي رويته ، وبينما كنت أقرأ هذا الخبر سمعت حوراً بين رجل كبير إنكليزي خشن الصوت وفتاة ، يتخلل ذلك بُغام صغير . وتكرر هذا الحوار بذاته لا تتبدل فيه كلمة من جملة ولا رنة من لهجة ، فعجبت ، وخرجت فلم أجد أحداً ، فدخلت فسمعت الحوار نفسه ، فخرجت فلم أجد أحداً ، ولحظ ذلك نادل الفندق ، وهو هندي ، فضحك ودلني بإصبعه على قفص فيه طائر أسود ( كالذي روى خبره السيوطي ) يشبه الشحرور المعروف في الشام وليس به ، وإذا هو الذي يخرج هذه الأصوات . فكان عجبي من هذه المصادفة بالغاً ! . ص 42 ـ 43 .
6 ـ الخليفة المهتدي في مجلس القضاء :
عن عبدالله الإسكافي قال : حضرت مجلس المهتدي وقد جلس للمظالم ، فادعي رجل على ابن المهتدي ، فأمر بإحضاره ، فأُحضر . وأقامه إلى جنب الرجل فسأله عما ادعاه عليه ، فأقر به ، فأمره بالخروج له من حقه . فكتب له بذلك كتاباً ، فلما فرغ قال له الرجل : والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قال الشاعر :

حكمتموه فقضى بينكم
أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه
ولا يبالي غبن الخاسر
فقال له المهتدي : أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك ، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ، وكفى بنا حاسبين ) .
قال : فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم . ص53 ـ 54 .
7 ـ حُمل إلى الإمام البخاري بضاعة له ، فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم ، فقال لهم : انصرفوا الليلة . فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم ، فردهم وقال : إني نويت البارحة أن أدفع إلى الذين طلبوا أمس بما طلبوا أول مرة .فدفعها إلى الأولين بما طلبوا بربح خمسة آلاف درهم ، وقال : لا أحب أن أنقض نيتي . ص 57 .

بقية الفوائد تأتي تباعاً .
 
شيخنا عبدالقادر المبارك رحمه الله ، الذي كان راوية العصر وكان من أيسر محفوظاته ( القاموس المحيط ) ، حدثنا مرة في الفصل أن إخوانه كانوا يعيبون عليه أنه لاشتغال فكره بمسائل اللغة والأدب يسلمون عليه في الطريق فلا يرد السلام ، فعزم يوماً على أن يكون متنبهاً ، فسمع وهو خارج من بيته وطء خطوات جاره على بلاط الزقاق ، فلما اقترب منه قال له بصوته الجهوري العجيب : ( وعليكم السلام ) ، ثم التفت ليراه فإذا هو بغل الطاحون ، أرسله صاحبه إلى البركة ليشرب ! . ص 73 .
( القُل) بضم القاف هو القليل ، ومنه قولهم : ( ما لايدرك كله لا يُترك قُله ) ، وأكثر الناس يخطئون في رواية هذا المثل . ص91 .
10ـ من أراد متعة الأدب ، وطلب جيد الشعر ، وأراد الإحاطة بأخبار الشعراء والمغنين ، للذة الأدبية وتقوية الملكة البيانية ، فلا يجد كتاباً أجمع لهذا كله من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني .وما منا إلا من كان ( الأغاني ) عُدته الأولى في إقامة اللسان وتجويد البيان ، ولقد قرأته كله ( وهو بضعة وعشرون جزءاً ) ثلاث مرات ، واستفدت منه في الأدب واللغة ما لم أستفد مثله في غيره . ص102
والخلاصة أن ( الأغاني ) كتاب من أعظم كتب الأدب ، ولكن لا يجوز الاعتماد على صحة أخباره ولا يجوز أن يُنقل منه التاريخ ، وصاحبه ـ على جلالة قدره في الأدب ـ رقيق الدين سيء السمعة بذيء اللسان ، لا يوثق بروايته ولا بصدقه .فاقرؤوا كتاب ( الأغاني ) للمتعة الأدبية ولتقويم الملكة البيانية ، ولكن لا تصدقوا كل ما يرويه فيه ولا تعتمدوا عليه .ص104 .
11ـ أريد أن أدلكم على شيء فيه لذة كبيرة ، وفيه منفعة كبيرة ، وتكاليفه قليلة . فهل تحبون أن تعرفوا ما هو ؟ هو المطالعة . ولقد جربت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب . وإذا كان للناس ميول وكانت لهم رغبات ، فإن الميل إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها . ص179 .
12ـ خير ما يُقرأ هو القرآن ، بشرط أن يُفهم ما يُقرأ ، وقراءة سورة قصيرة مع الفهم والتدبر خير من ختمة بلا فهم ولا تدبر . القرآن أساس البلاغة في القول ، فضلاً عن كونه أساس الهداية للقلب ، وكونه دستور الحياتين وسبب السعادتين . والذين تسمعون عنهم من بلغاء النصارى في هذا القرن ما بلغوا هذه المنزلة إلا بدراسة القرآن ، كالشيخ ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم اليازجي ، وفارس الخوري ، هذا وهم نصارى ، ونحن أولى بهذا الكتاب . ص181 .
13. من الأدباء من كنت أقرأ له فلا أبتغي بلاغة ولا لسناً ولا بياناً إلا وجدت عنده فوق ما أبتغي ، فأتخيل شخصه وأتوهمه على أوفى ما يكون عليه المتفوه اللسن ، ثم ألقاه فألقى الرجل الساكت الصموت الذي لايكاد يتكلم حتى تكون أنت الذي يسأله ويدفعه إلى الكلام ، وإذا تكلم أخفى صوته ولطف حروفه حتى لا يُسمع منه ولا يفهم عنه . ومن الأدباء من ألقاه في مجلس فأجد المحاضر الفياض الذي ينتقل من نكتة إلى نكتة ومن قصة إلى أبيات من الشعر ، فيبتدع لها المناسبات ويلقيها بصوت قوي ، ويتكئ على الحروف ويعظم مخارجها فأُكبره وأعظمه وأسأله أن يكتب مقالة أو ينشئ فصلاً ، فيفر منه فراراً ويسوف ويعتذر ، فإذا أُحرج وكتب جاء بشيء هو أشبه بسفرة المُسَحر ، فيها من كل طعام لقمة ، ولكن الحلو مع الحامض والحار مع البارد ، وكل طعام مع طعام . وقد تتبعت أحوال هؤلاء ، فوجدت أكثرهم على غير علم ولا اختصاص ، ولا يطالع بجد ولا يبحث بإمعان ، ولا تدع له المجالس وقتاً لدرس ولا بحث ، وإنما يحفظ الرجل منهم طائفة من الأخبار الأدبية والنوادر فيحملها معه أياماً يعرضها في كل مجلس ، ويعيدها بعينها حتى ترث وتبلى وتصبح كالثوب الخلق ، فيعمد إلى غيرها فيصنع به مثلما صنع بها ، ولا يدرك الناس الفرق بينه وبين الأديب المبدع الباحث ، فيطلقون على الاثنين اسم ( الأديب ) . فمتى يميز الناس بين الأديب الحق ، وبين أديب المجالس . ص 233 .
 
14ـ سألني سائل عن أسلوب الرافعي . وأسلوبه على أربعة أنواع :

(أ ) أسلوبه في كتاباته التي يتفلسف فيها ويكتب فيما يسميه ( فلسفة الحب ) ككتابه ( رسائل الأحزان ) وكتابيه الآخرين : ( أوراق الورد ) و ( السحاب الأحمر ) ، وهو أسلوب معقد مصطنع ثقيل ، وإن كان مملوءاً بالتشابيه النادرة ، والاستعارات العجيبة ، والصناعة البيانية .
( ب ) أسلوبه في تآليفه العلمية ، ككتابه ( تاريخ آداب العرب ) ، ومنه الجزء الخاص بإعجاز القرآن ، وهو أسلوب جزل متين صحيح يشبه أسلوب الجرجاني في ( دلائل الإعجاز ) .
( ج ) أسلوبه في مقالات ( الرسالة ) التي جمعها في كتاب ( وحي القلم ) ، وهو أسلوب ممتاز ، فيه بيان وبلاغة وفيه غالباً وضوح . وخيره ما كان على صورة قصة ، كقصة ( أمراء للبيع ) و ( قصة زواج ) .
( د ) أسلوبه في النقد ، وهو مملوء بالسخرية والتعالي والهمز واللمز ، وإن كان نقده لطه حسين في كتاب ( تحت راية القرآن ) نقداً نظيفاً ، أما نقده للعقاد في كتاب ( على السفود ) فهو هجاء بذيء ، لذلك لم يطبع اسمه عليه .
أما أسلوبه في شعره فسهل واضح حماسي جداً ، فيه مبالغات ولكنها مقبولة ، وهو أنجح شاعر في نظم الأناشيد . أما الذي يُنتقد عليه فهو اعتداده الشديد بنفسه وتعاليه على خصومه ، وتعقيد عباراته وبذاءة ألفاظه أحياناً . لكنه في كتاباته كلها ( إلا ما يسميه فلسفة الحب ) يدافع عن الإسلام والعروبة ويقف لأعدائها بالمرصاد ، وبقي أربعين سنة أو أكثر وهو الممثل الأول للأدب الإسلامي والمدافع عنه رحمه الله . ص245 ـ 246 .
15ـ أنا لا أقول إن طه حسين ملحد زنديق ، وأرى أنه يؤمن بالله ، لكنه إيمان بوجوده وأنه الرب ، وهذا لا يكفي ما لم يكن معه إفراده بالعبادة وأداء ما أوجب الله على عباده . وطه حسين من آثاره أنه سن سنة إدخال البنات الجامعات واختلاطهن بالشبان ، وما نرى ونلمس من نتائج هذه السنة .على أن الله لا يسألني يوم القيامة عن طه حسين ولا عن غيره ، بل يسألني عن نفسي : ماذا أقرأ وماذا أنصح الشبان أن يقرؤوا ؟ ويعاقبني إن كتمت الحق عنهم أو غششتهم فصرفتهم عنه . فهل أنصح الشبان بقراءة كتب طه حسين ، وإن دعاه الصاوي يوماً ( عميد الأدب العربي ) فمشت الكلمة في الناس ؟
الجواب : لا ( لا ) بالقول الصريح ، و ( لا ) بالقلم العريض لأن لطه حسين كتباً فيها بلاء كبير ككتابه ( مستقبل الثقافة ) وكتباً فيها تمجيد للوثنيات اليونانية ، وكتباً فيها الكفر الصريح . ولقد كنت في مصر أدرس في دار العلوم سنة 1928م ، ويومئذ صدر كتابه ( الشعر الجاهلي ) الذي يكذب القرآن صراحة ، والذي ألفت عشرات الكتب في رده وإبطاله ، من أشهرها كتاب الغمراوي ( النقد التحليلي ) وكتاب السيد الخضر ( نقض كتاب الشعر الجاهلي ) و ( تحت راية القرآن ) للرافعي ، واتسعت القضية حتى دخلت الندوة البرلمان . وكتبه تفيض بالتناقض يسوق الرأي ثم يعود فيأتي بضده . وما كان طه يوماً من كتاب الدعوة ، ولا من أنصار الإسلام ولا رضي عنه الإسلاميون أبداً ، حتى كتابه الذي قلت عنه إنه من روائع الأدب ( الأيام ) فيه عبارة أخجل من الله أن أرويها وترتجف أعصابي خوفاً من هذه الجرأة على الله ، ولا أدري إذا بُدلت هذه العبارة أو عُدلت في الطبعات الجديدة من الكتاب ، وهي قوله : إن الصبي ( يعني نفسه ) أضاع ما كان معه من القرآن كما أضاع نعله ! أستغفر الله ، صحيح أن كتابه ( مرآة الإسلام ) ليس فيها ما يؤخذ عليه ، ولكن النصيحة للمؤمنين والقول الحق في كتبه : أني لا أرى في قراءتها خيراً للشبان المتدينين ، وأرى الابتعاد عنها لسلامة دينهم وضمان آخرتهم . ص253 ـ 254 .
16ـ كتاب شذرات الذهب أدل القراء الذين لا يعرفونه عليه لينتفعوا منه ، فهو تاريخ مفيد ، بدأ من السنة الأولى للهجرة وانتهى إلى سنة ألف ، يذكر في كل سنة ما كان فيها من الأحداث ومن مات فيها من الأعلام . ص 302 .

وفي الختام هذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده ويلي هذا الكتاب كتاب آخر بإذن الله من كتب الشيخ على الطنطاوي رحمه الله .
 
الكتاب الثاني : فصول إسلامية ،الطبعة السادسة 1429هـ ، دار المنارة .

1 ـ لقد قصر النساء الملاءة أصبعاً أصبعاً ، حتى خرجن سافرات بالأكمام اليابانية ، وحتى اختلط في الجامعات الفتيات المسلمات ، بنات الصالحين ، بالشباب الأجانب . فلنرجع إلى الصلاح خطوة خطوة وأصبعاً أصبعاً . ولا تلقوا بالاً لمن يقول إنها ( رجعية ) ، فإن هذا التكشف هو الرجعية لأن الناس ولدوا متكشفين وكانوا كذلك في فجر البشرية ، ثم تحضروا فاستتروا . فالذي يدعو إلى التكشف هو الرجعي ، وكل حمير الدنيا عراة مُباح ( في عرفهن الحماري ) العري والاختلاط ! وإنما يمتاز البشر بالتصون والتستر والعفاف . ص19 .
2 ـ تفسير سورة الفاتحة :

(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )
يطلب حمايته أولاً من عدو البشر الألد الذي يتربص به ويزين له الشر ويحبب إليه المعصية ويفضل له هذه الدنيا الزائلة ولذاتها الذاهبة على الآخرة الدائمة ونعيمها المقيم ويسأله أن يعيذه منه حين يقول : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ).
(بسم الله الرحمن الرحيم )
ثم يعلن الابتداء باسم ربه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لا باسم جلالة الملكة كما يقول الإنكليز ولا باسم الشعب كما نقول نحن ولا باسم صنم ولا وثن ولا باسم رابطة قومية أو حزبية أو رابطة منفعة أو مال بل بما هو أعلى من ذلك كله وأعظم وأسمى . بما تمحى أمامه فروق اللون والجنس واللسان وما تسكت أمامه أصوات الشهوة والسيطرة والجاه والغنى وما يعود البشر أمامه عبيداً سامعين مطيعين متجردين للفضائل والخيرات : بسم الله .

( الفاتحة )
لكل كتاب بشري فاتحة : مقدمة تجمل مقاصده وتوضح مطالبه ، وهذه مقدمة الكتاب الإلهي الباقي الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي نزله الله وتعهد بحفظه .
( الحمد لله رب العالمين )
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى نعمة الحياة ، نعمة الصحة ، نعمة الأمن ، نعمة السمع والبصر ، نعمة الأهل والولد . . . إن الإنسان لا يعرف قيمة النعم إلا عند فقدها ، إن سد أنفك الزكام عرفت قيمة الشم ، وإن أغلق عينك الرمد عرفت قيمة البصر ، وإن دهمك الخوف عرفت قيمة الأمن ، وإن لويت قدمك فلم تقدر أن تمشي عرفت قيمة الرجل . فتصوروا هذه النعم حين تقولون : ( الحمد لله ) .
( رب العالمين )
هل تعرفون معنى الرب ؟ ليس معناها الحاكم ولا الملك ولا الإله ، الرب فيه معنى العناية والتربية والحفظ والإنماء .الرب المربي ، والعالمون جمع عالم فعالم الأرض وعالم النجوم وعالم السماء وعالم الجن وعالم الشياطين وعالم الملائكة والعوالم كلها هو حافظها وموجدها ومربيها .فتصوروا هذه المعاني كلها حينما تقرؤون هذه الكلمات الأربع : ( الحمد لله رب العالمين ) .
( الرحمن الرحيم )
وصف نفسه بالرحمة وكررها لتكرر رحمته ، ولم يقل الجبار المنتقم ، ولا القوي العزيز ولكن الرحمن الرحيم . أشعرنا رحمته التي وسعت كل شيء . أترون رحمة الأم بوحيدها الذي ترضعه على صدرها ؟ الله أرحم بعباده منها بولدها . إن الأم إذا أساء إليها ولدها أو خالفها أو استعمل مالها في معصيتها هجرته وحجزت المال عنه . والكافر يستعمل لسانه الذي أعطاه الله إياه في الكفر بالله والله يرحمه ويرزقه ويحسن إليه . الفاجر يستعمل ماله الذي أعطاه الله إياه في معصية الله والله يرحمه ويرزقه ويحسن إليه . وإن الله أنزل في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الناس وتعطف الأم على ولدها والأخ على أخته والرجل على امرأته وأبقى تسعاً وتسعين ليوم القيامة ، ورحمة الله هذه من أولى النعم التي تستحق الحمد .
( مالك يوم الدين )
بعد أن يستشعر العبد رحمة الله يقول ( مالك يوم الدين ) فيستشعر عظمته ، ليعلم أن الله رحيم فلا ييأس من رحمته وأنه جبار فلا يأمن بطشه . ويوم الدين هو يوم القيامة ، يوم يقف الناس جميعاً من قتل في الحرب ومن مات على فراشه ، والذي أكله السبع والذي غرق في البحر والذي احترق وصار جسده فحماً يجمعهم الله جميعاً الأولين والآخرين فيقف الملك بجنب الصعلوك والغني بجنب الفقير وتسقط الفوارق ولا يبقى من فرق إلا بالعمل الصالح ، هنالك ينادي المنادي ( لمن الملك اليوم ) ؟ للسلاطين ؟ للجبارين ؟ للأغنياء ؟ لا ، بل ( لله الواحد القهار ) . ذلك هو رب العالمين ومالك يوم الدين .
( إياك نعبد وإياك نستعين )
أي لانعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك ، والعبادة هي كل مافيه إقرار بالربوبية للمعبود ، فالصلاة عبادة والسجود عبادة والدعاء عبادة والطواف بالقبور بنية التعظيم وقياساً على طواف الكعبة عبادة لغير الله .والاستعانة هنا هي الاستعانة بما هو وراء الأسباب فلا تمنع الاستعانة بالطبيب على وصف الدواء ولا الاستعانة بالمحامي على حسن الدفاع ولا الاستعانة بأرباب الصناعات . بل الاستعانة الممنوعة إلا بالله وحده هي طلب ماوراء الأسباب كمن يطلب من غير الله أن يشفي مريضه بلا علاج أو يرجع فقيده بلا بحث أو يطلق سجينه بلا شفاعة أو يفرج كربه بغير سبب مادي .بعد أن حمدت الله على نعمه وعرفت أنه رب العالمين وأنه أرحم الراحمين وأنه هو مالك يوم الدين ، وبعد أن نزهته عن الشريك ( الشرك الظاهر والشرك الخفي ) وخصصته وحده بالعبادة فإن الله يعلمك كيف تطلب منه ماينفعك ، وقد أجمل لك الخير كله في كلمة واحدة : الصراط المستقيم .
( اهدنا الصراط المستقيم )
أي دلنا على الطريق الموصل إلى كل خير في الدنيا وفي الآخرة .
( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )
المغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يتبعوه ، ومنهم اليهود . والضالون لم يعرفوه ولم يتبعوه ومنهم النصارى . والذين أنعم الله عليهم عرفوه واتبعوه وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون .
( آمـــين )
أي الله استجب لنا وتقبل دعاءنا . ص 75ـ79 .
3 ـ هل يريد أحد منكم أن يتخرب بيته ؟ ستقولون : وما هذا السؤال السخيف ؟ لا ، طبعاً .ولكن إذا صدر قانون جاء فيه أن من تخرب بيته بالسيل أو بالرياح أو بأي آفة من الآفات التي لا عمل فيها للإنسان ، تمنحه الدولة بدلاً عنه قصراً ضخماً . ألا تتمنون حينئذ أن يتخرب البيت ؟ستقولون الآن : نعم ، لأنكم واثقون من أن الدولة إذا وعدت وعداً بقانون فإنها تفي به . والله عز وجل ، وهو أصدق من الدولة قولاً وأوثق عهداً ، تعهد للمؤمن بأن يعطيه بكل مصيبة تناله ، صغيرة كانت أو كبيرة ، من الشوكة التي تشك يده إلى موت الولد وذهاب المال ، أجراً ينسى معه المصيبة ويتمنى لو أنها كانت أكبر ليكون الأجر عليها أكبر .
روى البخاري ومسلم في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى وغم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . أي أنه إذا جاء يوم القيامة ووضع الميزان ووزنت الحسنات والسيئات ، فقلت حسناته وكثرت سيئاته ، رأى المصائب التي كانت أصابته فصبر عليها ورضي بقضاء الله فيها ، وقد وُضعت مع الحسنات فرجحت السيئات .
وروى مسلم : ( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمر المؤمن كله خير له ، إن أصابته سراء ( نعمة ) شكر ( الله عليها ) فكان خيراً له ( أي كانت حسنة من حسناته ) ، وإن أصابته ضراء ( مصيبة ) صبر فكان خيراً له .
بل إن المصائب من علامات رضا الله عن العبد لأنها كفارة للخطايا ودفع لعذاب الآخرة . وروى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يرد الله به خيراً يُصب منه ) وروى أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( في الحديث القدسي ) : ( ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ( أي مات من هو عزيز عليه ) ثم احتسبه ( صبر ورضي بالقضاء ) إلا الجنة ) . فيا أيها المصابون المتألمون ، هذه بشارة من رسول الله لكم ، فاصبروا حسبة لتكون لكم الجنة ، قبل أن تصبروا سلواً ونسياناً . وأي مصيبة لم تُنسَ ؟ وأي كبيرة لم تصغر ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الصبر عند الصدمة الأولى) . ص217 ـ 218 .

بقية الفوائد تأتي تباعاً .
 
4 ـ يقرأ المسلمون القرآن فيحركون ألسنتهم بلفظ كلماته وتجويد تلاوته ، ولكن لا يفكرون في وجوب تحريك عقولهم لفهم معانيه ، ويرون أن هذا هو الأصل في القراءة ، كأن القرآن ليس إلا كلاماً معداً للتلحين ولا يُطلب منهم إلا التسابق إلى حسن تلحينه وإدارته على البيات والرصد والعجم وهاتيك الأنغام !
وصار البر بالقرآن كل البر ، والعناية به كل العناية ، أن نتقن مخارج حروفه ونفخم مفخمه ونرقق مرققه ونحافظ على حدود مدوده ، ونعرف مواضع إخفاء النون وإظهارها ودغمها وقلبها والغنة بها .القرآن الذي أنزله الله أمراً ونهياً ومنهجاً كاملاً للمسلم في حياته الخاصة وحياته الاجتماعية ، يُكتفي منه بالتغني بألفاظه وتجويد تلاوته !
فهل ينفع القاضي أن يقرأ القانون مجوداً ثم لا يفهمه ولا يحكم به ؟ وإذا تلقى الضابط برقية القيادة هل ينجيه من المحكمة العسكرية أن يضعها على رأسه ويقبلها ويترنم بها ، ولا يحاول أن يدرك مضمونها . بل لو رأيتم رجلاً قعد يقرأ جريدة حتى أتمها كلها من عنوانها إلى آخر إعلان فيها ، فسألتموه : ما هي أخبارها ؟ فقال : والله ما أدري ، لم أحاول أن أتفهم معناها فماذا تقولون فيه ؟ أما تنكرونه وتنكرون عليه ؟ فكيف لا تنكرون على من يعكف على المصحف حتى يختم الختمة ، وقد خرج منها بمثل ما دخل فيها ، ما فهم من معانيها شيئاً ؟
فمن أين جاءت هذه المصيبة ؟ وأي عدو من أعداء الله استطاع أن يلعب هذه اللعبة فيحرم المسلمين من قرآنهم وهو بين أيديهم ، وفي كل بيت نُسخ منه ، وهو يُتلى دائما ًفي كل مكان ؟ يحرمهم منه وهو في أيديهم وهو ملء أنظارهم وأسماعهم ؟ مسألة عجيبة جداً والله ! . ص228 ـ 230 .
5 ـ نحن نُقر بهذه المبادئ الغربية التي تقول بفصل الدين عن العلم ، والدين عن السياسة إنها صحيحة بلا شك بشرط أن تفهم معناها عند من وضعوها . إن الغربيين الذين وضعوا هذه المبادئ يقصدون بالدين ما يحدد صلة الإنسان بالله ، ومن هنا قالوا : ( الدين لله والوطن للجميع ) ، ونحن نقول مقالتهم ونفصل بين الصلاة والصيام وبين السياسة والعلم . ولكن الإسلام ليس ديناً فقط يحدد صلة الإنسان بالله ، بل هو دين وتشريع وقانون دولي وأخلاق ، وهو يحدد صلة الأفراد بعضهم ببعض ، وصلة الأفراد بالدولة ، وصلة الدولة بالدول الأخرى ، ويرسم طريق الأخلاق والسلوك . فالإسلام إذن ليس ديناً فقط لتطبق عليه هذه القواعد ، بل هو نظام كامل للحياة لا يشابهه في هذا دين من الأديان التي يتبعها البشر . ص262 ـ 263 .

وفي الختام هذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده ويلي هذا الكتاب كتاب آخر بإذن الله من كتب الشيخ على الطنطاوي رحمه الله .
 
الكتاب الثالث : من حديث النفس ، الطبعة الثانية 1424هـ ، دار المنارة .

1 ـ إن عمادي هذا القلم ، وإنه لغصن من أغصان الجنة لمن يستحقها ، وإنه لحطبة مشتعلة من حطب جهنم لمن كان من أهل جهنم ! . ص127 .
2 ـ كان الكتاب الذي نقرؤه في النحو ( قواعد اللغة العربية ) الجزء الرابع من الدروس النحوية لحفني ناصيف وأصحابه ، وهو كتاب يغني المتأدب ، بل الأديب ، عن النظر في كتاب غيره ، وهو أعجوبة في جمعه وترتيبه وإيجاز عبارته واختياره الصحيح من القواعد . ص193 .
3 ـ كيف ثبتت العربية برغم النكبات الثقال التي مرت بها ؟ كيف عجزت الدول التركية والفارسية التي تعاقبت على بلاد العرب من أيام الواثق على أن تقضي عليها ؟ بل كيف استطاعت هي أن تقضي على عجمتهم وتدخلهم تحت لوائها ؟وما هو السر في قوة العربية وثباتها ؟إن السر في هذا الحصن المتين الذي حصنها الله به : القرآن يا سادة ، القرآن . ص195 .
4 ـ ما المجد الأدبي ؟
أهو أن يذكرك الناس في كل مكان وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع ، وتتوارد عليك كتب الإعجاب وتقام لك حفلات التكريم ؟ لقد رأيت ذلك كله ، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه ؟ رأيت سراباً . . . سراب خادع ، قبض الريح ! وما أقول هذا مقالة أديب يبتغي الإغراب ويستثير الإعجاب ، لا والله العظيم ( أحلف لكم لتصدقوا ) ما أقول إلا ما أشعر به . ص302 .

وفي الختام هذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده ويلي هذا الكتاب كتاب آخر بإذن الله من كتب الشيخ على الطنطاوي رحمه الله .
 
الكتاب الرابع : هتاف المجد ، الطبعة الخامسة 1426هـ ، دار المنارة .
1 ـ إن الإنكليزي أو الفرنسي ، لا يتأخر عن شكرك إن ناولته المملحة على المائدة ، ولا يقصر في الاعتذار إليك إن داس على رجلك خطأ في الطريق ، وإن رأى كلباً مريضاً تألم عليه وحمله إلى الطبيب ، وهو أنيق نظيف مهذب اللفظ لايستهين بذرة من هذه الآداب ، ولكنه لا يجد مانعاً يمنع رئيس وزرائه أن يأمر فيصب النار الحامية على البلد الآمن ، فيقتل الشيوخ والنساء والأطفال ، ويدمر ويخرب ويذبح الأبرياء ، ويفعل مالا تفعله الذئاب ذوات الظفر والناب ، ويدعي أنه هو المتمدن ؟ !
أهذه هي المدنية ؟ إن كانت هذه المدنية وهؤلاء هم المتمدنين فلعنة الله على المدنية وعلى أهلها . ص136 .
2 ـ إن الجهاد إن لم يبدأ من البيت والمدرسة والجريدة ، فلا يمكن أن ينتهي إلى الساحة الحمراء ، فإذا أردتم أن تبلغوا نهاية الطريق فامشوا من أوله ، إن شئتم أن تصلوا إلى أعلى السلم فابدؤوا من أسفله ، فإن من يمشي من آخر الطريق يرجع إلى الوراء ، ومن ينزل من رأس السلم يصل إلى الأرض . ص246 .

وفي الختام هذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده ويلي هذا الكتاب كتاب آخر بإذن الله من كتب الشيخ على الطنطاوي رحمه الله .

ملاحظة :

أحرص في غالب هذا الجمع على الكيف دون الكم ، وأسأل الله أن أوفق إليه ، فاعذروني على الإقلال .
 
الكتاب الخامس : مقالات في كلمات ( الجزء الأول ) الطبعة السادسة 2007م ، دار المنارة .

1 ـ وقع مرة بيني وبين صديق لي ما قد يقع مثله بين الأصدقاء ، فأعرض عني وأعرضت عنه ، ونأى بجانبه ونأيت بجنبي ، ومشى بيننا أولاد الحلال بالصلح ، فنقلوا مني إليه ومنه إلي ، فحولوا الصديقين ببركة سعيهما إلى عدوين ، وانقطع ما كان بيني وبينه ، وكان بيننا مودة ثلاثين سنة .
وطالت القطيعة وثقلت علي ، ففكرت يوماً في ساعة رحمانية ، وأزمعت أمراً . ذهبت إليه فطرقت بابه ، فلما رأتني زوجه كذبت بصرها ، ولما دخلت تنبئه كذب سمعه ، وخرج إلي مشدوهاً ! فما لبثته حتى حييته بأطيب تحية كنت أحييه أيام الوداد بها ، واضطر فحياني بمثلها ، ودعاني فدخلت ، ولم أدعه في حيرته ، فقلت له ضاحكاً : لقد جئت أصالحك ! وذكرنا ما كان وما صار ، وقال وقلت ، وعاتبني وعاتبته ، ونفضنا بالعتاب الغبار عن مودتنا ، فعادت كما كانت ، وعدنا إليها كما كنا . وأنا أعتقد أن ثلاثة أرباع المختلفين لو صنع أحدهما ما صنعت لذهب الخلاف ، ورجع الائتلاف ، وإن زيارة كريمة قد تمحو عداوة بين أخوين كانت تؤدي بهما إلى المحاكم والسجون . إنها والله خطوة واحدة تصلون بها إلى أنس الحب ، ومتعة الود ، وتسترجعون بها الزوجة المهاجرة ، والصديق المخالف . فلا تترددوا . ص 53 ـ 55 .
2 ـ في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ، قرأته ألف مرة ، ولكني ما انتبهت له إلا اليوم ، وهو أنه لما أراد الهجرة إلى المدينة ، خلف على بن أبي طالب ، ليرد الودائع التي كانت عنده إلى أصحابها ! !
الودائع ... ؟ كيف كان رجال قريش يستودعونه أموالهم وتحفهم ، مع ما كان بينه وبينهم ؟ لقد كان بين محمد وبين قريش لون من ألوان العداء ، قل أن يكون له في شدته مثيل ، هو يسفه دينهم ، ويسب آلهتهم ، ويدعوهم إلى ترك ما ألفوه ، وما كان عليه آباؤهم ، وهم يؤذونه في جسده وفي أهله وأصحابه ، شردوهم إلى الحبشة أولاً ، وإلى يثرب ثانياً ، وقاطعوهم مقاطعة شاملة ، وحبسوهم في الشعب ثلاث سنين . . .
فكيف كانوا مع هذا كله يستودعونه أموالهم ؟ وكيف كان يحفظها لهم ؟ هل يمكن أن يستودع حزب الشعب مثلاً أمواله رجلاً من الحزب الوطني ؟ هل يأتمن الحزب الديموقراطي في أميركا مثلاً عضواً في الحزب الجمهوري على وثائقه ؟هل في الدنيا حزبان متنافران متناحران يودع أحدهما الآخر ما يخاف عليه من الضياع ؟ هل في تواريخ الأمم كلها رجل واحد ، كانت له مثل هذه المنقبة ؟ رجل يبقى شريفاً أميناً في سلمه وفي حربه ، وفي بغضه وفي حبه ويكون مع أعداء حزبه ، مثله في شيعته وصحبه ؟ وتكون الأمانة عنده فوق العواطف والمنافع والأغراض ، وتكون الثقة به حقيقة ثابتة ، يؤمن بها القريب والبعيد ، والعدو الصديق ؟ إنها حادثة غريبة جداً ، تدل على أن محمداً كان في أخلاقه الشخصية طبقة وحده في تاريخ الجنس البشري ، وإنه لو لم يكن بالوحي أعظم الأنبياء ، لكان بهذه الأخلاق أعظم العظماء . ص112 ـ 113 .
3 ـ رأيت البنت البارحة قد أخذت شيئاً من الفاصولياء وشيئاً من الرز ، وضعتهما في طبق كبير من النحاس ، ووضعت عليهما قليلاً من الباذنجان ، ورمت في الطبق خيارة وحبات من المشمش .... وذهبت به ، فقلت : لمن هذا يابنت ؟ قالت للحارس ، أمرتني سته أن أدفعه إليه . قلت : ارجعي ياقليلة الذوق ، هاتي صينية ، وأربعة صحون صغار ، وملعقة وسكيناً وكأس ماء ، وضعي كل جنس من الطعام في صحن نظيف ، فوضعت ذلك كله في الصينية مع الملعقة والسكين والكأس . وقلت : الآن اذهبي به إليه . فذهبت وهي ساخطة تبربر وتقول كلاماً لا يفهم .فقلت : ويحك هل خسرت شيئاً ؟ إن هذا الترتيب أفضل من الطعام ، لأن الطعام صدقة بالمال ، وهذه صدقة بالعاطفة ، وذلك يملأ البطن ، وهذا يملأ القلب ، وذلك يذل الحارس ويشعره أنه شحاد مُنّ عليه ببقايا الطعام ، وهذا يشعره أنه صديق عزيز أو ضيف كريم . وتلك يا أيها القراء الصدقة بالمادة ، وهذه الصدقة بالروح ، وهذه أعظم عند الله ، وأكبر عند الفقير ، لأن الفرنك تعطيه السائل وأنت مبتسم له أندى على قلبه من نصف الليرة تدفعها إليه متنكراً متكبراً عليه ، والكلمة الحلوة تباسط فيها الخادم ، أبرد على كبده من العطية الجزيلة مع النظرة القاسية .
فيا أيها المحسنون ، أعطوا من نفوسكم ، كما تعطون من أموالكم ، وأشعروا الفقراء أنكم إخوانهم ، وأنكم مثلهم ، وانزلوا إلى مكانتهم لتدفعوا إليهم الصدقة يداً بيد ، لا تلقوها عليهم من فوق ، فإن صرة الذهب إن وضعت في يد الفقير أغنته ، وإن ألقيت على رأسه من الطبقة السادسة قتلته ! . ص 296 ـ 297 .

هذا ما تيسر إيراده من الجزء الأول من هذا الكتاب ويليه بإذن الله الجزء الثاني .
 
الكتاب السادس : مقالات في كلمات الجزء الثاني ، الطبعة الثالثة 2004 ، دار المنارة .

1 ـ من أعظم الكتب التي قرأتها أثراً في النفس وجلباً للسعادة كتاب ( دع القلق وابدأ الحياة ) الذي ألفه ديل كارنيجي . ص59 .
2 ـ روى الإمام ابن عبدالحكم في سيرة عمر بن عبدالعزيز ، أن عمر كان يأمر أصحاب البريد أن يحملوا إليه كل كتاب يُدفع إليهم ، فخرج البريد ( الرسمي ) من مصر يوماً ، فدفعت جارية اسمها ( فرتونة السوداء ) مولاة رجل يسمى ( ذا أصبح ) كتاباً تذكر فيه أن جدار منزلها قصير وأنه يقتحم عليها منه فيُسرق دجاجها .
فكتب إليها عمر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح ، بلغني كتابك وما ذكرت من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيه فيسرق دجاجك ، وقد كتبت إلى أيوب بن شرحبيل آمره أن يبني لك ذلك حتى يحصنه مما تخافين إن شاء الله . والسلام .
فيا أيها القراء سألتكم بالله : هل تتصورن أن يكون في الدنيا شخص أهون على الناس وأدنى منزلة فيهم وأقل شأناً من هذه الجارية السوداء ؟ وهل تتصورن أن يكون في الدنيا رجل أسمى مكانة وأكثر شغلاً وأعز وأكرم من عمر الذي كان يحكم وحده ما بين حدود فرنسا وحدود التبت ، لا راد لحكمه ولا ناقض لإبرامه ، وليس فوقه إلا الله ؟ وهل تتصورن أن يكون في الدنيا موضوع أتفه وأسخف من جدار فرتونة ودجاجها ؟ومع ذلك لم تمنع عمر بن عبدالعزيز جلائل الأمور من أن يهتم بشكاة فرتونة ، ويكتب بشأنها إلى والي مصر وقائدها العام أيوب بن شرحبيل ، وأن يجيبها مطمئناً ومخبراً . هذا خبر من آلاف الأخبار التي يطفح بها تاريخنا أسوقه إلى رجلين : رجل يزهد في تاريخنا ويحقره ويولي بوجهه تلقاء الغرب في كل شيء ، يظن أن الخير لا يأتي إلا منه ، والنور لا ينبثق إلا من جهته ، وينسى أن الشرق تشرق منه الشمس ، ومن الغرب تأتي الظلمات . ورجل ولي ولاية ، أو نال وزارة ، فتكبر وتجبر ، وطغى وبغى ، وحسب أنه ساد الدنيا ، فلم يعد يرد على كتاب ولا يحفل بشكاة ولا ينظر إلى أحد ، لعله يتنازل فيرضى أن يكون بمنزلة عمر الذي كانت الدولة السورية كلها ضيعة واحدة في دولته ، ثم لم يمنعه ذلك أن يهتم بحائط فرتونة السوداء ودجاجاتها ، وأن يشغل والي مصر وقائد جندها بشأنها ، وأن يرد بيده على كتابها ! ألا تتنازلون يا سادتي من معاليكم فتكونوا مثل عمر ؟ ! . ص 76 ـ 77 .
3 ـ الناس ربما تركوا الفصيح ، لأن العامة تستعمله ، وجاؤوا بما لا أصل له في اللغة ، كقولهم : ( دهست السيارة رجلاً ) ، مع أن ( دهس ) لا أصل لها واللفظ الفصيح هو ( دعس ) . ومن الخطأ الشائع قولهم : ( اغرب عني ) بغين وراء ، مع أنها ( اعزب ) بعين وزاي ومنه قوله تعالى : ( لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ) .
ومن ذلك قولهم : ( مرأة ) مع أنها ( امرأة ) فإن عُرّفت قيل ( المرأة ) . ومن الأخطاء الشائعة ـ في مصر ـ أنهم يؤنثون الرأس فيقولون : ( هذه رأسي ) و ( رأسه ناشفة ) . ويجري هذا الخطأ على أقلام أكثر الكتاب ، مع أن الرأس مذكر ، والعرب لا يؤنثون الرأس ولا يرئسون الأنثى . ص210 ـ 211 .

وفي الختام هذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده ويلي هذا الكتاب كتاب آخر بإذن الله من كتب الشيخ على الطنطاوي رحمه الله .
 
الكتاب السابع : ذكريات الشيخ علي الطنطاوي الجزء الأول ، الطبعة الخامسة 2007 م ، دار المنارة .

وأقول قبل أن أشرع فيها من سمع منكم بجهاد الكلمة والقلم وأحب أن يرى ذلك عياناً فليقرأ ذكريات الشيخ رحمه الله بأجزائها الثمانية وسيجد بغيته .

1 ـ كُتب عن الشيخ على الطنطاوي تحقيق في مجلة المسلمون ووضعوا صورته على غلاف المجلة فكتب معلقاً : لماذا وضعتم صورتي على الغلاف ؟ إننا نسمع أن فتاة الغلاف لا تكون إلا من ذوات الصبا والجمال فماذا يصنع القراء بصورة شيخ مثلي ؟ ثم إنكم اخترتم صورة لي كبرتني وجعلتني أبدو أكبر من سني إن الذي يراها يظنها صورة عجوز في السادسة والسبعين ، مع أني في الخامسة والسبعين فقط لاغير ! ! ص 38 .
2 ـ كلمة ( مقهى ) فصيحة ، و ( أقهى ) أي أدام شرب القهوة . ص53 .
3 ـ كلمة فطس من العامي الفصيح . ص91 .
4 ـ الأتراك يقولون للعالم ( المولى ) فلان ، والأكراد يقولون ( الملا ) فلان ، وأصلها المولى . ورأيت في جاوة لما زرتها عالماً اسمه الكيا دحلان ، و( الكيا ) لقب للعالم وليس اسماً ، ومنه عرفت معنى اسم الفقيه الشافعي الكيا الهراسي . ص 105 ـ 106 .
5 ـ أنا مثل خراش في تردده وحيرته لا في خلقه وصورته لأنه كما تعرفون ( أو كما لا تعرفون ) كلب وأنا بحمد الله بشر ص 185 .
قلت يشير رحمه الله إلى قول القائل :
تكاثرت الظباء على خراش
فما يريد خراش ما يصيد
6 ـ فأنا اليوم ، وأنا بالأمس ، كما كنت في الصغر أمضي يومي أكثره في الدار أقرأ ، وربما مر علي يوم أقرأ فيه ثلاثمئة صفحة . ومعدل قراءتي مئة صفحة ، ومن سنة 1340هـ إلى هذه السنة 1402هـ اثنتان وستون سنة ، احسبوا كم يوماً فيها واضربوها بمئة تعرفوا كم صفحة قرأت . ص211 .
7 ـ من ظن أن التصريح باسم زوجته عيب أو حسب أنه مُخل بالمروءة فإني أخشى عليه الكفر ، لأنه يكون قد نسب العيب والإخلال بالمروءة إلى أكمل البشر وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الصحيح أنه صرح باسم عائشة وفاطمة و خديجة ، ولم ير في ذلك عيباً . واسم أمي رئيفة بنت الشيخ أبي الفتح الخطيب شقيقة الأستاذ محب الدين الخطيب . أما كيف تزوج بها أبي فأنا أمتنع عن ذكره . لماذا ؟ لأنني لا أدريه ! لا تعجبوا إذا قلت لكم أن الغرباء دُعوا إلى حضور العقد وأنا ولدها لم أدُع إليه . إي والله لم أدُع إليه ، ولم أعلم به إلا بعد إتمامه بزمن طويل ! ! . ص 258 .

هذا ما تيسر إيراده من فوائد الجزء الأول ويليه بإذن الله فوائد الجزء الثاني .
 
الكتاب الثامن : ذكريات الشيخ علي الطنطاوي الجزء الثاني ، الطبعة الخامسة 2007م ، دار المنارة .

1 ـ الدعس كلمة فصيحة ، أما الدهس فما لها في العربية أصل . ص69 .
2 ـ إني أكتب اليوم عن أمي ، ولكن كل واحد منكم سيقرأ فيه الحديث عن أمه هو ، ألم يقل سبنسر : إن الجميع يبكون في المآتم ولكن كلا يبكي على ميته ؟ فمن قعد يقرأ هذه الحلقة وله أم فليتدارك ما بقي من أيامها لئلا يصبح يوماً فلا يجدها ولا يجد ما يعوضه عنها . وإن كانت عجوزاً أوكانت مريضة أو كانت مزعجة بكثرة طلباتها فاذكر أنها إن احتاجت إليك اليوم فلقد كنت يوماً أحوج إليها ، وإن طالبتك أن تقدم لها من مالك فقد قدمت لك من نفسها ومن جسدها ، وأنها حملتك في بطنها فكنت عضواً من أعضائها يتغذى من دمها ، ثم وضعتك كرهاً عنها ، انتزعت منها انتزاع روحها .
أما أبصرت يوماً حاملاً في شهرها التاسع بطنها إلى حلقها لا تستطيع أن تمشي من ثقل حملها ولا تستطيع أن تنام ؟ وإن لم تر بعينك امرأة تلد أفما سمعت صراخها من ألمها ؟ ألم يبلغك ما تقاسي وما تتعذب ؟
لو سبب لك إنسان عشر هذا العذاب لأعرضت عنه ولهجرته هذا إن أنت رفقت به فما انتقمت منه ولا آذيته ولكن الأم تنسى بعد لحظات من خروج الولد ألمها ثم تضمه إلى صدرها فتحس كأن روحها التي كادت تفارقها قد ردت إليها ، وتلقمه ثديها ليمتص حياتها فيقوى بضعفها ويسمن بهزالها أو يمدها الله بقوة من عنده فلا تضعف ولا تهزل ويقوى هو ويسمن . وإن ضقت بطول حياة أمك ، تخفي ذلك في أعماق نفسك وتنكره بلسانك فقد كانت ترى فيك حياتها ، إن تبسمت أحست أن الدنيا تبسم لها والأماني قد واتتها ، وإن بكيت بكى قلبها واسود نهارها ، وإن مرضت هجرت منامها ونسيت طعامها ، ترعاك ساهرة حتى تصبح ، فإن أصبحت ظلت ترعاك حتى تمسي . إنك لو أحببتها بقلبك كله لم توفها إلا واحداً بالمئة مما أولتك هي من حبها .
وإن كان لك أب شيخ كبير محتاج إليك ، فاذكر أنه طالما تعب لتستريح أنت وشقي لتسعد ، ماجمع المال إلا لك وما خسر ماضيه إلا ليضمن مستقبلك ، وأنه كان يعود من عمله محطماً مكدوداً فتثب إلى حجره وتقول له : بابا ، وتمد يديك الصغيرتين لتعانقه ، فينسى بك التعب والنصب ، ويرى المسرات كلها قد جمعت له والمتاعب كلها قد نأت عنه . واذكر أنه مازاد من عمرك يوم حتى نقص من عمريهما مثله ، ولا بلغت شبابك حتى ذهب شبابهما ، ولا نلت هذه القوة حتى نالهما الضعف . أفئن بلغت مبلغ الرجال كان جزاؤهما منك الصدود والنكران ! إن الإنسان يربي كلباً فيفي له ، وحماراً فلا يرفسه ، ويطعم القط فلا يعضه ، بل إن من الناس من يتألف صغار الأسود والنمور وأنواع الوحش فتأنس به وتأوي إليه وتلحس يده ـ. ويفني الوالدان نفسيهما في الولد فينسى فضلهما ويجحد يدهما ؟
يا عجــــبـــا ً ! !
أيكون الكلب والحمار والقط والنمر أوفى من الإنسان ؟ ! وقد تجد في الناس من يظهر لك من حبه أكثر مما تظهر الأم ويظهر الأب ، ولكن منهم من يحبك لمالك أو لجمالك أو لجاهك وصلاح حالك ، فإن ساءت الحال أو ذهب الجمال أو قل المال أعرض عنك ولم يعد يعرفك . أما الذي يحبك لذاتك ويبقى على حبك مهما تبدلت الحال بك فهو أمك وأبوك ، لاتجد مثلهما .فمن كانت له أم أو كان له أب فقد فتح له باب الجنة ، فمن الذي يمر بباب الجنة مفتوحاً فلا يدخلها ؟ !
إني أكتب اليوم عن موت أمي ، وقد كتبت من قبل عن موت أبي ، وإن كنت أتمنى أن أخسر تسعة أعشار ما أملك من مال اقتنيته وكتب ألفتها ، وشهرة نلتها ومناصب تقلدتها ، وأن تكون بقيت لي أمي وبقي لي أبي .ص94 ـ 96
3 ـ من عيوبي ، وعلى الكاتب أن يجنب قرّاءه عيوبه ، أني أؤخر كل عمل إلى آخر وقته ثم أقوم مسرعاً أعدو كالمجنون لقد تركت الحكمة العربية الصحيحة ( لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد ) وأخذت الكلمة الحمقاء للكاتب الفاسق أوسكار وايلد ( لا تؤخر إلى غد ما تستطيع عمله بعد غد ) لقد أضاع علي التسويف خيراً كثيراً في الدنيا وأسأل الله ضارعاً إليه ألا يضيع خير الآخرة . ص198 .
4 ـ من عيوبنا صفة تكاد تكون فينا معشر العرب جميعاً ، بقيت من عهد البداوة ، هي الإفراط في الفردية . إن كل واحد منا يشعر أنه جماعة وأنه أمة وحده ، يريد النفع لبلده لكن بشرط أن يجيء على يده ، فإن جاء على يد غيره نَفِسهُ عليه وتربص به العثرات والسقطات . والواعظ يدعو الناس إلى الله ويرغبهم في التقوى ، فإذا اتقوا عن طريق غيره وجد عليه وربما تنكر له ! .
ونحن جميعاً نكره النقد ولا نصبر عليه ونضيق بالمعارضة ولا نحتملها ، إن أنت نقدت ديوان شعر صرت عدواً للشاعر وإن تكلمت عن كتاب صرت خصماً لمؤلف الكتاب ، لذلك قلّت فينا الأعمال الجماعية ، وإن وجدت فقدت روحها وصارت غالباً مؤسسة فردية الفعل فيها لواحد والاسم للجماعة ، كأن الله خلقنا على مثال الثوم ( في شكله لا في ريحه ) تأخذ رأس الثوم فتقشره فتجد فيه رؤوساً أصغر منه ، فاقشر أحد هذه الرؤوس تلق فيها رؤوساً أخرى صغاراً ، فنحن مثل الثوم كلنا رؤوس ! . ص233 .
5 ـ هل قرأتم كتاب ( الفرج بعد الشدة ) للقاضي التنوخي ؟ لقد قرأته وعمري إحدى عشرة سنة ، ثم قرأته أكثر من ثلاثين مرة وحفظت قصصه كلها من كثرة ما أعدت النظر فيه ، وصححت من حفظي الكثير من أخطاء النسخة المطبوعة منه ، ولو وجدت له نسخة مخطوطة صحيحة لحققته وأعدت نشره لأني صرت من أعرف الناس به فاقرؤوه ـ على كثرة أغلاطه ـ تجدوا فيه ما لا تجدون مثله في كتاب آخر من صور المجتمع العباسي ومصطلحات أهله ، وأحوال الموظفين وأوضاع التجار ، وأقل ما تستفيدون منه أنه يهون على المحزون منكم حزنه حين يرى أن من الناس من أصابه أكثر مما أصابه . ص372 .
6 ـ عرفت شعر شوقي وحافظ والمطران من قديم ، ولست أدري إلى الآن ما الذي جمع مطران بهما وحشره معهما ، وما هو من طبقتهما ولا من أقرانهما ، وما قرأت له عشرة أبيات متوالية يقال لها ( شعر ) حتى قصيدته المشهورة عن بعلبك ما هي إلا تاريخ منظوم وأفكار تمشي على الأرض ، ليس فيها ما يطير إلى جو الشعر ! . ص392 .

هذا ما تيسر إيراده من هذا الجزء ويليه بإذن الله فوائد الجزء الثالث .
 
أسأل الله أن يوفقك أخي أحمد ويبارك فيك ، وأشير عليك بعدم التردد بقراءة كتبه رحمه الله ، لكن لعلك تبدأ مثلاً بكتاب صور وخواطر ، وفصول في الثقافة والأدب ، ومن حديث النفس ، وسيتملكك أسلوب الشيخ وصدق كتاباته ثم بعد ذلك يمكنك الشروع في ذكرياته رحمه الله ، وأحب أن أشير إلى أن ثمة مسائل يطرقها الشيخ في بعض كتبه قد لا يوافق عليها ولكن إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث . وفي الختام أسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح .
 
اخي فهد

اظنني قرأت كثيرا مما طبع للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله

ولكن( كناشتك) تحوي روائع وانتقاء يدل على ذوق عال

سددك الله ونفع بك
 
أخي الفاضل (فهد)
قرأتُ عامة ما كتبتً من (مختارات طنطاوية)
فوجدتُ فيها كنزاً مخبوءاً من الثقافة والأدب والمُتعة وجمال الذوق وحسن الاختيار
وكنت منذ عهد طويل قد قرأت عدداً من مؤلفات الشيخ الطنطاوي رحمه الله
لكنني الليلة قد أفدت فوائد جمة، بما وجدتُ بخطك في هذا المنتدى
فجزاك الله خير الجزاء، وزادك من فضله.
وجزى الله الإخوة المشاركين خير الجزاء
ورحم الله الشيخ علي الطنطاوي رحمةً واسعةً، أسأل الله أن يجعله من أهل الفردوس الأعلى.
 
عودة
أعلى