فوائد ولطائف في سورة الزمر للبقاعي – رحمه الله –

إنضم
12/10/2010
المشاركات
251
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، أما بعد :
فهذه الوقفات التي سأسوقها هي نبذ من الدرر التي نظمها البقاعي – رحمه الله – في تفسير سورة الزمر ، بعض منها أشبه بالقواعد التفسيرية لاطراده – رحمه الله – في دلالتها حسبما وقفت عليه ، وبعض منها تعد بمثابة اللفتات والإشارات الخفية التي لا تظهر إلا لمن أعمل ذهنه ووفقه الله لاستخراج ما فيها من الكنوز الثمينة ، والتي لا يقدرها حق قدرها إلا أولو الفضل ، وقد تصرفت في صياغتها وجعلتها على نقاط ، وإليك يا أخي القارئ شيء من هذه الدرر :
1- في قوله تعالى :" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق " عدى الفعل(أنزلنا ) بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة إتباعه بالأمر بالعبادة بخلاف ما يأتي في هذه السورة المنصوص عليه في قوله تعالى : " إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق " فإنه للنهاية بصيرورته خلقاً له – صلى الله عليه وسلم – فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالةً ، إذ إنه يوحي بثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم الخاص به – صلى الله عليه وسلم - .
2- التعبير بصيغة الافتعال في قوله تعالى : " والذين اتخذوا من دونه أولياء " فيه دلالة على أن الإنسان مفطور على الخضوع للملك الديان ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس لها بما لها من الهوى والطغيان .
3- الدلالة على المعنى بلفظين أجدر في ثباته وتكثيره من لفظ واحد ، ولذلك حكى الله قول المشركين : " إلا ليقربونا إلى الله زلفى " بلفظين مختلفين ( ليقربونا ، زلفى ) مع أن معناهما واحد .
4- أن الله – سبحانه – إذا أراد التعميم في الحكم على شيء علقه بوصف ، ومن الأمثلة على ذلك :
أ‌- قال تعالى : " إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار " ولم يقل : لا يهديهم ؛ لبيان أن الله لا يهدي كل من اتصف بهاتين الخلتين الذميمتين : الكذب والكفر .
ب‌- قال تعالى : " ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً " أصل هذه الجملة في غير القرآن : ( ولو أن لهم )، ولكنه سبحانه أراد تعليق الحكم بمن وقع منه الظلم .
5- في قوله تعالى : " لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء " هنا عبر الحق – جل جلاله – بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل إشارةً إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء أجلها على سبيل التكرار والاستمرار .
6- التعبير بلفظ ( وأنزل ) في قوله سبحانه : " وأنزل لكم من الأنعام " إشارةً إلى أن أكثر الأنعام أشد من الإنسان ، فكان تسخيره له وتذليله إنزالاً له عن قوته وإيهاناً لشدته .
7- نبه بالبناء للمفعول في قوله – سبحانه- " فأنى تصرفون" للدلالة على أنهم مقهورون في فعل ما هم عليه لأنهم تابعون للهلاك المحض ، تاركون للأدلة التي لا خفاء في شيء منها ، ومعلوم أنه لا يترك أحد الدليل في الفيافي العطشة الذي إن تركه هلك إلا قهراً ، وأن الناس هيئوا لطريق الهدى بما خلقوا عليه من أحسن تقويم بسلامة الفطر واستقامة العقول ، وأشار إلى هذا لأنهم يأنفون من النسبة إلى القهر، وأن يفعلوا شيئاً بغير اختيار لما عندهم من الأنفة وعلو الهمم والعظمة .
8- في قوله تعالى : " وإن تشكروا يرضه لكم " اختلف القراء في هائه للدلالة على مراتب الشكر – والله أعلم - ، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن كان في الدرجة الأولى منه .
9- في قوله تعالى : " ثم إذا خوله نعمة منه " جاء التعبير بلفظة (خول) للدلالة على أن عطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه شيئاً ، لأن التخويل لا يكون جزاءً بل ابتداءً ، ومن ذلك قوله تعالى : " ثم إذا خولناه نعمة منا " .
10- قال تعالى : " أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً .... " الآية من الاحتباك : ذكر السجود دليل على الركوع ، والقيام دليل على القعود ، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن السجود يدل على العبادة ، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة ، وذلك مع الإيذان بأنهما أعظم الأركان . فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين الآخرين ؛ لأن القعود إنما هو للرفق بالاستراحة ، والركوع إنما أريد به إخلاص الأركان للعبادة لأنه لا يمكن عادةً أن يكون لغيرها ، وأما السجود فيطرقه احتمال السقوط والقيام والقعود مما جرت به العوائد ، فلما ضم إليهما الركوع تمحضا للخضوع بين يدي الملك العليم العزيز الرحيم .
11- في قوله تعالى " إنما يتذكر أولو الألباب " فائدتان لطيفتان :
أ‌- أن التذكر المنوه عنه في هذه الآية المقصود به التذكر العظيم بما أفهمه إظهار التاء . والبقاعي – رحمه الله – في كثير من المواضع يشير إلى ظهور المعنى وجلائه وعظمته إذا كانت حروف اللفظة ظاهرة بخلاف ما إذا كانت مدغمة فإنها تدل على حصول شيء من المعنى المراد ولو كان أدناه ، كما أن فيها إيحاءً إلى دقة وخفاء المسلك المراد من اللفظ ، كما في قوله تعالى :" قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " . فالإدغام هنا جيء به للدلالة على أنهم حاولوا – صلى الله عليه وسلم – في أمر آلهتهم على سبيل المكر والخداع .
قلت : هذا المعنى استقاه – والله أعلم – لأن الإدغام فيه إدخال أحد الحرفين في الآخر فلا يشاهد ولا يظهر وهو مناسب لمعنى المكر والخديعة إذ إن المكر فيه معنى الخفاء وعدم ظهور ما يريده الماكر بمن يمكر به .
ب‌- التعبير هنا باللب الذي هو خلاصة الشيء ؛ لأن السياق للإخلاص .
12- في قوله تعالى : " قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم " فائدة لطيفة وهي أن الله جل وعلا لفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف للتنبيه وللدلالة على أن العاقل من أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً وأكثر له العطف والتقريب ذلاً في نفسه وصغاراً وخوفاً وانكساراً مما أقله قطع الإحسان .
13- نبه ببناء الفعل في قوله تعالى : " أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين " للدلالة على عظمة الأمر بحيث إنه قطع ومضي فلم يبق فيه مشوبة، وأقام مقام الفاعل دليلاً على أنه العمدة للحث على لزومه .
14- صيغ المبالغة إذا بنيت على الضم أفادت بإرادة الزيادة في مبالغة المعنى المراد تقريره ، ومن ذلك قوله تعالى : " ألا ذلك هو الخسران المبين " فقد أتى بصيغة الفعلان المفهم مطلقاً للمبالغة وزاده تأكيداً ببناء المصدر على الضم الذي هو أثقل الحركات .
15- تذكير الفعل أو الاسم - فيما يجوز فيه التذكر والتأنيث – يدل على القوة والشدة ، والتأنيث يدل على اللين والرخاوة والضعف ، وإليك يا أخي القارئ أمثلة على ذلك :
أ‌- إسقاط تاء التأنيث الدالة على اللين في قوله تعالى : " أفمن حق عليه كلمة العذاب" للتأكيد على النهي عن الأسف عليهم .
ب‌- تذكير الفعل في قوله تعالى : " فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا " للدلالة على شدة ما أصابهم .
ج – إثبات تاء التأنيث في قوله تعالى : " بلى قد جاءتك آياتي " للدلالة على ضعف النفس عن حمل العذاب وغلبة النقائص عليها .
16- التعبير بلفظة ( ثم يجعله حطاماً ) لأن السياق لإظهار القدرة التامة ، حيث أسند ( الجعل ) إليه – سبحانه – بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون ؛ لأن السياق ثم لأن الدنيا عدم .
17- قال تعالى : " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن " جيء هنا باسم الإشارة التي هي أعرف المعارف ، وزاد على ذلك بأن أتى باسم الإشارة التي تفيد القرب للدلالة على أن ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – خلع القلوب وملأها فلا حاضر فيها سواه .
تنبيه : القول بأن اسم الإشارة أعرف المعارف يحتاج إلى زيادة بحث وتحقيق .
18- في قوله تعالى : " والذي جاء بالصدق وصدق به " أفرد الضمير للإشارة إلى قلة الموصوفين بهذا الوصف من الصدق ، وختم الآية بصيغة الجمع في قوله : " أولئك هم المتقون " لبيان عظمتهم وإن كانوا قلة .
19- في قوله تعالى:" ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون" إشارة إلى مداومتهم على الخير حسبما يتضح من التعبير بالكون والمضارع .
20- لفظة ( قوم ) تشير إلى معنى القوة والشدة والبأس ومن أمثلة ذلك :
أ‌- " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " أي : ذوي قوة في مزاولة الأمور .
ب‌- " يا قوم اعملوا على مكانتكم " أي : يا أقاربي الذين أرتجيهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولونه .
ج- " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " أي : ذوي قوة وهمم علية .
21- جيء بـ ( ال ) في قوله تعالى : " إنا أنزلنا عليك الكتاب " للدلالة على أنه جامع لكل خير لكونه في غاية الكمال .
22- عبر عن جمع الكثرة بجمع القلة في قوله تعالى : " الله يتوفى الأنفس " إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة .
23- الفعل ( كسب ) أو (يكسب ) أخص من ( يعمل ) لأن المقصود به العمل المقرون بالرغبة المظنون به النفع الذي يعد من خواص أعمال المرء .
24- في قوله تعالى : " قل يا عبادي " لفت الخطاب من الغيبة إلى معنى الخطب زيادةً في الاستعطاف ، وزاده في الترفق بذكر العبودية والإضافة إلى ضميره عرياً عن التعظيم .
25- الإضافة إلى لفظ الجلالة أو إظهاره في السياق يدل على تعظيم المعنى المراد إثباته ، ومن التطبيقات التي يمكن أن تورد في هذا الشأن :
أ‌- قال تعالى : " أولو يعلموا أن الله يسط الرزق لمن يشاء ويقدر " حيث قال البقاعي – رحمه الله – : ولفت الكلام إلى الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ودفعاً للبس والتعنت بغاية الإفهام .
ب‌- قال تعالى : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " فقد أضيفت الرحمة إلى الله لبيان عظم مقام رحمة الرب سبحانه ، وكرر لفظ الجلالة في قوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعاً " تعظيماً للحال وتأكيداً بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم .
ج – قال تعالى : " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم " فقد أظهر هنا لفظ الجلالة ولم يضمره لتعظيم حالهم وتسكين قلوبهم .
26- قال تعالى : " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين " في هذه الآية العظيمة فوائد جليلة نذكر منها اثنتين :
أ‌- يفهم من إفراد (نفس) وتنكيرها أن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد وهذا كافٍ في الوعيد .
ب‌- إلحاق (الألف) بدلاً من (الياء) في " يا حسرتى " تعظيما لشأن الحسرة التي لحقتهم وطولها . ودل على تجاوز هذا التحسر الحد قراءة أبي جعفر " حسرتاي" بالجمع بين العوض وهو ( الألف) والمعوض عنه وهو (الياء) ، وحل المصدر بأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم ، وأدل على المراد وأعظم .
27- الفعل أو الاسم الخالي عن التشديد أعني المخفف يفيد تحقيق المعنى المراد ولو بأدنى شيء . أما الاسم أو الفعل المشدد فهو يفيد عظمة حصول المعنى المقصود ،. ومن ذلك قوله تعالى : " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم " حيث قال البقاعي – رحمه الله -:
(أي مطلق إنجاء لبعض من اتقى بما أشارت إليه قراءة أبي جعفر بالتخفيف . وتنجية عظيمة لبعضهم بما أفادته قراءة الباقين بالتشديد).
وختاماً أسأل الله سبحانه أن ينفع بهذه الكلمات كاتبها وقارئها ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد .
 
عودة
أعلى