يعد كتاب أحكام القرآن للقاضي ابن العربي من أجود كتب أحكام القرآن ، وفيه من الفوائد والدرر الشيء الكثير .
وقد رأيت أن أنتخب منه ما يسّر الله تعالى من الفوائد والقواعد والضوابط والكليات مع التعليق على بعضها بما يفتح الله به .
وهذا أوان الشروع في المقصود :
• قال في معرض بيانه لقرآنية البسملة : ( وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ فَفِيهَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ .)قلت : هذا كلام فيه مبالغة وهو دليل على تحامله على الشافعي .
الأخ أبا مُجاهد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وددت أن تشفع رأيك بالنصوص.
أمّا أن يقول رأياً وتقول أنت رأياً مُجرّداً فهذا أقلّ ما يقال فيه أنه لا داعي له.
وتحامُلُ ابن العربيّ قد عرفناه من كلامِه على ابن حزم رحمه الله فقد
أبعد النّجعة ولم يفهم الرجل.
لكنّ في هذه المسألة التي تعرضها وأمثالها
وددت أن تكشف أو تحاول أن تكشف لنا مقاصد ابن العربي وإلى ماذا يُلمح
من خلال عرضك لأقوال الشافعيّ نفسه ولو اكتفيت بمختصر المزني لاكتفينا
جزاك الله خيراً
أقول : هذا الحصر ليس بصحيح ؛ بل قد صح في فضلها أحاديث أخرى مذكورة في كتب فضائل السور.
وبهذه المناسبة أنبه نفسي وجميع الباحثين وطلبة العلم على أهمية التحري في إصدار الأحكام وعلى تجنب استعمال مثل هذه الصيغ التي لا يصح أن تصدر إلا ممن أحاط علماً بالمسألة التي يبينها.
ولو قال في هذه هذا الحال : "ليس في فضلها حديث صحيح إلا حديث واحد فيما أعلم " لقبل ذلك .
ومن الكليات التي نص عليها : ما ذكره عند بيانه للمراد بالصلاة في قول الله تعالى : {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ( لبقرة :3) ، حيث قال : ( وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ يَرِدُ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجْمَلٌ مَوْقُوفٌ بَيَانُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحْدُودًا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ؛ فَإِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ بَيَانِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مُجْمَلِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ.)
أقول : لعل مراد ابن العربي بكلامه هذا أن ما كان في القرآن من آيات الحلال والحرام والأحكام فمرجع بيانها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو ما ذكره ابن جرير الطبري بقوله : ( فقد تبين ببيان الله جلّ ذكره أنّ مما أنـزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما لا يُوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك تأويل جميع ما فيه: من وجوه أمره -واجبه ونَدْبِه وإرْشاده-، وصنوفِ نَهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعضَ خَلْقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه، التي لم يُدرَك علمُها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَّته. وهذا وجهٌ لا يجوز لأحد القول فيه، إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأويلَه ، بنصٍّ منه عليه، أو بدلالة قد نصَبها، دالَّةٍ أمَّتَه على تأويله.) [ تفسير ابن جرير 1/74 بتحقيق شاكر].[/align]
في ضوء كلام ابن العربيّ :
1- بدا لي أن ابن العربيّ يتحدّثُ عن اللفظ المفرد وليس عن التركيب ، فقوله:
[align=justify]وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ يَرِدُ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجْمَلٌ مَوْقُوفٌ بَيَانُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحْدُودًا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ؛ فَإِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ بَيَانِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مُجْمَلِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ[/align]
يفصله ويبينه قول ابن رشد عن اللفظ أيضاً:
[align=justify]والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط، وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص، ولا خلاف في وجوب العمل به، وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد، وهذا قسمان: إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالـ(مجمل)، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما، وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر( ظاهر)ًا، ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل (محتملـ)ـًا، وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل -مقدمة بداية المجتهد لابن رشد-الصفحة الثانية[/align]
2-فمثال المجمل لفظ (القُرء)،(لامستم)،وماذا بعد؟
أتمنى على الإخوة مشاركتنا في إيراد ألفاظ من هذا القبيل شاكرين لهم المشاركة.
3-هذا .. وأودّ التنويه إلى أنّ قوله:وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ"" كلام أتمنى على المتخصصين في أصول الفقه أن يوردوا لنا نصوصاً من علماء القرن الثاني أو الثالث تؤصِّل هذا القول.أو تلقي عليه ضوءا.
4-وأيضاً أخبر الأخ العبيدي والمطّلعين عن معنى(وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ)
فإني لم أفهم معنى العبارة، شكر الله لمن أورد النص ولمن ساهم في تفهيمي إياه.
الذي ظهر لي في معنى قول ابن العربي : ( وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ ) هو أنه قد حقق هذه المسألة وبينها في موضع آخر . أو أن موضع بيانها هو كتب الأصول.
[align=justify] ومن استدراكات ابن العربي المتعلقة بالاستنباط : استدراكه على من استدل بقوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾(البقرة: من الآية29) على أن الأصل في الأشياء الإباحة ؛ فقد رد هذا الاستدلال ولم يرتضه .
[align=justify]وقد حرّر ابن عاشور هذه المسألة عند تفسيره لهذه الآية فقال : ( أخذوا من قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقاً لأجلنا وامتن بذلك علينا وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب «الكشاف» ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي . وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلاً قال ابن العربي في «أحكامه» : «إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم» الخ .
والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه خلق لأجلنا إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة ، على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لا سيما وقد خاطب الله بها قوماً كافرين منكراً عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعاً ، وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة .)[/align]
[align=justify]قلت: مسألة "شرع من قبلنا" معروفة، ومن أحسن من قرأته في تحريرها ما ذكره الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان بقوله: ( وحاصل تحرير المقام في مسألة « شرع من قبلنا » أن لها واسطة وطرفين ، طرف يكون فيه شرعاً لنا إجماعاً ، وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ، ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا ، كالقصاص ، فإنه ثَبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ، في قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] الآية ، وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتل } [ البقرة : 178 ] ، وطرف يكون فيه غير شرعٍ لنا إجماعاً وهو أمران :
أحدهما : ما لم يثبت بشرعنا أصلاً أنه كان شرعاً لمن قبلنا ، كالمتلقي من الإسرائيليات ، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم ، وتكذيبهم فيها ، وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعاً لنا إجماعاً .
والثاني : ما ثبتَ في شرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار ، والأغلال التي كانت على من قبلنا ، لأنَّ الله وضعها هنا ، كما قال تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِم } [ الأعراف : 157 ] وقد ثبت في صحيح مسلم : « أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } [ البقرة : 286 ] أن الله قال : نعم قد فعلت » .
ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا ، على لسان نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ما وقع لعبدة العجل ، حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل ، كما قال تعالى : { فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } [ البقرة : 54 ] .
والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء ، وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا ، ولمن يبيِّن لنا في شرعنا أنه مشروع لنا ، ولا غير مشروع لنا ، وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعاً لنا ، وهو مذهب الجمهور ..)[/align]
تتمة: وهناك فائدة دقيقة ذكرها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن بعض العلماء، وهي: ( تحريم التحجر؛ وهو أن يضع شيئاً في الصف، فيمنع غيره من الصلاة فيه، ويخرج من المسجد؛ قالوا: لأن هذا منع المكان الذي تحجره بالمسجد أن يذكر فيه اسم الله؛ لأن هذا المكان أحق الناس به أسبق الناس إليه؛ وهذا قد منع من هو أحق بالمكان منه أن يذكر فيه اسم الله؛ وهذا مأخذ قوي.)