بسم الله الرحمن الرحيم
عن عبد الله بن المبارك قال : حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سليم أحد بني ربيعة بن حنظلة بن عدي قال: بعثني وعون بن عبد الله عمر بن عبد العزيز، إلى خوارج خرجت بالجزيرة فذكر الخبر في مناظرة عمر الخوارج، وفيه : قالوا : خالفت أهل بيتك وسميتهم الظلمة، فإما أن يكونوا على الحق أو يكونوا على الباطل، فإن زعمت أنك على الحق وهم على الباطل فالعنهم وتبرأ منهم، فإن فعلت فنحن منك وأنت منا، وإن لم تفعل فلست منا ولسنا منك .
فقال عمر: " إني قد علمت أنكم لم تتركوا الأهل والعشائر وتعرضتم للقتل والقتال إلا وأنتم ترون أنكم مصيبون، ولكنكم أخطأتم وضللتم وتركتم الحق، أخبروني عن الدين أواحد أو اثنان؟
قالوا: بل واحد !
قال: فيسعكم في دينكم شيء يعجز عني؟!
قالوا: لا .
قال: أخبروني عن أبي بكر وعمر ما حالهما عندكم؟
قالوا: أفضل أسلافنا أبو بكر وعمر .
قال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي ارتدت العرب فقاتلهم أبو بكر فقتل الرجال وسبى الذرية والنساء؟ قالوا: بلى .
قال عمر بن عبد العزيز: فلما توفي أبو بكر وقام عمر رد النساء والذراري على عشائرهم؟
قالوا: بلى .
قال عمر: فهل تبرأ عمر من أبي بكر ولعنه بخلافه إياه؟
قالوا: لا.
قال: فتتولونهما على اختلاف سيرتهما؟
قالوا: نعم .
قال عمر: " فما تقولون في بلال بن مرداس؟ "
قالوا: من خير أسلافنا بلال بن مرداس .
قال: " أفلستم قد علمتم أنه لم يزل كافًّا عن الدماء والأموال، وقد لطخ أصحابه أيديهم في الدماء والأموال فهل تبرَّأت إحدى الطائفتين من الأخرى أو لعنت إحداهما الأخرى؟
قالوا: لا .
قال: فتتولونهما جميعًا على اختلاف سيرتهما؟
قالوا: نعم .
قال عمر: فأخبروني عن عبد الله بن وهب الراسبي حين خرج من البصرة هو وأصحابه يريدون أصحابكم بالكوفة فمرُّوا بعبد الله بن خباب فقتلوه وبقرُوا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال وغلوا الأطفال في المراجل وتأولوا قول الله عز وجل : (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) (نوح: 27) ثم قدموا على أصحابهم من أهل الكوفة وهم كافُّون عن الفروج والدماء والأموال فهل تبرأت إحدى الطائفتين من الأخرى أو لعنت إحداهما الأخرى؟
قالوا: لا .
قال عمر: " فتتولونهما على اختلاف سيرتهما؟ "
قالوا: نعم .
قال عمر: " فهؤلاء الذين اختلفوا بينهم في السيرة والأحكام ولم يتبرأ بعضهم من بعض على اختلاف سيرتهم ووسعهم ووسعكم ذلك ولا يسعني حين خالفت أهل بيتي في الأحكام والسيرة حتى ألعنهم وأتبرأ منهم !!
أخبروني عن اللعن أفرض هو على العباد ؟!
قالوا: نعم !
قال عمر لأحدهما : متى عهدك بلعن فرعون ؟!
قال : ما لي بذلك عهد منذ زمان .
فقال عمر: " هذا رأس من رءوس الكفر ليس له عهد بلعنه منذ زمان، وأنا لا يسعني أن لا ألعن من خالفتهم من أهل بيتي " .
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله برقم (1837) .
من فوائد هذه القصة :
1 ) أن الخوارج لا يَسلَمُ منهم أحد ، مهما كان حسن السيرة ، ولو سلم منهم أحد لسلم منهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وفي هذا تعزية لكل من ناله شيء من أذاهم ولعنهم وتكفيرهم وبغيهم .
2 ) أن الخوارج يبتدعون في الدين ويشرعون ما لم يأذن به الله ، مع زعمهم أنه لا حكم إلا لله ، فيشرطون في باب البراءة واللعن شروطًا لم يشرطها الله تعالى في كتابه ولا نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته ، حتى يعدُّوا الرجل عدلًا ، فشرطوا على عمر رضي الله عنه البراءة ممن سبقه من بني أمية ولعنهم ، مع أنه ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم اشتراط ذلك .
3 ) أن الخوارج لا يرضون عنك ولا يقنعون بما تشترك به معهم من الصواب حتى توافقهم على باطلهم ، وإلا تبرؤوا منك ، فانظر كيف لم يقنعوا بتسمية عمر لأئمة الجور من بني أمية بالظلمة ، حتى يظهر البراءة منهم ويلعنهم ، وإلا فـ" لست منا ولسنا منك " .
ويستفاد من هذا عدم الحرص على مجاراتهم والتماس نقاط الاشتراك معهم للبناء عليها ، لأنهم لا يعرفون التبعيض والتجزئة في الموالاة والمعاداة - كما يعرفها أهل السنة - ، فإما تقبل آرائهم بالكلية فيتولونك بالكلية ، وإن تركت منها شيئًا فيتبرؤون منك بالكلية .
4 ) استعمال المناظرة مع الخوارج ، وقد استعملها أيضًا ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أئمة السلف .
5 ) استعمال الحجج الإلزامية ، فقد بين عمر رضي الله عنه للخوارج أن اختلاف السيرة لا يوجب من المختلفين البراءة من بعضهما ، وأن يلعن اللاحق السابق ، وأظهر تناقضهم إذ يتولون اثنين مع اختلاف سيرتهما وعدم براءة أحدهما من الآخر ، ومع ذلك يطلبون من عمر أن يتبرأ ممن اختلفت سيرته معه ، وإلا تبرؤوا منه !
وأظهر تناقضهم أيضًا : في زعمهم أن اللعن فرض ، وإعلانهم البراءة من عمر رضي الله عنه إن لم يلعن أسلافه ، وهم مع ذلك لا يتعاهدون لعن أئمة الكفر مثل فرعون .
6) الاحتجاج على الخصم تارة بمن فيه الأسوة والقدوة وفي أفعاله حجة لدى المُحتجِّ والمُحتجِّ عليه ، وتارة بمن أفعاله حجة لدى المحتجِّ عليه دون المحتجِّ ، فمن الأول : احتجاجه عليهم بفعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ومن الثاني : احتجاجه عليهم بفعل عبد الله بن وهب الراسبي وهو من أئمتهم .