السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه مختارات وفوائد من مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة المقدسي...
* كان من مضى من الأئمة المجتهدين قائمين بنشر علوم الاجتهاد في جميع الآفاق ..وهم في ذلك متفاضلون
فمنهم المحكم لأمر الكتاب
ومنهم القائم بأمر السنة
ومنهم الممعن في استنباط الأحكام
وقل من اجتمع فيه القيام بجميع ذلك
حالة السلف الصالح في تدافع الفتوى عند حدوث الحادثة
-والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولا حاصلا للصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه وكانوا يتدافعون الفتوى ويود كل منهم لو كفاه إياها غيرهفصل في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها
-وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع ويقولون للسائل عنها أكان ذلك فإن قال لا قالوا دعه حتى يقع ثم نجتهد فيه
-كل ذلك يفعلونه خوفا من الهجوم على ما لا علم لهم به واشتغالا بما هو الأهم من العبادة والجهاد فإذا وقعت المسألة لم يكن بد من النظر فيها
- وقال الحافظ البيهقي وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ولم يمض كتاب ولا سنة
وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع لأن الاجتهاد إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد
واحتج في ذلك بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
-وعن طاووس قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر أحرج الله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء لم يكن فإنه قد بين ما هو كائن
-وفي رواية لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن فإن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن
-قلت هذا معنى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
-وعن عبد الرحمن بن شريح أن عمر بن الخطاب كان يقول إياكم وهذه العضل فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها ويفسرها
-فالاجتهاد بمنزلة الميتة قال الثعلبي والشافعي ولا يحل تناولهما إلا عند المخمصة
والذي ليس بحاكم ويجتهد برأيه فمثله كمثل رجل قعد في بيته ويقول إنما جاز أكل الميتة لفلان ويجوز أكلها لي أيضا
-فكذلك لا يجوز لأحد أن يحتج بقول المجتهد لأن المجتهد يخطئ ويصيب فإذا كان شيء يحتمل أن يكون صوابا وخطأ فتركه أولى مثل الشبهات من الطعام تركه لها أولى من تناوله
-وعن الصلت بن رشد قال سألت طاوسا عن شيء فانتهرني فقال أكان هذا قلت نعم قال الله الذي لا إله إلا هو قلت الله الذي لا إله إلا هو قال إن أصحابنا حدثونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهب بكم ههنا وههنا وإن لم تعجلوا قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد
-وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا تستعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يزال منكم من يوفق ويسدد وإنكم إن استعجلتم بها قبل نزولها تفرقتم
-قلت بهذا السبب أخذوا سنن اليهود والنصارى وزادوا عليهم حتى صاروا اثنتين وسبعين فرقة وحكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من أصحاب النار كما شهد للعشرة أنهم من أصحاب الجنة
-وقال مسروق سألت أبي بن كعب عن شيء قال أكان بعد قلت لا قال فاصبر حتى يكون فإن كان اجتهدنا لك رأينا
-وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه إياه وفي رواية يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول
-ثم بعد الصحابة أراد الله أن يصدق نبيه في قوله تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال ورواه البزار في مسنده عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم
-فكثرت الوقائع والنوازل في التابعين ومن بعدهم واجتهدوا بآرائهم لمن اضطر ومن لم يضطر ووصلت إلى من بعدهم من الفقهاء ففرعوا عليها وقاسوا واجتهدوا في إلحاق غيرها بها فتضاعفت مسائل الفقه وشككهم إبليس ووسوس في صدورهم
-واختلفوا اختلافا كثيرا من غير تقليد فقد نهى إمامنا الشافعي عن تقليده وتقليد غيره كما سنذكره في فصل
-وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين فكل صنف على ما رأى وتعقب بعضهم بعضا مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة بغير هوى
ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة
-ثم اشتهرت المذاهب الأربعة وهجر غيرها فقصرت همم أتباعهم إلا قليلا منهم فقلدوا بعدما كان التقليد لغير الرسل حراما بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة الأصلين وذلك معنى قوله تعالى اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله
-فعدم المجتهدون وغلب المقلدون وكثر التعصب وكفر بالرسول حيث قال يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين
-وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم وليا مجتهدا حتى آل بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب والسنة الثابتة على خلافه يجتهد في دفعه بكل سبيل من التآويل البعيدة نصرة لمذهبه ولقوله ولو وصل ذلك إلى إمامه الذي يقلده لقابله ذلك الإمام بالتعظيم وصار إليه وتبرأ من رأيه مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم وحمد الله على ذلك
-ثم تفاقم الأمر حتى صار كثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه فبدلوا بالطيب خبيثا وبالحق باطلا اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
-ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصلين يرون أن الأولى منه الاقتصار على نكت خلافية وضعوها وأشكال منطقية ألفوها
-وقد قال عمر بن الخطاب اتهموا الرأي على الدين
-وقال سهل بن حنيف اتقوا الرأي في دينكم
-وقال عبد الله بن مسعود يحدث قوم يقيسون الأمر برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم
-ما عبدت الشمس والقمر إلا بالرأي ولا قالت النصارى ولا أن الله هو المسيح بن مريم ولا اتخذ الله ولدا ألا بالرأي وكذلك كل من عبد شيئا من دون الله إنما عبده برأيه فانظر إلى قول السامري وكذلك سولت لي نفسي
-وقال عبد الله بن عمر لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر
-روى الشعبي عن عبد الله بن عمر إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
-وقال الأوزاعي عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول
-وقال أيضا إذا بلغك عن رسول الله حديثا فإياك أن تقول بغيره فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغا عن الله تبارك وتعالى
-وقال أيضا العلم ما جاء عن أصحاب محمد وما لم يجيء عن أصحاب محمد فليس بعلم
يعني ما لم يجيء أصله منهم
-قال الشعبي إذا جاءك الخبر عن أصحاب محمد فضعه على رأسك وإذا جاءك عن التابعين فاضرب به أقفيتهم
-وقال سفيان الثوري العلم كله بالآثار
-قلت ما احسن قول القائل ...
تجنب ركوب الرأي فالرأي ريبة ... عليك بآثار النبي محمد
فمن يركب الآراء يعم عن الهدى ... ومن يتبع الآثار يهدي ويحمد ...
- وقال بعض المغاربة ...
لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار ...
-وقول القائل ...
انظر بعين الهدى إن كنت ذا نظر ... فإنما العلم مبني على الأثر ...
لاترضى غير رسول الله متبعا ... ما دمت تقدر في حكم على خبر ...
-ولم يختلف المفسرون فيما وقفت عليه من كتبهم في أن قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول تقديره إلى قول الله وقول الرسول
-فيجب رد جميع ما اختلف فيه إلى ذلك فما كان أقرب إليه اعتمد صحته وأخذ به
-ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردوا الجهالات إلى السنة وفي رواية يرد الناس من الجهالات إلى الناس
-وهذه كانت طريقة العلماء الأعلام أئمة الدين وهي طريقة إمامنا أبي عبد الله الشافعي
-ولهذا قال أحمد بن حنبل
ما من أحد وضع الكتاب حتى ظهر خطأه أتبع للسنة من الشافعي
-ثم ان الشافعي رحمه الله احتاط لنفسه وعلم أن البشر لا يخلو من السهو والغفلة
وعدم الاحتياط فصح عنه من غير وجه أنه أمر إذا وجد قوله على مخالفة الحديث الصحيح الذي يصح الاحتجاج به أن يترك قوله ويؤخذ بالحديث
-أنبأنا الفاضل أبو القاسم عمن أخبره الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول
إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنته ودعوا ما قلت
-وقال صاحب الشافعي المزني في أول مختصره اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن ادريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع اعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق
أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره
-قال الماوردي صاحب الحاوي قوله ويحتاط لنفسه أي كطلب السلف الصالح يتبعون الصواب حيث كان ويجتهدون في طلبه وينهون عن التقليد
فصل في الرجوع إلى كتب السنة وتمييز الطيب من الخبيث من الأحاديث
-ثم إن المصنفين من أصحابنا المتصفين بالصفات المتقدمة من الاتكال على نصوص إمامهم معتمدون عليها اعتماد الأئمة قبلهم على الأصلين الكتاب والسنة قد وقع في مصنفاتهم خلل كثير من وجهين عظيمين
الأول إنهم يختلفون كثيرا فيما يلقونه من نصوص الشافعي وفيما يصححونه منها
وصارت لهم طرق مختلفة خراسانية وعراقية
فترى هؤلاء ينقلون عن إمامهم خلاف ما ينقله هؤلاء والمرجع في هذا كله إلى إمام واحد
وكتبه مدونة مروية موجودة أفلا كانوا يرجعون إليها وينقون تصانيفهم من كثرة اختلافهم عليها
وأجود تصانيف أصحابنا من الكتب فيما يتعلق بنصوص الشافعي كتاب التقريب أثنى عليه
أخبر المتأخرين بنصوص الشافعي وهو الإمام الحافظ ابو بكر البيهقي
( الوجه الثاني ) ما يفعلونه في الأحاديث النبوية والآثار المروية من كثرة استدلالهم بالأحاديث الضعيفة على ما يذهبون إليه نصرة لقولهم وينقصون من ألفاظ الحديث وتارة يزيدون فيه وما أكثره في كتب أبي المعالي و صاحبه أبي حامد نحو اذا اختلف المتبايعان وترادا
ومن العجيب ما ذكره صاحب المهذب في أول باب إزالة النجاسة قال وأما الغائط فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم لعمار إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء
ثم ذكر طهارة مني الآدمي ولم يتعرض للجواب عن هذا الحديث الذي هو حجة خصمه ولم يكن له حاجة إلى ذكره أصلا فإن الغائط لا ضرورة إلى الاستدلال على نجاسته بهذا الحديث الضعيف المنتهض حجة عليه في أمر آخر
ومن قبيح ما يأتي به بعضهم أن يحتج بخبر ضعيف وهو دليل خصمه عليه فيوردونه معرضين عما كانوا ضعفوه
وفي كتاب الحاوي والشامل وغيرهما شيء كثير من هذا وهم مقلدون لامامهم الشافعي فهلا اتبعوا طريقته في ترك الاحتجاج بالضعيف وعقبه على من احتج به وتبيين ضعفه
-ثم إن مذهبه ترك الاحتجاج بالمراسيل إلا بشروط
ولو ذكر سند الحديث وعرفت عدالة رجاله إلى التابعي وسقط من السند ذكر الصحابي كان مرسلا
ويوردون هؤلاء المصنفون هذه الأحاديث محتجين بها بلا إسناد أصلا فيقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظنون أن ذلك حجة وإمامهم يرى أنه لو سقط من السند الصحابي وحده لم يكن حجة وكذا لو سقط غير الصحابي من السند
-فليتهم إذا عجزوا عن أسانيد الأحاديث ومعرفة رجالها عزوها إلى الكتب التي أخذوها منها
ولكنهم لم يأخذوا تلك الأحاديث إلا من كتب من سبقهم من مشايخهم ممن هو على مثل حالهم فبعضهم يأخذه من بعض فيقع التغيير والزيادة والنقصان فيما صح أصله ويختلط الصحيح بالسقيم وهذا كله غير مستقيم
فصل في بيان أن الأحكام تثبت بالأدلة من دواوين السنة المعتبرة
- الواجب في الاستدلال على الأحكام وبيان الحلال والحرام أن من يستدل بحديث يذكر مستنده ويتكلم عليه بما يجوز الاستدلال به أو يعزوه إلى كتاب مشهور من كتب أهل الحديث المعتبرة فيرجع من يطلب صحة الحديث وسقمه إلى ذلك الكتاب وينظر في سنده
وما قال ذلك المصنف أو غيره فيه
-وقد يسر الله تعالى وله الحمد الوقوف على ما يثبت من الأحاديث وتجنب ما ضعف منها بما جمعه علماء الحديث في كتبهم من الجوامع و المسانيد
-فالجوامع هي المرتبة على الأبواب من الفقه والرقاق والمناقب وغير ذلك
-فمنها ما اشترط فيه الصحة إذ لا يذكر فيه إلا حديث صحيح على ما اشترطه مصنفه ككتابي البخاري ومسلم وما الحق بهما واستدرك عليهما
-وكصحيح إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة وكتاب أبي عيسى الترميذي وهو كتاب جليل مبين فيه الحديث الصحيح والحسن والغريب والضعيف وفيه عن الأئمة فقه كثير
-ثم سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه ومن بعدهم سنن أبي الحسن الدارقطني والتقاسيم لأبي حاتم بن حبان وغيرهما
-ثم ما رتبه وجمعه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه الكبرى من الأوسط والصغير التي اتى بها على ترتيب مختصر المزني وقربها إلى الفقهاء بجهده
-فلا عذر لهم ولا سيما الشافعية منهم في تجنب الاشتغال بهذه الكتب النفيسة المصنفة في شروحها وغريبها بل أفنوا زمانهم وعمرهم بالنظر في أقوال من سبقهم من المتأخرين وتركوا النظر في نصوص نبيهم المعصوم وآثار أصحابه الذين شهدوا الوحي وعاينوا المصطفى صلى الله عليه وسلم وفهموا مراد النبي فيما خاطبهم بقرائن الأحوال إذ الخبر
ليس كالمعاينة
فلا جرم لو حرم هؤلاء رتبة الاجتهاد وبقوا مقلدين !
عذر العلماء في الصدر الأول لا يوجد الآن لتوفر كتب الحديث
-وقد كان العلماء في الصدر الأول معذورين في ترك ما لم يقفوا عليه من الحديث لأن الأحاديث لم تكن حينئذ بينهم مدونة إنما كانت تتلقى من أفواه الرجال وهم متفرقون في البلاد
-ولو كان الشافعي وجد في زمانه كتابا في أحكام السنن أكبر من الموطأ لحفظه مضافا إلى ما تلقاه من أفواه مشايخه
فلهذا كان الشافعي بالعراق يقول لأحمد بن حنبل أعلموني بالحديث الصحيح أصر عليه
وفي رواية إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه
-ثم جمع الحفاظ الأحاديث المحتج بها في الكتب ونوعوها وقسموها وسهلوا الطريق إليها فبوبوها وترجموها وبينوا ضعف كثير منها وصحته وتكلموا في عدالة الرجال وجرح المجروح منهم وفي علل الأحاديث ولم يدعوا للمشتغل شيئا يتعلل به
وفسروا القرآن والحديث وتكلموا على غريبها وفقهها وكل ما يتعلق بها في مصنفات عديدة جليلة فالآلات متهيئة لطالب صادق ولذي همة وذكاء وفطنة
-وأئمة الحديث هم المعتبرون القدوة في فنهم فوجب الرجوع إليهم في ذلك وعرض آراء الفقهاء على السنن والآثار الصحيحة فما ساعده الأثر فهو المعتبر وإلا فلا نبطل الخبر بالرأي ولا نضعفه إن كان على خلاف وجوه الضعف من علل الحديث المعروفة عند أهله أو بإجماع الكافة على خلافه
-فقد يظهر ضعف الحديث وقد يخفى وأقرب ما يؤمر به في ذلك أنك إذا رأيت حديثا خارجا عن دواوين الإسلام كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي ونحوها مما تقدم ذكره ومما لم نذكره فانظر فيه فإن كان له نظير في الصحاح والحسان قرب أمره وإن رأيته يباين الأصول وارتبت به فتأمل رجال إسناده واعتبر أحوالهم من الكتب المصنفة في ذلك
-وأصعب الأحوال أن يكون رجال الإسناد كلهم ثقات ويكون متن الحديث موضوعا عليهم أو مقلوبا أو قد جرى فيه تدليس ولا يعرف هذا إلا النقاد من علماء الحديث فإن كنت من أهله فبه وإلا فاسأل عنه أهله
- قال الأوزاعي كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزيف فما عرفوا منه أخذناه وما أنكروا تركناه
-فالتوصل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة إذا رزق الإنسان الحفظ والفهم ومعرفة اللسان أسهل منه قبل ذلك لولا قلة همم المتأخرين وعدم المعتبرين
ومن أكبر أسباب تعصبهم تقيدهم برفق الوقوف وجمود أكثر المتصدرين منهم على ما هو المعروف الذي هو منكر مألوف في نصوص الأئمة في الرجوع إلى الكتاب والسنة والنهى عن تقليدهم
-فإذا ظهر هذا وتقرر تبين أن التعصب لمذهب الإمام المقلد ليس هو باتباع أقواله كلها كيفما كانت بل الجمع بينها وبين ما ثبت من الأخبار والآثار والأمر عند المقلدين أو أكثرهم بخلاف هذا إنما هم يؤولونه تنزيلا على نص إمامهم
-ثم الشافعيون كانوا أولى بما ذكرناه لنص إمامهم على ترك قوله إذا ظفر بحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافه
فالتعصب له على الحقيقة إنما هو امتثال أمره في ذلك وسلوك طريقته في قبول الأخبار والبحث عنها والتفقه فيها
كلام نفيس في ترك التقليد الأعمى واتباع من شهدت له الشريعة بالعصمة
- ثم اشتهر في آخر الزمان على مذهب الشافعي تصانيف الشيخين أبي إسحاق الشيرازي وأبي حامد الغزالي فأكب الناس على الاشتغال بها وكثر المتعصبون لهما حتى صار المتبحر المرتفع عند نفسه يرى أن نصوصهما كنصوص الكتاب والسنة لا يرى الخروج عنها وإن أخبر بنصوص غيرهما من أئمة مذهبه بخلاف ذلك لم يلتفت إليها
- وقد يقع في بعض مصنفاتهما ما قد خالف المؤلف فيه صريح حديث صحيح أو ساق حديثا على خلاف لفظه أو نقل إجماعا أو حكما عن مذهب بعض الأئمة وليس كذلك
فإن ذكر لذلك المتعصب الصواب في مثل ذلك نادى وصاح وزمجر وأخفى العداوة وكان سبيله أن يفرح بوصوله إلى ما لم يكن يعرفه ولكن أعماه التقليد أصمه عن سماع العلم المفيد
بعض شبهات المقلدين والرد عليها
- ويقول المتحذلق منهم المتصدر في منصب لا يستحقه أما كان هؤلاء الأئمة يعرفون هذا الحديث الصحيح الوارد على خلاف نصهم فيرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الهذيان الذي لو فكر فيه أسكته عنه لأن خصمه في مثل هذا هو الله ورسوله لأن الله تعالى افترض علينا طاعة رسوله فقد وصلنا إلى حديثه فلا نرده إلى قول أحد
ثم إن في ذلك إبطالا لمذهبه وهدما لأصله الذي مهده إمامه وأسسه
وذلك أن الشافعي إنما تعصب على من كان قبله من الأئمة بمثل ذلك من دلالات الكتاب والسنة مما ظنه خفي على من سبقه
-وكان من الممكن أن يقال له أما كان أولئك يعرفونهذا وأولئك المتقدمون أولى بذلك من المتأخرين فلو سمع مثل هذا الهذيان لبطلت المذاهب
-بل ينبغي للطالب أن يكون ابدا في طلب ازدياد علم ما لم يعلمه من أي شخص كان فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها
وعليه الانصاف وترك التقليد واتباع الدليل فكل أحد يخطئ ويصيب إلا من شهدت له الشريعة بالعصمة وهو النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر رجوع الصحابة عن آرائهم إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
-قال الشافعي في كتاب اختلاف الحديث حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر وربما قال عن أبيه وربما لم يقله أن عمر بن الخطاب نهى عن التطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة
قال سالم فقالت عائشة طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت
قال سالم وسنة رسول الله أحق أن تتبع
قال الشافعي فترك سالم قول جده عمر في إمامته وقبل قول عائشة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق وذلك الذي يجب عليه
-وما زال أكابر الصحابة مثل أبي بكر الصديق ومن بعده يخفى عليهم شيء من السنة كميراث الجدة وتوريث المرأة من دية زوجها ووضع اليدين على الركبتين في الصلاة
خفي الأول على أبي بكر
والثاني على عمر
والثالث على ابن مسعود
حتى نبههم على ذلك غيرهم ولذلك أمثلة كثيرة
ذكر معرفة المقلدين بمراتب أئمتهم وجهلهم بمراتب السلف الصالح
ومن العجب أن كثيرا منهم إذا ورد على مذهبهم أثر عن بعض أكابر الصحابة يقول مبادرا بلا حياء ولا حشمة مذهب الشافعي الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة ويرد قول أبي بكر وعمر ولا يرد قول أبي إسحاق والغزالي
ومع هذا يرون مصنفات أبي إسحاق وغيره مشحونة بتخطئة المزني وغيره من الأكابر في ما خالفوا فيه مذهبهم فلا تراهم ينكرون شيئا من هذا
فإن اتفق أنهم سمعوا أحدا يقول أخطأ الشيخ أبو إسحاق في كذا بدليل كذا وكذا انزعجوا وغضبوا ويرون أنه ارتكب كبيرا من الإثم فإن كان الأمر كما ذكروا فالأمر الذي ارتكبه أبو إسحاق أعظم فما بالهم لا ينكرون ذلك ولا يغضبون منه لولا قلة معرفتهم وكثرة جهلهم بمراتب السلف