فوائد منتقاة من أضواء البيان للشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله

إنضم
20/01/2006
المشاركات
1,245
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المدينة المنورة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه واتبع سنته وهداه..
وبعد/
فهذه أجوبةٌ لبعض الإشكالات المتضمنة للكثير من الفوائدِ منتقاةٌ من كتاب أضوا البيان للشيخ المفسر العلامة (محمد الأمين الشنقيطي) رحمه الله تعالى وغفر له, والتي أظن أن الشيخ كان يطرحها ليدرأ بها ما يتوقع وروده على ذهن القارئ من تساؤلات وإشكالات , ويستدفع بها إلزام المخالف لترجيحه واختياره , وكم تمنيتُ أن لوقبلها قسم الدراسات العليا أطروحة للماجستير لكن تعدُّد تخصصاتها وكثرتها في هذا السفر ستكونُ حائلاً بين الإفادة منها في العمل الأكاديمي فأردت وضعها في الملتقى للإطْلاعِ عليها علَّ ناظراً فيها يبتكرُ فكرةً تُفيد من منهجية (افتعال الإشكال المحتمَل والإجابة عليه) في أضواء البيان وغيره من التفاسير.


1- عند قوله تعالى{الرحمن الرحيم} في سورة الفاتحة قال الشيخ رحمه الله(هما وصفان لله تعالى واسمان من أسمائه الحسنى مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة, والرحمن أشد مبالغة من الرحيم لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا,وللمؤمنين في الآخرة,والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة, وعلى هذ أكثر العلماء , وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا.
وفي تفسيربعض السلف ما يدل عليه كما قاله ابن كثير ويدل له الأثر المروي عن عيسى
- كما ذكره ابن كثير وغيره - أنه قال عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (الرحمن رحمن الدنيا والآخرة , والرحيم لرحيم الآخرة ) وقد اشار تعالى إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال تعالى{ثم استوى على العرش الرحمن}وقال{الرحمن على العرش استوى}فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته,قــاله ابن كثير, ومثله قوله تعالى{أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن} أي: ومن رحمانيته لطفه بالطير وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء, ومن أظهر الأدلة على ذلك قوله تعالى {الرحمن* علم القرآن *... إلى قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان*} وقال{وكان بالمؤمنين رحيما} فخصهم باسم الرحيم..
فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين ما قررتم وبين ما جا في الدعا المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم{رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما}؟؟؟

فالظاهر في الجواب - والله أعلم - أن الرحيم خاص بالمؤمنين كما ذكرنا , لكنه لا يختص بهم في الآخرة؛ بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضا فيكون معنى رحيمهما:رحمته بالمؤمنين فيهما.
والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى{هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما} لأن صلاته عليهم وصلاة ملائكته وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمة بهم في الدنيا وإن كانت سبب الرحمة في الآخرة أيضا.
وكذلك قوله تعالى {ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} فإنه جاء فيه بالباء المتعلقة بالرحيم الجار للضمير الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار, وتوبته عليهم رحمة في الدنيا وإن كانت سبب رحمة الآخرة أيضا.
والعلم عند الله تعالى
)


2- عند قول الله تعالى (ومما رزقناهم ينفقون) في سورة البقرة,
قال الشيخ - رحمه الله -(عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله, ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه والذي ينبغي إمساكه, ولكنه بين في مواضع أخر أن القدرالذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها, وذلك كقوله {ويسألونك ما ذا ينفقون قل العفو} والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات وهو مذهب الجمهور.
ومنه قوله تعالى{حتى عفوا} أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم. وقال بعض العلماء: نقيض الجهد, وهو أن ينفق مالا يبلغ إنفاقه منه الجهد , واستفراغ الوسع ومنه قول الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي **** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا وبقية الأقوال ضعيفة ..
وقوله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط..} فنهاه عن البخل بقوله{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} ونهاه عن الإسراف بقوله {ولا تبسطها كل البسط} فيتعين الوسط بين الأمرين, كما بينه بقوله{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والاقتصاد , فالجود غير التبذير والاقتصاد غير البخل.
فالمنع في محل الإعطاء مذموم وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} واإعطاء في محلالمنع مذموم أيضا وقد نهى الله عنه نبيه صلى لله عليه وسلم بقوله {ولا تبسطها كل البسط } وقد قال الشاعر:
لا تمدحنَّ ابن عباد وإن هطلت...........يداه كالمزن حتى تخجل الديــما
فأنها فلتــــات من وســــاوسه............ يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
وقد بين تعالى أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا غذا كان مصرفه الذيصرف فيه مما يرضى الله, كقوله تعالى (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين)..الآية , وصرح بأن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله تعالى {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة...}الآية. وقد قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تعدُّ صنيعةً.............حتى يصاب بها طريق المصنع

فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا وذلك في قوله {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة...}الآية

فالظاهرفي الجواب - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً, ففي بعضالأحوال يكون الإيثار ممنوعا, وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة كنفقة الزوجات ونحوها , فتبرع بالإنفاق في غير واجب , وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم(وابدأ بمن تعول) وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم , فلا يجوز له ذلك.
والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال وأما على القول بأن قوله تعالى {ومما رزقناهم ينفقون} يعني به الزكاة فالأمر واضح -والعلم عند الله تعالى -)
 
3- قوله تعالى {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} قال الشخ رحمه الله:
(لا يخفى أن الواو في قوله (وعلى سمعهم وعلى أبصارهم) محتملة في الحرفين أن تكون عاطفة على ما قبلها وأن تكون استئنافية.
ولم يبيَّن ذلك هنا ولكن بُيِّن في موضع آخر أن قوله (وعلى سمعهم) معطوف على قوله (على قلوبهم) وأن قوله (وعلى أبصارهم) استئناف , والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو (غشاوة) وسوغ الابتداء بالنكرة فيه اعتمادُها على الجار والمجرور قبلها , ولذلك يجب تقديم هذا الخبر لأنه هو الذي سوغ الإبتداء بالمبتدأ كما عقده في الخلاصة بقوله:
ونحو عندي درهم ولي وطر..........ملتزم فيه تقدم الخبر
فتحصل أن الختم على القلوب والأسماع , وأن الغشاوة على الأبصار وذلك في قوله تعالى{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة}
والختم هو الاستيثاق من الشيئ حتى لا يخرج منه داخل فيه ولا يدخل فيه خارج عنه , والغشاوة:الغطا على العين يمنعها من الرؤية.ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
هويتك إذ عيني عليها غشاوة.............. فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
وعلى قراة من نصب (غشاوة) فهي منصوبة بفعل محذوف أي: (وجعل على بصره غشاوة) كما في سورة الجاثية. وهو كقوله :
علفتها تبنا وماءا باردا.............. حتى شتت همالة عيناها
وقول الاخر:
ورأيت زوجك في الوغى................ متقلدا سيفا ورمحا
وقول الآخر:
إذا ما الغانيات برزن يوما................وزججن الحواجب والعيونا
كما هو معروف في النحو, وأجاز بعضهم كونه معطوفا على محل المجرور...

فإن قيل:
قد يكون الطبع على الأبصار أيضاً,كما في قوله تعالى في سورة النحل{أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم}الآية


فالجواب:
أن الطبع على الأبصار المذكور في آية النحل هو الغشاوة المذكورة في سورة البقرة والجاثية والعلم عند الله تعالى)
 
جزاك الله خيرا ونفعنا الله بفوائدكم
 
قال الشيخ رحمه الله :
(قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ....}الآية.
ظاهر عمومه شمول الكتابيات,ولكنه بين في آية أخرى أن الكتابيات لسن داخلات في هذا التحريم,وهيقوله تعالى {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب},

فإن قيل:الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين.} , وقوله{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}, وقوله {ما يود الذين كفروا من اهل الكتاب ولا المشركين } والعطف يقتضي المغايرة.

فالجواب:أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشلركين كما صرح به تعالى في قوله {وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون* اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابنَ مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا غله إلا هو سبحانه عما يشركون }

وعند قوله تعالى{فأتوا حرثكم أنى شئتم} قال الشيخ رحمه الله بعد مناقشته لمسألة إتيان النِّساء في أعجازهنَّ وذكره لقول القرطبي رحمه الله تعالى (وفي إجماعهم هذا - يعني على الحرمة - دليلٌ على ان الدبر ليس بموضع وطء,ولوكان موضعاً للوطء ما ردت من لا يوصَلُ إلى وطئها في الفرج.
قال الشيخ:

فإن قيل: قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل, فلا ينافي أنها توطأ في الدبر.

فالجواب: أن العقم لا يرد به , ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبا للرد.)
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى في شروط الإمام الكبر عند قوله تعالى{إني جاعل في الرض خليفة}
(3- من شروط الإمام الأكبر كونه حرّاً , فلا يجوز أن يكون عبداً , ولا خلاف في هذا بين العلماء.

فإن قيل:ورد في الصحيح ما يدل على إمامة العبد.
فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اسمعوا واطيعوا وإن استُعمِل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبة) ولمسلم من حديث أم الحصين (اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله) ولمسلم أيضاً من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:(أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع وإن كان عبداً حبشيّاً مجدعَ الأطراف).


فالجواب من أوجه:
الأول:أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود , فإطلاق العبد الحبشي لأجل لمبالغة في الأمربالطاعة , وغن كان لا يُتَصوَّر شرعا أن يليَ ذلك . ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي .
ويشبه هذا الوجه قوله تعالى{قل إن كان للرحمن ولدٌ فأنا أول العابدين}.

الثاني:أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمراً من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد, وهو أظهرها فليس هو الإمام الأعظم.

الثالث:أن يكون أطلق عليه اسم العبد نظراً لاتصافه بذلك سابقا مع أنه وقت التولية حر,ونظيره إطلاق اليتيم على البالغ باعتباراتصافه به سابقاً في قوله تعالى{وآتوا اليتامى أموالهم} الآية , وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار.
أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب , إخمادا للفتنة وصونا للدماء , ما لم يأمر بمعصة كما تقدمت الإشارة إليه , والمراد بالزبيبة في هذا الحديث واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جفَّ , والمقصود من التشبيه: التحقير وتقبيح الصورة , لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال,إلا فالمعصية كما يأتي . ويشبه قوله صلى الله عله وسلم(كأنه زبيبة) قول الشاعر هجو رجلا أسودَ:
دنس الثياب كأن فروة رأسه...............غرست فأنبت جانباها فلفلا)



ويقول الشيخ رحمه الله عند قول الله تعالى (الطلاق مرتان) بعد سرده لأقوال من أوقع الثلاث طلقةً واحدة ومن عدها ثلاثا محرِّمةً
يقول:

فإن قيل:غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتصريحه بأن ذلك الجمع للطلقات لعبٌ بكتاب الله يدل على أنها لا تقع , لقوله صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منمه فهو رد) وفي رواية (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)

فالجواب:أن كونه ممنوعا ابتداء لا ينافي وقوعه بعد الإيقاع , ويدل له ما سيأتي قريبا عن ابن عمر لمن سأله: وإن كنتَ طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك , وعصيت له فيما أمرك من طلاق امرأتك , ولا سيما على قول الحاكم: إنه مرفوع , وهذا ثابت عن ابن عمر في الصحيح ,ويؤيده ما سيأتي إن شاء الله قريبا من حديثه المرفوع عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :(كانت تبين منك وتكون معصية) ويؤيده ما سيأتي إن شاء الله عن ابن عباس بإسنادٍِ صحيح أنه قال لمن سأله عن ثلاث أوقعها دفعة : إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا,عصيت ربك , وبانت منك امرأتك .وبالجملة فالمناسب لمرتكب المعصية التشديد لا التخفيف بعد الإلزام)
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى عند قول الحق سبحانه{إن يمسسكم قرحٌ فقد مسَّ القوم قرحٌ مثله}

قال:
فإن قيل:ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله (قرحٌ مثله) وبين التثنية في قوله(قد أصبتم مثليها).

فالجواب والله تعالى اعلم:أن المراد بالتثنية قتل سبعين , وأسر سبعين يوم بدر, في مقابلة سبعين سوم أحد كما عليه جمهور العلماء.
والمراد بإفراد المثل: تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم, والقراءتان السبعيتان في قوله{إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرحٌ مثله}بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد , فهما لغتان كالضَّعف والضُّعف.
وقال الفراء:القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه.اهــ
ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول متمم بن نويرة التميمي:
قعيدك ألاَّ تُسمعيني ملامةً...............ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا).
 
قال الشيخ رحمه الله عند قول الحق تعالى {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم}

تنبيه:(فإن قيل عموم قوله تعالى (إلا ما ملكت أيمانكم) لا يختص بالمسبيات بل ظاهر هذا العموم أن كل أمة متزوجة إذا ملكها رجل آخر فهي تحل له بملك اليمين , ويرتفع حكم الزوجية بذلك الملك,والآية وإن نزلت في خصوص المسبيات كما ذكرنا فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب؛؛

فالجواب:أن جماعة من السلف قالوا بظاهر هذا العموم فحكموا بأن بيع الأمة مثلاً يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الآية , ويروى هذا القولُ عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب والحسن ومعمر كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
ولكنَّ التحقيق في هذه المسألة هو ما ذكرنا من اختصاص هذا الحكم بالمسبية دون غيرها من المملوكات بسبب آخر غير السبي , كالبيع مثلاً وليس من تخصيص العام بصورة سببه , وأوضح دليل في ذلك قصة بريرة المشهورة مع زوجها مغيث.
قال ابن كثير في تفسير هذه الاية :بعد ذكره أقوال الجماعة التي ذكرنا في أن البيع طلاق ما نصه(وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثاً فرأوا ان بيع الأمة ليس طلاقا لها , لأن المشتري نائب عن البائع , والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنه,واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما , فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء فاختارت الفسخ , وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم , فلما خيرها دل على بقاءالنكاح وأن المراد من الآية المسبيات فقط .والله أعلم اهــ منه بلفظه.



فإن قيل: إن كان المشتري امراةلم ينفسخ النكاحُ لأنها لا تملك الاستمتاع ببضع الأمة بخلاف الرجل , وملك اليمين أقوى من ملك النكاح كما قال بهذا جماعة, ولا يرد على هذا القول حديث بريرة.


فالجواب : هو ما حرره العلامة ابن القيم رحمه الله وهو أنها إن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها وذلك كملك الرجل وإن لم يستمتع بالبضع.
فإذا حققت ذلك علمت أن التحقيق في معنى الاية (والمحصنات من النساء) أي المتزوجات (إلا ملكت أيمانكم) بالسبي من الكفارفلا منع في وطئهن بملك اليمين بعد الاستبراء , لانهدام الزوجية الأولى بالسبي كما قررنا , وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها متزوجة برجل اسمه مسافع فسبيت في غزوة بني المصطلق وقصتها معروفة.
قال ناظم قرة البصار في جويرية رضي الله عنها:
وقد سباها في غزاة المصطلق.............من بعلها مسافع بالمنزلق.
ومراده بالمنزلق: السيف.
ثم إن العلماء اختلفوا في السبي هل يبطل حكم الزوجية الأولى مطلقاً ولو سبي الزوج معها , وهو ظاهر الآية ؟
أو لا يبطله إلا إذا سبيت وحدها دونه؟
فإن سبي معها فحكم الزوجية باقٍ , وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد والعلم عند الله تعالى..)
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى في معرض كلامه عن الصعيد الطيب هل هو خاص بما له غبار يعلق باليد أم هو متناول لغيره من أنواع الصعيد , عند قوله تعالى (فتيمموا صعيدا طيباً)..

فإن قيل:
ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد, دون غيره من أنواع الصعيد , فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{فضلنا على الناس بثلاث:جعلت صفوفنا كصفوف االملائكة , وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً, وجعلت تربتها لنا طهوراً,إذا لم نجد الماء..}الحديث, فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك,


فالجواب من ثلاثة أوجه:
1- ]أن كون الأمر مذكوراً في معرض الامتنان, مما يمنع فيع اعتبار مفهوم المخالفة , كما تقرر في الأصول قال في مراقي السعود:
أوامتنانٍ أو وِفاقِ الواقعِ***والجهل والتأكيدِ عند السامعِ.
ولذا أجمع العلماء على جواز أكل القديد من الحوت مع أن الله خص اللحم الطري منه في قوله{وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طرياًّ} لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان فلا مفهومَ مخالفة له , فيجوز أكل القديد مما في البحر.

2- أن مفهوم التربة مفهوم لقب, وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء , وهو الحق كما هو معلوم في الأصول.

3-أن التربة فرد من أفراد الصعيد , وذكرُ بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصا له عند الجمهور , سواء ذُكرا في نص واحد كقوله تعالى{حافظوا على الصلوَات والصلوة الوسطى} أو ذُكرا في نصين كحديث{أيما إهاب دبغ فقد طهر} عند أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي وغيرهم, مع حديث{هلاَّ انتفعتم بجلدها} يعني شاةً ميتتةً, عند الشيخين, كلاهما من حديث ابن عباس.
فذكر الصلاة الوسطى في الأول , وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول , ومن الجلود في الثاني ليس كذلك , قال في مراقي السعود - عاطفا على ما لا يُخَصَّصُ به العموم-:
وذكرُ ما وافقه من مفرَدِ*** ومذهب الراوي على المعتمَدِ.
ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام , إلا أبو ثور محتجاًّ بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص.
وأجيب من قِبَل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة, وفائدة ذكر البعض نفيُ احتمال إخراجه من العام , والصعيد في اللغة وجه الأرض , كان عليه ترابٌ , أو لم يكن , قاله الخليل,وابن الأعرابي , والزجاج...
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى عند قول الحق سبحانه {إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً......}الآية.

فإن قيل:وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله؟؟

فالجواب: نعم , والدليل قوله تعالى{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربَـوا إن كنتم مؤمنين* فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله..}

ثم قال بعد ذلك: واستشكل بعض العلماء ثمثيله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين, لأنه سمل أعينهم , مع قطع الأيدي والأرجل مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به؛؛

قال رحمه الله بعد ذكره لعدة أجوبة لعلماء السلف:

والتحقيق في الجواب هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قصاصاً, وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصاً لأنهم سملوا اعين رعاة اللقاح...

قال رحمه الله تعالى عند قول الله سبحانه{ويحرم عليهم الخبائث} عند تناوله للخلاف في لحم الكلب وهل هو محرم كما قال الجمهورأم مكروه كما روي ضعيفا جداً عن الإمام مالك؟

ومنها(أي أدلة التحريم) أنه لو جاز أكله لجاز بيعه , وقدثبت النهي عن ثمنه في الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري مقرونا بحلوان الكاهن ومهر البغي , وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة , واخرجه مسلم من حديثرافع بن خديج رضي الله عنه بلفظ(ثمن الكلب خبيث) الحديث.
وذلك نص في التحريم لقوله تعالى{ويحرم عليهم الخبائث} الآية.

فإن قيل:ما كل خبيث يحرم, لِـمَا ورد في الثوم انه خبيث , وفي كسب الحجام أنه خبيث , مع أنه لم يحرم واحد منهما.

فالجواب : أن ما ثبت بنص انه خبيث كان ذلك دليلاً على تحريمه , وما أخرجه دليل يخرج , ويبقى النص حجةً فيما لم يقم دليل على إخراجه , كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب والسنة, يخرج منها بعض الأفراد بمخصص وتبقى حجة في الباقي.
وهذا مذهب الجمهور, وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
وهو مخصص لدى الأكثر إن*** مخصصا له معينا يبن.


فإن قيل: تحريم الخبائث لعلةالخبث,وإذا وجد خبيغير محرم كان ذلك نقضاً في العلة , لا تخصيصاً لها؛؛

فالجواب أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة لا إبطال لها.قال في مراقي السعود:
منها وجود الوصف دون الحكمِ***ســـــمَّـــاه بالنقص وعاة العلمِ
والأكـــثـــرون عندهـــم لا يقدحُ***بل هو تخصيصٌ, وذا مصححُ
....إلخ كما حررناه في غير هذا الموضع.
 
قال الشيخ -رحمه الله تعالى - في سورة الأعراف عند آية{وإن كان طائفة منهم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا...}الآية.

فإن قيل: الهلاكُ الذي أصاب قومَ شعيب ذكر الله تعالى في الأعراف أنه رجفة , وذكر في هود أنه صيحة , وذكر في الشعراء أنه عذاب يوم الظلة.

فالجواب: ما قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره قال: وقد اجتمع عليهم ذلك كله , أصابهم عذاب يوم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نارولهب ووهج عظيم , ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم , فزهــقــت الأرواح , وفاضت النفوس , وخمدت الأجسام. اهــ منه.
 
قال الشيخ - رحمنا الله وإياه - عند تفسيره لقوله تعالى{واعلموا أنما غنمتم من شيئ فأن لله خمسه....} الآية.

واختلف العلماء فيما إذا ادعى أنه قتله , ولم يقم على ذلك بينةً , فقال الأوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه , وجمهور العلماء على أنه لا بد من بينة على انه قتله .

قال مقيده عفا الله عنه:لا ينبغي أن يختلف في اشتراط البينة , لقوله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلاً له عليه بينة) الحديث, فهو يدل بإيضاح على أنه لا بد من البينة.

فإن قيل:فأين البينة التي أعطى بها النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله السابق ذكره؟؟ (يقصد الشيخ حديث الشيخين المتفق عليه عنى أبي قتادة رضي الله عنه قال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين , فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين , فاستدرتُ إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه.............. وفي آخره قال صلى الله عليه وسلم : صدق فأعطه إياه فأعطاني)الحديث.


فالجواب من وجهين:
1- ما ذكره القرطبي في تفسيره: قال سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبامحمد عبد العظيم يقول:إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأسود بن خزاعى وعبد الله بن أنيس, وعلى هذا يندفع النزاع يزول الإشكال ويطرد الحكم.اهــ .
2- انه أعطاه إياه بشهادة الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(صدَقَ, سلبُ ذلك القتيل عندي) الحديث , فإن قوله (صدق) شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله والاكتفاء بواحد في باب الخبر والأمور التي لم يقع فيها ترافعٌ قال به كثير من العلماء وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله:
وواحد يجزئ في باب الخبر**** واثنان أولى عند كل ذي نظر.
وقال القرطبي في تفسير إن أكثر العلماء على إجزاء شهادة واحد , وقيل: يثبت ذلك بشاهد ويمين . والله أعلم

وأما على قول من قال: إن السلب موكول إلى نظر الإمام فللإمام أن يعطيه إياه ولو لم تقم بينة , وإن اشترطها فله ذلك . قاله القرطبي.
والظاهرعندي أنه لا بد من بينة, لورود النص الصحيح بذلك.
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى عند قول الحق عز وجل {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}.
وفي الآية أقوالٌ أُخر أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم بها}الآية.
وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضا.
وبه قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك اهــ .
ثم قال رحمه الله
(فإن قيل:ما الجواب عما رواه الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:كَيَّتَانِ , صلوا على صاحبكم).اهـ
وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينارٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيَّة , ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:كيتان ).
وما روي عن عبد الرزاق وغيره عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تبا للذهب والفضة يقولها ثلاثاً فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله عنه: أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: لسانا ذاكرا وقلبا شاكراً وزوجة تعين أحدكم على دينه).. ونحو ذلك من الأحاديث


فالجواب -والله تعالى أعلم -:أن هذا التغليظ كان أولاً ثم نسخ بفرض الزكاة كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.
 
اسال الله ان يجزيني واياك بالجنة اخي محمود اني لم اراك قط ولا اعرفك ولكني احببتك في الله
 
أحسن الله إليك وأحبَّـك وأثابك بمثل ما دعوت ورجوت...

قال الشيخ رحمه الله تعالى عند قول الحق سبحانه {ولقد همت به وهم بها}.
فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على برائته عليه السلام مما لا يننبغي في الآيات المتقدمة ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى {وهمَّ بها}؟؟


فالجواب من وجهين:
الأول: أن المراد بهمَّ يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى , وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى , وهذا لا معصية فيه لأنه أمرٌ حبليٌّ لا يتعلق به التكليف كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول(اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك) يعني: ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد , مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم , وقد قال صلى الله عليه وسلم (ومن هم بسيئةٍ فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة) لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفا من الله وامتثالاً لأمره كما قال تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى}.
وهمُّ بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحدٍ كهمِّ يوسف هذا , بدليل قوله {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} لأن قوله {والله وليهما} يدل على أن ذلك الهمَّ ليس معصيةً لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية.
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه : هذا ما يهُمني , ويقول فيما يحبه ويشتهيه : هذا أهم الأشياء إليَّ , بخلاف هم امرأة العزيز فإنه هم عزم وتصميم بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها, ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه , مثل هذا التصميم على المعصية معصية يؤاخذ بها صاحبها بد ليل الحديث الثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار, قالوا : يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه) فصرح صلى الله عليه وسلم بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار.
وأما تأويلهم هم يوسف بأنه قارب الهم ولم يهم بالفعل كقول العرب: قتلته لو لم أخف الله أي قاربت أن أقتله , كما قاله الزمخشري.
وتأويل الهم بأنه هم بضربها أو هم بدفعها عن نفسه فكل ذلك غير ظاهر, بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه.

الجواب الثاني: وهو اختيار أبي حيان أن يوسف لم يقع منه هم أصلاً, بل هو منفي عنه لوجود البرهان , قال مقيده عفا الله عنه:هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب أن الجواب المحذوف يُذكَر قبله ما يدل عليه كقوله {فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} أي: إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه فالأول دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب ,لأن جواب الشروط وجواب لولا لا يتقدم ولكن يكون المذكور قبله دليلاً عليه كالآية المذكورة , وكقوله {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} أي: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم , وعلى هذا القول فمعنى الآية: {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} أي: لولا أن رآه هم بها.
فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف كما هو الغالب في القرآن واللغة , ونظير ذلك قوله تعالى {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} فما قبل لولا دليل الجواب أي : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب لولا وتقديم الجواب في سائر الشروط , وعلى هذا القول يكون جواب لولا في قوله (لولا أن رأى برهان ربه) هو ما قبله من قوله {وهم بها} وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون ومن أعلام البصريين أبو العباس المبرد وأبو زيد الأنصاري.
 
قال الشيخ رحمه الله عند قول الحق تعالى {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}
فإن قيل: (ربما) لا تدخل إلا على الماضي فما وجه دخولها على المضارع في هذا الموضع؟؟


فالجواب ان الله تعالى لما وعد بوقوع ذلك صار ذلك الوعد للجزم بتحقيق وقوعه كالواقع بالفعل , ونظيره قوله تعالى {أتى امر الله} الآية , ونحوها من الآيات , فعبر بالماضي تنزيلاً لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل.
 
ويقول رحمه الله تعالى عند آية {وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر...} الاية.
قد يقال في هذه الآية الكريمة: كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكرُ وينسبونه للجنون مع ذلك؟؟


والجواب: أن قولهم(يأيها الذي نزل عليه الذكرُ) يعنون في زعمه تهكماً منهم به,ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه في مواضع أخر, كقوله تعالى عن فرعون مع موسى{إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} وقوله عن قوم شعيب{إنك لأنت الحليم الرشيد}.
 
ويقول رحمه الله تعالى عند آية {وحفظناها من كل شيطان رجيم} بعد كلام طويل على ما يتشدق به الأفاكون الذين يزعمون أنهم سيصلون للسماء وما فوقها ويبنون على القمر, وبعد تفنيده لتلك المزاعم بالتفصيل..

قال: فإن قيل:يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى: لتركبن أيها الناس طبقا بعد طبق, أي سماءاً بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة, كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم, وإذا كان هذا جائزا في لغة القرآن فما المانع من حمل المعنى عليه؟؟

فالجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:أن ظاهر القرآن يدل على ان المراد بالطبق الحالُ المتَنَقَّلُ إليها من موت ونحوه وهو هول القيامة بدليل قوله بعده مرتباً له عليه بالفاء(فما لهم لا يؤمنون* وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا يتنقلون من حال إلى حال ومن هول إلى هول فما المانع لهم من أن يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق كما هو معروف في لغتهم.

الوجه الثاني:أن الصحابة رضي الله عنهم هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب وهم أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ولم يركب أحد منهم سماءا بعد سماء بإجماع المسلمين , فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الاية, ولو كان هو معناها لما خرج منه المخاطَبون الأولون بلا قرينة على ذلك.

الوجه الثالث:هو ما قدمنا من الايات المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنا من كان فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود اصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق, والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة.
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه عند آية{وحفظناها من كل شيطان رجيم}

فإن قيل:هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في حفظها من استراق السمع , وذلك إنما يكون من شياطين الجن , فدل ذلك على اختصاص الآيات المذكوة بشياطين الجن؟؟

فالجواب:أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار , قال في لسان العرب:(والشيطان معروف , وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان).
وقال في القاموس:(والشيطان معروف , وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة)اهـ .

ولا شك أن من أشد الكفار تمرداً وعتواً الذين يحاولون بلوغ السماء , فدخولهم في اسم الشيطان لغة لاشك فيه.
وإذا كان لفظ الشيطان يعم كل متمرد عاتٍ فقوله تعالى{وحفظناها من كل شيطان رجيم} صريح في حفظ السماء من كل متمرد عاتٍ كائنا من كان , حمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجبٌ إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول , وحفظ السماء من الشياطين معناه: حراستها منهم.
قال الجوهري في صحاحه: (حفظت الشيء حفظاً اي : حرسته) اهـ.
وقال صاحب لسان العرب:(وحفظت الشيء حفظاً اي حرسته) اهـ.وهذا معروف في كلام العرب فيكون مدلول هذه الاية بدلالة المطابقة {وحفظناها من كل شيطان رجيم}أي: وحرسناها,أي السماء من كل عات متمرد.
ولا مفهوم مخالفة لقوله {رجيم} وقوله{مارد} لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة , فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد, وإن كان بعضهم أقوى تمرداص من بعض وما حرسه الله جل وعلا من كل عات متمرد لا شك أنه لايصل إليه عاتٍ متمردٌ كائنا من كان {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسيرٌ}والعلم عند الله تعالى اهـ.
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى عند كلامه على الصلاة في مرابض الإبل الغنم وذلك عند تفسير آية{ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين}.
قد علمتَ أن الحجر المذكور في هذه الآية في قوله{ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين} هي ديارثمود وأنه ورد النهي عن الصلاة في مواضع الخسف فبهذه المناسبة نذكر الماكن التي نهي عن الصلاة فيها ونبين ما صح فيه النهي وما لم يصح , والمواضع التي ورد النهي عن الصلاةفيها تسعة عشر موضعا ستأتي كلها..اهــ
ثم بعد كلامه على مرابض الغنم والإبل قال رحمه الله:

فإن قيل:ما حكم الصلاة في مبارك القبر؟؟


فالجواب: أن اكثر العلماء يقولون إنها كمرابض الغنم, ولو قيل إنها كمرابض الإبل لكان لذلك وجه.
قال ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري(وقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر, قال: وسنده ضعيف, فلو ثبت لأفاد أن حكم البقر حكم الإبل بخلاف ما ذكره ابن المنذر أن البقر في ذلك كالغنم )اهــ كلام ابن حجر.
وما يقوله أبو داود رحمه الله من أن العمل بالحديث الضعيف خيرٌ من العمل بالرأي له وجه وجيه , والعلم عند الله تعالى .
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى: - عند قول الله جل وعز {كما أنزلنا على المقتسمين}-
فإن قيل:بم تتعلق الكاف في قوله{كما أنزلنا على المقتسمين}؟؟


فالجواب: ما ذكره الزمخشري في كشافه قال:(فإن قلت:بم تعلق قوله(كما انزلنا)؟
قلت:فيه وجهان :
احدهما:أن يتعلق بقوله{ولقد آتيناك سبعا من المثاني..} أي: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما , فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه , وقيل: كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الاخر سورة آل عمران لي (إلى أن قال).
الوجه الثاني: ان يتعلق بقوله{وقل إني أنا النذير المبين} أي وأنذر قريشاً مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين(يعني اليهود) وهو ما جرى على قريظة والنضير.
جعل المتوقع بمنزلةالواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان.انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف ,ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في البحر المحيط ثم قال أبو حيان: اما الوجه الأول وهو تعلق (كما)ب(آتيناك) فذكره أبو البقاء على تقديروهو ان يكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره:آتيناك سبعا من المثاني إيتاءًا كما انزلنا,أو إنزالاً كما أنزلنا, لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك..
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى عند تناوله لقول الله تعالى{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها}
المسألة الرابعة: اعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنه يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ والمرجان لأن الله جل وعلا قال فيها في معرض الامتنان العام على خلقه عاطفا على الأكل{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها}, وهذا الخطاب خطاب الذكور كما هو معروف,ونظير ذلك قوله تعالى في سورة فاطر{ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها}.
قال القرطبي في تفسيره:امتن الله على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحرفلا يحرم عليهم شيئ منه, وإنما حرم تعالى على الرجال الذهب والحرير.
وقال صاحب الإنصاف:يجوز للرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه, وهو الصحيح من المذهب.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ مثلاً,ولا أعلم مستندا للتحريم إلا عموم الأحاديث الواردة بالزجر البالغ عن تشبه الرجال بالنساء,كالعكس؛
قال البخاري في صحيحه:{باب المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال}(وساق الشيخ سند البخاري)عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
فهذا الحديث نص صريحٌ في أن تشبه الرجال بالنساء حرام,لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن أحدا إلا على ارتكاب حرام شديد الحرمة.
ولا شك أن الرجل إذا لبس اللؤلؤ والمرجان فقد تشبه بالنساء.

فإن قيل:يجب تقديم الآية على الحديث من وجهين:
الأول:أن الآية نص متواتر,والحديث المذكور خبر آحاد, والمتواتر مقدم على الآحاد.
الثاني:أن الحديث عام في كل أنواع التشبه بالنساء,والآية خاصة في إباحة الحلية المستخرجة من البحر,والخاص مقدم على العام.


فالجواب:أنَّا لم نرَ من تعرض لهذا.
والذي يظهر لنا-والله تعالى أعلم-أن الآية الكريمة وإن كانت أقوى سندا وأخص في محل النزاع, فإن الحديث أقوى دلالةً على محل النزاع منها,وقوةُ الدلالة في نص صالح للاحتجاج على محل النزاع أرجحُ من قوة السند لأن قوله تعالى{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها}يحتمل معناه احتمالا قوياً:أن وجه الامتنان به أن نسائهم يتجملن لهم به,فيكون تمتعهم وتلذذهم بذلك الجمال والزينة الناشئ عن تلك الحلية من نعم الله عليهم,وإسناد اللباس إليهم لنفعهم به,وتلذذهم بلبس أزواجهم له.
بخلاف الحديث فهو نص صريح غير محتمل في لعن من تشبه بالنساء,ولا شك أن المتحلي باللؤلؤ مثلاً متشبه بهنَّ,فالحديث يتناوله بلا شك.
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه في نفس الاية السابقة عند مبحث لبس الفضة للرجال وبعد ذكره لحديث النبي صلى الله عليه وسلم القائل فيه(من أحب أن يُحلِّق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب,ومن احب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب,ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليسوره سوارا من ذهب,ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها)..
قال:
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن هذا الحديث لا دليل فيه على إباحة لبس الفضة للرجال,ومن استدل بهذا الحديث على جواز لبس الفضة للرجال فقد غلط.

ثم استدل رحمه الله على ما ذهب إليه بعدة أمور,وقال بعد ذلك:
فإن قيل:قوله صلى الله عليه وسلم(يحلق حبيبه)(يطوق حبيبه)(يسور حبيبه) يدل على أن المراد ذكـَرٌ,لأنه لو أراد الأنثى لقال(حبيبته) بتاء الفرق بين الذكر والأنثى..

فالجواب:أن إطلاق الحبيب على الأنثى باعتبار إرادة الشخصالحبيب مستفيض في كلام العرب لا إشكال فيه,ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
منع النـــومَ بالعشاءالهمومُ *** وخيالٌ إذا تغار النجومُ
من حبيب أصاب قلبك منه *** ســقـم فهو داخل مكتومُ
ومراده بالحبيب أنثى بدليل قوله بعده:
لم تفتها شمس النهار بشيء *** غير أن الشباب ليس يدومُ
وقول كثير عزة:
لئن كان برد الماء هيمان صادياً *** إلي حبيبا إنها لحبيبُ
ومثل هذا كثير في كلام العرب فلا نطيل الكلام به..
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى في المسألة ذاتها:فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح(الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) يدخل في عمومه تحريم لبس الفضة؛لأن الثلاث المذكورات معها يحرم لبسها بلا خلاف,وما شمله عموم نصظاهر من الكتاب والسنة لايجوز تخصيصه إلا بنص صالح للتخصيص؛ كما تقرر في علم الأصول..

فإن قيل:الحديث وارد في الشرب في إناء الفضة لا في لبس الفضة؟؟

فالجواب:أن العبرة بعموم الألفاظ, لا بخصوص الأسباب,لا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرفي الحديث مالايحتمل غير اللبس كالحرير والديباج.
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى استكمالاً للمسألة السابقة:

فإن قيل: جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يفسر هذا ويبين أن المراد بالفضة الشراب في آنيتها لا لبسها, قال البخاريُّ في صحيحه:باب الشرب في آنية الذهب,(وساق البخاري السند عن ابن أبي ليلى)قال:كان حذيفة بالمدائن فاستسقى فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به فقال:إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته,وأنالنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة,وقال:هنّ لهم في الدنيا ولكم في الآخرة,
(باب آنية الفضة)وساق البخاري السند عن ابن أبي ليلى قال:خرجنا مع حذيفة وذكرالنبي صلى الله عليه وسلم قال:لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تلبسوا الحرير والديباج,فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة.انتهى
فدل هذاالتفصيل - الذي هوالنهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة والنهي عن لبس الحرير والديباج - على أن ذلك هوالمراد بما في الرواية الأولى,وإذاً فلا حجة في الحديث على منع لبس الفضة لأنه تعين بهاتين الروايتين أن المراد الشرب في آنيتها لا لبسها لأن الحديث حديث واحد..


فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأول:أن الرواية المتقدمة عامة بظاهرها في الشرب واللبس معاً,والروايات المقتصرةعلى الشرب في آنيتها دون اللبس ذاكرة بعض أفراد العام ساكتة عن بعضها, وقد تقرر في الأصول(أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه) وهو الحق كما بينا في غير هذا الموضع وإليه أشار في مراقس السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم على الصحيح:
وذكر ماوافقه من مفردِ *** ومذهب الراوي على المعتمدِ

الثاني:أن التفصيل المذكور لو كان هو مراد النبي صلى الله عليه وسلم لكان الذهب لا يحرم لبسه وإنما يحرم الشرب في آنيته فقط, كما زعم مدعي ذلك التفصيل في الفضة, لأن الروايات التي فيها التفصيل المذكور(لاتشربوا في آنية الذهب والفضة) فظاهرها عدم الفرق بين الذهب والفضة ولبس الذهب حرامٌ إجماعا على الرجال..

الثالث:وهو أقواها ولا ينبغي لمن فهمه حق الفهم أن يعدل عنه لظهور وجهه,وهو:أن هذه الأربعة المذكورة في هذا الحديث -التي هي الذهب والفضة والحرير والديباج - صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنها للكفارفي الدنيا وللمسلمين في الآخرة فدل ذلك علىأن من استنفع بها في الدنيا لم يستنفع بها في الآخرة, وقد صرح جل وعلا في كتابه العزيز بأن أهل الجنة يتمتعون بالذهب والفضة من جهتين:
إحداهما:الشرب في آنيتهما.
والثانية:التحلي بهما.
وبين أن أهل الجنة يتنعمون بالحرير والديباج من جهة واحدة وهي لبسها,وحكم الاتكاء عليهما داخل في حكم لبسهما,فتعيَّن تحريم الذهب والفضة من الجهتين المذكورتين وتحريم الحرير والديباج من الجهةالواحدة لقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الروايات الصحيحة في الأربعة المذكورة (هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) لأنه لو أبيح التمتع بالفضةفي الدنيا والآخرةلكان ذلك معارضاً لقوله صلى الله عليه وسلم (هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )وسنوضح ذلك إن شاء الله من كتاب الله جل وعلا..
 
ويقول رحمنا الله تعالى وإياه:
تــنــبــيــه

فإن قيل:عموم حديث حذيفة المذكور الذي استدللتم به وبيان القرآن أنه شامل للبس الفضة والشرب فيها,وقلتم:إن كونه واردا في الشرب في آنية افضة لا يجعله خاصا بذلك,فما الدليل في ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟؟

فالجواب:أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عما معناه(هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟) فأجاب بما معناه(أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
قال البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رجلا أصاب من امرأة قبلةً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزلت عليه {وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}قال الرجل: ألي هذه؟ قال صلى الله عليه وسلم:(لمن عمل بها من أمتي)اهـ .لفظ البخاري في التفسير في سورة هود.
وفي رواية في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم (لجميع أمتي كلهم)اهـ.
فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عام اللفظ فقال للنبي صلى الله عليه وسلم(ألي هذه) ومعنى ذلك: هلالنص خاص بي لأني سبب وروده؟أو هو على عموم لفظه؟
وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:(لجميع أمتي) معناه أن العبرة بعموم لفظ (إن الحسنات يذهبن السيئات)لا بخصوص السبب,والعلم عند الله تعالى.
 
قال الشيخ رحمنا الله تعالى وإياه عند قول الحق جلَّ وعزَّ {ليحملوا أوزارهم كاملةً يومَ القيامةِ ومنْ أوزارِ الَّـذين يُضلُّونهم بغير علمٍ ألا ساءَ ما يزرونَ }

فإن قيل:ما وجه تحملِ بعض أوزار غيرهم المنصوص عليه بقوله(ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) الآية,وقوله(وليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) مع أن الله يقول (ولا تزرُ وازرةٌ وِزر أخرى) ويقول جل وعلا (ولا تكسبُ كل نفسس إلا عليها) ويقول:(تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) إلى غير ذلك من الآيات..

فالجواب والله تعالى أعلم: ان رؤساء الضلال وقادته تحملوا وزرين:
أحدهما:وزر ضلالهم في انفسهم.
والثاني:وزر إضلال غيرهم,لأن من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها,لا ينقص ذلك من اوزارهم شيئاً,وإنما أخذ بعمل غيره,لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه,فعوقب عليه من هذه الجهة,لأنه من فِعْله,فصار غير مناف لقوله (ولا تزرُ وازرةٌ وِزر أخرى)


ويقول رحمه الله عند تفسيره لآية النحل (ما كنا نعمل من سوءٍ...)الآية.
فإن قيل: هذه الايات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفروالمعاصي كقوله عنهم (واللهِ ربِّنا ما كنا مشركين)وقوله (ما كنا نعمل من سوء)ونحو ذلك مع أن الله صرح بانهم لا يكتمون حديثه في قوله (ولا يكتمون الله حديثا).

فالجواب:هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم(والله ربنا ما كنا مشركين) فيختم الله على افواههم وتتكلم أيديهم وارجلهم بما كانوا يكسبونو فالكتمُ باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة, وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم والعلم عند الله تعالى..
 
قال الشيخ رحمنا الله تعالى وإياه عند آية النحل (ومن ثمرات النخيل والعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسناً),بعد أن فسَّر السكَربالخمر..

فإن قيل:الآية واردة بصيغة الخبر,والأخبار لا يدخلها النسخ كما تقرر في الأصول؛؛


فالجواب:أن النسخ وارد على ما يفهم من الآية من إباحة الخمر والإباحة حكم شرعي كسائر الحكام قابل للنسخ,فليس النسخُ واردا على نفس الخمر,بل على الإباحة المفهومة من الخبر,كما حققه ابن العربي الماكي وغيره.
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه عند قوله تعالى(نسقيكم مما في بطونه) بعد تعرضه للمني وخلاف العلماء في طهارته,وذكره لأدلة الفريقين,وابتدأ رحمه الله بذكر أدلة القائلين بطهارته,ومن بين تلك الدلة القياسية,استدلال أولئك بإلحاق المني بالطين..

يقول الشيخ:
الوجه الثاني من وجهي القياس المذكور:إلحاق المني بالطين بجامع أن كلا منهما مبتدء خلق البشر,كما قال تعالى(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين).

فإن قيل:هذاالقياس يلزمه طهارة العلقة ,وهي الدم الجامد ,لأنها أيضا مبتدأ خلق بشر,لقوله تعالى (ثم خلقنا النطفة علقة).
والدم نجس بلا خلاف؛؛


فالجواب:أن قياس الدم على الطين في الطهارة فاسد الاعتبار, لوجود النص بنجاسة الدم.
أما قياس المني على الطين فليس بفاسد الاعتبار لعدم وجود النص بنجاسة المني..


(علماً ان الشيخ خلص في هذا المبحث بعد نقاشه للأدلة إلى طهارةالمني ,وقال إن قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق,وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة) نصٌّ في محل النزاع.)
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه في قول الله تعالى (ولا هم يستعتبون)..

فإن قيل:ما وجه الجع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا,وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم كقوله تعالى (والله ربنا ما كنا مشركين)وقوله (ما كنا نعمل من سوء)وقوله (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً),ونحو ذلك من الايات..

فالجواب:من أوجه:

منها:أنهم يعتذرون حتى إذا قيل لهم (اخسئوا فيها ولاتكلمون) انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق,كما قال تعالى (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لاينطقون).

ومنها:أن نفي اعتذارهم,يراد به اعتذار فيه فائدة,أما الاعتذر الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم,يصدق عليه في لغة العرب أنه ليس بشيء,ولذاصرح تعالى بأن المنافقين بكمٌفي قوله تعالى (صمٌّ بكمٌ),مع قوله عنهم (وإن يقولوا تسمع لقولهم)أي: لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم,وقال عنهم أيضاً (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد).
فهذا الذي ذكره جل وعلا من فصاحتهم وحدة ألسنتهم,مع تصريحه بأنهم بكمٌ,يدل على ان الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء كما هو واضح.
وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي:
وإن كلام المرءفي غير كنهه **** لكا النبل تهوي ليس فيها نصالها
(وقد بينا هذا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى عند قول الحق سبحانه (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون)...

فإن قيل: كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهم,مع أن الواقع خلاف ما قالوا,وانهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله ؟؟

فالجواب:أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة,وأن عبادتهم حق,وأنها تقربهم إلى الله زلفى,ولا شك ان كل ذلك من أعظم الكذب وأشنع الافتراء,ولذلك هم صادقون فيما القوا إليهم من القول,ونطقوا فيه بأنهم كاذبون..
ومراد الكفاربقولهم لربهم (هؤلا شركاؤنا) قيل:ليحمِّلوا شركائهم تبعة ذنبهم,وقيل: ليكونوا شركائهم في العذاب كما قال تعالى (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار).
وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدون من دون الله في النار جميعاً, في قوله تعالى(إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) الآية.وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيراً بقوله (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) لأنهم ما عبدوهم برضاهم, بل لو اطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده جل وعلا..
 
قال الشيخ رحمه الله عليه :

فإن قيل: يكثر في القرآن الكريم إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي,كقوله هنا (يعظكم لعلكم تذكَّرون) مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) إلى قوله(وينهى عن الفحشاء),وكقوله في سورة البقرة بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر)وقوله في الطلاق في نحو ذلك أيضا (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة(يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا)الآية..
مع أن المعروف عند الناس أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك,لا بالأمر والنهي..



فالجواب:
أن ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب,وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء هو أوامر ربهم ونواهيه,فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله,وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله,وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه,وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه,فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال,فلانت قلوبهم للطاعة خوفا وطمعاً..
 
قال رحمنا الله وإياه:

فإن قيل:أثبت الله للشيطان سلطانا على أوليائه في آيات,كقوله هنا (إنما سلطانه على الذين يتولونه)الآية,وقوله(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغوين), فالاستثناء يدل على أن له سلطانا على من اتبعه من الغاوين,مع انه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر,كقوله(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين*وما كان له عليهم من سلطان).,وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا(وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي )..

فالجواب:
هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غيرُ السلطان الذي نفاه ,وذلك من وجهين:
1-أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه,والسلطان المنفي هو سلطان الحجة,فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها,غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان,وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن..

2-أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداءا البتة,ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته,ودخولهم في حزبه,فلم يتسلط عليهم بقوة,لأن الله يقول (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)..

ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله,وقد بينا هذا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب..
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه:
وما زعمه بعض أهل العلم من ان النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) فإنه نسخ بقوله تعالى (ءأشفقتم أن تقدموا بين نجواكم صدقات) الآية,ولا بدل لهذا المنسوخ..


فالجواب:أن له بدلاً,وهو ان وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها,بدلا من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر..
 
قال رحمه الله تعالى:
اعلم أن في قوله جل وعلا(نأت بخير منها أو مثلها) إشكالا من جهتين:

الأولى:ان يقال إما أن يكون الأثقل خيرا من الأخف,لأنه أكثر أجراً,أو الأخف خيرا من الأثقل لأنه أسهل منه,وأقرب إلى القدرة على الامتثال,وكون الأثقل خيرا يقتضي منع نسخه بالأخف,كما أن كون الأخف خيرا يقتضي منع نسخه بالأثقل,لأن الله صرح بانه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له,لا ما هو دونه,وقد عرفت أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر...

الجهة الثانية من جهتي الإشكال في قوله (أو مثلها) لأنه يقال:
ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله؟
وأي مزية للمثل على المثل حتى يُنسضخ ويبدل منه؟


والجواب عن الإشكال الول هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر,وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرا جداً,والامتثالُ غير شديد الصعوبة,كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم,فإن في الصوم أجرا كثيرا كما في الحديث القدسي(إلا الصوم فإنه لي وانا أجزي به)والصائمون من خير الصابرين لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم,والله يقول (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال,وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص عليه بقوله:(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر)..

وتارة تكون الخيرية في الأخف وذلك فيماإذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال,فإن الأخف يكون خيرا منه,لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما لا يرضي الله وذلك كقوله (وإن تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله) فلو لم تنسخ المؤاخذة بخطوات القلوب لكان الامتثال صعبا جداً,شاقا على النفوس, لا يكاد يسلم من الإخلال به,إلا من سلمه الله تعالى,فلا شك أن نسخ ذلك بقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق,وهكذا..


والجواب عن الإشكال الثاني: هو ان قوله (أو مثلها) يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتيهما,فلاينافي ان يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجةعن ذاته يكون بها خيرا من المنسوخ,فيكون باعتبار ذاته مماثلاً للمنسوخ,وباعتبار مايستلزمه من الفوائد التي لا توجدفي في المنسوخ خيراً من المنسوخ..

وإيضاحه أن عامةالمفسرين يمثلون لقوله (أو مثلها)بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام,فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتيهما متماثلان,لأن كل واحد منهما جهة من الجهات,وهي في حقيقة أنفسها متساوية,فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملاً على حكَم خارجة عن ذاته تصيره خيراً من المنسوخ بذلك الاعتبار,فإن استقبال البيت الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن,ليست موجودة في استقبال بيت المقدس..
منها: أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم:تزعم انك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلته؛؛
وتسقط به حجة اليهود بقولهم:تعيب ديننا وتستقبل قبلتَنا,وقبلتُنا من ديننا,؛؛
وتسقط به أيضا حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة:أنه صلى الله عليه وسلمسوف يؤمر باستقبال بيت لمقدس,ثم يؤمر عنه بالتحول إلى استقبال بيت الله الحرام,فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليهبما عندهم في التوراة من انه سيحول إلى بيت الله الحرام والفرض انه لم يحول..
 
قال الشيخ رحمه الله:
المسالةالسابعة:

اعلم أن التحقيق هو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل..؛
فإن قيل:ما الفائدةفي تشريع الحكام أولاً إذا,إذا كان سينسخ قبل التمكن من فعله؟؟


فالجواب:أن الحكمة ابتلاء المكلفين بالعزم على الامتثال,ويوضح هذا أن الله امر إبراهيم أن يذبح ولده,وقد نسخ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل,وبين أن الحكمة في ذلك:الابتلاء بقوله(إن هذا لهو البلاء المبين *وفديناه بذبح عظيم),ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل:نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء,بعد ان فرضتالصلاة خمسين صلاة,كما هو معروف,وقد أشار إلى هذهالمسألة في مراقي السعود بقوله:
والنسخ من قبل وقوع الفعلِ *** جاء وقوعا في صحيح النقلِ
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه:
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف,هو ان يقال: كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف)..الآية..
وروى أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأديب:هل يذاق اللباس؟؟ يريد الطعن في قوله تعالى(فاذاقها الله لباس الجوع والخوف)الآية , فقال له ابنالأعرابي: لا بأس أيها النسناس؛؛ هب أن محمدا صلى الله عليه وسلم ماكان نبيا.. أما كان عربيا؟؟

قال مقيده عفا الله عنه:والجواب عن هذا السؤال ظاهر,وهو أنه أطلق اسم اللباسعلى ما اصابهم من الخوف والجوع,لأن آثار الخوف والجوع تظهر على أبدانهم,وتحيط بهم كاللباس..
ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف أوقع عليه اذاقة ,فلا حاجة لما يذكره البيانيون من أنواع الاستعارات في هذه الآية الكريمة..

وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها(منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبد والإعجاز) أنه لا يجوز لأحد أن يقول: إن في القرآن مجازاً,وأوضحنا ذلك بأدلته ,وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازاً أنهأسلوب من أساليب اللغة العربية..
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه عن تفسيره لآية (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا):
فإن قيل:
إذا كان الرقيق مسلما,فما وجه ملكه بالرّق؟مع أن سبب الرّق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال؟


فالجواب:
أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء,أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق,والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها,فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي,ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع,وهو الحكيم الخبير,فإذا استقر هذا الحق وثبت,ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقا بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام.
وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه,كما هو معلوم عند العقلاء.
نعم ,يحسن بالمالك ويجمل به أن يعتقه إذا أسلم,وقد أمر الشارع بذلك ورغب فيه,وفتح له الأبواب الكثيرة كما قدمنا فسبحان الحكيم الخبير {وتمّت كلمة ربك صدقا وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم}
فقوله (صدقا) أي: في الأخبار ,وقوله (عدلاً) أي :في الأحكام,ولا شك أن من ذلك العدل الملك بالرق,وغيره من أحكام القرآن.
وكم من عائب قولا صحيحا *** وآفته من الفهم السقيمِ
 
قال الشيخ رحمنا الله وإياه:
في سرده لمواطن هدي القرآن للتي هي أقوم التي اهتدى إليها في الشريعة الإسلامية:

فإن قيل: أخرج الشيخان في صحيحهما وأصحاب السنن غير ابن ماجة وغيرُهم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً)
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ,مع أنه عرف من الشرع أن اليد فيها نصف الدية, ودية الذهب ألف دينار , فتكون دية اليد خمسمائة دينار,فكيف تؤخذ في مقابلة ربع الدينار؟؟
وماوجه العدالة والإنصاف في ذلك ؟؟



فالجواب:أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله هو الذي نظمه المعري بقوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت *** ما بالها قطعت في ربع دينار
وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظماً ونثراً, منها قول القاضي عبد الوهاب مجيبا له فيبحره ورويه:
عز الأمانة أغلاها, وأرخصها **** ذل الخيانةفافهم حكمة الباري
وقال بعضهم: لما خانت هانت..


ومن الواضح أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما تحملت رذيلة السرقة وإطلاقَ اسم السرقة عليها في شيئ حقير, كثمن المجن والأترجة, كان من المناسب المعقول أن تؤخذفي ذلك الشيئ القليل الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى..

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: (ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل فلا يبعدأن يعاقبه لشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة)انتهى

فانظر ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق والتنزه عما لا يليق وقطع يد السارق في ربع دينارفصاعداً يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة, فانظر هذا الحطّ العظيمَ لدرجته بسبب ارتكاب الرذائل..
وقد استشكل بعض الناس قطع يد السارق في السرقة خاصةً دون غيرها من الجنايات على الأموال كالغصب والانتهاب ونحو ذلك !!!

قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها , وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها, وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منهابقدر ما يقطَع فيه حماية لليد, ثمّ لما خانت هانت , وفي ذلك إثارة إلى الشبهة التي نسبت إلى اب العلاء المعريفي قوله :
يد بخمس مئين عسجد وديت **** ما بالها قطعت في ربع دينارِ
فأجابه اقلاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:
صيانة العضو أغلاها,وأرخصها **** حماية المال فافهم حكمة الباري

وشرح ذلك: ان الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي,ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموالو فظهرت الحكمةفي الجانبين,وكان في ذلك صيانة من الطرفين..
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى
عند قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}في سورة بني إسرائيل..

يرد على هذه الآيةالكريمة سؤالان:

الأول: ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من {أنّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه} فيقال: ما وجه تعذيبه ببكاء غيره - إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لايعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره -؟؟

الثاني: إيجاب دية الخطإ على العاقلة,فيقال: ما وجه إلزام العاقلةِ الديةَ بجناية إنسان آخر؟؟

والجواب عن الأول :هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين:

الأول: أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه كما قال طرفة بن العبد في معلقته:
إذا متّ فانعيني بما أنا أهله *** وشقي عليّ الجيبَ ياابنة معبدِ
لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر وذلك من فعله, لا فعل غيره.

الثاني: أن يهمل نهيَهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلمُ أنهم سينوحون عليه لأنّ إهمالَـه نهيَهم تفريطٌ منه ومخالفة لقوله تعالى {قو أنفسكم وأهليكم ناراً}, فتعذيبه إذا بسبب تفريطه وتركِه ما امر الله به من قوله{ قو انفسكم وأهليكم ناراً} الآية , وهذا ظاهرق كما ترى
.

وعن الثاني:بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزرَ القاتل, ولكنها مواساة محضةٌ أوجبها الله على عاقلة الجاني, لأن الجاني لم يقصد سوءاً, ولا إثم عليه البتة, فاوجب الله في جنايته خطا الدية بخطاب الوضع,وأوجب المواساة فيها على العاقلة,ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء..
 
قال الشيخ رحمنا الله تعالى وإياه عند قول الحق سبحانه وتقدس: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنها تدميراً}.

في هذه الآية الكريمة سؤال معروفو وهو أن يقال:إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم -(أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)- مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفينَ وغيرِِهم -(فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)- يعني القرية , ولم يستثن منها غير المترفين..؟؟

والجواب من وجهين:
1- أن غير المترفين تبع لهم, وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم لأن غيرهم تبع لهم , كما قال تعالى {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} وكقـوله {إذ تبرأ الذين اتـُّبـِعوا من الذين اتـَّبـَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} الآية وقوله {حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا} الآية ,وقوله تعالى {وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاؤ للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء}الآية,وقوله{وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاؤ للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار} إلى غير ذلك من الآيات...


2- أن بعضهم إن عصى الله وطغى وبغى ولم ينههم الآخرون, فإن الهلاك يعم الجميع, كما قال تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة),وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:لا إله إلا الله ,ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) . وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها..) قالت له: يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون ؟ قال ( نعم إذا كثر الخبث) وقد قدمن هذاالمبحث موضحا في سورةالمائدة..
 
قال الشيخ - رحمنا الله وإياه - عند تناوله للقسامة في تفسيره لآية (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) الآية..

تـــنــبـــيـــه:
قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة ,فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين, وقع فيها انكسار فإن تساووا جـُبر الكسرُ عليهم, كما لو خلَّف المقتولُ ثلاثة بنين, فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يميناً,وهو ستة عشر وثلثان, فيتمم الكسرُ على كل واحد منهم , فيحاف كل واحد منهم سبعة عشر يميناً..

فإن قيل:يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يمنا لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يميناً..!!

فالجواب: أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز , وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز,فعـُلـِم استواءُهم في جبر الكسر, فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستوِ في قدر كسرها الحالفون,كأن كان على أحدهم نصفُها, وعلى آخر ثلثها,وعلى آخر سدسها,حلفها من عليه نصفُها تغليباً للأكثر,ولا تجبرُ على صاحب الثلث والسدس,وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم, وقال غيرهم: تجبرعلى الجميع, والله تعالى أعلم.

وقال بعض أهل العلم يحلف كا واحد من المدعين خمسين يمينا, سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه.
واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يمينا كلها,قال: وما يحلفه منفردا يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى..

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد فيما يظهر, لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط,وهذا القول قد تصير به مئاتٍ كما ترى والعلم عند الله تعالى ..
 
ويقول رحمة الله تعالى ورضوانه عليه عند آية {ثمَّ بعثناهم لنعلم أيُّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً} الكهف .
تنبـــيــــه:
فإن قيل: ما وجه رفع أي من قوله (لنعلم أيُّ الحزبين أحصى) مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به .؟؟



فالجواب:أن للعلماء في ذلك أجوبة, منها:
أن (أي) فيها معنى الاستفهام و والاستفهامُ يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة –عاطفا على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه- :
وإن ,ولا, لام ابتداءٍ أو قسمْ *** كذا والاستفهامُ , ذا له انحتمْ
ومنها ما ذكره الفخر الرازي وغيره, من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم,ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله (لنعلمَ) في لفظة (أي) بل بقيت على ارتفاعها, ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول كما ترى .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية أن لفظة (أي) موصولة استفهامية. و(أي) مبنية لأنها مضافة , وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة :
أيُّ كما وأُعربت ما لم تُضَفْ *** وصدر وصلها ضميرٌ انحذفْ
ولبنائها لم يظهر نصبها,وتقرير المعنى على هذا : لنعلمَ الحزبَ الذي هو أحصى لما لبثوا أمداً ونميزه عن غيره.
و(أحصى) صيغة تفضيل, كما قدمنا توجيهه ,نعم للمخالف أن يقول:إن صيغة التفضيل تقتضي بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضَّل والمفضَّل عليه في أصل الفعل,وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء ,لجهله بالمدة من أصلها, وهذا مما يقوي قولَ من قال إن (أحصى) فعل, والعلم عند الله تعالى ..


فإن قيل:أي فائدة مهمةٍ في معرفة الناس بالحزب المحصي أمد اللبث من غيره حتى يكون علة غائية , لقوله {ثمَّ بعثناهم لنعلم أيُّ الحزبين ..} الآية؟؟
وأي فائدة مهمة في مسائلة بعضهم بعضاً, حتى يكون علة غائية لقوله {وكذلك بعثناهم ليتسائلوا بينهم} ؟؟


فالجواب: أنا لم نرَ من تعرَّض لهذا , والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم أنَّّ ما ذُكرَ من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمدا لما لبثوا ومسائلة بعضهم بعضا عن ذلك يلزمه أن يظهِر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ثمّ بعثهم أحياءاً , طريةً أبدانهم , لم يتغير لهم حال, وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته وعلى البعث بعد الموت ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علةً غائيةً والله تعالى أعلم ..
 
قال الشيخ رحمه الله: عند آية {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} , فإن قيل: كيف يكون الوصيد في الآية هو الباب , والكهفُ غارٌ في الجبل لا باب له..؟؟

فالجواب:أن الباب يطلق على المدخل الذي يُدخَل للشيء منه , فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف باباً,ومن قال إن الوصيدَ الفناءُ , لا يخالف ما ذكرنا لأن فناء الكهف هو بابه,وقد قدمنا مراراً أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك: أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً, وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه.
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة :إن المراد بالكلب في هذه الآية رجلٌ منهم لا كلبٌ حقيقي,واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة كقراءة (( وكالبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد)) وقراءة (( وكالئهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد)) .
وقوله جلَّ وعلا: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} قرينة تدل على بطلان ذلك القول,لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي , ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب} وهذا المعنى مشهور في كلام العرب , فهو قرينة على أنه كلب حقيقي ,وقراءة (كالئهم ) لا تنافي كونه كلباً , لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم , والكلاءة: الحفظ.


فإن قيل: ما وجه إعمال اسم الفاعل الذي هو (باسطٌ) في مفعوله الذي هو (ذراعيه) والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة أل , لا يعمل إلا إذا كان واقعاً في الحال أو المستقبل..؟؟


فالجواب: أن الآية هنا حكاية حال ماضية ,ونظير ذلك من القرآن قوله (إني جاعلٌ في الأرض خليفة) وقوله تعالى (والله مخرجٌ ما كنتم تكتمون).
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب , وكونه باسطاً ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم – يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة .
 
قال الشيخ - رحمنا الله وإياه - عند تناوله لتفسير آية (ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) وبعد أن رجح وقرر عدم صحة وقوع الاستثناء إلا مقترناً , وأن الاستثناء المتأخر لا قيمة له ولا تحل به اليمين , ثمَّ ذكر القول المنسوب لابن عباس رضي الله عنهما في صحة وقوعه منفصلا عن اليمين أو المستثنى بدليل إطلاق الله تعالى هنا للاستثناء وعدم تقييده بزمن معين حيث قال (واذكر ربك إذا نسيت) أي: إن نسيت تستثني ب"إن شاء الله" فاستثن إذا تذكرت من غير تقييد باتصال ولا قرب.
قال:
فإن قيل:فما الجواب الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما نسب إليه من القول بصحة الاستثناء المتأخر..؟؟


فالجواب: أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم على قوله : إنه سيفعل ذلك غداً, ولم يقل:إن شاء الله, وبين له أن التعليق بمشيئة الله هو الذي ينبغي أن يفعل, لأنه تعالى لا يقع شيء إلا بمشيئته ,فإذا نسي التعليق بالمشيئة ثم تذكر ولو بعد طول فإنه يقول:إن شاء الله, ليخرج من ذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة , ويكون قد فوض الأمر غلى من لا يقع إلا بمشيئته.
فنتيجة هذا الاستثناء هي: الخروج من عهدة تركه الموجب للعتاب السابق , لا أن يحل اليمين , لأن تداركها قد فات بالانفصال , هذا هو مراد ابن عباس كما جزم به الطبري وغيره, وهذا لا محذور فيه ولا إشكال.

وأجاب بعض أهل العلم بجواب آخر ,وهو: أنه نوى الاستثناء بقلبه ونسي النطق بلسانه , فأظهر بعد ذلك الاستثناء الذي نواه وقت اليمين , هكذا قاله بعضهم , والأول هو الظاهر, والعلم عند الله تعالى.
 
قال الشيخ رحمة الله ورضوانه عليه , عند تفسير قول الله (وإن يستغيثوا يغاثوا بماءٍ كالمهل)..

فإن قيل:أي إغاثة في ماءٍ كالمهل مع أنه من أشد العذاب , وكيف قال الله تعالى (وإن يستغيثوا يغاثوا بما كالمهل).؟؟

فالجواب:ان هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن, ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم:
غضبت تميمٌ أن تقتـَّل عامرٌ *** يوم النـِّسار فأعتبوا بالصيلمِ
فمعنى قوله:أعتبوا بالصيلمِ أي: أرضـوا بالسيف, يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف..
وقول عمرو بن معد يكرب:
وخيلٌ قد دلفت لها بخيلٍ *** تحية بينهم ضرب وجيع
يعني: لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع, وإذا كانو لا يغاثون إلا بماءٍ كالمهل, عـُلمَ من ذلك انهم لا إغاثة لهم البتة, والياء في قوله:(يستغيثوا) والألف في قوله (يغاثوا) كلتاهما مبدلة من واو, لأن مادة الاستغاثة من الأجوف الواوي العين, ولكن العين أعلت الساكن الصحيح قبلها , على حد قوله في الخلاصة:
لساكنٍ صح انقل التحريك منْ *** بلين آت عين فعل كأبنْ
وقوله تعالى في هذه الآية يشوي الوجوه أي يحرقها حتى تسقط فروة الوجه, أعاذنا الله والمسلمين منه..
 
يقول فضيلة الشيخ د.عبدالكريم الخضير

(( تفسير أضواء البيان في أحكام القرآن غالباً ،
وفيه مباحث لغويَّة وبيانيَّة وغيرها من المباحث التي يحتاجُها المُفسِّر ؛
لكن هو معدود في كتب أحكام القرآن يعني الاستنباط من القرآن على طريقة الفقهاء المجتهدين،
والشيخ نحسبه من أهل الاجتهاد ، فليس من قبيل التفسير بالرأي ؛
إنما هو استنباط من القران في جُملته ، وهو معتمد على كتب الأئمة المُتقدمين يُفاضل ويُرجِّح بين أقوالهم ويُوجِّه ويختار ويرد ويُفنِّد ،
وكثير منه مأخوذ من تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن ويستقل رحمه الله بالتَّوجيه والاختيار المُوفَّق الذي غالباً ما يقوله فيه قال مُقيِّدُهُ عفا الله عنهُ هذه اختيارات الشيخ ،
والشيخ من أهل النَّظر في هذا الباب وهو مُجتهد إنْ أصاب فله أجران وإنْ لم يُحالفهُ الصَّواب لهُ أجرٌ واحد والآلة مُكتملةٌ عندهُ ،
ومثلي لايسأل عن الشيخ رحمه الله . ))
http://www.khudheir.com/ref/347
 
تعليقان

تعليقان

بارك الله فيكم ,وغفر الله لشيخنا .
لقد أفدتنا كثيرا
واذن لى فى التعليق على بعض النقاط بغرض اثراء الحوار لمزيد من الفائدة ان شاء الله تعالى ,
1- الخليفة والامام :لقد جرت أقلام كثيرة بكون الخليفة فى آية "انى جاعل فى الأرض خليفة ...."أن هذا الخليفة يكون عن الله وبالتالى فهو الامام . وقرأت أن الخليفة يخلف من غاب ممن كان قبله والله سبحانه لم يغب وهو سبحانه الأول والآخر فلا يجوز أن نقول خليفة عن الله
فاذا ما أخذنا بالقول الثانى -وأرى أنه الصواب -فلا علاقة للآية بمسألة الامامة. والله أعلم.
2-"..طبقا عن طبق..."ان القسم بآيات كونية "...الشفق*والليل وما وسق *والقمر اذا اتسق " قد يفهم منه أن الكلام على الآيات فى الآفاق التى "...سنريهم آياتنا فى الآفاق "والسؤال " فما لهم لايؤمنون "وقد رأوها . ويكون السؤال لمن لم يروها : "فما لهم لا يؤمنون "وقد أنبأهم بها الرسول .وفى الحالين - ايمان الرؤيه والدليل وايمان اليقين بالنبأ الصادق -يجب السجود عند قراءة القرآن عليهم .
 
"نسقيكم مما فى بطونه " فى هذا الآية دلالة على أن السياق يحدد الفهم
ان الآيات تتحدث عن الماء والنعمة فيه على اختلاف صورها فهو الماء الذى أنزله الله من السماء وهو فى صورتين : الماء الظاهر أمامكم والماء فى البطون : بطونه فيكم وتحولاته الكثيرة فى أبدانكم ."وان لكم فى الأنعام لعبرة ."اذن هى بطون الماء فى الأنعام واللبن تحول للماء فى بطن واحد منها والفرث والدم تحولان آخران " وكذلك فى الثمرات فيها ماء باطن قد تعصرونه فهو رزق حسن وقد تخمرونه فهو سكر . والماء فى بطون النحل يتحول الى عسل .
اذن الضمير فى"بطونه " عائد على الماء .والله أعلم.
 
عودة
أعلى