أحمد إبراهيم عبد الرؤوف
New member
f نبي الله إبراهيم ud
إبراهيمُ u .. كانَ في شبابِه مؤدباً حكيماً ، ذكياً لطيفاً ، حليماً يحبُّ الخيرَ والهدايةَ لقومِه ومجتمعِه ، يتطلعُ إلى الآفاقِ الواسعةِ ، ويفتشُ عَنِ الحقائقِ الناصعةِ ، ويملكُ الشجاعةَ العاليةَ ، وقد نشأَ بين قومٍ يعبدونَ الأصنامَ ويتخذونها آلهةً مِنْ دُونِ الله ، فيتأملُ ويتفكَّرُ في ملكوتِ السماواتِ والأرضِ ، حتى هـداهُ الله للحـقيقةِ .. قالَ تعالى : [FONT=QCF_BSML]ﭽ[/FONT][FONT=QCF_P137]ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنعام: ٧٥ ]فسلكَ في دعوةِ أبيهِ وقومِهِ أقومَ منهاجٍ للنُّصْحِ والإرشادِ ، حيثُ التزمَ الأدبَ الحَسَنَ والتواضُعَ الجمَّ ، والحُجَّةَ الواضحةَ ، حتى لا يركبَ أبوهُ مَتْنَ المُكَابَرَةِ والعِنَادِ فيُعْرِضَ عَنِ الاستماعِ إليهِ مِنَ البِدَايَةِ ... فتقدمَ إليهِ فناداهُ بقولهِ [ يا أبتِ ] ليُحَرِّكَ فيهِ بهذا النداءِ الحاني عاطفةَ الأبوةِ فيستمِعَ إلى استفهامِه وهو ينكِرُ عليهِ عبادةَ ما لا يستحقُّ أَنْ يَعبُدَه ..
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﭰ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮀ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ[/FONT][FONT=QCF_P308] ﮎ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮙ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ مريم: ٤١ – ٤٥ ] .
فانظرْ كيفَ تحلى إبراهيمُ u بالملاطفةِ في الخطابِ في المناظرةِ مع أقربِ الناسِ إليهِ وكيفَ قابلَ الشدةَ باللينِ ، وقابلَ التهديدَ بالصفحِ والصبرِ الجميلِ حين هددهُ أبوهُ بقوله
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] [ مريم: ٤٦ ]
فقال إبراهيمُ بكل أدبٍ ولطفٍ :
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ[/FONT][FONT=QCF_P308] ﯢ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ مريم: ٤٧ – ٤٨ ] .
هذا مع أبيهِ .. وكذلك كان مع قومهِ لطيفاً مؤدباً ذكياً حكيماً ....
فأقام عليهم الحججَ والبراهين النظرية ، فسألهم قائلاً [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P370]ﮘ ﮙ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الشعراء: ٧٠ ]، وأراد بهذا السؤالِ تنبيهَ أذهانِهم إلى التأملِ في شأنِ تلك الأصنامِ ، وتحقيرِ أمرِها ، فكان جوابهم :
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P370]ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الشعراء: ٧١ ]
وكان يكفيهم في الجوابِ أن يقولوا : نعبدُ أصناماً ، ولكنهم ضموا إليهِ زيادةً على الجوابِ وهي قولهم " فنظلُّ لها عاكفين " وإنما ذكروا هذه الزيادةَ إظهاراً لما في نفوسِهم من الابتهاجِ والافتخارِ بعبادةِ الأصنامِ ( 1 ) ، فوجَّـهَ لـهم سـؤالاً آخرَ موقِظاً لقلوبِهم ومنبِّهاً لعقولِهم ..
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P370]ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ[/FONT][FONT=QCF_P370] ﮧ [/FONT][FONT=QCF_P370]ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الشعراء: ٧٢ – ٧٣ ]
وهنا لم يجدوا حُجَّةً ولا بُرْهاناً إلا أنْ يستدلوا على عبادتِهم بتقليدِ آبائهم وذلك لمَّا عجزوا عن مناهضةِ الحُجةِ بالحُجةِ فقالوا [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P370]ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الشعراء: ٧٤ ] ..
فانظر ما أقبحَ التقليدَ والقولَ المتقبلَ بغيرِ برهانٍ ، وما أعظمَ كيدَ الشيطانِ للمقلدينَ حين استدرجَهم إلى أنْ قلَّدوا آباءَهم في عبادةِ التماثيلِ ، وعفَّروا لها جباهَهم ، وهم معتقِدونَ أنهم على شيء ، وأنهم جادُّونَ في نُصْرَةِ مذهبِهم ومجادلونَ لأهلِ الحقِّ عن باطلِهم ( 2 ) ..
وهكذا رأى إبراهيمُ أَنَّ الحُجَّةَ القوليةَ والبرهانَ اللفظيَّ ، وإنْ وضحا وضوحَ الصُّبحِ ، لا يُنْبِتَانِ نباتاً حسناً في الأرضِ الجُرُزِ ( 3 ) فأرادَ أن يُشرِكَ أبصارَ القومِ مع بصائرِهم وحواسَّهم مع أفئدتِهم في تَفَهُّمِ عقيدتِه والوقوفِ على حقيقةِ دعوتِه ، فحَطَّمَ تلك الأصنامَ التي لا تنفعُ ولا تَضُرُّ ، سائراً بقومهِ في الجِدَالِ إلى ناحيةٍ أخرى ليَبْلُغَ مقصِدَهُ ويُبَلِّغَ رسالتَهُ فيتساءلَ القومُ عن الفاعلِ [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﭛ[/FONT][FONT=QCF_P327]ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنبياء: ٥٩ ]فيجيبون بعضَهم [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنبياء: ٦٠ ].
قال ابنُ كثيرٍ ( 4 ) رحمه الله : {[FONT=QCF_P327]ﭤ ﭥ[/FONT]} أي : شاباً .
فبدأت المناظرةُ بسؤالٍ من المشركينَ للخليلِ u :
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنبياء: ٦٢ ]
فأجابهم إبراهيمُ بكلِّ حكمةٍ :
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنبياء: ٦٣ ]
وهكذا صَفَعَهُم بهذه الحُجَّةِ الدامِغَةِ التي نبهتهم مِنْ غَفْلَتِهم وأيقظتهم مِنْ غَفْوَتِهِم فوجدوا أنَّ الطريقَ أمامهم مسدودٌ ، فعادوا إلى رشدِهم ، واعترفوا بأنهم قد ظلموا أنفسَهم بعبادةِ ما لا يملكُ لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً .. قال تعالى حاكياً عنهم :
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنبياء: ٦٤ ]
ولكنَّ القومَ سرعان ما غلبَ عليهم ضلالُهم ورجعوا مرةً أخرى يجادلون في شأن آلهتِهم الباطلةِ ، من غير دليلٍ ولا برهانٍ .. قال تعالى :
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] [ الأنبياء: ٦٥ ] .
وبذلك وقع الحقُّ وبطلَ ما كانوا يعملون وغُلِبوا وانقلبوا صاغرين ، وتحققت لإبراهيمَ رغبتُه وإنْ لم يؤمنوا بدعوته ، ولذلك قطعَ الجدالَ معهم لما وجدهم يجادِلونَه بالباطلِ ليُدْحِضُوا به الحقَّ الذي ظهرَ وانتشرَ وأظهرَ لهم ضِيقَه من إصرارِهم على الباطلِ بعدَ أنْ ظهرَ لهم الحقُّ واعترفوا به .. قال تعالى حاكياً قولَه :
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﮢ [/FONT][FONT=QCF_P327]ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنبياء: ٦٦ – ٦٧ ]
وبهذا أصبحَ إبراهيمُ u قدوةً لكل الشبابِ والفتيانِ ، الموحدين الشجعان ، الرافضين للوثنية والشرك والانحرافِ والضلالِ ...
x فوائد من هذا الأنموذج :
كم مِنْ الشبابِ الآنَ هداهُ الله U إلى طريقِ طاعتِه وتقواه ، لكنه للأسفِ الشديدِ بعيدٌ كلَّ البعدِ عن هذه الأخلاقِ مع والديهِ ومعَ مجتمعِه ؟؟
فمن الواجبِ على هؤلاء أنْ يجعلوا مِنْ هذا الأنموذجِ قدوةً وأسوةً لهم في معاملاتهم مع مجتمعِهم وأقربائهم ..
كثيرٌ مِنَ الشبابِ الآن .. هداه الله U .. ووالداه مُضَيِّعانِ للفرائضِ ، مُصِرَّان على الصغائرِ مقترفان للكبائرِ ، فأبوه أو أخوه لم يزل حائراً بعيداً عن الله U تاركاً للصلاةِ أو مُدَخِّناً ، أو شارباً للخمورِ والمسكِراتِ ، أو متعاطياً للمخدِّراتِ والمكيِّفاتِ ، أو سامعاً للغناءِ الفاحشِ أو مُكتَسِباً لمالٍ حرامٍ ، أو عامِلاً في وظيفةٍ محرَّمةٍ ، أو آكِلاً للربا .... الخ وأمه أو أخته لم تزل تاركةً للحجابِ ، مُضَيِّعةً للصلاةِ ، مصافِحةً للرجالِ ....الخ ..
فترى كثيراً ممن هذا هو حالُهُ ، يسيئون إلى والدِيهِم في القولِ والمعاملةِ ، بل إنَّ بعضَهم قد يكيل إلى أبيهِ وأمِّه وأخيهِ وأختِهِ وأقربائهِ بوابِل من التعنيفِ والتصريحِ بالتكفيرِ والتفسيقِ والتصريحِ بالوعيدِ بالعذابِ الشديدِ في النارِ ، ونحو ذلك ....
تأمل معي كيف كانت المحاورةُ بين إبراهيمَ u وأبيهِ ، بكلِّ أدبٍ ولطفٍ وبرٍّ ، انظر حين أرادَ أنْ ينصحَ أباهُ ويَعِظَهُ فيما كان متورطاً فيه من الخطأ العظيمِ ، والارتكابِ الشنيعِ الذي عصا فيه أمرَ العقلِ ، وانسلخَ عن قضيةِ التمييزِ ، ومِنَ الغباوةِ التي ليس بعدها غباوة انظر كيف رتَّبَ الكلامَ معه في أحسنِ اتساقٍ ، وساقَهُ أرشَقَ مساقٍ ، معَ استعمالِ اللطفِ واللينِ والرفقِ والأدبِ الجميلِ والخُلُقِ الحَسَنِ ( 5 ) ...
ç بدأ بنداءِ أبيه مستلطِفاً له بقولِهِ [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﭴ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] وناداه بهذا الوصفِ دون أن يَذْكُرَ اسمَهُ زيادةً في احترامِهِ ، وأداءً لحقِّهِ ، واستمالةً لقلبِهِ إلى الحقِّ ، ولم يقُلْ له يا كافر أو يا فاجِر أو يا عاصي أو يا فاسِق ونـحو ذلك مِـنَ التعنيفِ الذي نسمعُهُ اليومَ مِـنْ بعضِ الشبابِ تجاهَ آبائهم ..
ç ثم سأله قائلاً [FONT=QCF_BSML]ﭽ[/FONT][FONT=QCF_P308]ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT]مستخدماً في هذا الاستفهامِ الرفقَ واللينَ واللُّطفَ والأدبَ الجميلَ في نصحِهِ له ، كاشِفَاً الأمرَ غايةَ الكشفِ بقولـهِ [ ما لا يَسمعُ ولا يُبصِرُ ] أي ليـس عنده قـابليةٌ لشيءٍ من هذين الوصفين ؛ لِيَرَى ما أنتَ فيه من خدمتِهِ أو يجيبَكَ إذا ناديتَهُ ، ولمَّا كان الأعمى والأصمُّ قد ينفعُ بكلامٍ أو غيرِهِ ؛ قال [ ولا يُغني عنكَ شيئاً ] ..
ç ولمَّا نبَّهَ إبراهيمُ أباه على أنَّ ما يَعبُدُهُ لا يستحِقُّ العبادَةَ ، بل لا تجوزُ عبادتُهُ لنَقْصِهِ مطلقاً فضلاً عن نقصِهِ عن عابِدِهِ أصلاً ، وكان أقلُّ شيءٍ يصِلُ إليهِ أبوهُ هو الحيرَةُ ، نبَّههُ على أنَّه أهلٌ للهِدايـةِ ، فقال مكرراً مستلطفاً مستعطفاً [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﭴ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] ثم دعاهُ إلى الحقِّ مترفِّقاً ومتلطِّفاً به ، ولم يُسَمِّ أباهُ بالجَهْلِ المُفرِطِ ، ولم يُسَمِّ نفسَهُ بالعلمِ الفائقِ ، ولكنه قال إنَّ معي طائفةٌ من العلمِ وشيئاً منه ليس معك ، وهـو علمُ الدلالةِ على الطريقِ السـويِّ فلا تستنكِفْ يا أبي ، وهَبْ أني وإياكَ في مسيرٍ وعندي معرِفةٌ بالهِدايةِ دونَكَ فاتبعني أُنْجِكَ مِـنْ أنْ تَـضِـلَّ وتَتِيه [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT].. لم يقُلْ لهُ يا جاهِل أو يا ضالّ أو يا مُبتَدِع ، ولم يقُلْ له أنـا أعلمُ منكَ أو أنـا أحفَظُ القُرآنَ وأنت لا تحفظ ، أو أنا أعلم في الدينِ وأنت لا تعلم ... ونحو ذلك مما نسمعه مِن البعضِ اليوم ..
ç ثم بعد ذلك ثَبَّطَهُ ونهاهُ عمَّا كان عليهِ بأنَّ الشيطانَ هو الذي ورَّطَهُ في هذه الضلالةِ وأمره بها وزينها له .. وهو بذلك يكون عابِداً أي مطيعاً للشيطانِ .. [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT]وانظر كيف جاءَ بلفظِ [ الرحمن ] هنا تنبيهاً على سعةِ رحمتِهِ I ، وأنَّ مَنْ هذا وصفُهُ هو الذي ينبغي أن يُعْبَدَ ولا يُعصى ، وإعلاماً بشقاوةِ الشيطانِ ؛ حيث عصى مَنْ هذه صِفَتُهُ ، وارتكبَ مِنْ ذلكَ ما طردَهُ مِنْ هذه الرحمةِ ...
ç ثم بعـد ذلك خوَّفَهُ مِنْ سـوءِ العاقبةِ ، ورهَّبَهُ مِنْ تبِعاتِ ما هو فيهِ من نكالٍ ووبالٍ ولم يخلُ ذلك مِنْ حُسْنِ الأدبِ أيضاً .. حيث لم يُصَرِّحْ بأنَّ العقابَ لاحِقٌ له وأنَّ العذابَ لاصقٌ به ، ولكنه قال [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] أي : يا أبت إني أُشفِقُ عليكَ مِنْ أنْ ينزِلَ بكَ عذابٌ مِنَ الرحمنِ بسببِ إصرارِكَ على عبادةِ غيرِهِ .. فذكَرَ الخوفَ والمسَّ ، وأتى بالعذابِ نَكِرَةً ، وجعل ولايةَ الشيطانِ والدخولَ في جملةِ أشياعِهِ وأوليائهِ أكبرَ مِنَ العذابِ ، وذلك أنَّ رضوانَ الله أكبرُ مِنَ الثوابِ نفسِهِ ، وقد سـمَّاه الله بالفـوزِ العظيمِ فقال [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P198]ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] فكذلك ولايـةُ الشيطانِ التي هي معارضةُ رضوانِ الله ؛ أكبرُ مِنْ العذابِ نفسِهِ وأعظمُ ..
كلُّ هذه المُنَاصَحَاتِ مِنْ إبراهيمَ u تَدُلُّ على شِدَّةِ تعلُّقِ قلبِهِ بمعالجةِ أبيهِ ، وطمَعِهِ في هدايتِهِ ؛ قضاءً لحقِّ الأبوةِ وإرشاداً إلى الهُدى ، وقد قال النبي r (( لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ )) ( 1 ) .
فحريٌ بشبابِنا أنْ يقتدوا بأبيهم إبراهيم u في أدبِهِ في دعوتِهِ لأبيهِ ، مهما كانَ الردُّ عليهم قاسِياً أو مستفزاً ، أو كان تهديداً ووعيداً .. فإن إبراهيم u بالرغم مِنْ كلِّ تلك المُناصَحَةِ الحكيمةِ الغالِيةِ ، مع تلك الملاطفاتِ لأبيهِ ، أقبلَ عليهِ أبوهُ بفظاظةٍ وغِلظَةٍ وعِنادٍ
ç فناداه باسمِهِ ، ولم يُقابِلْ [ يا أبتِ ] بـ [ يا بنيَّ ] .
ç وقدَّمَ ذكرَ الآلهةِ على ذكرِه في قوله [FONT=QCF_BSML]ﭽ[/FONT][FONT=QCF_P308]ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] لأنَّ الأهمَّ عنده هو إنكارُ الرغبةِ عن آلهتِهِ ، وأنَّ آلهتَهُ ما ينبغي أنْ يَرغَبَ عنها أحدٌ ..
وهدَّدَهُ بالرجمِ بالحجارةِ أو بـالكلامِ القبيحِ ، وأمَــرَهُ بـأن يَغْـرُبَ عـن وجـههِ [FONT=QCF_BSML]ﭽ[/FONT][FONT=QCF_P308] ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] .
ولكنَّ إبراهيم u لم يقابِلْ فظاظةَ أبيهِ وتهديدَهِ بالغضبِ والضيقِ ، بل قابَلَ ذلك بسعةِ صدرٍ وجمالِ منطقٍ [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT].
ثم آثَرَ إبراهيمُ أنْ يعتَزِلَ قومَهُ وأنْ يبتَعِدَ عنهم حيث لم تؤثِّرْ فيهم نصائحُهُ ، ولكنهُ لم يعتزِلْهم في صمتٍ بل عَرَّضَ بشقاوتِهم وخيبتِهم بعبادةِ آلهتهم فقال [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P308]ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ مريم: ٤٨ ]، أي : عسى ألا أشقى بعبادتِهِ وألا أخيبَ في طلبهِ كما شَقِيتُم أنتم في عبادةِ آلهتِكم وخِبْتُم .. وفي تصديرِ الكلامِ بعسى تواضعٌ وحسنُ أدبٍ واضحَـيْـنِ ، وتـنـبـيهٌ على أنَّ العِبْرَةَ بالخاتمةِ والسعادةِ ، وبيانٌ لثِقَتِهِ ويقينِهِ بهدايةِ ربِّهِ I لهُ ...
فيا أخي الداعية .. يا مَنْ تدعُوا إلى الله .. يا مَنْ قولُكَ هو أحسَنُ الأقوالِ .. اتَّقِ الله U في دعوتِك ، ولا تُسِئْ إلَيْهَا بِفَظَاظَتِكَ وغِلْظَتِكَ ، وفي نفسِ الوقتِ لا تُفَرِّطْ في ذَرَّةٍ منها والتزِمْ بِحُسْنِ الأدَبِ ، وجَمَالِ المَنْطِقِ ، واعْلَمْ أنَّ هَدَفَكَ هُوَ إنقاذُ المدعوِّ مِنَ الضلالاتِ وإخراجُهُ مِنَ الظلماتِ ، وتنقِيَـتُهُ مِنَ الآفاتِ ، ومُعالَجتُهُ مِنَ الأمراضِ ، وتهذِيبُهُ وتَزكِيَـتُهُ بالفضائلِ والكَراماتِ ، والارتِقاءُ به إلى أعلى المستوياتِ عقيدةً وعملاً وخُلُقاً ..
[FONT=QCF_BSML]ﭽ[/FONT][FONT=QCF_P480]ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT]
فليكن هذا الأنموذج هو قدوتك ، امتثالاً لأمرِ الله U حيث قال [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P138]ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الأنعام: ٩٠ ].
[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P248]ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ يوسف: ١٠٨ ]
x فائدة أخرى من هذا الأنموذج :
أخبرنا الله U في سورةِ الصافاتِ أنَّ إبراهيمَ u لمَّا عَزَمَ على تحطيمِ الأصنامِ التي كانَ قومُهُ يعبدونها مِنْ دونِ الله ، تَصَادَفَ أنْ أَزِفَ وقتُ عيدٍ لهم ، فدعَوْهُ إلى الخروجِ معهم كما هي عادتُهم في ذلك العيدِ ، فتطلَّعَ إبراهيمُ u إلى السماءِ وقلَّبَ نظرَهُ في نجومِها ثمَّ قالَ لهم إنِّي سقيمٌ ، أي ضعيفٌ ومريضٌ لا طاقةَ لي بالخروجِ إلى المنتزهاتِ والخلَواتِ فإنَّما يخرجُ إليها طلابُ اللذَّةِ والمتاعِ وأصحابُ القلوبِ الخاليةِ مِنَ الهمِّ والضيقِ ، وإنَّما قال ذلك مُعَبِّراً عن ضيقِهِ وتَعَبِهِ مِنْ حالِهم .. وكان يقصدُ أنْ يختليَ بأصنامِهم ليحطِّمَها ويُثْبِتَ لقومِهِ أنَّها لا تصلُحُ للألوهيةِ قال تعالى مخبراً عن ذلك [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P449]ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ[/FONT][FONT=QCF_P449] ﮑ [/FONT][FONT=QCF_P449]ﮒ ﮓ ﮔ[/FONT][FONT=QCF_P449] ﮕ [/FONT][FONT=QCF_P449]ﮖ ﮗ ﮘ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الصافات: ٨٨ – ٩٠ ] ولم يكن هذا كذِباً منهُ u وإنَّما كانَ لهُ أصلٌ في نفسِهِ حيثُ عبَّرَ عن ضيقِهِ وتعَبِهِ مما يرى مِنْ قُبْحِ عبادتِهم لغير الله فقال لهم إنِّي سقيمٌ ، أي مريضٌ مرضاً يمنعُني مِنْ مصاحبتِكم ، ففهموا مِنْهُ أنَّهُ سقيم على مقتضى ما يعتقدونهُ ، فتولَّوا عنه مدبرينَ وتركوهُ وحدَهُ وانصرفوا إلى خارجِ بلدتِهم ..
وهذا الذي فعلهُ إبراهيمُ u مِنْ بابِ التعريضِ في الكلامِ لمقصِدٍ شرعيٍّ دينيٍّ ، ويُسْتَفَادُ مِنْهُ جوازَ تعاطي الحِيَلِ الشرعيةِ والتَّوْرِيَةَ مِنْ أجلِ إزالةِ المنكَرِ ، واعتزالِ أصحابِهِ وعَدَمِ إقرارِهِم ومشاركتِهم فيهِ .. وقد قال عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ t (( إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ)) ( 6 ) . أي في التعريضِ سَعَةٌ وفُسْحَةٌ تُغني عن الكَذِبِ والمعاريضُ تكونُ في الحلفِ وغيرِ الحلفِ .. ولكنَّ المعاريضَ لا تُسْتَعْمَلُ إلا عندَ الحاجةِ إليها كأنْ يكونَ مظلوماً أو مُكْرَهاً على شيءٍ أو كانَ في أمْرٍ لا يلزمُهُ أو أمرٍ يضُرُّهُ فلهُ أنْ يُعَرِّضَ حتى يتجَنَّبَهُ .. ولا يجوز استعمالُ المعاريضِ في الحالاتِ التاليةِ :
ü إذا كان المُستحلِفُ صاحبَ حقٍّ والحالِفُ يُعَرِّضُ في كلامِهِ لأجْلِ إبطالِ هذا الحقِّ وتضييعِهِ على صاحبِهِ .
ü إذا استحلَفَهُ القاضي فليسَ له استعمالُ المعاريضِ إلا أنْ يكونَ مظلوماً .
ففي هاتين الحالتين لا تُسْتَعْمَلُ بل يكونُ الأمرُ كما روى أبو هريرةَ t عن النبي r أنَّهُ قـال (( يَمِينُـكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهَا صَاحِبُكَ – وفي رواية – اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ)) ( 7 ) .
قالَ الإمامُ النووي رحمه الله في شرحِ صحيح ِمسلم : (( وهذا الحديثُ محمولٌ على الحلِفِ باستِحلافِ القاضي ، فإذا ادَّعَى رجلٌ على رجلٍ حقاً فحَلَّفَهُ القاضي فحلَفَ ووَرَّى فنـوى غيرَ ما نـوى القاضي ، انعقدت يمينُهُ على ما نـواهُ القاضي ، ولا تنفعُهُ التَّوْرِيَةُ ، وهذا مُجْمَعٌ عليهِ ، ودليلُهُ هذا الحديثُ والإجماعُ ... وحاصِلُهُ :
f أنَّ اليمينَ على نِيَّةِ الحالفِ في كُلِّ الأحوالِ ، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبُهُ في دعوى توَجَّهَت عليهِ .
f وأنَّ التوريةَ وإنْ كانَ لا يُحْنَثُ بها ، فلا يجوزُ فعلُها حيثُ يبطُلُ بها حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ وهذا مُجْمَعٌ عليهِ .
قــال القاضـي عِيَـاضُ رحـمه الله : ولا خِلاَفَ في إثمِ الحالفِ بما يقَعُ بهِ حَقُّ غيرِهِ وإنْ وَرَّى )) ( 7 ) .
وأمَّا الحديثُ الذي رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ t أنَّ النبيَّ r قالَ (( لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّـلامُ قَطُّ إِلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ ؛ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ : قَوْلُهُ [ إِنِّي سَقِيمٌ ] وَقَوْلُهُ [ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ] ، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ ( 8 ) ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ ؛ فَقَالَ لَهَا : إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي ، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلامِ ، فَإِنِّي لا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ ( 9 ) ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الجَبَّارِ ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلا لَكَ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ، فَأُتِيَ بِهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى الصَّلاةِ ( 10 ) ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَـدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً ، فَقَــالَ لَهَا : ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَـدِي وَلا أَضُرُّكِ ، فَفَعَلَتْ فَعَـادَ فَقُـبِضَتْ أَشَـدَّ مِنْ الْقَبْضَةِ الأُولَى ، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَتْ ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْـنِ ، فَقَــالَ : ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لا أَضُرَّكِ ، فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي وَأَعْطِهَا هَاجَرَ ، قَالَ : فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ انْصَرَفَ ، فَقَالَ لَهَا مَهْيَمْ ؟ ( 11 ) قَالَتْ : خَيْرًا كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْـدَمَ خَادِمًا ( 12 ) )) قَــالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ ! ( 13 )..
قال الإمامُ ابنُ حجر في كتابِهِ فتحُ الباري بشرحِ صحيحِ البُخاري (( وأمَّا إطلاقُهُ الكَذِبَ على الأُمُورِ الثلاثَةِ ؛ فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلاً يَـعْتَقِدُهُ السَّامِعُ كَذِبَاً ، لكنَّهُ إِذَا حَقَّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبَاً لأنَّهُ مِنْ بابِ المعاريضِ المُحْتَمِلَةِ للأمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْضٍ ))
وقالَ الشيخُ العلاَّمَةُ صِدِّيقُ بنُ حَسَنْ خانْ في كتابِهِ السِّرَاجُ الوهَّاج مِنْ كَشْفِ مَطَالِبِ صحيحِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاج (( وليسَ هذا مِنَ الكَذِبِ الحقيقيِّ الذي يُذَمُّ فاعِلُهُ ؛ حاشا وكلا ، وإنَّما أُطْلِقَ عليهِ الكذبُ تَجَوُّزَاً ، وهو مِنْ بابِ المعاريضِ لمقصِدٍ شَرعيٍّ دينيٍّ .. وقالَ ابْنُ عقيل : دلالةُ العَقلِ تَصْرِفُ ظاهِرَ إطلاقِ الكذبِ عن إبراهيمَ ، وذلك أنَّ العقلَ قَطَعَ بأنَّ الرسولَ ينبغي أنْ يكونَ مَوْثُوقَاً بِهِ لِيُعْلَمَ صِدْقُ ما جَاءَ بِهِ عن الله ، ولا ثقةَ مع تَجويزِ الكَذِبِ عليه فكيف مع وجود الكذبِ مِنْهُ وإنما أُطْلِقَ عَلِيْهِ ذلكَ لكونِهِ بصورةِ الكَذِبِ عِنْدَ السَّامِعِ وَعَلَى تَقْدِيرِهِ )) .
ومع هذا فإنَّ إبراهيمَ u كانَ يستعظِمُ ذلكَ ...
قـال الإمـامُ النسفي في تفسيرِ قـولِـه تـعالى [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P370]ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][ الشعراء: ٨٢ ] : (( قيـل هي قوله [ إني سقيم ] ، وقوله [ بل فعله كبيرهم ] وقوله عن سارة [ هي أختي ] ، وما هي إلا معاريضٌ جائزةٌ ، وليست بخطايا يُطْلَبُ لها الاستغفارُ ، واستغفار الأنبياءِ تواضُعٌ منهم لربِّهم ، وهَضْمٌ لأنفسِهِم ، وتعليمٌ للأمَمِ في طَلَبِ المغفرةِ )) .
وقال الدكتور محمد سيد طنطاوي في التفسير الوسيط في تفسير هذه الآية أيضاً (( وفي هذه الآيةِ أسمى درجاتِ الأدَبِ مِنْ إبراهيمَ u مع ربِّهِ U ، لأنَّهُ يوجِّهُ طَمَعَهُ في المغفرةِ إليهِ وَحْدَهُ ، ويَسْتَعْظِمُ u ما صَدَرَ مِنْهُ مِنْ أُمُورٍ قد تكونُ خلافَ الأَوْلى ، ويعتبرُها خطايا هضماً لنفسِهِ ، وتعليماً للأمةِ أنْ تجتنِبَ المعاصي ، وأنْ تكونَ منها على حَذَرٍ وأنْ تُفَوِّضَ رجاءَها إلى الله I وحدَهُ )) .
وعلى ذلك فاستعمالُ المعاريضِ والحِيَلِ الشرعيةِ جائزٌ مِنْ أجلِ إزالةِ المنكرِ ، أو التهرُّبِ مِنَ المشاركةِ فيهِ والإقرارِ عليهِ ، واعتزالِ أصحابِهِ وعدمِ الجلوسِ في مجالِسِهم حتى تتحوَّلَ إلى مجالسِ خيرٍ ومعروفٍ ..
وهذا حلٌّ لشكوى كثيرٍ مِنَ الشبابِ الذينَ أنعمَ الله عليهم بالهِدايةِ والاستقامةِ ، فيواجِهونَ دعواتٍ للمشاركةِ في أمورٍ مُنْكَرَةٍ أو مُبْتَدَعَةٍ في الدِّينِ كالأفراحِ وأعيادِ الميلادِ والحفلاتِ والمؤتمراتِ والمهرجاناتِ والرحلاتِ التي تقومُ على المخالفاتِ الشرعيةِ لكتابِ الله U وسُنَّةِ رسولِهِ r، وهذه الدعواتُ تأتيهم مِنْ شخصٍ أو هيئةٍ قدْ يجِدُونَ حَرَجَاً في رفضِها رفضاً صريحاً ، فَيَجُوزُ لهُ استعمالُ التعريضِ في ذلك كما فعلَ إبراهيمُ u .
ولكن اعلَمْ يا أخي الشاب أنَّ الأفضَلَ أنْ تُوَاجِهَ أصدِقاءَ السُّوءِ بكلِّ صرامَةٍ وحَزْمٍ وأنْ لا تستخدمَ التعرِيضَ معَهُمْ ، بل تصرِّحُ لهم برفضِك ، وتُعْلِنُ لهم تضايُقَكَ وإنكارَكَ لما هُمْ فيهِ مِنْ مُنْكَرٍ ، وإيَّاكَ أنْ تَتَهَاوَنَ أو تتساهَلَ معهم ، مهما كلَّفَكَ ذلِكَ ، حتى لا تقَعَ أَبَدَاً في مصايدِهِم ، وإيَّاكَ أنْ تَتَصَوَّرَ في ذلكَ عارٌ أو خُذْلانٌ يلحقُكَ ، بل هو لاحِقٌ بهم هُم عاجِلاً أو آجِلاً ، واعلَمْ أنَّ الله U يَأْبَى إلا أنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ ...
فإذا دَعَوْكَ مثلاً إلى مشاركتِهِم في أمرٍ مُحَرَّمٍ ، حتى وإنْ كانت المشاركةُ ستكونُ بصورةٍ سطحيَّةٍ ؛ تُصَرِّحُ لهم بالرفضِ القاطِعِ ، فمشاركتُكَ لهم في ذلك سيعتبِرُونَها إقراراً منكَ لحالِهِم وصَنِيعِهِم ، ومرَّةً فمرَّةً ستكونُ المُشاركةُ بصفةٍ أعمقَ فأعمقَ ، وهكذا حتى تعتادَ وتألَفَ هذا المنكرَ والعياذُ بالله ..
بل الأفضلُ أنْ تقاطِعَهم أصلاً ، ولا تصاحبَهم أبداً ، حتى لا تألَفَ منكرَهم ، فإنَّ إلفَ العادةِ أمرٌ خطيرٌ وعظيمٌ ، بل هو أخطرُ مرضٍ يضربُ القلبَ .. وإلفُ العادةِ هو تكرارُ الفعلِ بصفةٍ مستمرةٍ حتى يألفَهُ الإنسانُ ويصبحَ عادةً عنده ....
( 1 ) تفسير الفخر الرازي.
( 2 ) تفسير الكشاف للزمخشري .
( 3 ) الأرض الجرز : اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها .
( 4 ) انظر تفسير ابن كثير لسورة الأنبياء – آية : 60 .
( 5 ) تفسير الكشاف للزمخشري .
( 6 ) رواه البخاري ومسلم .
( 7 ) رواه البخاري في الأدب المفرد ، وصححه الألباني موقوفاً .
( 8 ) رواه مسلم .
( 9 ) شرح النووي للحديث السابق في صحيح مسلم – كتاب الأيمان – باب اليمين على نية المستحلف – رقم ( 1653 ) .
( 10 ) قوله " ثنتين منهن في ذات الله " : خصهما بذلك لأن قصة سارة وإن كانت أيضا في ذات الله ؛ لكن تضمنت حظا لنفسه ونفعا له ، بخلاف الثنتين الأخيرتين فإنهما في ذات الله محضا .
( 11 ) أي في الأرض التي وقع فيها هذا الأمر .
( 12 ) وفي هذا دليل على أن الصلاة يستعان بها عند الشدائد والحادثات كما قال تعالى [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P007]ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ[/FONT][FONT=QCF_P007] ﯚ [/FONT][FONT=QCF_P007]ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ[/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT].
( 13 ) أي ما شأنك أو ما خبرك ؟
( 14 ) أي وهبني خادماً ، وهي هاجر ، والخادم يقع على الذكر والأنثى .
( 15 ) ذكر الشراح في معنى هذه الجملة أقوالاً كثيرة ، أحسنها : أنَّ أبا هريرة t يقصد هاجر التي هي أم إسماعيل الذي تربى بماء زمزم وهي من ماء السماء الذي أكرم الله به إسماعيل حين ولدته هاجر ، فأولادها : أولاد ماء السماء . وقيل إن المقصود بماء السماء هو ماء زمزم التي أنبعها الله لهاجر فعاش العرب بها ، فصاروا كأنهم أولادها .