فوائد تفسيرية ودرر قرآنية من رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه

إنضم
30/04/2011
المشاركات
60
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
المدينة النبوية
الحمد لله الرحمن الرحيم البَر الكريم والصلاة والسلام على النبي الأمين رسول الله للناس أجمعين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وبعد:

أحبتي في الله ...
هذه درر أخرى، وجواهر تترى أُتبعها الدرر الأربعة السابقة، والجواهر الطيبة السالفة من الرسالة القيمة الماتعة للإمام القيم ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ :

الدرة الخامسة: في قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً } (سورة الكهف:28)
قد بيّن الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ خطر آفتي ضياع الوقت وفساد القلب، وخطر مخالطة مقترفهما، ثم قال: " فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان ممن قال الله فيه: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً } (سورة الكهف:28)
ثم قال: "ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى، واتبعوا أهواءهم، وصارت أمورهم ومصالحهم فرطاً ؛أي: فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم، بل يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً ".
وقد قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ خلال تفسيره لهذه الآية: " وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنزع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فرطاً عليه، تجده يبقى الساعات الطويلة ولم يحصل شيئاً، ولكن لو كان أمره مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله "
(تفسير سورة الكهف للشيخ ابن عثيمين:62)

قلت: فعلى المرء اللبيب، والفطن الأريب أن يحفظ وقته وقلبه، ويعمر لسانه بذكر ربه فمتى صنع ذلك فليبشر بسعادتي الدنيا والآخرة، ومتى فرط في ذلك وأضاع وقته، وقلبه، وذكر ربه فليكبر على نفسه أربعاً!!!.
نسأل الله أن يعمر قلوبنا بالإيمان، وألسنتنا بالذكر والإحسان...


الدرة السادسة:{كَالذين مِن قَبلكم كَانوا أشدّ منكم قوّةً وأَكثَر أَموالاً وأَولاداً فَاستمتعوا بِخلاقهِم فَاستمتعتم بِخلاقكم كَما استمتَع الّذين من قَبلكم بِخلاقهِم وخضتم كَالّذي خاضوا أولئك حبِطت أَعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } (سورة التوبة:69)
قد استنبط ابن القيم ـ رحمه الله ـ من هذه الآية استنباطاً رائعاً يدل على رسوخ فهمه، وكثرة تدبره ـ رحمه الله ـ؛ وهو أن مآل أهل الشهوات والشبهات حبوط أعمالهما؛ لكن كيف استبط ذلك ـ رحمه الله ـ ؟
بين ـ رحمه الله ـ أن الاستمتاع بالخلاق في قوله {فَاستمتعتم بِخلاقكم كَما استمتع الذين من قَبلكم بِخلاقهِم } هو الاستمتاع بالشهوات، وأن قوله { وخضتم كَالذي خاضوا} المقصود الخوض بالباطل،وفي دين الله وهذا عين خوض أهل الشبهات، ثم قول الله بعد ذلك{أولئك حبِطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون}
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :" فعلق ـ سبحانه ـ حبوط الأعمال والخسران باتباع الشهوات الذي هو الاستمتاع بالخلاق، وباتباع الشبهات الذي هو الخوض بالباطل"
قلت: وإن في هذه الآية تهديداً شديداً، ووعيداً أكيداً لأهل الشهوات والشبهات ـ نسأل الله العصمة ـ، وإن الله الرحيم بنا يقول لنا: خذوا عبرة ممن سلفكم من الأمم الخالية، والأنفس البالية التي غاصت في الشهوات، واستحكمت في الشبهات كيف كان مآلهم؟ وأين انتهى مصيرهم؟! مع أنهم أكثر أولاداً وعدة، وأظهر بأساً وشدة فلم ينفعهم ذلك، ولم يمنعهم وبيل عقاب الله وشدة أخذه.
ورحم الله القائل :
خذوا من الأسلاف ممن قبلكم
عظةً تنير قلوبكم وتبصر
عصمنا الله الغوص في المحرمات، والولوج في الشبهات إنه جواد كريم .



الدرة السابعة: في قوله تعالى: { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } ( يوسف : 108 )
قد أتى الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعدة فوائد في هذه الآية الكريمة:

الفائدة الأولى: أن قوله { أدعوا إلى الله } تفسير لسبيله التي هو عليها، فسبيله وسبيل أتباعه: الدعوة إلى الله، فمن لم يدع إلى الله فليس على سبيله؛ وقد بين ابن القيم أنه لا يكون من أتباع الرسل على الحقيقة إلا من دعا إلى الله على بصيرة؛ فأتباع الرسل هم أولوا البصائر .

الفائدة الثانية: في معاني البصيرة في اللغة، قد أتى ابن القيم بمعنيين:
1) قول ابن الأعرابي: البصيرة الثبات في الدين
2) البصيرة العبرة، ثم أتى بشاهدين على هذا المعنى:
ـ قولنا: أليس لك في كذا بصيرة، أي: عبرة
ـ قول الشاعر: في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
ثم أتى بتحقيق بديع! فقال ـ رحمه الله ـ:
"والتحقيق: العبرة ثمرة البصيرة، فإذا تبصر اعتبر، فمن عدم العبرة فكأنه لا بصيرة له. وأصل اللفظ من الظهور والبيان، فالقرآن بصائر، أي: أدلة وهدىً وبيان يقود إلى الحق ويهدي إلى الرشد، ولهذا يقال للطريقة من الدم التي يستدل بها على الرمية بصيرة " .
ومن جميل ما قرأت قول للشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ حيث قال:
" قوله: على بصيرة أي علم؛ فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم؛ لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله على بصيرة العلم بالشرع فقط، بل يشمل: العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة..." ( مجموع الفتاوى:9/119)

الفائدة الثالثة: في إعراب {ومن اتبعني }
أتى ـ رحمه الله ـ بقولين فيها، وهما:
1) أن { ومن اتبعني } معطوف على الضمير المرفوع في { أدعوا }؛ فيكون التقدير والمعنى: أدعوا إلى الله أنا ومن اتبعني.
وقد قال ابن القيم هنا: "وحسن العطف لأجل الفصل فهو دليل على أن أتباع الرسول هم الذين يدعون إلى الله وإلى رسوله "
2) أن { ومن اتبعني } معطوف على الضمير المجرور في قوله { سبيلي}؛ ويكون التقدير والمعنى: أي هذه سبيلي وسبيل من اتبعني فكذلك .

ثم ختم وقال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " وعلى التقديرين فسبيله وسبيل أتباعه الدعوة إلى الله "

قلت: ما أحسن هذه الخاتمة!!، وما أحسن أن يكون المرء سائراً طريق الأنبياء وسبيلهم ـ ألا وهو الدعوة إلى الله ـ ، فاجعل هدفك أخي بعد فضل الله بهدايتك للحق أن تسعى في دعوة الخلق إلى الحق ـ سبحانه ـ بكل ما تملكه من جهد وطاقة وقوة،ولا تيأس ولا تقنط فهذا طريق الأنبياء، ودأب الصلحاء ، ولا تحقر نفسك، واعلم أنك مبدع في شيء ما؛ فقد تكون مبدعاً في الإلقاء فاحرص على الدعوة في الكلمات والدروس والخطب، وقد تكون مبدعاً في التأليف فأفد الأمة في ذلك، وقد تكون مبدعاً في الدعوة عن طريق الانترنت، وقد تدعوا إلى الله بتوزيع الشريط والكتاب الإسلامي وتبدع في ذلك، وتحصل خيراً عظيماً ـ وهذه دعوة للأغنياء بأن يغتنموا الفرصة ولا يفوتوها ـ ،وقد تدعوا إلى الله بسمتك وابتسامتك وأخلاقك وغير ذلك.
ولنتذكر أخي أفضل من وطئ الثرى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كم عانى ولاقى من التعب والمشقة في سبيل الدعوة إلى الله، وإن سيرته مليئة بالمواقف الجياشة التي تبكي القلب، وتدمع العين، وإن الكلمات والحروف لتعجز عن وصف هذه المواقف ، فلنتأسى به، ولنصبر، ولنثابر، ولننجز...
جعلنا الله دعاةً إليه حقاً، مخلصين له صدقاً إنه ولي ذلك والقادر عليه.


الدرة الثامنة: في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ( الفاتحة : 7 )
ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ الغفلة واتباع الهوى وحذر منهما، ثم ذكر كلاماً جميلاً فقال: " فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين، واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه فيكون من المغضوب عليهم "، ثم قال: " وأما المنعم عليهم فهم الذين منّ الله عليهم بمعرفة الحق علماً، وبالانقياد إليه وإيثاره على ما سواه عملاً، وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة، ومن سواهم على سبيل الهلاك، ولهذا أمرنا الله ـ سبحانه ـ أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} " ( الفاتحة : 7 ).
ثم بين ـ رحمه الله ـ بكلام نبيل فضل هذا الدعاء الجليل، العبق الجميل؛ فقال ـ رحمه الله ـ: " فإن العبد مضطر كل الاضرار إلى أن يكون عارفاً بما ينفعه في معاشه ومعاده، وأن يكون مؤثراً مريداً لما ينفعه، مجتنباً لما يضره، فبمجموع هذين يكون قد هدي إلى الصراط المستقيم، فإن فاته معرفة ذلك سلك سبيل الضالين، وإن فاته قصده واتباعه سلك سبيل المغضوب عليهم، وبهذا يعرف قدر هذا الدعاء العظيم، وشدة الحاجة إليه وتوقف سعادة الدنيا والآخرة عليه ".
ثم ذكر وبين ـ رحمه الله ـ أموراً كثيرة يكون العبد مفتقراً إلى الهداية فيها، وهو لا ينفك عنها، وهي مفيدة جداً فليرجع إليها .
وأذكر هنا كلاماً مفيداً ناجعاً لإمام المفسرين الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله القدير ـ حيث يقول: " والهداية ههنا: الإرشاد والتوفيق، وقد تتعدى الهداية بنفسها، كما هنا: { اهدنا الصراط المستقيم } ( الفاتحة : 7 ) فتضمن معنى ألهمنا أو وفقنا، أو ارزقنا أو أعطنا، {وهديناه النجدين }( البلد : 10) أي بينا له الخير والشر، وقد تعدى بإلى؛ كقوله تعالى:{اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} ( النحل : 121 )، {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} ( الصافات : 23 ) وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة؛ وكذلك قوله تعالى:{ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } ( الشورى: 52 ) وقد تعدى باللام؛ كقول أهل الجنة: { الحمد لله الذي هدانا لهذا } ( الأعراف : 43 ) أي وفقنا لهذا، وجعلنا له أهلاً " . (تفسير القرآن العظيم 1/209 )


وختاماً أسأل الله رب العباد أن يرزقنا الهدى والرشاد، والحق والسداد، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل فإنه ينبوع القبول، وأصل الأصول.
هذا والله أعلم وصلى الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه 6 ـ 23 )

وكتبه : أبو قدامة المدني
سعيد بن إبراهيم بن " محمد سعيد " النمارنة ـ عفا الله عنه ـ
 
بارك الله فيك شيخي الأستاذ الدكتور محمد العواجي على تواضعك وشكرك لي، وللعلم إخوتي الفضلاء؛ قد قرأت هذه الرسالة القيمة وغيرها أنا ومجموعة من الإخوة على شيخنا المفضال المحبوب محمد العواجي (أبي أيوب)، واستفدنا منه كثيراً؛ من سمته وخلقه وتواضعه وعلمه فجزاه الله خيراً، وزاده من فضله.
 
عودة
أعلى