سعيد النمارنة
New member
فوائد تفسيرية ودرر قرآنية من رسالةٍ لابن القيم ـ رحمه الله ـ
إن العلماء هم خير الناس بعد الأنبياء على الإطلاق ، وهم ورثتهم باتفاق ؛ فهم للدين حملة ، ولميثاقه حفظة ، وللشريعة نقلة إلى الأجيال جيلاً بعد جيل ، وقرناً بعد قرن.
وإن سبيل العلم والدعوة غيرُ مفروش بالورود ، وطريقَه صعبٌ وشائك مهما كان السالك، ؛ لذا فإن السالكين له قليل والحاملين لواءَه نزرٌ يسير!....
ومن العلماء الأجلاء ، والأئمة الفضلاء العَلمُ الإمام ، الجبلُ الهُمام ، تلميذُ شيخ الإسلام الإمامُ ابنُ قيم الجوزية ـ رحمه الملك العلام ـ المتوفى سنة 751 من الهجرة.
وإن الناظر ليجد أن كلام ابن القيم كلُّه قيم !!، ومن كلامه القيم : " رسالة أرسلها إلى أحد إخوانه "حريٌ بطالب العلم أن يقرأها ؛ فإن فيها من الفوائد العلمية والإيمانية الشيءَ الكثير مع قلة حجمها ، وهذا أسلوب ابن القيم ـ رحمه الله ـ في تركته الناجعة ومؤلفاته الماتعة !!
وقد اخترت لكم منها بعض الفوائد التفسيرية ، والدرر القرآنية لعلها تنفعني وتنفعكم بإذن الله ، فإليكموها :
• الدرة الأولى : في قوله سبحانه وتعالى إخباراً عن المسيح { وجعلني مباركاً أين ما كنت } قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : " أي معلماً للخير ،داعياً إلى الله ، مذكراً به ، مرغبا ًفي طاعته فهذا من بركة الرجل ، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة ، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به ، بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به ...." ، وقال ـ رحمه الله - : " إن بركة الرجل تعليمه للخير حيثما حل ونصحه لكل من اجتمع به "
قلت: رحمك الله يا ابن القيم ؛ فإنك وشيخك مباركيْن بحق ، فقد نصرتم السنة ، وقمعتم البدعة ، ودافعتم عن حياض هذا الدين ، وجاهدتم في سبيل رب العالمين ، فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلله دركم !! ، وأذكر ههنا أثراً إسناده جيد ذكره الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند هذه الآية فقال: " قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيْس المخزومي، سمعت وُهَيْب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالمًا هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله، ما الذي أعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } ، وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أينما كان" .
• الدرة الثانية : في قوله تعالى :{ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً }
أورد ابن القيم ـ رحمه الله ـ قول مجاهد في معنى قوله {واجعلنا للمتقين إماما} فقال : قال مجاهد: { واجعلنا للمتقين إماماً } أي : اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم .
ثم أورد ابن القيم ـ رحمه الله ـ إشكالاً وسؤالاً ، وخلاصة الإشكال : أن بعض من لم يفقه فقه السلف وعمق عملهم يقول على حسب قول مجاهد وغيره إن الأصل أن يكون التقدير مقلوباً أي " واجعل المتقين لنا أئمة " .
ثم أجاب الإمام ابن القيم عن هذا السؤال ، وردّ هذا الإشكال ؛ وخلاصة ردّه : أنه لا يكون الرجل إماماً للمتقين حتى يأتم بالمتقين ، فمتى ائتم الرجل بالمتقين من السلف قبله ، وحذا حذوهم ، واقتفى أثرهم صار إماما للمتقين بعده.
• الدرة الثالثة : في قوله تعالى أيضاً :{ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً }
طرح ابن القيم هنا سؤالاً آخر وهو : لماذا وحد الله لفظ (إماماً) ولم يقل (أئمة) ؟!!
ثم أجاب ـ رحمه الله بثلاثة أجوبة عن هذا السؤال ، وخلاصة أجوبته :
الجواب الأول : أن إمام جمع آم مثل صاحب وصحاب ،وهذا قول الأخفش.
الجواب الثاني : أن الإمام هنا مصدرٌ لا اسم ، والتقدير : أي اجعلنا ذوي إمام
وقد ضعّف ابن القيم هذين القولين .
الجواب الثالث : قول الفراء : أنه إنما قال هنا ( إماماً ) ولم يقل ( أئمة ) من باب الواحد المراد به الجمع
وقد أتى الفراء على قوله بشاهدين ودليلين وهما :
١- قوله تعالى : { إنا رسولُ ربِّ العلمين } ولم يقل رسولا .
٢- قول الشاعر :
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي
إن العواذل ليس لي بأمير
أي : ليس لي بأمراء .
قلت : وإن في نفس الآية شاهداً على المفرد المراد به الجمع ؛ ففي قوله تعالى { أزواجنا وذرياتنا } قراءتان :
• قراءة نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص ، وأبي جعفر ، ويعقوب بالجمع { وذرياتنا }
• قراءة أبي عمرو ، وشعبة ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف العاشر بالإفراد { وذريتنا }
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ :
"ووحد ذرياتنا حفظ صحبة"
(والحاء) رمز لأبي عمرو ، (وصحبة) رمز لشعبة وحمزة والكسائي
وقال الإمام ابن الجزري ـ رحمه الله ـ في الدرة :
"جمع ذرية حلا"
(والحاء) رمز ليعقوب
وقد قال الإمام ابن خالويه ـ رحمه الله ـ في توجيه قراءة الإفراد : " والحجة لمن وحّد : أنه أراد به الذرية وإن كان لفظها لفظ التوحيد فمعناها معنى الجمع " (الحجة ص 165 )
ثم بعد أن أورد ابن القيم الجواب الثالث عقّب بتعقيب جميل ، وذيّل بتذييل جليل يُكتب بماء الذهب !! ؛ فقال :
" وهذا أحسن الأقوال ، غير أنه يحتاج إلى مزيد بيان ، وهو أن المتقين كلهم على طريق واحد ، ومعبودهم واحد ، وأتباع كتاب واحد ونبي واحد ، وعبيد رب واحد ؛ فدينهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ومعبودهم واحد ، فكأنهم كلهم إمامٌ واحد لمن بعدهم ، ليسوا كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقهم ، ومذاهبهم ، وعقائدهم ، فالائتمام إنما هو بما هم عليه ، وهو شيءٌ واحد ، وهو الإمام في الحقيقة " .
• الدرة الرابعة : في قوله تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }
ذكر ـ رحمه الله ـ أن الآية الكريمة تضمنت أصولاً أربعة وهي :
1) الصبر
2) اليقين
3) الدعوة إلى الله وهداية خلقه
4) هدايتهم بما أمر به على لسان رسوله لا بمقتضى عقولهم وأهوائهم ...
ثم بين ـ رحمه الله ـ كل أصل من هذه الأصول على حدة ، ثم لخص ما ذكره في آخر المطاف فقال : " فحصل من هذا : أن أئمة الدين الذين يقتدون بهم هم الذين جمعوا بين الصبر واليقين والدعوة إلى الله بالسنة والوحي لا بالآراء وبالبدع ، فهؤلاء خلفاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمته ، وهم خاصته وأولياؤه ، ومن عاداهم أو حاربهم فقد عادى الله ـ سبحانه ـ وآذنه بالحرب " .
قلت : وإليكم لطيفة تختص بالقراءات في هذه الآية :
قرأ الجماعة وهم نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، أبو جعفر ، وخلف العاشر ، وروح عن يعقوب { لمَّا صَبَرُوا} بفتح اللام وتشديد الميم وفتحها ؛ فيكون المعنى: أي حين صبروا
وقرأ حمزة ، والكسائي ، ورويس عن يعقوب:{ لِمَا صبروا} فيكون المعنى أي لصبرهم جعلناهم أئمة.
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ :
"لما صبروا فاكسر وخفف شذا"
(والشين) رمز لحمزة والكسائي
وقال الإمام ابن الجزري ـ رحمه الله ـ في الدرة :
"وفتحه مع لما فصل وبالكسر طب ولا"
(طب) : الطاء رمز لرويس
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ( ص5 ـ ص24 )
وإن في الرسالة ددراً أخرى كثيرة ، أسأل الله أن ييسر نشرها ....
كما أسأل الله سبحانه أن ينفعنا ويعلمنا ، ويجعلنا مباركين أينما كنا ، مخلصين لله في جميع أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وكتبه
أبو قدامة المدني
سعيد بن إبراهيم بن"محمد سعيد" النمارنة
مرحلة الماجستير / قسم القراءات / الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
أبو قدامة المدني
سعيد بن إبراهيم بن"محمد سعيد" النمارنة
مرحلة الماجستير / قسم القراءات / الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة