محمد محمود إبراهيم عطية
Member
هذه ست فوائد جليلة تتعلق بالنية ، أسأل الله تعالى أن ينفع بها :
الفائدة الأولى :
ذكر العلماء أن مراتب القصد خمس وهي : الهاجس والخاطر وحديث النفس والهم والعزم ؛ وقد نظمها بعضهم فقال :
قال تقي الدين السبكي في ( قضاء الأرب في أسئلة حلب) ما ملخصه : الهاجس ما يلقى في النفس ، ثم جريانه فيها وهو الخاطر ، ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا ؟ ، ثم الهم وهو ما يرجح قصد الفعل ، يقال : هممت بالأمر إذا قصدته بهمتي ، ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به .
فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعًا لأنه ليس من فعله ، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له عليه ولا صنع ؛ والخاطر الذي بعده كان قادرًا على دفعه بصرف الهاجس أول وروده ، ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بحديث النبي e " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ " متفق عليه من حديث أبي هريرة ( [1] ) ؛ وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى .
وهذه المراتب الثلاث لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر ، أما الأول فظاهر وأما الثاني والثالث فلعدم القصد .
والمرتبة الرابعة : الهم ، وقد بين الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة ، والهم بالسيئة لا يكتب سيئة وينتظر ، فإن تركها لله كتبت حسنة ، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة ( [2] ) ؛ والأصح في معناه أنه يكتب عليه الفعل وحده ، وهو معنى قوله " واحدة " وأن الهم مرفوع ؛ وقد خالفه في شرح المنهاج قال : إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله e " أَوْ تَعْمَلْ " ( [3] ) ولم يقل : ( أو تعمله ) ؛ قال : فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية ، وإن كان المشي في نفسه مباحًا لكن لانضمام قصد الحرام إليه ؛ فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده ، أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به ، فاقتضى إطلاق " أَوْ تَعْمَلْ " المؤاخذة به ، قال : فاشدد بهذه الفائدة يديك ، واتخذها أصلا يعود نفعه عليك .
المرتبة الخامسة : العزم ، والمحققون على أنه يؤاخذ بالعزم على السيئة ، وخالف بعضهم فقال : إنه من الهم المرفوع ا.هـ ( [4] ) .
ونقل النووي في ( شرح مسلم ) عن القاضي عياض - رحمهما الله - أن عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه ، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب ، لكنهم قالوا : إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها ، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة ، لكن نفس الإصرار والعزم معصية ، فإذاعملهاكتبتمعصيةثانية، فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة ، كما في الحديث " إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ " ( [5] ) ، فصار تركه لها لخوف الله تعالى ، ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك،وعصيانههواهحسنة؛فأماالهمالذيلايكتبفهيالخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم ؛ وذكر بعض المتكلمين خلافًا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى بل لخوف الناس ، هل تكتب حسنة ؟ قال : لا ، لأنه إنما حمله على تركها الحياء ، وهذا ضعيف لا وجه له .ا.هـ . قال النووي : هذا آخر كلام القاضي ، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه ، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ، ومن ذلك قوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ ... الآية [ النور : 19 ] ، وقوله تعالى : ] اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [ [ الحجرات : 12 ] ؛ والآيات في هذا كثيرة ، وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة المكروه بهم،وغيرذلكمنأعمالالقلوبوعزمها، والله أعلم .ا.هـ ( [6] ) .
الفائدة الثانية :
قال الكرماني - رحمه الله - في ( الكواكب الدراري ) : لكن الحق أن السيئة يعاقب عليها أيضًا بمجرد النية ، لا على الفعل ؛ حتى لو هم أحد على ترك صلاة بعد عشرين سنة أثم في الحال ، لأن العزم من أحكام الإيمان ، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة ؛ والفرق بين الحسنة والسيئة ، أن بنية الحسنة يثاب الناوي على الحسنة ، وبنية السيئة لا يعاقب عليها بل على نيتها ؛ فإن قلت : من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة ، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، فيلزم أن من جاء بنية الحسنة فله عشر أمثالها ، فلا يبقى فرق بين نية الحسنة ونفس الحسنة ؛ قلنا : لا نسلم أن من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة ، بل يثاب على نية الحسنة ، فظهر الفرق .ا.هـ( [7] ) .
الفائدة الثالثة :
قال الكرماني - رحمه الله : إن تخليد الله تعالى العبد في الجنة ليس لعمله وإنما هو لنيته ، لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه ، إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناويًا أن يطيع الله تعالى أبدًا لو بقي أبدًا ، فلما اخترمته منيته دون نيته جزاه الله عليها ؛ وكذلك الكافر لأنه لو كان مجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره ، غير أنه نوى أن يقيم على كفره أبدًا لو بقي فجزاه الله على نيته .ا.هـ( [8] ) .
وبنحو هذا قال السيوطي في ( الأشباه والنظائر) : وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله e : " نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ" ( [9] ) أَنَّ الْمُؤْمِن يُخَلَّد فِي الْجَنَّة وَإِنْ أَطَاعَ اللَّه مُدَّة حَيَاته فَقَطْ ؛ لِأَنَّ نِيَّته أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَبَد الْآبَاد لَاسْتَمَرَّ عَلَى الْإِيمَانِ ، فَجُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّة ؛ كَمَا أَنَّ الْكَافِر يُخَلَّد فِي النَّار ، وَإِنْ لَمْ يَعْصِ اللَّه إلَّا مُدَّة حَيَاته فَقَطْ ؛ لِأَنَّ نِيَّته الْكُفْر مَا عَاشَ ( [10] ) .
الفائدة الرابعة :
قال السيوطي - رحمه الله : قاعدة : مقاصد اللفظ على نية اللافظ إلا في موضع واحد وهو اليمين عند القاضي فإنها على نية القاضي دون الحالف([11]).
الفائدة الخامسة :
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله : استدل به على أن العمل إذا كان مضافًا إلى سبب ويجمع متعددةَ جنسٍ أن نية الجنس تكفي ؛ كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره ؛ لأن معنى الحديث أن الأعمال بنياتها ، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة ، وهو غير محوج إلى تعيين سبب ؛ وعلى هذا لو كانت عليه كفارة - وشك في سببها - أجزأه إخراجها بغير تعيين ([12]) .
الفائدة السادسة :
روى البيهقي في ( السنن الصغير ) عن الإمام الشافعي - رحمه الله - أن هذا الحديث يدخل فيه ثلث العلم ، ووجهه أن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها ( [13] ) ؛ وذكر ابن رجب في ( جامع العلوم ) قول الإمام أحمد - رحمه الله - أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث : حديث : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" ، وحديث : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَالَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ "([14])،وحديث" إن الْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ " ( [15] ) ، ووجهه بأن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف عن الشبهات ؛ وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير ؛ وإنما يتم ذلك بأمرين : أحدهما : أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة ، وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " . والثاني : أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله U كما تضمنه حديث عمر " الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " ( [16] ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .
[1] - البخاري ( 2528 ، 5269 ، 6664 ) ، ومسلم ( 127 ) ، وورواه أحمد:2/393،425،474،وأبوداود(2209) ، والترمذي ( 1183)،والنسائي ( 3433 : 3435 ) ، وابن ماجة ( 2040 ) ؛ وغيرهم .
[2] - رواه أحمد : 1 / 279 ، 360 ، والبخاري ( 6491 ) ، ومسلم ( 131 ) ، والنسائي في الكبرى ( 7670 ) ، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
[3] - رواية لحديث أبي هريرة السابق عند النسائي : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ " .
[4] - انظر ( قضاء الأرب في أسئلة حلب ) ص158 : 162 .
[5] - رواه أحمد : 2 / 317 ، 410 ، ومسلم ( 129 ) من حديث أبي هريرة .
[6] - انظر ( شرح مسلم ) : 2 / 151 .
[7] - انظر ( الكواكب الدراري ) : 1 / 22 .
[8] - انظر ( الكواكب الدراري ) : 1 / 21 .
[9] - رواه الطبراني في الكبير : 6 / 185 ( 5942 ) من حديث سهل بن سعد ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : 1 / 61 : ورجاله موثقون إلا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي لم أر من ذكر له ترجمة .ا.هـ . وضعفه الحافظ في الفتح : 4 / 219 ، والألباني في الضعيفة ( 2216 ) .
[10] - انظر ( الأشباه والنظائر الفقهية ) ص 10 .
[11] - انظر ( الأشباه والنظائر ) ص 44 .
[12] - انظر ( فتح الباري ) : 1 / 25 .
[13] - السنن الصغير : 1 / 11 .
[14] - رواه أحمد : 6 / 240 ، 270 ، والبخاري ( 2697 ) ، ومسلم ( 1718 ) ، وأبو داود ( 4606 ) ، وابن ماجة ( 14 ) عن عائشة رضي الله عنها .
[15] - رواه الجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما : أحمد : 4 / 269 ، 270 ، والبخاري ( 52 ) ، ومسلم ( 1599 ) ، وأبو داود ( 3329 ) ، والترمذي ( 1205 ) ، والنسائي ( 4431 ، 5710 ) ، وابن ماجة ( 3984 ) .
[16] - انظر جامع العلوم والحكم حديث رقم ( 1 ) ؛ وانظر فتح الباري : 1 / 11 .
الفائدة الأولى :
ذكر العلماء أن مراتب القصد خمس وهي : الهاجس والخاطر وحديث النفس والهم والعزم ؛ وقد نظمها بعضهم فقال :
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليـه هـم فعـزم كلها رفعـت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
يليـه هـم فعـزم كلها رفعـت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
قال تقي الدين السبكي في ( قضاء الأرب في أسئلة حلب) ما ملخصه : الهاجس ما يلقى في النفس ، ثم جريانه فيها وهو الخاطر ، ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا ؟ ، ثم الهم وهو ما يرجح قصد الفعل ، يقال : هممت بالأمر إذا قصدته بهمتي ، ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به .
فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعًا لأنه ليس من فعله ، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له عليه ولا صنع ؛ والخاطر الذي بعده كان قادرًا على دفعه بصرف الهاجس أول وروده ، ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بحديث النبي e " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ " متفق عليه من حديث أبي هريرة ( [1] ) ؛ وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى .
وهذه المراتب الثلاث لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر ، أما الأول فظاهر وأما الثاني والثالث فلعدم القصد .
والمرتبة الرابعة : الهم ، وقد بين الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة ، والهم بالسيئة لا يكتب سيئة وينتظر ، فإن تركها لله كتبت حسنة ، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة ( [2] ) ؛ والأصح في معناه أنه يكتب عليه الفعل وحده ، وهو معنى قوله " واحدة " وأن الهم مرفوع ؛ وقد خالفه في شرح المنهاج قال : إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله e " أَوْ تَعْمَلْ " ( [3] ) ولم يقل : ( أو تعمله ) ؛ قال : فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية ، وإن كان المشي في نفسه مباحًا لكن لانضمام قصد الحرام إليه ؛ فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده ، أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به ، فاقتضى إطلاق " أَوْ تَعْمَلْ " المؤاخذة به ، قال : فاشدد بهذه الفائدة يديك ، واتخذها أصلا يعود نفعه عليك .
المرتبة الخامسة : العزم ، والمحققون على أنه يؤاخذ بالعزم على السيئة ، وخالف بعضهم فقال : إنه من الهم المرفوع ا.هـ ( [4] ) .
ونقل النووي في ( شرح مسلم ) عن القاضي عياض - رحمهما الله - أن عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه ، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب ، لكنهم قالوا : إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها ، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة ، لكن نفس الإصرار والعزم معصية ، فإذاعملهاكتبتمعصيةثانية، فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة ، كما في الحديث " إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ " ( [5] ) ، فصار تركه لها لخوف الله تعالى ، ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك،وعصيانههواهحسنة؛فأماالهمالذيلايكتبفهيالخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم ؛ وذكر بعض المتكلمين خلافًا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى بل لخوف الناس ، هل تكتب حسنة ؟ قال : لا ، لأنه إنما حمله على تركها الحياء ، وهذا ضعيف لا وجه له .ا.هـ . قال النووي : هذا آخر كلام القاضي ، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه ، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ، ومن ذلك قوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ ... الآية [ النور : 19 ] ، وقوله تعالى : ] اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [ [ الحجرات : 12 ] ؛ والآيات في هذا كثيرة ، وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة المكروه بهم،وغيرذلكمنأعمالالقلوبوعزمها، والله أعلم .ا.هـ ( [6] ) .
الفائدة الثانية :
قال الكرماني - رحمه الله - في ( الكواكب الدراري ) : لكن الحق أن السيئة يعاقب عليها أيضًا بمجرد النية ، لا على الفعل ؛ حتى لو هم أحد على ترك صلاة بعد عشرين سنة أثم في الحال ، لأن العزم من أحكام الإيمان ، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة ؛ والفرق بين الحسنة والسيئة ، أن بنية الحسنة يثاب الناوي على الحسنة ، وبنية السيئة لا يعاقب عليها بل على نيتها ؛ فإن قلت : من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة ، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، فيلزم أن من جاء بنية الحسنة فله عشر أمثالها ، فلا يبقى فرق بين نية الحسنة ونفس الحسنة ؛ قلنا : لا نسلم أن من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة ، بل يثاب على نية الحسنة ، فظهر الفرق .ا.هـ( [7] ) .
الفائدة الثالثة :
قال الكرماني - رحمه الله : إن تخليد الله تعالى العبد في الجنة ليس لعمله وإنما هو لنيته ، لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه ، إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناويًا أن يطيع الله تعالى أبدًا لو بقي أبدًا ، فلما اخترمته منيته دون نيته جزاه الله عليها ؛ وكذلك الكافر لأنه لو كان مجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره ، غير أنه نوى أن يقيم على كفره أبدًا لو بقي فجزاه الله على نيته .ا.هـ( [8] ) .
وبنحو هذا قال السيوطي في ( الأشباه والنظائر) : وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله e : " نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ" ( [9] ) أَنَّ الْمُؤْمِن يُخَلَّد فِي الْجَنَّة وَإِنْ أَطَاعَ اللَّه مُدَّة حَيَاته فَقَطْ ؛ لِأَنَّ نِيَّته أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَبَد الْآبَاد لَاسْتَمَرَّ عَلَى الْإِيمَانِ ، فَجُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّة ؛ كَمَا أَنَّ الْكَافِر يُخَلَّد فِي النَّار ، وَإِنْ لَمْ يَعْصِ اللَّه إلَّا مُدَّة حَيَاته فَقَطْ ؛ لِأَنَّ نِيَّته الْكُفْر مَا عَاشَ ( [10] ) .
الفائدة الرابعة :
قال السيوطي - رحمه الله : قاعدة : مقاصد اللفظ على نية اللافظ إلا في موضع واحد وهو اليمين عند القاضي فإنها على نية القاضي دون الحالف([11]).
الفائدة الخامسة :
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله : استدل به على أن العمل إذا كان مضافًا إلى سبب ويجمع متعددةَ جنسٍ أن نية الجنس تكفي ؛ كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره ؛ لأن معنى الحديث أن الأعمال بنياتها ، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة ، وهو غير محوج إلى تعيين سبب ؛ وعلى هذا لو كانت عليه كفارة - وشك في سببها - أجزأه إخراجها بغير تعيين ([12]) .
الفائدة السادسة :
روى البيهقي في ( السنن الصغير ) عن الإمام الشافعي - رحمه الله - أن هذا الحديث يدخل فيه ثلث العلم ، ووجهه أن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها ( [13] ) ؛ وذكر ابن رجب في ( جامع العلوم ) قول الإمام أحمد - رحمه الله - أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث : حديث : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" ، وحديث : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَالَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ "([14])،وحديث" إن الْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ " ( [15] ) ، ووجهه بأن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف عن الشبهات ؛ وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير ؛ وإنما يتم ذلك بأمرين : أحدهما : أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة ، وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " . والثاني : أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله U كما تضمنه حديث عمر " الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " ( [16] ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .
[1] - البخاري ( 2528 ، 5269 ، 6664 ) ، ومسلم ( 127 ) ، وورواه أحمد:2/393،425،474،وأبوداود(2209) ، والترمذي ( 1183)،والنسائي ( 3433 : 3435 ) ، وابن ماجة ( 2040 ) ؛ وغيرهم .
[2] - رواه أحمد : 1 / 279 ، 360 ، والبخاري ( 6491 ) ، ومسلم ( 131 ) ، والنسائي في الكبرى ( 7670 ) ، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
[3] - رواية لحديث أبي هريرة السابق عند النسائي : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ " .
[4] - انظر ( قضاء الأرب في أسئلة حلب ) ص158 : 162 .
[5] - رواه أحمد : 2 / 317 ، 410 ، ومسلم ( 129 ) من حديث أبي هريرة .
[6] - انظر ( شرح مسلم ) : 2 / 151 .
[7] - انظر ( الكواكب الدراري ) : 1 / 22 .
[8] - انظر ( الكواكب الدراري ) : 1 / 21 .
[9] - رواه الطبراني في الكبير : 6 / 185 ( 5942 ) من حديث سهل بن سعد ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : 1 / 61 : ورجاله موثقون إلا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي لم أر من ذكر له ترجمة .ا.هـ . وضعفه الحافظ في الفتح : 4 / 219 ، والألباني في الضعيفة ( 2216 ) .
[10] - انظر ( الأشباه والنظائر الفقهية ) ص 10 .
[11] - انظر ( الأشباه والنظائر ) ص 44 .
[12] - انظر ( فتح الباري ) : 1 / 25 .
[13] - السنن الصغير : 1 / 11 .
[14] - رواه أحمد : 6 / 240 ، 270 ، والبخاري ( 2697 ) ، ومسلم ( 1718 ) ، وأبو داود ( 4606 ) ، وابن ماجة ( 14 ) عن عائشة رضي الله عنها .
[15] - رواه الجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما : أحمد : 4 / 269 ، 270 ، والبخاري ( 52 ) ، ومسلم ( 1599 ) ، وأبو داود ( 3329 ) ، والترمذي ( 1205 ) ، والنسائي ( 4431 ، 5710 ) ، وابن ماجة ( 3984 ) .
[16] - انظر جامع العلوم والحكم حديث رقم ( 1 ) ؛ وانظر فتح الباري : 1 / 11 .
التعديل الأخير: