ولإياد وتميم في الخُطَب خصلة ليست لأحد من العرب؛
لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الذي روى كلام قس بن ساعدة، وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وهو الذي روّاه لقريش والعرب، وهو الذي عجّب من حسنه وأظهر تصويبه.
وهذا إسناد تعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الآمال، وإنما وفق الله ذلك الكلام لقس بن ساعدة لاحتجاجه للتوحيد، ولإظهاره معنى الإخلاص، وإيمانه بالبعث، ولذلك كان خطيب العرب قاطبة.
البيان والتبيين.
انظر إلى قوله: وأظهر تصويبه، ومنه تعرف أن التصويب نسبة الشيء إلى الصواب، لا بمعنى التصحيح، كما هو شائع.
ثم انظر إلى قوله: وفق الله ذلك الكلام لقس، والشائع عندنا: وفق قسًّا لذلك، وكلاهما صحيح فيما يظهر.
(2)
الاختلاف والائتلاف
قال محمد بن سهل راوية الكميت:
أنشدت الكميتَ قولَ الطِّرِمَّاح:
إذا قُبضت نفس الطِّرِمَّاح أخلقت * عُرى المجد واسترخى عِنان القصائد
فقال الكميت: إي والله، وعنان الخطابة والرواية!
قال الجاحظ: ولم ير الناس أعجب حالاً من الكميت والطرماح!
كان الكميت عدنانيًّا عصبيًّا، وكان الطرماح قحطانيًّا عصبيًّا
وكان الكميت شيعيًّا من الغالية، وكان الطرماح خارجيًّا من الصُّفرية
وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح يتعصب لأهل الشام
وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط
ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه
البيان والتبيين
(3)
عرف قدر نفسه
دُعي رَقَبة بن مَصْقَلة إلى مجلس ليتكلم فيه، فرأي مكان أعرابي في شَمْلة (كساء)، فأنكر موضعَه، فسأل الذي عن يمينه عنه فخبّره أنه الذي أعدوه لجوابه، فنهض مسرعًا لا يلوي على شيء، كراهة أن يُجمَع بين الديباجتين، فيتضع عند الجميع. انتهى الخبر.
رأى مكان أعرابي: رأي أعرابيا في مكان من المجلس.
فأنكر موضعه: رابه وجوده.
كراهة أن يُجمع بين الديباجتين: كراهة أن يوازن الحاضرون بين أسلوبه وأسلوب الأعرابي.
فيتضع عند الجميع: تنحط منزلته عند الفريقين من الخصوم.
لو أريد التعبير عن هذه المعاني باللغة العصرية لقيل:
(رأى أعرابيا في المجلس... فشك في أمره... خوفًا من أن يقارن الحاضرون بين أسلوبه وأسلوب الأعرابي في الخطابة... فيعرفوا أن الأعرابي متفوق عليه)..
وشتان ما هما.
هذا خبر على قسوته وإيلامه، استوقفني فيه هذه اللغة العتيقة جدًّا، ويمكن لمن خبر الأساليب أن يتذوقها، ويعرف إحكامها وإيجازها وطعمها الخاص، مع ما فيها من (قفلة) القصة.
كان بين يوسف (بن عمر الثقفي) وبين رجل إحنة، فكان يطلب عليه علة، فلما ظفر بزيد بن علي (بن الحسين) وأصحابه، أحسوا الصلب، فأصلحوا من أبدانهم واستحدوا، فصُلبوا عراة، وأخذ يوسف عدوه ذلك فنحله أنه كان من أصحاب زيد، فقتله وصلبه، ولم يكن استحد، لأنه كان عند نفسه آمنًا.
وكان بالكوفة رجل معتوه عَقْده التشيع، فكان يجيء فيقف على زيد وأصحابه فيقول: صلى الله عليك يا ابن رسول الله، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور، ودافعت الظالمين، ثم يقبل عليهم رجلاً رجلاً، فيقول: وأنت يا فلان، فجزاك الله خيرا، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور، ونصرت ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى يقف على عدو يوسف، فيقول: فأما أنت يا فلان، فوفور عانتك يدل على أنك بريء مما قُرفت به.
الكامل.
- الكلام اللطيف ينبو عن الفهم الكثيف.
- الكلمة الأولى أنثى، وإجابتها فحلها، فإن تركت إجابتها قطعت نسلها، وإن أجبتها ألقحتها.
- خير الكلام ما لم يُحتج معه إلى كلام.
- من ضاق صدره اتسع لسانه.
- من ثقل على صديقه، خف على عدوه.
- لا عذر في غدر.
- الرد الجميل، أحسن من المطل الطويل.
- لا كثير مع التبذير، ولا قليل مع التقدير.
- الحسد أهلك الجسد.
- إذا تم العقل نقص الكلام.
- العبوس بُوس.
- البلاغة أحد السيفين، والتمني أحد السُّكْرين، واللبن أحد اللحمين.
- أشياء تَذهب هباء: دين بلا عقل، ومال بلا بذل، وعشق بلا وصل.
- غرِقَ المرادُ في حواشي التكثير.
- والدهر آخره شِبْه بأوله * ناس كناس، وأيام كأيام
الإمتاع والمؤانسة
والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم: ماما بابا، لأنهما خارجان من عمل اللسان، وإنما يظهران بالتقاء الشفتين.
البيان والتبيين 1/62
وهذا يفيد أن استعمال: (بابا) و(ماما) قديم، وليس من لغة العصر كما يُظن.
ذكر يزيد بن المهلب يزيد بن أبي مسلم بالعفة عن الدينار والدرهم، فقال له عمر بن عبد العزيز: أفلا أدلك على من هو أزهد في الدينار والدرهم منه، وهو شر خلق الله؟ قال: من هو؟ قال: إبليس!
قال مالك بن دينار: ربما سمعت الحجاج يخطب يذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه وأنه صادق لبيانه وحسن تخلصه.
قال إبراهيم النخعي لسليمان الأعمش -وأراد أن يماشيه- : إن الناس إن رأونا معًا قالوا: أعمش وأعور! قال: وما عليك أن يأثموا ونسلم؟! قال: وما عليك أن يسلموا ونسلم؟!
قال عبد الرحمن بن أم الحكم: لولا ثلاث ما باليت متى مت: تزاحف الأحرار إلى طعامي، وبذل الأشراف إلي وجوههم في أمر أجد السبيل إليه، وقول المنادي: الصلاة أيها الأمير!