فهذه رسالة " لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" ، كتبها الشيخ الإمام أبو الفرج ابن الجوزي لو

إنضم
03/09/2008
المشاركات
3
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
فهذه رسالة " لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" ، كتبها الشيخ الإمام أبو الفرج ابن الجوزي لو

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد سيد ولد عدنان وعلى ءاله وأصحابه وبعد،



فهذه رسالة " لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" ، كتبها الشيخ الإمام أبو الفرج ابن الجوزي لولده يحثه فيها على طلب العلم وامتثال أوامر الله والانتهاء عن نواهيه .



قال ابن الجوزي رحمه الله



الحمد لله الذي أنشأ الأب الأكبر من تراب ، وأخرج ذريته من الترائب والأصلاب ، وعضّد العشائرَ بالقرابة والأنساب ، وأنعم علينا بالعلم وعرفان الصواب ، أحسنَ التربيةَ في الصغر وحفِظ في الشباب ، ورزقنا ذريةً نرجو بهم وفورَ الثواب .

( رب اجعلني مقيمَ الصلوة ومن ذريتي ربَنا وتقبل دعاء . ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) [سورة ابراهيم / 40 ـ 41]



أما بعد

فإني لما عرفتُ شرفَ النكاح وفضلَ الأولاد ، ختمتُ ختمةً وسألتُ الله عز وجل أن يرزقني عشرة أولاد ، فرزقني إياهم فكانوا خمسةً ذكورًا وخمسةً إناثـًا ، فمات من الإناث اثنتان ومن الذكور أربعة ، ولم يبق لي من الذكور سوى ولدي أبي القاسم ، فسألتُ اللهَ تعالى أن يجعل فيه الخلف الصالح وأن يبلـّغني فيه المنى والمناجح .



ثم رأيتُ منه نوعَ توانٍ عن الجِد في طلب العلم ، فكتبتُ إليه هذه الرسالة أحثه بها على طلب العلم وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم ، وأدله على الالتجاء إلى الموفق سبحانه ، مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفّق ولا مرشدَ لمن أضلّ ، لكنْ قد قال تعالى : ( وتواصَوا بالحق تواصوا بالصبر ) [سورة العصر / 3] ، وقال تعالى : ( فذكِّرْ إن نفعتِ الذكرى ) [سورة الأعلى / 9]

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .



فصل في فضل العقل ومسؤولية التكليف والحث على طلب الفضائل



اعلم يا بني وفقك الله أنه لم يميَّزِ الآدميُ بالعقلِ إلا ليعمل بمقتضاه ، فاستحضر عقلك وأعمِلْ فِكرَك ، واخلُ بنفسك ، تعلمْ بالدليل أنك مخلوق مكلف وأن عليك فرائض أنت مطالب بها ، وأن الملكين عليهما السلام يحصيان ألفاظك ونظراتك ، وأن أنفاسَ الحي خطوات إلى أجله ، ومقدارَ اللبث في الدنيا قليل ، والحبسَ في القبور طويل ، والعذابَ على موافقة الهوى وبيل ، فأين لذة أمس ؟ قد رحلَتْ وأبقَت ندمـًا ، وأين شهوة النفس ؟ نكّسَت رأسًا وأزلّت قدمـًا .

وما سعِد مَن سعِد إلا بمخالفة هواه ، ولا شقِي مَن شقي إلا بإيثار دنياه ، فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد ، أين لذةُ هؤلاء وأين تعبُ أولئك ؟ بقي الثواب الجزيل والذكرُ الجميلُ للصالحين ، والمقالةُ القبيحة والعقاب الوبيل للعاصين ، وكأنه ما شبع مَن شبِع ، ولا جاع مَن جاع .

والكسلُ عن الفضائل بئس الرفيق ، وحبُ الراحة يورث مِن الندم ما يربو على كل لذة ، فانتبه وأتعِبْ نفسَك ، واعلم أن أداء الفرائض واجتنابَ المحارم لازم ، فمتى تعدّى الإنسانُ فالنار النار .

ثم اعلم أن طلبَ الفضائل نهايةُ مرادِ المجتهدين ، ثم الفضائلُ تتفاوت ، فمن الناس مَن يرى الفضائلَ الزهدَ في الدنيا ، ومنهم مَن يراها التشاغلَ بالتعبد ، وعلى الحقيقة فليست الفضائلُ الكاملةُ إلا الجمعُ بين العلم والعمل ، فإذا حُصِّلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى ، وحرّكاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه ، فتلك الغاية القصوى ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ، وليس كلُ مريدٍ مرادًا ، ولا كلُ طالبٍ واجدًا ، ولكن على العبد الاجتهاد ، وكلٌ ميسَّرٌ لما خـُلق له ، والله المستعان .





فصل في أسس المعرفة وأركانها



وأول ما ينبغي النظر فيه معرفة الله تعالى بالدليل ، ومعلومٌ أن من رأى السماء مرفوعة والأرضَ موضوعةًٌ ، وشاهدَ الأبنية المحكمة ، خصوصًا جسدَ نفسِه ، علِمَ أن لا بد حينئذ للصَنعة مِن صانعٍ ، وللمبني من بانٍ .

ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ، وأكبرَ الدلائل القرءانَ الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله .

فإذا ثبت عنده وجودُ الخالق وصدقُ الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجب تسليمُ عِنانِه إلى الشرع ، فمتى لم يفعل دل على خللٍ في اعتقاده .

ثم ينبغي له أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة ، والزكاةِ إن كان له مال ، والحج ، وغير ذلك من الواجبات ، فإذا عرف قدرَ الواجب وقام به فينبغي لذي الهمة أن يترقى إلى الفضائل ، فيتشاغلَ بحفظ القرءان وتفسيره ، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبمعرفة سِيَرِه وسِيَر أصحابه والعلماء بعدهم ، ليتخيّر مرتبةَ الأعلى فالأعلى .

ولا بد من معرفة ما يقيمُ به لسانَه من النحو ومعرفةِ طرفٍ من اللغة مستعمَلٍ .

والفقهُ أمُ العلوم ، والوعظُ حَلواؤها وأعمها نفعًا .

وقد رتبتُ في هذه المذكورات وغيرِها من التصانيف ما يغني عن كل ما سبق من تصانيف القدماء وغيرِها ، بحمد الله ومنته ، فأغنيتُك عن تطلّبِ الكتب ، وجمْعِ الهِمَمِ للتصنيف .

وما تقف همةٌ إلا لخساستِها ، وإلا فمتى علتِ الهمةُ لم تقنع بدون .

وقد عرفتُ بالدليل أن الهمةَ مولودةٌ معَ الآدمي ، وإنما تقصُرُ بعضُ الهمم في بعض الأوقات ، فإذا حُثـَّتْ سارت .

ومتى رأيتَ في نفسك عجزًا فسلِ المنعِمَ ، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق ، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته ، ولا يفوتُك خيرٌ إلا بمعصيته ، ومَنِ الذي أقبلَ عليه فلم يرَ كلَّ مرادٍ لديه ؟ ومَن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة ؟ أو حظي بغرضٍ من أغراضه ؟

أوما سمعتَ قول الشاعر :

بالليل ما جئتُكم زائرًا إلا *** رأيتُ الأرض تُطوى لي

ولا ثنيتُ العزمَ عن بابكم *** إلا تعثّرْتُ بأذيالي



فصل في ضرورة مراعاة الحدود الشرعية وشيء من أحوال ابن الجوزي



وانظر يا بني إلى نفسك عند الحدود ، فتلمَّح كيف حِفظُكَ لها ؟ فإنه من راعى رُوعي ، ومن أهملَ تـُرِك ، وإني لأذكر لك بعضَ أحوالي لعلك تنظر إلى اجتهادي ، وتسألَ الموفقَ لي .

إن أكثر الإنعام عليّ لم يكن بكسبي ، وإنما هو من تدبير اللطيف بي ، فإني أذكر نفسي ولي همةٌ عالية وأنا في المكتب ولي نحو من ست سنين ، وأنا قرينُ الصبيان الكبار قد رُزِقتُ عقلاً وافرًا في الصغر يزيدُ على عقلِ الشيوخ ، فما أذكر أني لعبتُ في طريقٍ معَ صبيٍ قط ، ولا ضحِكتُ ضحكًا جارحًا ، حتى إني كنتُ ولي سبعُ سنين أو نحوُها أحضرُ رحبةَ الجامع ، ولا أتخيّرُ حلقةَ مشعبذٍ ، بل أطلب المحدّث ، فيتحدث بالسند الطويل ، فأحفظُ جميعَ ما أسمع ، وأرجع إلى البيت فأكتبه .

ولقد وُفـِّقَ لي شيخنا أبو الفضل ابن ناصر رحمه الله ، فكان يحملني إلى الأشياخ ، وأسمعني " المسندَ " وغيرَه من الكتب الكبار ، وأنا لا أعلم ما يُراد مني ، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت ، فناولني ثبتها ، ولازمته إلى أن توفي رحمه الله ، فأدركتُ به معرفة الحديث والنقل .

ولقد كان الصبيان ينزلون دِجلة ، ويتفرجون على الجسر ، وأنا في زمن الصغر ءاخذ جزءًا ، وأقعد حُجزةً من الناس إلى جانب الرِّقة فأتشاغلُ بالعلم .

ثم اُلهِمتُ الزهدَ ، فسردتُ الصوم وتشاغلت بالتقلل وألزمتُ نفسي صبرَها ، فاستمرأتُ وشمّرت ولازمت ، وأحببتُ السهر ، ولم أقنع بفن واحد من العلم ، بل كنت أسمع الفقه والوعظ والحديث وأتّبع الزهاد . ثم قرأت اللغة ولم أترك أحدًا ممن قد انزوى أو يعظ ، ولا غريبًا يقدُمُ إلا وأحضره وأتخيّر الفضائل .

وكنت إذا عرض لي أمران أقدّم في أغلب الأحوال حقَ الحق ، فأحسن اللهُ تدبيري وأجراني على ما هو الأصلح لي ، ودفع عني الأعداء والحساد ومن يكيدني ، وهيأ لي أسباب العلم ، وبعث إلي الكسب من حيث لا أحتسب ، ورزقني الفهمَ وسرعة الحفظ وجودة التصنيف ، ولم يُعْوِزني شيئـًا من الدنيا ، بل ساق إلي مقدارَ الكفاية وأزيَد ، ووضع لي في قلوب الخلق من القبول فوق الحد ، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحته . وقد أسلم على يدي نحو من مائتين من أهل الذمة ، ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف ، وقد قطعتُ أكثر من عشرين ألف جُمّةٍ مما يتعاناه الجهال .

ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفـَسي من العَدْوِ لئلا اُسبَق ، وكنت أصبح وليس لي ما ءاكل ، وأمسي وليس لي شيء ، وما أذلني الله لمخلوق ، ولكنه ساق رزقي لصيانة عِرضي ، ولو شرحتُ أحوالي لطال الشرح ، وها أنا ، ترى ما قد ءالت الحال إليه ، وأنا أجمعه لك في كلمة واحدة وهي قوله تعالى : ( واتقوا الله ويعلمُكمُ الله ) [ سورة البقرة / الآية 282 ]



فصل في التعجيل بالتوبة والندم واستدراك ما فات واغتنام ما بقي من العمر



فانتبه يا بني لنفسك واندم على ما مضى من تفريطك ، واجتهد في لحاق الكاملين ، ما دام في الوقت سَعةٌ ، واسقِ غصنك ما دامت فيه رطوبة ، واذكر ساعاتك التي ضاعت ، فكفى بها عظة ، ذهبَتْ لذةُ الكسل فيها ، وفاتت مراتبُ الفضائل ، وقد كان السلف رحمهم الله يحبون جمعَ كل فضيلة ، ويبكون على فوات واحدة منها .

قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : دخلنا على عابدٍ مريض ، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي ، فقلنا : ما لك تبكي ؟ فقال : ما اغبرّتا في سبيل الله تعالى ؛ وبكى ءاخر فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : على يومٍ مضى ما صمته ، وعلى ليلة ذهبَت ما قمتها .

واعلم يا بني أن الأيام تبسُطُ ساعاتٍ ، والساعاتُ تبسُط أنفاسًا ، وكلُ نفَسٍ خزانة ، فاحذر أن تـُذهِبَ نفسًا في غير شيء ، فترى يوم القيامة خزانةً فارغة فتندم .

وقد قال رجل لعامر بن عبد قيس : قف أكلمُك ! فقال : أمسِكِ الشمسَ .

وقعد قومٌ عند معروف [الكرخي] رحمه الله ، فقال : أما تريدون أن تقوموا ، فإن ملَكَ الشمس يجرُّها لا يفتُر .

وفي الحديث : " من قال سبحان الله وبحمده غُرسَت له نخلةٌ في الجنة " فانظر إلى مضيِّعِ الساعات كم يفوته من النخل .

وقد كان السلف يغتنمون اللحظات ، فكان كَهْمَسُ [بن الحسن التميمي] يختم القرءان في كل يومٍ وليلةٍ ثلاث مرات ، وكان أربعون رجلاً من السلف يصلون الفجر بوضوء العشاء ، وكانت رابعةُ لا تنام الليل ، فإذا طلع الفجر هجعَتْ هجعةً خفيفة وقامت فزِعَةً وقالت لنفسها : النوم في القبور طويل .



فصل في أن الحياة الدنيا قصيرة يجب اغتنامها



ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجَد ، رأى مدة طويلة ، فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج رأى مدة قصيرة ، وعلِم أن اللُبثَ في القبور طويل ، فإذا تفكر في يوم القيامة ، علم أنه خمسون ألف سنة ، فإذا تفكر في اللبث في الجنة أو النار علم أنه لا نهاية له ، فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا ـ فرضنا ستين سنة مثلاً ـ فإنه يَمضي منها ثلاثون في النوم ، ونحوٌ من خمس عشر في الصِبا ، فإذا حسبتَ الباقي ، كان أكثرُه في الشهوات والمطاعم والمكاسب ، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيرًا ، فبماذا تشتري الحياة الأبدية ، وإنما الثمن هذه الساعات ؟!



فصل في نقض اليأس والقنوط ، والإقبال على الجد والعمل



ولا يؤيسك من الخير ما مضى من التفريط ، فإنه قد انتبه خلق كثير بعد الغفلة والرقاد الطويل ، فقد حدثني الشيخ أبو حكيم عن قاضي القضاة أبي الحسن [علي بن محمد] الدامَغاني رحمه الله ، قال : كنتُ في صبوتي متشاغلاً بالبطالة غيرَ ملتفتٍ إلى العلم ، فأحضرني أبو عبد الله [محمد بن علي الدامغاني] رحمه الله ، وقال لي : يا بني إني لست أبقى لك أبدًا ، فخذ عشرين دينارًا وافتح دكانَ خبازٍ وتكسَّبْ ! فقلتُ : ما هذا الكلام ؟! قال : فافتح دكان بزّاز ! فقلت : تقول هذا وأنا ابن قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني ! قال : فما أراك تحب العلم ! فقلت : اذكر لي الدرس َ الساعة ، فذكر لي ، فأقبلتُ على التشاغل بالعلم واجتهدتُ ففتح الله علي .

وحكى لي بعض أصحاب أبي محمد [عبدِ الرحمن بن محمد] الحلواني رحمه الله ، قال : مات أبي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة ، وكنتُ موصوفًا بالبطالة ، فأتيتُ أتقاضى بعضَ سكان دارٍ قد ورثتـُها ، فسمعتهم يقولون : قد جاء المدبَّرُ ـ أي الربيط ـ (1) فقلت لنفسي : يقال عني هذا ! فجئت إلى والدتي فقلت : إذا أردتِ طلبي فاطلبيني من مسجد الشيخ أبي الخطاب ، ولازمتهُ فما خرجتُ إلا إلى القضاء ، فصرتُ قاضيًا مدة .

قلت : ورأيته أنا وهو يفتي ويناظر .

فألزِم نفسَك يا بني الانتباهَ عند طلوع الفجر ، ولا تتحدث بحديث الدنيا ، فقد كان السلف الصالح رحمهم الله لا يتكلمون في ذلك الوقت بشيءٍ من أمور الدنيا .

وقل عند انتباهك من النوم : " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، إن الله بالناس لرءوف رحيم "

ثم قم إلى الطهارة واركع سنة الفجر واخرج إلى المسجد خاشعًا ، وقل في طريقك : " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبممشاي هذا إليك ، إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعة ، خرجتُ اتقاءَ سخطك وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تجيرني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " .

واقصد الصلاة إلى يمين الإمام ، فإذا فرغت من الصلاة فقل : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " عشر مرات .

ثم سبّح عشرًا ، واحمد عشرًا ، وكبّر عشرًا ، واقرأ ءاية الكرسي وسلِ اللهَ سبحانه قبول الصلاة ، فإن صح لك فاجلس ذاكرًا لله تعالى إلى أن تطلع الشمس وترتفع ، ثم صل واركع ما كتب لك وإن كان ثمانِ ركعات فهو حسن .



فصل في عمل اليوم والليلة



ثم تتشاغل بما يمكن من العلوم ، وأهمها تصحيح قراءة القرءان ، ثم الفقه ، فإذا أعدت دروسك إلى وقت الضحى الأعلى ، فصلّ الضحى ثماني ركعات ، ثم تشاغل بمطالعةٍ أو بنسخٍ إلى وقت العصر .

ثم عد إلى دروسك بعد العصر إلى المغرب ، وصل بعد المغرب ركعتين ، تقرأ فيهما جزئين ، فإذا صليت العشاء فعد إلى دروسك .

ثم اضطجع فسبح ثلاثًا وثلاثين ، واحمد ثلاثًا وثلاثين ، وكبر أربعًا وثلاثين .

وقل : " اللهم قني عذابك يومَ تجمعُ عبادَك " .

وإذا فتحت عينيك من النوم فاعلم أن النفس قد أخذت حظها فقم إلى الوضوء ، وصل في ظلام الليل ما أمكن ، والتوسطُ أن تصلي ركعتين خفيفتين ، ثم بعدهما ركعتين بجزئين من القرءان ، ثم تعود إلى دروس العلم ، فإن العلم أفضل من كل نافلة .



فصل في العزلة والعلم



وعليك بالعزلة فهي أصل كل خير ، واحذر من جليس السوء ، وليكن جلساؤك الكتب ، والنظرَ في سِيَر السلف ، ولا تشتغل بعلمٍ حتى تـُحكِم ما قبله ، وتلمّح سِيَرَ الكاملين في العلم والعمل ، ولا تقنع بالدون ، فقد قال الشاعر في ذلك :

ولم أرَ في عيوب الناس شيئـًا *** كنقص القادرين على التمامِ

واعلم أن العلم يرفع الأراذل ، فقد كان خلقٌ كثير من العلماء لا نسب لهم يُذكر ، ولا صورةً تُستَحسَن ، وكان عطاءُ بن أبي رباح أسودَ اللون ومستوحَشَ الخِلقة ، وجاء إليه سليمان بن عبد الملك وهو خليفة ومعه ولداه ، فجعلوا يسألونه عن المناسك ، فحدّثهم وهو معرضٌ عنهم بوجهه ، فقال سليمان الخليفة لولديه : " قوما ولا تَنـَيا ولا تكاسلا في طلب العلم ، فما أنسى ذلنا بين يدَي هذا العبد الأسود " .

وكان الحسن [البصري] مولى ـ أي مملوكاً ـ وابن سيرين ومكحولٌ وخلق كثير ، وإنما شرفوا بالعلم والتقوى .



فصل في فضل التقوى



واجتهد يا بني في صيانة عِرضك من التعرض لطلب الدنيا والذل لأهلها ، واقنع تـَعِزّ ، فقد قيل : من قنع بالخبز والبقل لم يستعبده أحد .

وجاز أعرابي بالبصرة فقال : من سيد هذه البلدة ؟ فقيل له : الحسن البصري ، قال : وبم سادهم ؟ قالوا : استغنى عن دنياهم وافتقروا إلى علمه .

واعلم يا بني أن أبي كان موسرًا وخلَف ألوفًا من المال ، وكان أبوك طفلاً ، فاُنفِق عليه من ذلك المال إلى أن بلغ ، ولم يرَ بعد بلوغه سوى دارَين ، كان يسكن واحدة ويأخذ أجرة الأخرى ، ثم اُعطي نحو عشرين دينارًا ، وقيل له : هذه التركة كلها ، فأخذتُ الدنانير واشتريت بها كتبًا من كتب العلم ، وبعت الدارين وأنفقتُ ثمنهما في طلب العلم ، ولم يبق لي شيء من المال ، وما ذلَّ أبوك في طلب الدنيا كذل غيره ، ولا خرج يطوف البلدان كغيره من الوُعَاظ ، ولا رأى أكابرُ البلدان رِقاعَه عندهم يستعطيهم ، وأمورُه تجري على السداد . ( ومن يتقِ اللهَ يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) [سورة الطلاق / 2 ـ 3] .





فصل في أن التقوى خير زاد



يا بني ! ومتى صحتِ التقوى رأيتَ كل خير ، فالمتقي لا يرائي الخلق ولا يتعرض لما يؤذي دينه ، ومَن حفظَ حدودَ الله حُفِظ .

قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " احفظِ اللهَ يحفظْـكَ ، احفظِ اللهَ تجدْهُ أمامَك " .

واعلم يا بني أن يونس عليه السلام لما كانت ذخيرته خيرًا نجا بها من الشدة ، قال الله تعالى : ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعَثون ) [ سورة الصافات / 143 ـ 144 ] .

وأن فرعون لما لم تكن له ذخيرةُ خيرٍ لم يجد في شدته مَخلَصًا ، فقيل له : ( ءالآن وقد عصيتَ قبلُ ) [ سورة يونس / 91 ] .

فاجعل لك ذخائر خيرٍ من تقوى تجدْ تأثيرَها .

وقد جاء في الحديث : " ما من شابٍ اتقى الله تعالى في شبابه إلا رفعه الله تعالى في كِبَرِه " .

قال الله تعالى : ( ولما بلغ أشُدَّهُ ءاتيناه حُكمًا وعِلمًا وكذلك نجزِى المحسنين ) [ سورة يوسف / 22 ] .

واعلم يا بني أن أوفى الذخائر غضُ الطرف عن محرَّمٍ ، وإمساكُ اللسان عن فضول كلمة ، ومراعاةُ حدٍّ ، وإيثارُ اللهِ سبحانه وتعالى على هوى النفس ، قد عرفتَ حديثَ الثلاثة الذين دخلوا إلى غارٍ فانطبقت عليهم صخرة ، فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي أبوان وأولاد فكنت أقف بالحليب على أبويّ فأسقيهما قبل أولادي ، فإن كنتُ فعلتُ ذلك لأجلك فافرِج عنا ؛ فانفرج ثلث الصخرة ، فقال الآخر : اللهم إني كنت استأجرتُ أجيرًا فتسخَّطَ أجرَه ، فاتَّجَرتُ له به فجاء يومًا فقال : ألا تخاف الله ؟! فقلت : انطلق إلى تلك البقر ورعاتها فخذها ، فإن كنتُ فعلتُ ذلك لأجلك فافرِج عنا ؛ فانفرج ثلث الصخرة ، فقال الآخر : اللهم إني علِقتُ ببنت عمٍ لي ، فلما دنوتُ منها قالت : اتق الله ولا تفُضَّ الخاتَمَ إلا بحقه ، فقمت عنها ، فإن كنت فعلت لأجلك فافرِج عنا ؛ فرُفعَت الصخرة وخرجوا " .

ورؤي سفيان الثوري رحمه الله في المنام فقيل له : ما فعل الله تعالى بك ؟ قال : ما كان إلا أن وُضِعتُ في اللحد فإذا أنا بين يدي رب العالمين ، فأُمِرَ بي إلى الجنة ، فدخلتُ فإذا أنا بقائلٍ يقول : سفيان ؟ قلت : سفيان ، قال : تذكرُ يومَ ءاثرتَ اللهَ تعالى على هواك ؟ قلت : نعم ! فأخذَتني صواني النِثارِ من الجنة .



فصل في الجمع بين العلم والعمل



وينبغي أن تسمو همتك إلى الكمال ، فإن خلْقـًا وقفوا مع الزهد ، وخلْقـًا تشاغلوا بالعلم ، وندر أقوامٌ جمعوا بين العلم الكامل والعمل الكامل . واعلم أني قد تصفحتُ التابعين ومَن بعدَهم فما رأيت أحظى بالكمال من أربع أنفس : سعيد بن المسيب ، وسفيان الثوري ، والحسن البصري ، وأحمد بن حنبل ؛ وقد كانوا رجالاً إنما كانت لهم هممٌ ضعُفَت عندنا ، وقد كان في السلف خلقٌ كثير لهم همم عالية ، فإذا أردت أن تنظر إلى أحوالهم فانظر في كتاب " صفة الصفوة " ، وإن شئت " أخبار سعيد " و " أخبار سفيان " و " أخبار أحمد بن حنبل " ، فقد جمعتُ لكل واحدٍ منهم كتابًا .





فصل في فضل الحفظ والصدق



وقد علمتَ يا بني أنني قد صنفتُ مائة كتاب ، فمنها " التفسير الكبير " عشرون مجلدًا ، و " التاريخ " عشرون مجلدًا ، و " تهذيب المسند " عشرون مجلدًا ، وباقي الكتب بين كبار وصغار يكون خمسَ مجلدات ، ومجلدين وثلاثة ، وأربعة ، وأقل وأكثر ؛ كفيتـُك بهذه التصانيف عن استعارة الكتب وجمع الهمم في التأليف . فعليك بالحفظ ، فإن الحفظَ رأسُ المال ، والتصرفَ رِبحٌ ، واصدُقْ في الحالين في الالتجاء إلى الله سبحانه ، فراعِ حدودَه ، قال الله تعالى : ( إن تنصروا الله ينصرْكم ) [ سورة محمد / 7 ] ( فاذكروني أذكرْكم ) [ سورة البقرة / 152 ] ، ( وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم ) [ سورة البقرة / 140 ] .





فصل في أن البركة والنفع مقرون بالعمل بالعلم



وإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به ، فإن الداخلين على الأمراء والمقبلين على أهل الدنيا ، قد أعرضوا عن العمل بالعلم ، فمُنعوا البركةَ والنفعَ به .





فصل في النية الصالحة مع العمل بعلم



وإياك أن تتشاغل بالتعبد من غير علم ، فإن خلقـًا من المتزهدين والمتصوفة ضلوا طريق الهدى إذ عملوا بغير علم .

واستر نفسك بثوبين جميلين ، لا يُشهِرانِكَ بين أهل الدنيا برِفعتِهما ، ولا بين المتزهدين بضِعَتِهِما ، وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة وخطوة ، فإنك مسؤول عن ذلك ، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفعُ السامعون ، ومتى لم يعملِ الواعظُ بعلمِه زلَّتْ موعظتـُه عن القلوب كما يزلُّ الماءُ عن الحجر ؛ فلا تعظنَّ إلا بنية ، ولا تمشينَّ إلا بنية ، ولا تأكلنَّ إلا بنية ، ومع مطالعات أخلاق السلف ينكشفُ لك الأمر .





فصل في كتب مفيدة



وعليك بكتاب " منهاج المريدين " فإنه يعلمك السلوك ، فاجعله جليسَك ومعلمك ، وتلمَّح كتاب " صيد الخاطر " فإنك تقعُ بواقعاتٍ تُصلِحُ أمرَ دينك ودنياك ، واحفظ كتاب " جنة النظر " فإنه يكفي في تلقيح فهمِك للفقه ، ومتى تشاغلتَ بكتاب " الحدائق " أطلَعَك على جمهور الحديث ، وإذا التفتَّ إلى كتاب " الكشف " أبان لك مستورَ ما في الصحيحين من الحديث ، ولا تشاغلَنَّ بكتب التفاسير التي صنفَتها الأعاجمُ ، وما ترك " المغني " و " زاد المسير " حاجةً إلى شيء من التفاسير ، وأما ما جمعتـُه لك من كتب الوعظ فلا حاجة بعدها إلى زيادة أصلاً .





فصل في المداراة والحلم



وكن حسَنَ المداراة للخلق ، معَ شدة الاعتزال عنهم ، فإن العزلة راحة من خُلَطاء السوء ، ومُبقِيَةٌ للوقار ، فإن الواعظ خاصةً ينبغي أن لا يُرى مُتَبَذَِلاً ، ولا ماشيًا في سوقٍ ولا ضاحكًا ، ليَحسُنَ الظنُ به ، فيُنتَفَعُ بوعظه .

فإذا اضطررتَ إلى مخالطة الناس فخالطهم بالحِلمِ عنهم ، فإنك إن كشفتَ عن أخلاقهم لم تقدر على مداراتهم .



فصل في الحفاظ على الحقوق ومراعاة عواقب الأمور



وأدِّ إلى كل ذي حق حقه ، من زوجة أو ولد أو قرابة ، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب ، فلا تـُودِعْها إلا أشرفَ ما يمكن ، ولا تهمل نفسك وعوِّدها أشرفَ ما يكون من العمل وأحسنه ، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه ، كما قيل :



يا من بدنياه اشتغل ـ ـ ـ وغرّه طول الأمل

الموت يأتي بغتةً ـ ـ ـ والقبر صندوق العمل



وراعِ عواقبَ الأمور يهُنْ عليك الصبرُ عن كل ما تشتهي وما تكره ، وإن وجدتَ من نفسك غفلة فاحملها إلى المقابر وذكِّرها قربَ الرحيل ، ودبِّر أمرك ـ واللهُ المدبرُ ـ في إنفاقك من غير تبذير ، لئلا تحتاج إلى الناس ، فإن حِفظَ المال من الدين ، ولإن تـُخَلِّفَ لورثتك خير من أن تحتاج إلى الناس .



فصل في فضل شرف نسب المؤلف



يا بني واعلم أننا من أولاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وأبونا القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه ، وأخباره موثقة في كتاب " صفة الصفوة " ، ثم تشاغلَ سلفنا بالتجارة والبيع والشراء ، فما كان من المتأخرين مَن رُزِقَ همةً في طلب العلم غيري ، وقد ءال الأمر إليك ، فاجتهد أن لا تخيّب ظني فيما رجوتـُه فيك ولك .

وقد أسلمتك إلى الله سبحانه ، وإياه أسأل أن يوفقك للعلم والعمل ، وهذا قدر اجتهادي في وصيتي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .



والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم .
 
جزاك الله خيراً أخي الكريم ..........

مشاركة أولى موفقة ، نسأل الله أن ينفعكم وينفع بكم .
 
عودة
أعلى