فقه الرقى والتعوذات

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد ، وعلى وآله وصحبه أجمعين ؛ وبعد :
الابتلاء من سنن الحياة ، قال الله تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] .
ومن هذا الابتلاء ما يصيب الإنسان من أمراض وأوجاع ، ترهقه وتقض مضجعه ، ويبحث لها عن علاج ؛ وقد علمنا الرسول الأعظم e أن نلتمس أسباب الشفاء ، قال e : " إن الله U حيث خلق الداء خلق الدواء ، فتداووا " ؛ كما علمنا e أعظم أسباب التداوي وهي الرقى والتعوذات ؛ التي تجعل الإنسان يلجأ إلى ربه جل وعلا الذي بيده وحده كشف الضر ، قال الله تعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ } [ الأنعام : 17 ] .
وباب الرقية باب عظيم الأثر في كشف الضر ، غير أن هناك من لا يحسن الرقية ، ومن لا يميز بين الرقية الشرعية والرقية الشركية ؛ من هنا كانت هذه الرسالة ( فقه الرقى والتعوذات ) ؛ بيانًا لهذا السبب العظيم للشفاء .
وموضوع الرقية مهم جدًّا ، وقد تكلم فيه من يحسن ، ومن لا يحسن ، فأردت - مستعينا بالله تعالى - أن أبين وجه الحق فيه ؛ وكنت جعلت هذا الموضوع فصلا من كتابي ( فقه الدعاء ) ، فأشير عليَّ أن أطبعه منفصلا ، لتعم الفائدة . والله الكريم أسأل أن ينفع به .
 
اعلم أن الرقى تنفع ـــ بإذن الله تعالى ـــ في جميع الأوجاع ، وأن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله ، أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية .
ولا يعني ذلك أن نترك التداوي بالأدوية الطبيعية ، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم داوى بها، وأمر بالتداوي بها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ولكن المقصود : أن يلجأ الإنسان إلى الله تعالى ، ويعلم أنه سبحانه هو كاشف الضر، لا كاشف له إلا هو، قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
فإذا علم هذا، وتيقنه العبد، لجأ إلى الله تعالى، فلا ينسيه التماسه للأسباب ـــ التي جعلها الله تعالى سببا للشفاء ـــ رب الأسباب الذي بيده كشف الضر، لا كاشف له إلا هو، عندها يصدق في اللجوء إلى الله تعالى، فيجد نتيجة ذلك. قال تعالى:
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
 
معنى الرقى والتعوذات
الرُقى جمع رقية بسكون القاف وهي : العُوذَة التي يُرقى بها صاحب الآفة ، كالحمى والصرع .. وغير ذلك من الآفات ، قال رؤبة :
فما تركا من عُوذَةٍ يعرفانها ... ولا رقـيةٍ إلا بها رقياني
ويقال : رقى بالفتح في الماضي ، يرقي بالكسر في المستقبل ، ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه ، وقد رقاه رَقْياً ورُقيا ، إذا عوَّذ ونفخ في عوذته . واسترقى : طلب الرقية[SUP] ( [1] )[/SUP] .
والتعويذات : جمع تعويذة ؛ والعُوذَة والمعَاذة والتعويذ : الرقية يُرقى بها الإنسان من فزع أو جنون ، لأنه يعاذ بها ؛ ومعنى الاستعاذة في كلام العرب : الاستجارة والتحيز إلى الشيء ؛ يقال : عذت به ، أعوذ ، عوذًا وعياذًا ومعاذًا ، أي : لجأت إليه ، والمعاذ المصدر والمكان والزمان ، أي : لجأت إلى ملجأ ، ولذت بملاذ ، وهو عياذي ، أي : ملجئي .
والاستعاذة : هي الالتجاء إلى الله تعالى ، والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر ؛ والعياذة تكون لدفع الشر ، واللياذ يكون لطلب الخير ، وجمعهما المتنبي فقال :
يا مـن ألـوذ به فيما أؤمـله ... ومـن أعـوذ به مما أحـاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره[SUP] ( [2] )[/SUP]

[1] - انظر لسان العرب باب الألف فصل الراء ، والنهاية في غريب الحديث والأثر : 2 / 254 ( رقى ) ، والمُغرب للمطرزي : 196 ، وفتح الباري : 10 / 205 ( الريان للتراث ) .

[2] - انظر لسان العرب باب الذال فصل العين ، وتفسير القرطبي : 1 / 89 ، وتفسير ابن كثير : 1 / 16 ( مكتبة طيبة ) ، والمفردات للراغب : ص365 ( ع و ذ ) .
 
الرقى
وردت الأدلة بجواز الرقية من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره .
أما الأول : فأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تسترقي من العين [SUP]( [1] ) [/SUP]. وأخرجا - أيضًا - عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية في بيتها رأى بوجهها سفعة : " بها نظرة ، فاسترقوا لها "[SUP] ( [2] ) [/SUP]، يعني بوجهها صفرة ؛ وروى أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال : رخص النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحية ، وقال لأسماء بنت عميس : " ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة ، تصيبهم الحاجة ؟ " قالت : لا ، ولكن العـين تسرع إليهم ؛ قـال : " ارقـيهم " ، فعرضت عليه ( أي : الرقىة ) ، فقال : " ارقيهم "[SUP] ( [3] )[/SUP] .
وروى أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال : لدغت رجلا منا عقرب ، ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : يا رسول الله ! أرقي ( أرقيه ) ، قال : " من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه " [SUP]( [4] ) [/SUP].
وأما الثاني : فأخرج الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضًا يقول : " أذهب الباس رب الناس ، اشفه أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سَقَما " . وفي رواية قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ، ثم قال : فذكرت الحديث . وعند البخاري نحوه عن أنس رضي الله عنه[SUP] ( [5] )[/SUP].
وروى أحمد ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها – قالت : كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل قال : " بسم الله يُبريك ، ومن كل داء يَشْفيك ، ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين "[SUP] ( [6] ) [/SUP]. ورويا - أيضًا - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا محمد ، اشتكيت ؟ فقال نعم . قال : باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، من شر كل نَفْسٍ ، أو عين حاسد ، الله يَشْفيك ، باسم الله أرقيك "[SUP] ( [7] )[/SUP].
وأما الثالث : فأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر ، فمروا بحي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فلم يضيفوهم ، فقالوا لهم : هل فيكم راق ؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب ( سليم : لُدِغ ) ، فقال رجل منهم : نعم ! فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب ، فبرأ الرجل ، فأعطى قطيعًا من غنم ، فأبى أن يقبلها ، وقال : حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : يا رسول الله ! والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب ! فتبسم ، وقال : " وما أدراك أنها رقية ؟ " ثم قال : " خذوا منهم ، واضربوا لي بسهم معكم "[SUP] ( [8] ) [/SUP].


[1] - البخاري (5783)، ومسلم (2195).

[2] - البخاري (5739)، ومسلم (2197).

[3] - أحمد 3 / 333، ومسلم (2198).

[4] - أحمد: 3 / 382، ومسلم (2199).

[5] - البخاري (5675، 5743، 5744، 5750)، ومسلم (2191) عن عائشة، والبخاري (5742) عن أنس.

[6] - أحمد: 6 / 160، ومسلم (2185).

[7] - أحمد: 3 / 28، 56، 58، ومسلم (2186).

[8] - البخاري (2276، 5007، 5736، 5747)، ومسلم (2201).
 
وأما ما ورد من النهي عن الرقية في بعض الأحاديث ، كما في حديث جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى ؛ فجاء آل عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب ، وإنك نهيت عن الرقى ! قال : فعرضوها عليه ، فقال : " ما أرى بأسًا ، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه " ؛ رواه أحمد ومسلم[SUP] ( [1] )[/SUP] .
فهذا لا يعارض ما ذكرنا ، وإنما نهى عن الرقى التي تتضمن الشرك ، وتعظيم غير الله تعالى ، كغالب رقى أهل الشرك ؛ بدليل ما جاء في آخر الحديث .
قال ابن تيمية - رحمه الله : وعامة ما في أيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي ليست بالعربية فيها ما هو شرك بالجن ؛ ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفهم معناها ؛ لأنها مظنة الشرك ، وإن لم يعرف الراقي أنها شرك .. قال : وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك ، وقد يقرءون شيئًا من القرآن ويظهرونه ، ويكتمون ما يقولونه من الشرك ، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ما يغني عن الشرك وأهله .ا.هـ[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا نرقي في الجاهلية ، فقلنا : يا رسول الله ! كيف ترى في ذلك ؟ فقال : " اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " ؛ رواه مسلم وأبو داود والبيهقي[SUP] ( [3] )[/SUP] .
قال الخطابي - رحمه الله : المنهي عنه ما كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ؟ ولعله يدخله سحر أو كفر ؛ فأما إذا كان مفهوم المعنى ، وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به. والله أعلم .ا.هـ[SUP] ( [4] )[/SUP] .
وقال البغوي - رحمه الله - ما خلاصته : والمنهي من الرقى ما كان فيه شرك ، أو كان يُذكر فيه مردة الشياطين ، أو ما كان منها بغير لسان العرب ، ولا يدرى ما هو ، ولعله يدخله سحر أو كفر ، فأما ما كان بالقرآن وبذكر الله عز وجل فإنه جائز مستحب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه بالمعوذات ، وكان يرقي الحسن والحسين ، ورقاه جبريل[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وقال ابن العربي - رحمه الله : ووجه الجمع بينهما أن الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي ، وبغير أسماء الله وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة ، وأن يعتقد أن الرقية نافعة لا محالة فيتكل عليها ، وإياها أراد بقوله : " ما توكل من استرقى " ( [6] [SUP]) [/SUP]. ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك ؛ كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى ، والرقى المروية ، ولذلك قال للذي رقى بالقرآن وأخذ عليه أجرا : " من أخذ برقية باطل ، فقد أخذت برقية حق " ([7][SUP]) [/SUP].ا.هـ[SUP] ( [8] ) [/SUP].

[1] - أحمد: 3 / 302، 315، ومسلم (2199).

[2] - مجموع الفتاوى: 19 / 13، 61.

[3] - مسلم (2200)، وأبو داود (3886)، والبيهقي في السنن الكبرى (20148) دار الفكر.

[4] - معالم السنن: 5 / 362 (هامش المختصر).

[5] - شرح السنة: 12 / 159.

[6] - رواه ابن عبد البر بلفظه في التمهيد: 5 / 272، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (23623) وأحمد: 4 / 251، 252، بلفظ " لم يتوكل من استرقى واكتوى "، وروياه أيضا: في المصنف (23628)، والمسند 4 / 249، والترمذي في الطب باب (14) (2060)، وابن ماجة (3489)، والبغوي في شرح السنة (3241)، بلفظ: " من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل "، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال الترمذي : حسن صحيح . قلت : وإسناده صحيح .

[7] - رواه أحمد: 5 /210، 211، وأبو داود (3420، 3896، 3901)، من حديث علاقة بن صحار رضي الله عنه، وإسناده جيد إن شاء الله. والمعنى إذا كان هناك من يرقي برقى باطلة ويأخذ على ذلك مالا، فقد رقيت برقي

[8] - عارضة الأحوذي: 9 / 278، 279، ونقله ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: 2 / 254، 255 (دار إحياء الكتب العربية) ولم يعزه.
 
قال النووي ـــ رحمه الله : وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى. ا.هـ[SUP] ([1]).[/SUP]
وقال ابن حجر ـــ رحمه الله : وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط :
1 - أن يكون بكلام الله تعالى ، أو بأسمائه وصفاته .
2 - وباللسان العربي ، أو ما يُعرف معناه من غيره .
3 - وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى .ا.هـ[SUP]([2]).[/SUP]
وأما ما رواه الشيخان عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم الذين لا يتطيرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون "[SUP] ([3]).[/SUP] فلا يدل على كراهة الرقية وإن دل ظاهره على أن تركها أفضل .
قال ابن حجر ـــ رحمه الله : تمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية ، وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما ، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة ، ثم ذكر أربعة أجوبة ، وأرجحها : أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره ، لا القدح في جواز ذلك ، لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح ، لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب ، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه [SUP]([4]).[/SUP] ففيه التسليم لقضاء الله ثقة به وتوكلا عليه ، مع العلم بأن الأخذ بأسباب التداوي المشروعة لا كراهة فيه ، جمعا بين الأدلة . والعلم عند الله تعالى.
وأما ما رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود ومن طـريقه البيهقي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك " فقالت امرأته: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكنت. فقال عبد الله: إنما كان ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمَا ". وفي رواية أحمد وابن ماجة أن زينب امرأة ابن مسعود رقتها عجوز في خيط فعلقته عليها ، فجبذه ابن مسعود وقال : لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره [SUP]([5]).[/SUP]
فالرقى المنهي عنها في الحديث هي ما كان فيه شرك ، أو ما كان بغير العـربية مما لا يدرى ما هو، كما تقدم. وأما التِّولة: بتشديد التاء وكسرها، فهي ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر. وأما التميمة فيقال : إنها خرزة بلون معين كانوا يعلقونها، يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وقيل : قلادة تعلق عليها العوذ ، وكل ذلك غير جائز[SUP] ([6]).[/SUP]


[1][SUP] - شرح مسلم: 14 / 169.[/SUP]

[2][SUP] - فتح الباري: 10 / 206 (الريان للتراث).[/SUP]

[3][SUP] - البخاري (5705، 5752، 6472)، ومسلم (220). [/SUP]

[4][SUP] - انظر فتح الباري: 10 / 222، 223. [/SUP]

[5][SUP] - أحمد: 1/381، وأبو داود (3883)، وابن ماجة (3530)، والبيهقي في الكبرى (20155). والحاكم: 4 / 217 وصححه ووافقه الذهبي، 4 / 418 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.[/SUP]

[6][SUP] - انظر معالم السنن: 5 / 362، وشرح السنة للبغوي: 12 / 158، والسنن الكبرى للبيهقي: 14 / 366 (دار الفكر).[/SUP]
 
الرقية بالقرآن والسنة
رأى بعض السلف جواز تعليق الرقى والتعاويذ التي من القرآن والذكر، فروى البيهقي في (السنن) عن فضيل أن سعيد بن جبير كان يكتب لابنه المعاذة ، قال : وسألت عطاء، فقال : ما كنا نكرهها إلا شيئًا جاءنا من قبلكم .ا.هـ. وروى - أيضًا - عن نافع بن يزيد أنه سأل يحيى بن سعيد عن الرقى وتعليق الكتب ؛ فقال : كان سعيد بن المسيب يأمر بتعليق القرآن ، وقال: لا بأس به[SUP] ([1]).[/SUP] وروى ابن أبي شيبة : كان مجاهد يكتب للناس التعويذ فيعلقه عليهم . وروى - أيضًا - جواز ذلك عن عطاء والضحاك و ابن سيرين وأبي جعفر[SUP] ([2]).[/SUP]
وقال البغوي رحمه الله : قال عطاء : لا يعد من التمائم ما يكتب من القرآن . وسئل سعيد بن المسيب عن الصحف الصغار يكتب فيها القرآن ، فيعلق على النساء والصبيان ؟ فقال : لا بأس بذلك إذا جعل في كير من وَرِق أو حديد أو يُخَرز عليه[SUP] ([3]).[/SUP] ومنع من ذلك آخرون سدًّا للذريعة ، لأن ذلك قد يفضي إلى تعليق ما لا يصح من الرقى التي قد يكون فيها الطلاسم والشركيات ، وكثير من العوام لا يفهم الفرق بين هذا وذاك .

[1][SUP] - السنن الكبرى: 14 / 368 (دار الفكر) ونحوه عند ابن أبي شيبة (23511) (23543).[/SUP]

[2][SUP] - انظر مصنف ابن أبي شيبة: 5 / 43، 44 (23543: 23551)، مكتبة الرشد - الرياض.[/SUP]

[3][SUP] - شرح السنة: 12/ 158. [/SUP]
 
الرقية من جميع الأوجاع
تجوز الرقية بالقرآن وذكر الله تعالى من جميع الأوجاع ، وجاءت الأحاديث مصرحة بالرقية من المرض عمومًا ، ومن العين ، ومن الحُمَة : وهي كل هامة ذات سم من حية أو عقرب ، ومن النمْلة : وهي قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد ، ومن دم لا يرقأ ، ومن الاحتراق ، ومن مس الجن .
وأما ما ثبت من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رقية إلا من عين أو حُمَة " ، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح [SUP]( [1] )[/SUP] .
فقال أهل العلم : معنى الحديث لا رقية أنفع وأولى منهما ، لشدة الضرر فيهما ، كما قيل : لا فتى إلا علي ، ولا سيف إلا ذو الفقار ، وليس المقصود حصر الرقية فيهما ، وإنما هما أصل كل ما يحتاج إلى رقية ، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس ونحو ذلك ، لاشتراكهما في كونها تنشأ من أحوال شيطانية من إنسي أو جني ، ويشهد لذلك حديث علاقة بن صحار في رقية المجنون ، وسيأتي إن شاء الله ؛ ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قروح ونحوها من المواد السمية ، ويشهد لذلك ما صح في الرقية من النملة ، ورقية المريض ، وسيأتي إن شاء الله[SUP]( [2] ) [/SUP].


[1] - أحمد: 4/ 436، 438، 446، وأبو داود (3884) والترمـذي (2057).

[2] - انظر معالم السنن للخطابي: 5 / 363، وشرح السنة للبغوي: 12 / 162، وعارضة الأحوذي لابن العربي: 9 / 280 / 281، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 2 / 255، وشرح مسلم للنووي: 14/ 169، وفتح الباري: 10/ 206 (الريان للتراث).
 
كيفية الرقية
روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى ، يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه ، وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها ؛ وفي لفظ لمسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله ، نفث عليه بالمعوذات .. الحديث[SUP] ( [1] ) [/SUP]. وعند ابن أبي شيبة وابن ماجة بإسناد صحيح : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث في الرقية [SUP]( [2] ) [/SUP].
وفي بعض الروايات لحديث أبي سعيد المتقدم في الرقية بالفاتحة : فجعل يتفل ويقرأ : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( رواه البخاري ؛ وعند أبي داود : فقرأ عليه بأم الكتاب ، وجعل يتفل حتى برئ ؛ وعند أحمد : فجعل يقرأ أم القرآن ، ويجمع بزاقه ويتفل ، فبرأ الرجل[SUP] ( [3] ) [/SUP].
ففي هذه الأحاديث الصحيحة دلالة على استحباب النفث والتفل في الرقية ، ومسح المريض بها ، وبوب البخاري وابن ماجة : ( باب النفث في الرقية ) .
قال النووي - رحمه الله : وقد أجمعوا على جوازه ، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين .ا.هـ[SUP] ( [4] ) [/SUP].
والنفث أقل من التفل ، والتفل يكون معه شيء من الريق ، وأما النفث فشبيه بالنفخ ، وقيل : هما بمعنى . وقيل مع النفث ريق خفيف ، وقال أبو عبيد : يشترط في التفل ريق يسير ، ولا يكون في النفث ، وقيل : عكسه .. قال : وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية ؟ فقالت : كما ينفث آكل الزبيب ، لا ريق معه ، قال : ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة ولا يقصد ذلك ؛ وقد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب : فكان يجمع بزاقه ويتفل ، والله أعلم .ا.هـ قلت : وصوَّب ابن حجر - رحمه الله - أن النفث فيه ريق خفيف[SUP] ( [5] ) [/SUP]. والعلم عند الله تعالى .
فهذه كيفية مشروعة ، وهي أن تُقرأ الرقية على المريض أو المصاب ، وينفث أو يتفل ، ويمسح عليه .

[1] - البخاري (4439، 5016، 5735، 5751)، ومسلم (2192).

[2] - مصنف ابن أبي شيبة (23564)، وابن ماجة: (3528).

[3] - أحمد: 3 / 44، البخاري (5749)، وأبو داود (3418، 3900).

[4] - شرح مسلم: 14 / 182.

[5] - انظر لسان العرب باب الثاء فصل النون ، والمفردات للراغب : 521 ( نفث ) ، وشرح مسلم: 14 / 182 ، والنهاية في غريب الحديث : 5 / 88 ، وفتح الباري : 7 / 738 ، 10 / 220 .
 
الفاتحة وعلاج ذات السموم
ذكر ابن القيم - رحمه الله - في تأثير الرقية بالفاتحة وغيرها والنفث بها لعلاج ذوات السموم أسرارًا ، فقال ما خلاصته : إن ذوات السموم تستخدم عند الغضب سلاحها ، وهو حماتها التي تلدغ به ، فإذا غضبت ثار فيه السم ، فتقذفه بآلتها ، وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ، ولكل شيء ضدًّا ، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقي ، فيقع بين نفسهما فعل وانفعال ، كما يقع بين الداء والدواء ، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء ، فيدفعه بإذن الله ؛ ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال ، ويشترك في ذلك الأدوية الروحانية والطبيعية .
وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء والنَفَس المباشر للرقية والذكر والدعاء ، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه ، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنَفَس كانت أتم تأثيرًا ، وأقوى فعلا ونفوذًا ، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة ، شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية .
وبالجملة : فنَفْس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة ، وتزيد بكيفية نفسه ، وتستعين بالرقية والنفث على إزالة ذلك الأثر ، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى كانت الرقية أتم ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها .
وفي النفث سرٌّ آخر ، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة ، ولهذا تفعله السحرة، كما يفعله أهل الإيمان ، قال تعالى : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق: 4]، وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة ، وترسل أنفاسها سهامًا لها ، وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شيء من الريق ، مصاحب لكيفية مؤثرة ، والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة ، وإن لم تتصل بجسم المسحور ، بل تنفث على العقدة وتعقدها ، وتتكلم بالسحر ، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة ، فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية ، وتستعين بالنفث ، فأيهما قوي كان الحكم له ، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض ، من جنس مقابلة الأجسام ، ومحاربتها وآلتها سواء ، بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح ، والأجسام آلتها وجندها ، ولكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها ، لاستيلاء سلطان الحس عليه ، وبُعْدِه من عالم الأرواح وأحكامها وأفعالها .
والمقصود أن الروح إذا كانت قوية ، وتكيفت بمعاني الفاتحة ، واستعانت بالنفث والتفل ، قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة ، فأزالته ، والله أعلم[SUP] ( [1] ) [/SUP].


[1] - انظر زاد المعاد: 3 / 122 (الكتب العلمية)، 4 / 178: 180 (مؤسسة الرسالة).
 
كتابة الرقية
قد رأى جماعة من السلف أن تكتب للمريض أو المصاب الآيات من القرآن، ثم يشربها ، أو تصب عليه ؛ فعن عائشة أنها كانت لا ترى بأسًا أن يعوذ في الماء ثم يُصب على المريض . وقال مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ، ويغسله ، ويسقيه المريض . ومثله عن أبي قلابة وليث . وعن ابن عباس أنه أمر أن يُكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ، ثم يغسل ويسقى . وقال أبو أيوب : رأيت أبا قلابة كتب كتابًا من القرآن ، وسقاه رجلا كان به وجع[SUP] ( [1] )[/SUP] .
قال ابن تيمية - رحمه الله : ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئًا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ، ويغسل ويسقى ، كما نص على ذلك أحمد وغيره ، قال عبد الله بن أحمد : قرأت على أبي ثنا يعلى بن عبيد ، ثنا سفيان ، عن محمد بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب : بسم الله ، لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } [ الأحقاف : 35 ] . قال أبي : ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه ، وقال : يكتب في إناء نظيف فيسقى . قال أبي : وزاد وكيع : فتسقى ، وينضح ما دون سرتها . قال عبد الله : رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف .
وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيري : أنا الحسن بن سفيان النسوي ، حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، ثنا علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك عن سفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم ، عن ابن جبير ، عن ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب : بسم الله ، لا إله إلا الله العلي العظيم ، لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } . قال علي : يكتب في كاغدة فيعلق عل عضد المرأة ، قال علي : وقد جربناه ، فلم نر أعجب منه ، فإذا وضعت تحله سريعًا ، ثم تجعله في خرقة ، أو تحرقه .ا.هـ[SUP] ( [2] ) [/SUP].

[1] - انظر مصنف ابن أبي شيبة : 5 / 39 ، 40 ( 23508 – 23512 ) - مكتبة الرشد ، وزاد المعاد : 3 / 119 ( المكتبة العلمية ) ، 4 / 170 ، 171 ( مؤسسة الرسالة ) .

[2] - مجموع الفتاوى: 19 / 64، 65. قلت: ورواه ابن أبي شيبة في ( المصنف رقم 23508 ) - مكتبة الرشد - الرياض) عن علي بن مسهر عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وفيه: بسم الله، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم.. ثم الآيتين. وهذا إسناد كله ثقات: ابن أبي ليلى هو عيسى بن عبد الرحمن، والحكم هو ابن عتيبة .
 
مسألة النُّشرة
النشرة بضم النون ، ضرب من الرقية والعلاج ، يعالج به من كان يظن أن به سِحرًا أو مسًّا من الجن ، سميت نشرة : لأنه ينتشر بها عنه ما خامره من الداء ، أي : يكشف ويزول . وعن الحسن : النشرة من السحر . وقال جرير :
أدعوك دعوة ملهوف كأن به ... مسًّا من الجن أو ريحًا من النشر[SUP] ( [1] )[/SUP]
وروى أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال : " هو من عمل الشيطان "[SUP] ( [2] )[/SUP] ؛ وظاهره أن النشرة حرام ؛ وإلى ذلك ذهب بعض السلف كالحسن البصري ، وسئل عن ذلك فقال : سحر . رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن[SUP]( [3] )[/SUP] .
والراجح أنها رقية فتأخذ حكم الرقية ، فما ليس فيه شرك فهو مباح جائز ، وما كان فيه من شرك فهو ممنوع غير جائز ، وهو منقول عن بعض السلف أيضًا ؛ فروى ابن أبي شيبة عن عطاء الخراساني أنه كان لا يرى بأسًا أن يأتي الرجل المؤخذ عن أهله والمسحور من يطلق عنه . وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن رجل طب بسحر نحل عنه ؟ قال : نعم ! من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل . ورواه البخاري عن سعيد معلقًا ، وفيه : قال : لا بأس ، إنما يريدون الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه . وقال ابن حجر : وصله أبو بكر بن الأثرم[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وقال عبد الرزاق : قال الشعبي : لا بأس بالنشرة العربية التي لا تضر إذا وطئت . والنُشرة العربية : أن يخرج الإنسان في موضع عضاهٍ ، فيأخذ عن يمينه وشماله من كل ثمر ، يدقه ، ويقرأ فيه ، ثم يغتسل به .
وفي كتب وهب : أن تؤخذ سبع ورقات من سدر أخضر ، فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه في الماء ، ويقرأ فيه آية الكرسي ، وذوات قل ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ، ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله ؛ وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله[SUP] ( [5] ) [/SUP].
قال مقيده - عفا الله عنه : المراد بذوات قل : سورة الجن ، والكافرون ، والإخلاص ، والمعوذتان .
قال ابن كثير - رحمه الله : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ، ما أنزل الله على رسوله لإذهاب ذلك ، وهما المعوذتان ، وفي الحديث : " لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما "[SUP] ( [6] )[/SUP] ، وكذلك قراءة آية الكرسي ؛ فإنها مطردة للشيطان[SUP] ( [7] )[/SUP] .
قال ابن حجر : قال ابن الجوزي : النشرة حل السحر عن المسحور ، ولا يكاد يقدر عليه إلا ساحر ، وقد سئل أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور ، فقال : لا بأس به . وهذا هو المعتمد ؛ ويجاب عن الحديث والأثر بأن قوله : " النشرة من عمل الشيطان " إشارة إلى أصلها ، ويختلف الحكم بالقصد ، فمن قصد بها خيرًا كان خيرًا ، وإلا فهو شر . ثم الحصر المنقول عن الحسن ليس على ظاهره ، لأنه قد ينحل بالرقى والتعويذ ، ولكن يحتمل أن تكون النشرة نوعين .. إلى أن قال : وممن صرح بجواز النشرة : المزني صاحب الشافعي ، وأبو جعفر الطبري ، وغيرهما .ا.هـ[SUP] ( [8] )[/SUP] .
قلت : وقوله : يحتمل أن تكون النشرة نوعين ، هو الصواب ، لأنها رقية ، والرقية نوعان كما تقدم . وعليه فالراجح أن من ذهب إلى حلِّ السحر بالنشرة ، إنما أراد بما ليس به محظور شرعًا ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - انظر معالم السنن: 5 / 353، النهاية في غريب الحديث: 5 / 54، والمفردات: مادة (نشر)، وفتح الباري: 10 / 244 (الريان للتراث).

[2] - أحمد: 3 / 294، وأبو داود (3868) وسنده حسن، وحسنه الحافظ في الفتح: 10 / 244.

[3] - مصنف ابن أبي شيبة (23515).

[4] - مصنف بن أبي شيبة (23512، 23521: 23523).

[5] - عبد الرزاق (19763).

43- النسائي (5438) وإسناده حسن.

[7] - تفسير القرآن العظيم: 1 / 158 (مكتبة طيبة).

[8] - فتح الباري: 10 / 244 (الريان للتراث).
 
لا يجوز حل السحر بالسحر:
مما تقدم يتبين أن حل السحر بالسحر لا يجوز، وأما إذا ابتلي الإنسان بشيء من ذلك فعليه اللجوء إلى الله تعالى وكثرة الاستغفار والدعاء، والتماس العلاج فيما شُرع من الرقى الشرعية دون اللجوء إلى السحرة وغيرهم من أهل الباطل، إذ لا يرفع البلاء إلا الله تعالى، فإذا صدق من ابتلي في توجهه لنال ما يريد مع الصبر والاحتساب، والله المستعان.
 
أنواع من الرقى
1) الرقية من المرض
تقدم أن الرقية جائزة من جميع الأوجاع ، وتقدم حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى ، يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ؛ وفي رواية: إذا مرض أحد من أهله ، نفث عليه بالمعوذات ؛ وأنه كان إذا عاد مريضًا مسح عليه ، وقال : " أذهب البأس رب الناس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاءً لا يغادرُ سَقَما " .
قال ابن القيم - رحمه الله : ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته ، وكمال رحمته بالشفاء ، وأنه وحـده الشافي ، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه ، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وأخرج مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم ؛ فقال له رسول الله e : " ضع يدك على الذي تأَلَّم من جسدك ، وقل : باسم الله ثلاثا ، وقل : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " ، هذا لفظ مسلم ، ولأحمد: " ضع يمينك على مكانك الذي تشتكي ، فامسح بها سبع مرات ، وقل : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد ، في كل مسحة " ، ولأبي داود : " امسحه بيمينك سبع مرات ، وقل : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد " ، وللترمذي : " امسح بيمينك سبع مرات ، وقل : أعوذ بعزة الله وقوَّته من شر ما أجد " ، ولمالك قال : فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي ، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم . وللترمذي نحوه[SUP] ( [2] ) [/SUP].
ورواه أحمد من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ : " إذا وجد أحدكم ألَمًا فليضع يده حيث يجد ألمه ، ثم ليقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته على كل شيء من شر ما أجد "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
قال ابن عبد البر - رحمه الله : هذا الحديث دليل واضح على أن صفات الله غير مخلوقة ، لأن الاستعاذة لا تكون بمخلوق ، وفيه أن الرقى تدفع البلاء ويكشفه الله بها ، وهو من أقوى معالجة الأوجاع لمن صحبه اليقين الصحيح والتوفيق الصريح . ا.هـ[SUP] ( [4] ) [/SUP]. وقال ابن القيم - رحمه الله : ففي هذا العلاج من ذكر الله ، والتفويض إليه ، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ، ما يذهب به ، وتكراره ليكون أنجع وأبلغ ، كتكرار الدواء لإخراج المادة ، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها .ا.هـ[SUP] ( [5] ) [/SUP]. وسيأتي إن شاء الله مزيد من الرقى النبوية .
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس ­- رضي الله عنهما - مرفوعًا : " من عاد مريضًا لم يحضر أجله ، فيقول : أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ؛ إلا عوفي " ، زاد الحاكم : "ويعافيك " ، وفي رواية عند النسائي والحاكم : كان النبي e إذا عاد المريض جلس عند رأسه ، ثم قال سبع مرات : " أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك " ، فإن كان في أجله تأخير ، عوفي من وجعه ذلك[SUP] ( [6] ) [/SUP].


[1] - زاد المعاد: 3 / 125 (المكتبة العلمية)، 4 / 188 (مؤسسة الرسالة).

[2] - مالك: 2 / 942 (9)، وأحمد: 4 / 217، ومسلم (2202)، وأبو داود (3891)، والترمذي (2080) وقال: حسن صحيح، والنسائي في اليوم والليلة (1007: 1010)، وابن ماجة (3522).

[3] - أحمد: 6 / 390، وفيه نجيح بن عبد الرحمن أبو معشر وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات، ويشهد له ما قبله.

[4] - التمهيد: 23 / 29.

[5] - زاد المعاد: 3 / 125 (المكتبة العلمية)، 4 / 188 (مؤسسة الرسالة).

[6] - أحمد: 1 / 239، 243، وأبو داود (3106)، والترمذي (2083)، وقال: حسن غريب، والنسائي في اليوم والليلة (1051: 1056) والحاكم: 4 / 213، 416، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
 
) الرقية من العين
تقدم حديث جابر ، وأسماء بنت عميس ، وأم سلمة رضي الله عنهم.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال : مررت بسيل فدخلت فاغتسلت فيه ، فخرجت محمومًا ، فنما ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " مروا أبا ثابت يتعوذ " ، فقلت : يا سيدي ، والرقى صالحة ؟! قال : " لا رقية إلا في نفس ، أو حمة ، أو لدغة " ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم[SUP] ( [1] )[/SUP] .
وفي رواية عند مالك وأحمد وابن ماجة أن الذي رآه فأصابه بعينه هو عامر بن أبي ربيعة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ عليه ، وقال : " علام يقتل أحدكم أخاه ؟ هلا بَرَّكت "، وفي رواية : " إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة " ، ثم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ ؛ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، وركبتيه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه ، فراح مع الناس ، ليس به بأس . وفي رواية : " إن العين حق ، توضأ له " ، فتوضأ له[SUP] ( [2] )[/SUP] . وعند عبد الرزاق في مصنفه : قال : ثم أمره يغسل له ، فغسل وجهه ، وظاهر كفيه ، ومرفقيه ، وغسل صدره ، وداخلة إزاره ، وركبتيه ، وأطراف قدميه ، ظاهرهما في الإناء ، ثم أمر به فصب على رأسه ، وكَفَأَ الإناء من خلفه - حسبته قال : - وأمره فحسى حسوات ، فقام فراح مع الركب[SUP] ( [3] ) [/SUP].
ولمسلم والترمذي من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق ، ولو سبق شيء القدر لكانت العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا "[SUP] ( [4] ) [/SUP]. ولأبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ، ثم يغتسل منه المَعين [SUP]( [5] ) [/SUP].
وروى البيهقي بعد روايتيه لحديث سهل بن حنيف عن الزهري كيفية الغسل ، عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب الزهري قال : أن يؤتى الرجل العائن بقدح ( فيه الماء ) ، فيُدخل كفه فيه ، فيتمضمض ، ثم يمجه في القدح ، ثم يغسل وجهه في القدح ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على كفه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على كفه اليسرى ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه اليمنى ( الأيمن ) ثم يُدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه اليسرى ( الأيسر ) ، ثم يُدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى ، ثم يغسل داخلة إزاره ، ولا يُوضَع القدح بالأرض ، ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبة واحدة ؛ وروى البيهقي كيفية أخرى[SUP] ( [6] ) [/SUP].
وإذا لم يُعرف العائن ، فيرقي المصاب نفسه ، أو يرقيه غيره بما ورد في حديث ابن مسعود المتقدم : " أذهب البأس رب الناس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاءً لا يغادر سَقَما "، وعند الإمام أحمد من حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت : كنت أرقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين ، فأضع يدي على صدره ، وأقول : اللهم امسح الباس ، رب الناس ، بيدك الشفاء ، لا كاشف له إلا أنت [SUP]( [7] ) [/SUP].
أو يرقى برقية جبريل المتقدمة ، أو بهما معًا ، فإن أضاف إلى ذلك المعوذات ، ونفث على المصاب ، فإنه يرجى له العافية والشفاء بها بإذن الله الكريم .


[1] - أحمد: 3 / 486، وأبو داود (3888)، والنسائي في اليوم والليلة (1042)، والحاكم: 4 / 413 وصححه ووافقه الذهبي. قلت: هو صحيح بطرقه وشواهده.

[2] - الموطأ: 2 / 938، 939 (1، 2)، وأحمد: 3 / 486، 487، وابن ماجة (3509).

[3] - مصنف عبد الرزاق (19766).

[4] - مسلم (2188)، والترمذي (2062)، والنسائي في الكبرى (7620)، وابن حبان (6107).

[5] - أبو داود (3880) بإسناد صحيح.

[6] - البيهقي في الكبرى: 14 / 370، 371 (20171)، وذكره البغوي في شرح السنة: 12/165. ولابن القيم في زاد المعاد بحث نفيس في الحكمة من الاغتسال وصبه على المصاب بالعين، فلينظر: 4 / 171، 172 (مؤسسة الرسالة).

[7] - أحمد: 6 / 131، 280، وإسناده صحيح.
 
ومن ذلك ما جاء في إحدى روايات قصة سهل بن حنيف، عند أحمد والنسائي والحاكم عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال : خرجت أنا وسهل بن حنيف نلتمس الخَمَر ، فأصبنا غديرًا خَمِرًا ، فكان أحدنا يستحي أن يتجرد وأحد يراه ، فاستتر حتى إذا رأى أن قد فعل ، نزع جبة صوف عليه ، فأعجبني خلْقه ، فأصبته بعين ، فأخَذَتْه قعقة ، فدعوته فلم يجبني ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " قوموا بنا " ، فرفع ساقيه حتى خاض إليه الماء ، فكأني أنظر إلى وَضَح ساقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضرب صدره ، وقال : " اللهم أذهب حرها وبردها ووصبها ، قم بإذن الله " ، فقام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه شيئًا يعجبه ، فليدع بالبركة ، فإن العين حق "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وقال ابن القيم - رحمه الله : ومن الرقى التي ترد العين ، ما ذُكر عن أبي عبد الله الساجي ، أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغـزو ، على ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن ، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه ، فقيل لأبي عبد الله : احفظ ناقتك من العائن . فقال : ليس له على ناقتي سبيل . فأُخبر العائن بقوله ، فتحين غيبة أبي عبد الله ، فجاء إلى رحله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت ، فجاء أبو عبد الله ، فأخبر أن العائن قد عانها ، وهي كما ترى . فقال : دلوني عليه ، فدُلَّ ، فوقف عليه ، وقال : بسم الله ، حَبْسٌ حابِسْ ، وحَجْرٌ يابِسٌ ، وشِهابٌ قابِسٌ ، رَددتُ عينَ العائن عليه ، وعلى أحب الناس إليه ، ) فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( [ الملك : 3 ، 4 ] . فخرجت حدقتا العائن ، وقامت الناقة لا بأس بها[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قلت : وهذا من الرقى المجربة ، والتي ليس بها ما هو ممنوع شرعًا ، فلا بأس بالعمل بها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا " ، فدل ذلك على أن كل رقية لا شرك فيها ليست بممنوعة ؛ وعن جابر رضي الله عنه أن عمرو بن حزم دعي لامرأة بالمدينة لدغتها حية ليرقيها ، فأبى ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه ، فقال عمرو : يا رسول الله ! إنك تزجر عن الرقى ، فقال: " اقرأها علي " ، فقرأها عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا بأس بها ، إنما هي مواثيق ، فارق بها " رواه أحمد وابن ماجة[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له عليها يدل على ما تقدم من جواز الرقى بغير القرآن والذكر ، إذا لم يكن بها شرك .


[1] - أحمد: 3 / 447، والنسائي في اليوم والليلة (1041)، والحاكم: 4 / 215، 216، وصححه ووافقه الذهبي.

[2] - زاد المعاد: 3 / 120 (المكتبة العلمية)، 4 / 174 (مؤسسة الرسالة) تحقيق الأرناؤوط.

[3] - أحمد: 3 / 394، وابن ماجة (3515) .
 
ما يقوله العائن
وأما من خشي من ضرر عينه أن يصيب بها شيئًا ، فإذا رأى شيئًا يعجبه ، فليقل : اللهم بارك عليه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف : " هلا برَّكت " ، " إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة " ، فإن ذلك يدفع شر العين بإذن الله تعالى .
ورأى بعض أهل العلم أن مما يدفع به إصابة العين قول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، قال ابن كثير - رحمه الله : قال بعض السلف من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده ، فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ؛ وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } ( الكهف : 39 )[SUP] ( [1] ) [/SUP]. وقال ابن القيم - رحمه الله : ومما يدفع به إصابة العين قول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، روى هشام بن عروة عن أبيه ، أنه كان إذا رأى شيئًا يعجبه ، أو دخل حائطًا من حيطانه ، قال : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله[SUP] ( [2] ) [/SUP].

[1] - تفسير ابن كثير : 3 / 94 ( مكتبة طيبة ) ، والآية من سورة الكهف : 39 .

[2] - زاد المعاد : 3 / 119 ( المكتبة العلمية ) ، 4 / 170 ( مؤسسة الرسالة ) .
 
3 ) ما جاء في الرقية من الحُمَة
والحُمَة : تقدم أن معناها كل هامة ذات سم من حية أو عقرب أو نحوها .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من كل ذي حمة ، رواه أحمد والشيخان[SUP] ( [1] ) [/SUP]، وعند ابن ماجة والطحاوي : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من الحية والعقرب " ؛ وعن أنس مثله وزاد : "والنملة "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وأخرج أحمد والحاكم عن طلق بن علي t قال : لدغتني عقرب عند نبي الله صلى الله عليه وسلم فرقاني ومسحها[SUP] ( [3] ) [/SUP]. وروى مالك وعبد الرزاق عن نافع أن ابن عمر - رضي الله عنهما - اكتوى من اللقوة ، ورُقِيَ من العقرب [SUP]( [4] ) [/SUP]. واللقوة : داء يصيب الوجه .
وقد تقدم حديث أبي سعيد الخدري في رقية اللديغ بفاتحة الكتاب ، وتقدم قول شيخ الإسلام ابن القيم في سر ذلك . وتقدم حديث جابر في الرقية التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم لمن يرقي من العقرب . وعن عبد الله بن زيد t قال : عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية من الحمة ، فأذن لنا فيها وقال : " إنما هي مواثيق " ، والرقية : بسم الله شجَّةٌ قرْنِيّةٌ ، ملحةُ بحر ، قفطا . رواه الطبراني في الأوسط[SUP] ( [5] ) [/SUP]. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال : رقية العقرب : شحة قرينة ملحة بحر معطا[SUP] ( [6] ) [/SUP]. هكذا عنده ، والمدقق في الألفاظ يرى أن أحد الجملتين به تصحيف وتحريف ، ولفظ حديث عبد الله بن زيد هو الصحيح ، فقد جاء في لسان العرب ( مادة : قفط ) : وقال الليث : رقية العقرب : شَجَّةٌ قرْنِيَّةٌ ملْحَةُ بَحْرِيٍّ قَفَطي ، يقرؤها سبع مرات ، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } سبع مرات . وقَفَطنا بخير : أي كافأنا .
وروى ابن أبي شيبة ، والطبراني عن علي رضي الله عنه قال : لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو يصلي ، فلما فرغ قال : " لعن الله العقرب لا تدع مصليًا ولا غيره " ثم دعا بماء وملح ، فجعل يمسح عليه ويقرأ : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } لفظ الطبراني ؛ وعند ابن أبي شيبة : ثم دعا بملح وماء ، فجعله في إناء ، ثم جعل يصبه على إصبعه حيث لدغته ، ويمسحه ، ويعوذه بالمعوذتين[SUP] ( [7] ) [/SUP].
قال ابن القيم - رحمه الله - ما خلاصته : إن في هذا الحديث العلاج المركب من الأمرين : الطبيعي والإلهي ، ففيه التوسل بكمال التوحيد العلمي الاعتقادي بسورة الإخلاص ، وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا .
وفي الملح نفع لكثير من السموم ، لا سيما لدغة العقرب ، قال صاحب القانون : يضمد به مع بذر الكتان للسع العقرب ، وذكره غيره أيضا . ففيه من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب به السموم ويحللها ، ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج ، جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة ، والملح الذي فيه جذب وإخراج ، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله ، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج ، والله أعلم[SUP] ( [8] )[/SUP].


[1] - أحمد : ، والبخاري ( 5741 ) ، ومسلم ( 2193 ) .

[2] - ابن ماجة ( 3517 ) ، والطحاوي في معاني الآثار : 4 / 326 ، وسيأتي حديث أنس .

[3] - رواه أحمد كما في الفتح الرباني : 17 / 178 ، 179 ، ورواه الحاكم : 4 / 416 وصححه ووافقه الذهبي .

[4] - الموطأ : 2 / 944 ( 14 ) ، والمصنف ( 19774 ) .

[5] - الطبراني في الأوسط ( 8686 ) ، وقال الهيثمي في المجمع : 5 / 111 : وإسناده حسن .

[6] - مصنف ابن أبي شيبة ( 23555 ) .

[7] - مصنف ابن أبي شيبة ( 23553 ) ، والطبراني في الصغير ( 817 ) ، وحسنه الهيثمي في المجمع : 5 / 111 وصححه الألباني في تخريج المشكاة ( 4567 ) ، والصحيحة ( 548 ) .

[8] - انظر زاد المعاد : 4 / 180 : 182 ( مؤسسة الرسالة ) .
 
4 ) الرقية من النَمْلة
تقدم أن النملة قروح تخرج في الجنب وفي غيرها من الجسد ، وسميت بذلك لأن صاحبها يحس في مكان الداء كأن نملة تدب عليه وتعضه .
أخرج أحمد ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].
وروى أحمد وأبو داود عن الشفاء بنت عبد الله - رضي الله عنها - قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة ، فقال : " ألا تعلمين هذه رقية النملة ، كما علمتيها الكتابة " ؛ ورواه الحاكم عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة القرشي أن رجلا من الأنصار خرجت به نملة ، فدل على أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة ، فجاءها ، فسألها أن ترقيه فقالت : والله ما رقيت منذ أسلمت ، فذهب الأنصاري إلى رسول الله e فأخبره بالذي قالت الشفاء ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء فقال : " اعرضي علي " ، فعرضتها عليه ، فقال : " ارقيه وعلميها حفصة ، كما علمتيها الكتاب "[SUP] ( [2] ) [/SUP]. وروى الحاكم أيضا من طريق أخرى لفظ الرقية ؛ أن الشفاء قالت : يا رسول الله ! إني كنت أرقي برقى في الجاهلية فأردت أن أعرضها عليك ، فقال : " اعرضيها " ، فعرضتها عليه ، وكانت منها رقية النملة ، فقال : " ارقي بها وعلميها حفصة " باسم الله ، صلوب حين يعود من أفواهها ، ولا تضر أحدا ، اللهم اكشف البأس رب الناس . ترقي بها على عود كركم سبع مرات ، وتضعه مكانا نظيفا ، ثم تدلكه على حجر ، وتطليه على النملة . وذكر نحوه ابن القيم في ( زاد المعاد ) وعزاه للخلال[SUP] ( [3] ) [/SUP].
ومن ذلك الرقية بما أخرجه الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه ، أو كانت به قرحة ، أو جرح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا ( ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها ) : " بسم الله ، تربة أرضنا بريقة بعضنا ، ليشفى مريضنا بإذن ربنا " ، هذا لفظ مسلم . قال النووي - رحمه الله - : قال جمهور العلماء : المراد بأرضنا هنا : جملة الأرض ، وقيل : أرض المدينة خاصة لبركتها ، والريقة أقل من الريق . ومعنى الحديث : أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ، ثم يضعها على التراب ، فيعلق بها منه شيء ، فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ، ويقول هذا الكلام في حال المسح والله أعلم . ا.هـ[SUP] ( [4] )[/SUP].
وقال القرطبي - رحمه الله : فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام ، وأن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم . قال : ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية . وقال التوربشتي رحمه الله : كأن المراد بالتربة الإشارة إلى فطرة آدم ، والريقة الإشارة إلى النطفة ، كأنه تضرع بلسان الحال : إنك اخترعت الأصل الأول من التراب ، ثم أبدعته منه من ماء مهين ، فهَيِّنٌ عليك أن تشفي من هذه نشأته[SUP] ( [5] ) [/SUP]. وقال ابن القيم - رحمه الله : هذا من العلاج الميسر النافع المركب ، وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح الطرية ، لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض . وقد علم أن طبيعة التراب الخالص باردة يابسة مجففة لرطوبات القروح والجراحات التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها[SUP] ( [6] ) [/SUP].


[1] - أحمد : 3 / 118 ، 119 ، 127 ، ومسلم ( 2196 ) .

[2] - أحمد : 6 / 372 ، وأبو داود ( 3887 ) وإسناده حسن ، والحاكم : 4 / 56 ، 57 ، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .

[3] - المستدرك : 4 /57 ، 58 . وانظر زاد المعاد : 3 / 124 ( المكتبة العلمية ) .

[4] - والبخاري ( 5745 ، 5746 ) ، ومسلم ( 2194 ) ، وانظر شرح مسلم : 14/ 184 ، وزاد المعاد : 4 / 187 .

4 – قول القرطبي (صاحب المفهم ) والتوربشتي ، نقلا عن فتح الباري : 10 / 219 (الريان للتراث ) .

[6] - زاد المعاد : 4 / 186 ( مؤسسة الرسالة ) .
 
5 ) الرقية من دم لا يرقأ
روى أبو داود والحاكم عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقأ ( لا يرقأ ) " . ومعنى لا يرقأ : لا ينقطع[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفي هذه الحال يرقى بما أخرجه الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه ، أو كانت به قرحة ، أو جرح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا ( ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها ) : " بسم الله ، تربة أرضنا بريقة بعضنا ، ليشفى مريضنا بإذن ربنا " ، هذا لفظ مسلم ؛ ويمكن بغيرها من الرقى التي مرت معنا .


[1] - أبو داود ( 3889 ) ، والحاكم : 4 / 413 وصححه على شرط مسلم ، وسكت عنه الذهبي . وفيه شريك بن عبد الله القاضي ، متكلم فيه ، وبقية رجاله ثقات ، وله شاهد عند ابن عبد البر في ( التمهيد : 23 / 158 ) من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر مرفوعا : " لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم لا يرقأ ". ومجالد : فيه كلام أيضا ، لكن حديثه حسن في الشواهد .
 
6 ) الرقية من الاحتراق :
روى أحمد والنسائي في عن محمد بن حاطب رضي الله عنه قال : تناولت قِدْرا لأمي فاحترقت يدي ، فذهبت بي أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل يمسح يدي ، ولا أدري ما يقول ، أنا أصغر من ذاك ، فسألت أمي ؟ فقالت :كان يقول : " أذهب البأس رب الناس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك " هذا لفظ أحمد ، وعند بن أبي شيبة والنسائي : " لا شافي إلا أنت " . وعند أحمد من حديث محمد بن حاطب عن أمه أم جميل بنت المجلل - رضي الله عنهما - وفيه أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! هذا محمد بن حاطب ، فتفل في فيك ، ومسح رأسك ، ودعا لك ، وجعل يتفل على يدك ويقول : " أذهب الباس رب الناس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما " ، قالت : فما قمت بك من عنده حتى برأت يدك[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفي هذا الحديث أن هذه الرقية العظيمة تنفع - بإذن الله تعالى - في جميع الأوجاع ، وأن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير ، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية .


[1] - أحمد : 4 / 259 ، والنسائي في اليوم والليلة ( 1032 : 1034 ) وهو حديث صحيح .
 
7 ) الرقية من الجنون
روى ابن أبي شيبة وأحمد عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال : خرجت مـع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها ، فقالت : يا رسول الله ! إن ابني هذا به بلاء ، وأصابنا منه بلاء ، يؤخذ في اليوم لا أدري كم مرة ؟ فقال : " ناولنيه " ، فرفعته إليه ، فجعله بينه وبين واسطة الرحل ، ثم فغرَ فاه ، ثم نفث فيه ثلاثا : " بسم الله ، أنا عبد الله ، اخس ( اخسأ ) عدو الله " ، ثم ناولها إياه ، ثم قال : " القينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل ؟ " قال : فذهبنا ثم رجعنا ، فوجدناها في ذلك المكان معها ثلاث شياه ، فقال : "ما فعل صبيك ؟ " فقالت : والذي بعثك بالحق ما أحسسنا منه بشيء حتى هذه الساعة ، فاجترز هذه الغنم ، قال : " انزل فخذ منها واحدة ورد البقية " ؛ وفي رواية لأحمد : " اخرج عدو الله ، أنا رسول الله " ، وروى نحوه الدارمي في المقدمة في حديث طويل عن جابر[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال : لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف ، وجعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أصلي ، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : " ابن أبي العاص ؟ " ، قلت : نعم يا رسول الله ! قال : " ما جاء بك ؟ " قلت : يا رسول الله ! عرض لي شيء في صلواتي ، حتى ما أدري ما أصلي . قال : " ذاك شيطان ، ادنه " ، فدنوت منه ، فجلست على صدور قدمي . قال : فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي ، وقال : " اخرج عدو الله " ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : " الْحِقْ بعملك " ، فقال عثمان : فلعمري ما أحسبه خالطني بعد . رواه ابن ماجة[SUP] ( [2] ) [/SUP].
روى أحمد والترمذي عن عمير مولى آبي اللحم رضي الله عنه قال : شهدت خيبر مع سادتي فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلموه أني مملوك ، قال : فأمرني فقلدت السيف ، فإذا أنا أجره ، فأمر لي بشيء من خُرثى المتاع . وعرضت عليه رقية كنت أرقي بها المجانين ، فأمرني بطرح بعضها ، وحبس بعضها . وعند الطحاوي : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية ، كنت أرقي بها من الجنون ، فأمرني ببعضها ، ونهاني عن بعضها ، وكنت أرقي بالذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن خارجة ابن الصلت عن عمه ( علاقة بن صحار ) رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ، ثم أقبل راجعا من عنده ، فمر على قوم عندهم رجل مجنون موثق في الحديد ، فقال أهله : إنا حُدثنا أن صاحبكم هذا قد جاء بخير ، فهل عندك شيء تداويه ؟ فرقيته بفاتحة الكتاب ، فبرأ ، فأعطوني مائة شاة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : " خذها فلعمري من أكل برقية باطل ، فلقد أكلت برقية حق " ، وفي رواية : فقرأت عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام ، غدوة وعشية ، أجمع بزاقي ثم أتفل . قال : فكأنما نشط من عقال[SUP] ( [4] ) [/SUP].
فهذه أحاديث صحيحة صريحة في الرقية من الجنون وما يكون من مسِّ الجن ، وما يسببه من الصرع والبلاء ؛ والمجنون : الذي جُنَّ ، أي : أصابه فساد في العقل من أثر مسِّ الجن .
وقد كان هذا الأمر معروفًًا من القديم ، حتى كان بعض العرب لهم رقية منه ، كما تقدم من حديث عمير مولى آبي اللحم .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن ضمادًا قدم مكة ، وكان من أزد شنوءة ، وكان يرقي من هذه الريح ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدًا مجنون ، فقال : لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي ، فلقيه فقال : يا محمد ! إني أرقي من هذه الريح ، وإن الله يشفي على يدي ما شاء ، فهل لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله . أما بعد " ، قال : فقال : أعد علي كلماتك هؤلاء ؛ فأعادهن رسول الله ثلاث مرات . قال : فقال : لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء ، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغن ناعوس ( قاموس ) البحر ؛ قال : فقال هاتِ يدك أبايعك على الإسلام . قال : فبايعه .. . الحديث . رواه أحمد ومسلم[SUP] ( [5] ) [/SUP]. قال النووي : المراد بالريح هنا : الجنون ومس الجن ، وفي غير رواية مسلم ( يرقي من الأرواح ) أي الجن ، سموا بذلك لأنهم لا يبصرهم الناس فهم الروح والريح .ا.هـ[SUP] ( [6] ) [/SUP].
وفي قـول سفهاء مكة : إن محمدا مجنون ، وقول ضماد : إني أرقي من هذه الريح ، دليل واضح على أن هذا الأمر كان معروفا لديهم ، وأنه بسبب مس الجن ، وهم لسفههم وجهلهم قالوا : إن الوحي الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس الجن . قال الله تعالى : { وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } ( الحجر : 6 ) . ولما كان ضماد رضي الله عنه خبيرا بهذه الأمور ، ويعالج منها ، عرف أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ينطق به ليس من هذا الباب ، ولكنه وحيٌ حقٌ من الله تعالى ، فأسلم وبايع .


[1] - مصنف ابن أبي شيبة ( 23589 ) ، وأحمد : 4 / 170، 171، 172 ، 173 وإسناده صحيح ، والدارمي ( 17 ) عن جابر وإسناده جيد .

[2] - ابن ماجة ( 3548 ) وإسناده حسن .

[3] - أحمد : 5 / 223 ، والترمذي ( 1557 ) ، وقال : حسن صحيح ، والطحاوي في شرح معاني الآثار : 4 / 327 ، وخرثى المتاع يعني : رديئه .

[4] - أحمد : 5 / 210 ، 211 ، وأبو داود ( 3420 ، 3901 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 1040 ) وإسناده جيد ، وصححه ابن حبان ( 6110 ) ، ورواه ابن أبي شيبة ( 23586 ) عن خارجة لنفسه .

[5] - أحمد : 1 / 302 ، ومسلم ( 868 ) .

[6] - شرح مسلم : 6 / 157 ، وقال ما خلاصته : والناعوس ضبطناه بوجهين : أشهرهما بالنون والعين ، والثاني قاموس بالقاف والميم ، قال بعضهم وهو الصواب ومعناه : وسطه أو لجته .
 
أنواع الصرع
ذكر ابن القيم وغيره أن الصرع صرعان :
الأول : صرع من الجن ، ولا يكون إلا من الأرواح الخبيثة منهم ، إما باستحسان بعض الصور الإنسية منهم ، وإما من الأذية والظلم منهم ، وإما أن يكون بالسحر .
الثاني : ويكون من الأخلاط الرديئة ، وهو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .
وأما الأول فلا ينكره إلا جهلة الأطباء وسفلتهم ، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع ، وليس معهم إلا الجهل . وقد أقر به عقلاؤهم ، منهم أبقراط ذكر بعض علاج الصرع فقال : وهذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة ، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج .
وعلاج هذا النوع - كما يقول ابن القيم - يكون بأمرين :
الأول من جهة المصروع : ويكون بقوة نفسه ، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها ، والتعوذ الصحيح الذي تواطأ عليه القلب واللسان ، فإن هذا نوع محاربة ، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا ، وان يكون الساعد قويا ، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل ، فكيف إذا عُدم الأمران جميعا ؟ يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى ، ولا سلاح له .
الثاني من جهة المعالِج : بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا ، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله : اخرج منه ، أو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اخرج عدو الله ، أنا رسول الله " .
فقوى الرقية وتأثيرها بحسب الراقي وانفعال المرقي عن رقيته ، فإذا انتفى أحد الأوصاف ، فليقل ما شاء[SUP] ( [1] ) [/SUP].
كما يجب مراعاة الضوابط الشرعية في حال الرقية ، فلا يرقي الرجل امرأة إلا في وجود محرم ، فلا يخلو بها ولا يمسها ، ويأمر المصاب بتقوى الله تعالى ، والبعد عن المعاصي ، وإخلاء المكان مما يمكن أن يكون من موانع الانتفاع بالرقية ، كالصور ونحوها .

[1] - انظر زاد المعاد : 4 / 66 ، واختصره الحافظ في فتح الباري : 10 / 119 ( الريان للتراث ) .
 
بم يرقي ؟
تقدم الرقية بفاتحة الكتاب في حديث علاقة بن صحار ، وروى ابن ماجة والطبراني في ( الدعاء ) من طريق أبي جناب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أبي ليلى رضي الله عنه قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه أعرابي فقال : إن لي أخا وجعا . قال : " ما وجع أخيك " قال : به لمم . قال : " اذهب فأتني به " قال : فذهب فجاء به ، فأجلسه بين يديه ، فسمعته عَوَّذه بفاتحة الكتاب ، وأربع آيات من أول البقرة ، وآيتين من وسطها { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } ، وآية الكرسي ، وثلاث آيات من خاتمتها ، وآية من آل عمران - أحسبه قال : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } - وآية من الأعراف : { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ } الآية ، وآية من المؤمنين : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } ، وآية من الجن : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } ، وعشر آيات من أول الصافات ، وثلاث آيات من آخر الحشر ، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والمعوذتين . فقام الأعرابي قد برأ ليس به بأس[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قلت : الحديث ضعيف ، لكن الرقية المذكورة في الحديث مجربة ، وقد نفع الله بها ، وهي من الرقى الجائز العمل بها لأنها من كتاب الله تعالى .
واللمم : طرف من الجنون يلم بالإنسان ، أي يقرب منه ويعتريه .
وروى الطبراني في ( الدعاء ) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ في أذن مبتلى فأفاق ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما قرأت في أذنه ؟ " قال : قرأت : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } حتى فرغ من السورة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أن رجلا موقنًا قرأها على جبل لزال "[SUP] ( [2] ) [/SUP]. وهذه أيضا مجربة ، وحكى ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه كثيرًا ما كان يقرأها في أذن المصروع[SUP] ( [3] ) [/SUP].
قال ابن تيمية - رحمه الله : ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي ، ثم ساق حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَّله بحفظ زكاة رمضان ، وكان شيطان يأتي فيحثو من الطعام ثلاث ليال ، وفي كل مرة يمسك به ويقول لأرفعنك إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، فيشكو الحاجة والعيال ، وفي الثالثة قال له : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح . فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها قال : " أما إنه صدقك وهو كذوب ، تدري من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ ذاك شيطان " رواه البخاري[SUP] ( [4] ) [/SUP]. قال ابن تيمية : فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته ، فإن لها تأثيرا عظيما في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع ، وعن من تعينه الشياطين ، مثل أهل الظلم والغضب ، وأهل الشهوة والطرب ، وأرباب السماع المكاء والتصدية ، إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين ، وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان ، ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني ، إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين ، وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين . انتهى مختصرا[SUP] ( [5] ) [/SUP].


[1]- ابن ماجة ( 3549 ) ، والطبراني في الدعاء ( 1080 ) ، والآيتان من وسط البقرة : 163 ، 164 ، وآية آل عمران : 18 ، وآية الأعراف : 54 ، وآية المؤمنون : 117 ، وآية الجن : 3 . قلت : وفيه أبو جناب يحيى بن أبي حية ، قال في ( التقريب ) : ضعفوه لكثرة تدليسه . وبقية رجاله ثقات . ورواه أحمد : 5 / 128 ، والحاكم : 4 / 412 ، 413 ، من طريق أبي جناب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب به . وصححه الحاكم . وتعقبه الذهبي فقال : أبو جناب الكلبي ضعفه الدارقطني . والحديث منكر .

[2] - ورواه أبو يعلى ( 5045 ) ، والطبراني في الدعاء ( 1081 ) ، وابن السني في اليوم والليلة ( 631 ) ، وأبو نعيم في الحلية : 1 / 7 ، كلهم من حديث ابن لهيعة ، ورواه عنه عبد الله ابن وهب في رواية أبن أبي حاتم ، فالحديث حسن لأن عبد الله سمع منه قبل اختلاطه .

[3] - زاد المعاد : 4 / 68 ( مؤسسة الرسالة ) .

[4] - البخاري ( 510 ) .

[5] - انظر مجموع الفتاوى : 19 / 53 : 56 .
 
فائدة:
قال ابن القيم - رحمه الله: ولكن ههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل، وقوة همة الفاعل، وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون المانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فكذلك القلب إذا أخذ في الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان للراقي نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء[SUP] ([1]).[/SUP]


[1][SUP] - الجواب الكافي: ص17 (دار القلم).[/SUP]
 
التعوذات
تقدم تعريف الرقى والتعوذات، وأنهما بمعنى، وتقدم ما كان من أمر الرقى والتعوذات من الداء بعد حصوله، وأنها من أنفع الأدوية، وكذلك فإن التعوذات والأذكار تمنع من وقوع الداء، وإن وقع لم يقع مضرا وإن كان مؤذيا، فهي إما أن تمنع وقوع أسباب الداء، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة ولإزالة المرض، أما الثاني فقد تقدم بيانه، وأما الأول فإليك هذه التعوذات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بها، أو يعوِّذ بها، أو يأمر بالتعوذ بها.
ما ­جاء في التعوذ عند النوم :
روى أحمد والبخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(، و )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(، و )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده. يفعل ذلك ثلاث مرات[SUP] ([1])[/SUP] .
وروى أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول: " اللهم رب السماوات ورب الأرضين، وربنا ورب كل شيء، وفالـق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر "[SUP] ([2])[/SUP] .

[1] - أحمد: 6 / 116 ، 154 ، والبخاري ( 5018 ، 5748 ) .

[2] - أحمد: 2 / 381 ، 404 ، ومسلم ( 2713 ) .
 
ما جاء في التعوذ من الفزع والأرق
روى أحمد بإسناد صحيح عن الوليد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله ! إني أجد وحشة ؛ فقال : " إذا أخذت مضجعك فقل : أعوذ بكلمات الله التامات ، من غضبه ، وعقابه وشر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ؛ فإنه لا يضرك ، وبالحري أن لا يقربك " ( [1][SUP] ) [/SUP].
وروى مالك نحوه عن يحيى بن سعيد قال : بلغني أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أروع في منامي ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل : أعوذ بكلمات الله التامة ، من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون " ؛ قال ابن عبد البر - رحمه الله : وهذا حديث مشهور مسندًا ، وغير مسند ؛ ثم ذكره موصولا من طريق سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى ، عن محمد بن حبان ، أن خالد بن الوليد فذكره[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وعند أحمد وأبي داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع : " أعوذ بكلمات الله التامة ، من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون " ؛ قال : وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه ، ومن لم يعقل كتبه وعلقه عليه [SUP]( [3] ) [/SUP].
ومعنى : " وأن يحضرون " أي أن يصيبوني بسوء ؛ نقله ابن عبد البر عن أهل المعاني .


[1] - أحمد: 4 / 57، 6 / 6، ورواه ابن عبد البر من طريق أخرى في التمهيد: 24 / 109.

[2] - مالك في الموطأ: 2 / 950 (9)، وابن عبد البر في التمهيد: 24 / 109.

[3] - أحمد: 2 / 181، وأبو داود (3893)، والترمذي (3528) وحسنه ، والحاكم: 1 / 548 ، وصححه.
 
ما جاء في التعوذ صباحًا ومساءً
روى مالك ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة ؛ قال : " أما لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ؛ لم تضرك " ؛ وفي رواية للنسائي : " ثلاث مرات "[SUP] ( [1] )[/SUP] ؛ ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم ( صحابي ) ، وفيه : قال سهيل : فكان أبي إذا لدغ أحد منا يقول : قالها ؟ فإن قالوا : نعم ؛ قال : كأنه يرى أنها لا تضره[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وعند أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا : " من قال حين يمسي ثلاث مرات : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ؛ لم يضره حُمَةٌ تلك الليلة " ، فكان أهلنا قد تعلموها ، فكانوا يقولونها ، فلدغت جارية منهم ، فلم تجد لها وجعًا[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن خُبيب رضي الله عنه قال : خرجنا في ليلة مطيرة ، وظلمة شديدة ، نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا ؛ قال : فأدركته فقال : " قل " فلم أقل شيئًا . ثم قال : " قل " ، فلم أقل شيئًا . ثم قال : " قل " ، قلت: ما أقول ؟ قال : " قل : ) قل هو الله أحد ( والمعوذتين ، حين تمسي وتصبح ، ثلاث مرات ، تكفيك من كل شيء"[SUP] ( [4] )[/SUP] .


[1] - مالك: 2 / 951 (11)، ومسلم (2709).

[2] - أحمد: 5 / 430، وأبو داود (3898)، والنسائي في اليوم والليلة (599: 601).

[3] - أحمد: 2 / 290، وإسناده حسن، ونحوه عند النسائي في عمل اليوم والليلة (596).

[4] - أبو داود (5082)، والترمذي (3575) وصححه، والنسائي (5428، 5429).
 
ما جاء في التعوذ إذا نزل منزلاً
وروى مالك وأحمد ومسلم عن خولة بنت حكيم - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نزل منزلا ، ثم قال : أعوذ بكلمات الله التامات ، من شر ما خلق ؛ لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك "[SUP] ( [1] )[/SUP] .
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال : " يا أرض ، ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك ، وشر ما فيك ، وشر ما يدب عليك ، وأعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ، ومن والد وما ولد "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قال الخطابي - رحمه الله : " ساكن البلد " يريد به الجن الذين هم سكان الأرض ؛ والبلد من الأرض : ما كان مأوى للحيوان ، وإن لم يكن فيه بناء ومنازل ؛ ويحتمل أن يكون أراد بالوالد : إبليس ، وما ولد : الشياطين[SUP] ( [3] ) [/SUP].


[1] - مالك: 2 / 978، ومسلم (2708).

[2] - أحمد: 2 / 132، 3 / 124، أبو داود (2603)، والنسائي في اليوم والليلة (568)، والحاكم: 1 / 464، 447، 2 / 100 وقال في الموضعين: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه البغوي في شرح السنة (1349)، وحسنه الحافظ.

[3] - معالم السنن: 3 / 410 هامش المختصر، وانظر شرح السنة: 5 / 147.
 
ما جاء في التعوذ من الشياطين:
أخرج أحمد بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن خنبش التميمي رضي الله عنه أنه سئل: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين؟ فقال: إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية والشعاب، وفيهم شيطان بيده شعلة نار يريد أن يحرق بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: " يا محمد قل . قال: ما أقول ؟ قال : قل : أعوذ بكلمات الله التامات (التامة) التي لا يجاوزهنَّ برٌ ولا فاجر ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر كل طارق ، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن " فطفئت نار الشياطين وهزمهم الله عز وجل [SUP]([1])[/SUP].
وروى أحمد ومسلم عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي . فقال صلى الله عليه وسلم : " ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا " قال: ففعلت ذلك ، فأذهبه الله عني . وفي رواية : " فإذا أتاك فاخسأه " ففعلت ، فذهب عني[SUP] ([2]).[/SUP]
وخنزب : بتثليث الخاء ، ونون ساكنة ، وزاي مكسورة ومفتوحة ، والخَنْزَب: قطعة لحم منتنة ؛ وفي الحديث دليل على أن للصلاة شيطانًا مخصوصًا يقال له : خنزب ، يلبس على الإنسان قراءته ، ويوسوس له في صلاته ، ويحول بينه وبينها ، فينكده فيها ، ويمنعه لذتها والتفرغ للخشوع فيها[SUP] ([3]) .[/SUP]
ولدفع هذا الشيطان إذا أحسسه الإنسان ، أن يتعوذ بالله تعالى منه ، ويتفل عن يساره ثلاثا . قال عثمان : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني . فإذا فعل أحد ذلك واسترسل معه الشيطان ، فالخلل في تعوذه ، فعليه أن يعاود التعوذ مع صدق التوجه واستحضار القلب .
قال الطحاوي - رحمه الله : سلطان الشيطان على بني آدم هو وسوسته إياهم ، وإيقاعه في قلوبهم ما لا يحبون ، وإنساؤه إياهم ما يذكرون . فلما كان من تشكي عثمان إليه عليه السلام من الشيطان ، ما شكاه إليه منه ، مما هو موهوم منه أن يفعله به ؛ لأنه من سلطانه على بني آدم ، أمره أن يخسأه ، وهو الإبعاد .ا.هـ[SUP] ([4]) .[/SUP] قلت: ومعنى الإبعاد هنا أن يستعيذ بالله تعالى ليبعده عنه ، ويتفل عن يساره ثلاثا ، كما في الروايات الأخرى ، والعلم عند الله تعالى.


[1][SUP] - أحمد: 3 / 419. وقال المنذري في الترغيب: رواه أحمد وأبو يعلى ولكل منهما إسناد جيد محتج به. ا.هـ.[/SUP]

[2][SUP] - أحمد: 4 / 216، ومسلم (2203).[/SUP]

[3][SUP] - انظر النهاية في غريب الحديث: 2 / 83، ولسان العرب مادة (خنزب)، وشرح مسلم: 14 / 190. [/SUP]

[4][SUP] - شرح مشكل الآثار: 1 / 345.[/SUP]
 
خاتمة المبحث
ههنا أمور لابد من إثباتها:
1- فمع أن الرقى والتعوذات هي أنجع الأدوية وأفضلها، إلا أنه لا يعني ذلك ترك التداوي بالأدوية الطبيعية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء " رواه البخاري وابن ماجة عن أبي هريرة[SUP] ( [1] ) [/SUP]. وروى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالت الأعراب : يا رسول الله ! ألا نتداوى؟ قال: " نعم ! يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء (أو قال دواء) إلا داء واحدا: الهرم "، زاد أحمد في بعض رواياته : " إلا الموت والهرم "[SUP] ( [2] )[/SUP] . وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا : " إن الله عز وجل حيث خلق الداء خلق الدواء ، فتداووا " وله شاهد عند أبي داود من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ : " إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ، ولا تداووا بحرام "[SUP] ( [3] )[/SUP] . ولأحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء " ، وعند أحمد : " إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله "[SUP] ( [4] ) [/SUP]. وروى أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله تعالى "[SUP] ( [5] )[/SUP] .
فهذه نصوص صحيحة صريحة في جواز التداوي بالأدوية الطبيعية ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه العسل للتداوي من استطلاق البطن ، وحديثه مشهور ، وقال صلى الله عليه وسلم : " الحبة السوداء شفاء من كل داء ، إلا السام ، والسام الموت " ، رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة[SUP] ([6])[/SUP] ، ورواه أحمد والبخاري وابن ماجة عن عائشة[SUP] ( [7] ) [/SUP]، والحبة السوداء هي : الشونيز ، وهي التي تسمى في الديار المصرية بحبة البركة .
واحتجم صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالحجامة ، وفي الباب كثير من الأدلة .
وبالجملة ؛ فالتداوي مباح ، وخير ما يتداوى به الرقى والتعوذات ، مع صدق اللجوء إلى الله تعالى ، فهو سبحانه الشافي وحده ، لا شفاء إلا شفاؤه ، ومن تداوى فعليه أن يعتقد يقينًا ويؤمن حقًّا بأن الدواء لا يحدث شفاء بذاته ، ولا يولده ، ولكن الباري جل وعلا يخلق الموجودات واحدًا عقيب الآخر ، على ترتيب هو أعلم بحكمته ، والله هو خلق الأول ، وهو خلق الثاني .


[1] - البخاري (5678)، وابن ماجة (3439).

[2] - أحمد: 4/ 278، وأبو داود (3855)، والترمـذي (2038)، وقال حسن صحيح، وابن ماجة (3436).

[3] - أحمد: 3 / 156، من حديث أنس؛ وأبو داود (3874) من حديث أبي الدرداء.

[4] - أحمد: 1/ 377، 413، 443، 446، 453، وابن ماجة (3438)، وهو حديث حسن.

[5] - أحمد: 3 / 335، ومسلم (2204).

[6] - أحمد: 2 / 241، 261، 423، 504، والبخاري (5688)، ومسلم (2215، والترمـذي (2041)، وابن ماجة (3447).

[7] - أحمد: 6 / 138، 146، والبخاري (5687)، وابن ماجة (3449).
 
2 - أن هذه التعوذات التي ذكرناها هي من قدر الله ، التي يدفع بها قدره من الأدواء والبلاء ، كما سبق بيانه في التعليق على حديث : ".. ولا يسترقون … " . فالمتعوذ إنما يدفع قدر الله بقدر الله.
 
3 - أن الدواء الإلهي من الرقى والتعوذات قد يحتاج إلى تكرار مع صدق التوجه، وقد يتفضل الله على بعض عباده بسرعة شفاء، وقد يؤخر شفاء عبد من عباده إما لتكفير خطايا، وإما لرفع درجات، فشأن العبد أن يظهر فقره واحتياجه ويصدق في توجهه، سواء تعجل الشفاء أو تأجل. والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين لصدق التوجه واليقين.
هذا آخر ما تم تسطيره في هذا الموضوع المهم، وأسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعله في ميزان حسناتي { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وآله.
 
عودة
أعلى