فقه التفسير: لماذا؟

إنضم
18/12/2011
المشاركات
1,302
مستوى التفاعل
1
النقاط
38
الإقامة
أنتويرب

أصول الفقه وفقه التفسير
الباعث وراء تقنين أسس ومرتكزات أي علم هو تحصين المادة المعرفية التي يشتغل بها وعليها هذا العلم.
وهذا الباعث مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية عبارة عن إشكالات وعوائق، وعليه فإن:
أي تغيير في الإشكاليات والعوائق يستدعي تغييرا في البواعث، وبالتالي ضرورة التجديد في أسس العلم ومرتكزاته.
أو على الأقل في مناهج وأدوات الأسس حسب نوع المتغير وطبيعته.

لقد جرت عادة كثير من أهل الإصلاح أن يشيروا إلى الحديث الشريف:
( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )
لكن من منهم إستشكل واقع حركية هذا التحريف، والإنتحال، والتأويل ؟

كما جرت عادة كثير من أهل التفسير أن يؤصلوا ضدّ على:
التفسير بالرأي، والتفسير بالمذهب، والتفسير بالإشارة.
لكن من منهم إستشكل تطور العقل، والتقليد، والغنوص؟

التفسير وفقه التفسير
لا أحد ينكر أهمية العلوم الشرعية الأخرى في التفسير، إضافة إلى اللغة.
ولاشك أيضا أن توظيف هذه العلوم يؤدي إلى تشكيل صورة عامة عن الآية القرآنية، إذ نجد تفسيرات:
جمعت ما روي في أبواب الحديث، وأخرى إستكثرت من علم اللغة وذكر المسائل الفقهية والإعتقادية، كما شملت أخرى ردودا ومناقشات ..إلخ.
وهذا تنوع أدى كما هو معلوم إلى تصنيف موضوعات مستقلة مستخلصة من تلك التفاسير.
لكن الإستشكال في المعطى: لماذا إحتفظ التفسير بالتقليد رغم العلاقات بين العلوم فيه؟
ولماذا حافظ التفسير على هيأته التقليدية المتمثلة في التفسير التحليلي والتفسير المقارن؟
لماذا لم تتطور هذه الهيأة لتشمل التفسير الإجمالي و الموضوعي؟

المفسرون وفقه التفسير
من المعلوم أن المفسرين سلف، ومتقدمين ومتأخرين.
السلف يروي، والمتقدمون يجمعون ويصنفون، ثم متأخرون يحللون ويقيمون شبكة العلاقات المعرفية.
إستشكال ما قدمه المتقدمون من شأن المتحدثين والمحققين.
أما إستشكال أعمال المتأخرين فقد إنحصر تقريبا في:
المقارنة، وإستخراج علاقات الذات بالموضوع (تأثير الإنتماء المذهبي والفكري في التفسير)، والإلتزام بالأصول.
أما غيرها من القراءات الوصفية كدراسة المناهج، والظرف والمظروف، وتوظيف المعارف .. فلاشأن لها بالإستشكال.

المهم لماذا لم تستشكل مسألة الإلتزام بالأسس والقواعد:
هل يوظف المفسر أدوات ومناهج الأسس والمرتكزات أم يخضع لها فيصير مسجونا لها؟
وما أثر خلفية المفسر ورؤيته التكاملية (دينية، كونية، إجتماعية، تاريخية ..) في توظيف المناهج والقواعد؟
(كالتقديم والتأخير) : تقديم المضمون المعرفي في السنة على الإرشاد المنهجي فيها، مثلا.

وإن بعض أدوات المفسر في تحليله تكون غير ظاهرة يعني مخفية فهو يستحضرها معه ومع ذلك لا يخصص لها موضوعا معينا.
مثال: تفسير ((صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)).
ستجد من المفسرين من يوظف التفسير بالسنة، وفي نفس الوقت يستحضر تصور مجمل لأهل الضلال ومن يحق عليهم غضب الله.
نتيجة هذا الإستحضار المخفي يؤدي بالمفسر للإنتقال من تفسير القرآن إلى تفسير السنة، فتفسير التأويل (= التعيين) هو:
المغضوب عليهم: اليهود، و الضالين: النصارى. لكن أليس كل المشركين مغضوب عليهم وضالين؟
وهنا سيحلل ويعلل والخلاصة تأويل للتأويل.

ما السبيل إلى إكتشاف مثل هذه القواعد "المخفية" ولماذا يقيد المفسر نفسه بها؟
لاشك أن المصدر الرئيسي للتصور ذاك هو القرآن نفسه، لكن لماذا لا يوسع المفسر في تطبيق القاعدة الأولى (تفسير القرآن بالقرآن)؟
من المعلوم أن السنة بإعتبارها الأصل الثاني: معرفة ومناهج، وقد تجتمع المعرفة والمنهج في مادة واحدة مثل:
تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم الآية ((الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) بالآية ((يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)).
إذا كانت السنة تقيّده فإن الذي إستحضره تفسير للقرآن بالقرآن، ثم والسنة تقدم له المنهج الذي به يستحضر السؤال الذي طرحه.

ومن المفسرين من يوظف التفسير بالقرآن والتفسير بالسنة جزئيا.
مثال: يفسر ((الذين أنعمت عليهم)) بالآية ((فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)).
ولا يفسر ((المغضوب عليهم)) بآيات قرآنية:
((ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما))
((قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب))
((ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير))
((ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا))

والإمام الطبري رحمه الله يفسر ((المغضوب عليهم)) بالقرآن:
((قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير))
وأتبع هذا التفسبر بقوله: ( فإن قيل: وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت قيل ..)
فوظف الأصل الثاني أي تفسير القرآن بالسنة.
والسؤال الآن في المعطى: هل قدّم الأصل الأول أم الثاني؟ وهل يقيد الأول بالثاني؟
وهل يبدأ بذكر الحديث أم الآية أمر لايهم لأن السؤال لا يختلف.
فالثعلبي مثلا يفسر بالسنة، ولم يفسر بالقرآن إلا ليصدق الحديث.
ومع ذلك السؤال هو هو..

قد يقول قائل أن السؤال لا معنى له لأن السنة مبينة للقرآن، وهذا صحيح.
هذه الحقيقة لم تمنع أهل الصنعة في أصول التفسير من التمييز.
إلا أن السؤال عندما يطرح على مستوى "فقه التفسير" يأخذ أبعادا أخرى ومعاني أشمل لمحاولة فهم حركة وحرية المفسر في توظيف القواعد.
هذا معناه أن فقه التفسير لا يقدم "مادة معرفية" جديدة، مثله مثل أصول التفسير، لأن إنتاج المعرفة التفسيرية من تخصص التفسير.

ولنأخذ الآن مثلا الربط بين الآية كآلية من آليات التفسير التحليلي.
من المفسرين من فسّر ((أنعمت عليهم)) بالآية ((يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)).
هل يفسر هنا بالقرآن أم يتحرك داخل الآية بإعمال الربط لأن اليهود من بني إسرائيل أيضا؟
كما تجده يذكر الأثر "المنعم عليهم أصحابُ موسى قبل أن يبدلوا".
هل يفسر بالمأثور أم يقيد نفسه بهذه الآلية؟

تلك مجرد أمثلة، و "فقه التفسير" نحتاج إليه للإطلالة على الأصول، والتفسير، والمفسرين من الخارج.
 
كتبت الخاطرة ولم أعبّر فيها عن كل أفكاري لأنها كثيرة جدا وترتبط جل عناصرها بعوامل متنوعة، لذلك هي عندي تشكل ما يسمى بالإشكالية، وليس بسبب التعقيد من الدرجة الأولى، لكن لأنه قد ألتبس علي الربط بين هذه الأفكار واختلط علي العلاقات التي تنسجها، فرأيت أن ألحق الخاطرة بفكرة أخرى قد تساعد في تنظيم معالمها للوصول إلى نافذة مفتوحة للمناقشة فبالمناقشة وحدها، ومن خلال الإستفزاز المعرفي ومحاولة إكتشاف ما لم أصرّح به والإعتراض والإستفهام، يمكن لنا إكتساب المعرفة الواضحة حول مدى الحاجة إلى فقه التفسير، إلى فن جديد يطل على أصول التفسير، والتفسير وأهله من الخارج.

لابد من التأكيد ومن جديد أن ما أفكر فيه - فقه التفسير - لإكتشاف (العقل التفسيري) فن لا علاقة له بصناعة المضامين المعرفية، وأن التجديد في هذا السياق أمر يتجاوز التجديد في التفسير كمضامين منهجية - تأصيلية ومعرفية إلى التجديد في مسألة جديدة مبتدعة على غير مثال سابق. عندما ننظر إلى القصة القرآنية في العهد النبوي من حيث هي (حدث تاريخي) مضى بالنسبة لهم وبالنسبة لنا جميعا، فكيف تعامل معها الناس يومئذ؟ لاشك أن القصة نزلت في ظرف معين من ظروف تنزل القرآن، ويصعب القول أن تخصيص هذا الظرف ليس لهدف أي ليس لحكمة، لأن من يقول أنها للعبرة والدرس فقط يحتمل قوله أن لا فرق بين نزولها في هذه اللحظة أو تلك من لحظات الخط الزمني لتنزّل القرآن، وعليه فإن المرجوح هو التعامل مع القصة كحدث تاريخي وكحدث قرآني وأيضا كحدث إرشادي بياني دعوي وعظي إن شئت. لنأخذ الآن الآية ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)) نرى أن الآية تشير إلى حدث حاضر بالنسبة للعرب خلال تنزّل القرآن لكن هذا الحدث التاريخي (= السؤال عن الأهلة) قد مضى بالنسبة لنا نحن اليوم، ولا سبيل إذن إلا التعامل مع هذه الآية كما تعامل الجيل الأول مع الأحداث التاريخية التي مضت (= القصة القرآنية). هذا الجواب القرآني ربطه أحد الباحثين المعاصرين بالعقل الإسلامي على إعتبار أن لا فصل في هذا العقل بين النظري والعملي أو بين العلمي والعملي، وهذا الطرح معناه إستمرارية ربط آي القرآن بالحاضر حتى في التعامل مع ما يعالج الماضي، الحاضر هنا إختلافات في التنظير لمنظومة الأخلاق. ما يهمنى الآن هو السؤال: إلى أي مدى تعامل المفسرون مع الآيات القرآنية معاملة إستمرارية: تنزيل القرآن في الواقع أو ربطه بالواقع مادامت الآيات متعددة الأبعاد؟ سؤال يعالجه الباحث في إطار علم التفسير وكذا في إطار دراسة المفسرين. ما يهم فقه التفسير سؤال آخر هو: ما هي العوامل الفعلية الذهنية والعوامل المنهجية التي تحول بين التفسير/المفسر و ((الإستمرارية)) ؟ هذا سؤال ينقلنا إلى سؤال آخر سأذكره بعد الإشارة إلى ما يسمى "معضلة المنهج والمصطلح".

مبدع، مؤسسة البحوث والدراسات العلمية، مؤسسة علمية خاصة أخذت على عاتقها التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه الأمة المعضلات الثلاثة: معضلة النص، ومعضلة المنهج، ومعضلة المصطلح. ما هي هذه المعضلات؟ الجواب هنا: http://www.mobdii.com/p/index.php?p=main&id=28

ما يهمني أنا هو الإنطلاق من المنهج والمصطلح كمعضلة ربما شكلت عائقا من العوائق التي ترسخّت في التراث، فكانت عاملا من العوامل المؤثرة في الإنحطاط، أو على الأقل في تكريس التقليد. والتقليد عندي يشمل أيضا الجديد الذي لا يخرج عن إطار المضمون المعرفي والمنهجي في القديم. لنفترض مفسر من المفسرين يقول مثلا ".. وليس كما قال المفسرون: كذا ..". هل هذا المفسر مجدد أم مقلد؟ جواب هذا السؤال من تخصص الباحثين في أهل التفسير: في مناهجهم. الذي يهم في دراسة (العقل التفسيري) هو هل يتحرك في نفس الحقل وبنفس الجهاز (= نفس المفاهيم والمصطلحات والأدوات) ؟ وأهمية السؤال في محاولات للكشف عن الأجزاء الذهنية اللاشعورية في العقل التفسيري، وهذا إستشكال النظر فيه وحله قد يفيد الباحث في التفسير ودراسة المفسرين، وقد تتيح له إمكانيات جديدة لإكتشاف القواعد التي يوظفها المفسر دون التنصيص عليها. أما الباحث في الفقه فهمه الرئيس هو الوعي والفهم لا الصناعة.
 
عودة
أعلى