عصام المجريسي
New member
- إنضم
- 09/09/2009
- المشاركات
- 363
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
فضل العربية على غيرها
( دراسة وصفية )
( دراسة وصفية )
هذا موضوع تفرّع من محاورة عن فائدة تعلم العربية لساناً للحياة قائمة بحاجة البيان .
ونُشر بعد تنقيح على حلقات في " مجلة الرقيم " .
وفي البدء أقول : إن من أدقّ مآخذ العلوم هو النظر في الفروق ، وإن من أصعب الفروق هي الفروق اللغوية ، فقد يتسر للباحث أمر فروق اللغة الواحدة التي تتجلى في اللهجات وطرائق الأداء ، على تعقده وتشعبه ، ولكن أمر الفروق بين اللغات أمر لا يقاس بصعوبته الفروق اللهجية ، وذلك لاختلاف الأمكنة والأزمنة والألسنة وطرق البحث عنها وفيها ووفرة المأثور من مادتها اختلافاً أبعد مما يكون بين لهجات اللغة الواحدة .
وقد يرى بعض الناس أن الألسنة سَواسية، لا فرق بين عربي منها وأعجمي، وأن الأيام بينها دول، وأنها بين إقبال وإدبار، وبلوغ ذروة واندثار، وأن لكل زمان لساناً، أو لكل لسان زماناً، وأن لسان العربية قد أفل نجمه، وبزغ نجم " الألسنة العصرية ! " : الإنجليزية والفرنسية والصينية؛ فتلك عنده هي ألسنة العلوم والمخترعات.
وقد ذكر الله تعالى اختلاف ألسنة العالمين في معرض الامتنان فقال : ( واختلاف ألسنتكم ) الروم 22، ومن طبائع الاختلاف التفاضل، فلا اختلاف مع تماثل، ومن طبائع التفاضل أن يكون هناك فاضل نعرف له فضله الذي قدّمه، وبعده مفضول لا ينقص من فضله ولا يبخس ، لكن مفضوليته لا تلغي أفضلية غيره .
وإظهار فضل العربية على غيرها يكون ببيان قدرها الزائد إن كان وشرح مذهبها وكشف أوجه اقتدارها على الإبانة الإنسانية عن المراد... وليس بإنشاء كلام بعيد عن واقع الأمر .
فهل نستطيع أن نثبت مزية للعربية في ذلك على غيرها من الألسنة؟، وهل في قوانين اللسان العربي ما يظهر مزيته على غيره إذا ما قُرن النظير بنظيره ؟ .ليكون في ذلك إشعار بأفضلية، لا تخطر ببال من يحقر ما هو عظيم في نفسه.
قد يكابر من يكابر إذا عرضت عليه الأدلة النقلية في فضل العربية على غيرها، ويرى أن هذا التفضيل ما هو إلا تحكّم لا دليل معتبر عليه، وأنه نابع من هوى الإنسان وراء أشيائه ، وصادر من إعجابه بأمره وتعصبه لهويّته، وأن كل متكلم قادر على أن يقيم من الأدلة على قوة منطقه وبراعة كلامه وصلابة قناته ما قد يفوق به بلاغة كل بليغ ويكسر به يراعة كل كاتب؛ ومن ذا الذي لا يحب لغته ويفضلها ويناضل عنها؟، ومن ذا الذي يرضى الطعن في أخص خصائص هُوِيّته وقوميته؟ .
إن تلك المكابرة تدفع إلى تعزيز النقل الصحيح بمقتضى حكم العقل الصريح والنظر الفسيح ، وتأييد النقل بالعقل أو هذا بذاك مذهب شريف ومبدأ نبيل ومأخذ مفيد، ولا سيما مع توافر أسباب النظر والموازنة والتفضيل.
ومن أجل ذلك كان هذا البحث في أوجه تفضيل هذا اللسان العربي على غيره ، بحثاً مؤيداً بأدلة مأخوذة من اللسان العربي نفسه، مقيسة بنظائرها في الألسنة الأخرى..
وقسمتُ الكلام عليه إلى أربعة أنحاء (ويسميها بعضهم : مستويات)، ودرست كلّ نحو منها على جهة مستقلة ، وهذه الأنحاء الأربعة هي :
(1) نحو الصوت. (2) نحو الكلمة . (3) نحو الجملة . (4) نحو الكلام .
والأنحاء الثلاثة الأولى منها لا تتطابق في كل الألسنة بالاتفاق،إلا في شيء دون شيء، ومن أجل اختلافها كانت الترجمة بين الألسنة ، أما النحو الرابع : نحو المعنى ، فهو الغاية والمقصد ؟ .
والنحْويّ الحقّ (هنا في هذا البحث) هو الذي فَقِه هذه الأنحاء الأربعة معاً، ونحا فيها نحواً قاصداً وبلغ فيها مبلغاً راشداً، ولم يكتف منها ببعض دون بعض، فكأنه، وهو يستقرئ قوانين اللسان، لا تغيب عنه صورة "العربيّ" في جزيرته، وهو يبلغ من سامعه كل مبلغ. وهو نظير اللساني في الدراسات الحديثة . واللغوي هو الناقل لكلام العرب المتضمن لهذه الأنحاء ضرورة . وتخصيص لقب النحويّ بالناظر في " نحو الجملة " و" نحو الكلمة " تخصيص اصطلاحي متأخر .ألا ترى أن كتاب سيبويه لم يخل من تلك الأنحاء جميعاً ؟. وقول الإمام عليّ : "انحُ هذا النحو "..شاهد على أن ذلك المسلك من البحث المتخصص إنما كان على ذلك النحو حين دعت إليه الحاجة في ذلك الحين . وذلك المسلك لا ينفي بقية الأنحاء ، التي توالى ظهورها مع التاريخ اللساني العربي المواكب لحاجة الناطقين؛ ولا مشاحة في اصطلاحات هذه العلوم التي استقرت أعلاماً بالغلبة على مسمياتها .
وعرض أصول العلوم العربية مرتبة ترتيباً متوافقاً مع الحكمة البيانية لدى العرب= كافٍ في بيان المزية، حتى يأتي من يعارض أو من يساند ، وفي كل خير .
والمقارنة أو الموازنة التي تراها هنا ممكنة غير مستحيلة ، بين الألسنة التي لها قواعد مستنبطة ومدوّنة ، فلكل لسان منها أصوات وتصاريف وتراكيب ومعان .. وهي متوفرة طوع أيدي الباحثين .. " ملقاة في الطريق "!؛ على حد قول للجاحظ، رحمه الله ، قالها في مقام غير هذا المقام ..
ولا أظن أننا بحاجة إلى الإحاطة بكل الألسنة وبكل مهاراتها وبكل اقتدار في النطق والكتابة ؛ إذن فليرزقنا الله تعالى برؤيا نرى فيها النبيء سليمان عليه السلام ! ! .
وقطب الرحى في هذه المدارسة هي العربية التي هي المقصودة بالبيان؛ عَرْضاً للأصول من الكتب الجامعة لعلومها ، ورؤوس المسائل ، وأما بقية الألسنة ففي المقارنة أو الموازنة .
وقد اخترت ، للمقارنة ، من نحو الصوت : عدد الحروف ( الأصوات ).
ومن نحو الكلمة : أقسام الكلمة .
ومن نحو الجملة : الإسناد .
ومن نحو المعنى : معنى الإسناد .
والبداية بنحو الصوت:
أولاً : نحو الصوت :
اللسان هو الجزء الظاهر من آلة التصويت الإنسانية التي هي ترجمان المعاني الذهنية ، واللغة الناشئة عنه أيّةً كانت هي أصوات تعبيرية ... وقد نسبت إليه اللغة لأن أكثر أصواتها يخرج منه . والأصوات هي أصغر مكونات اللغات .. وتسمى في الدراسات الحديثة : وحدات .
وإن شئت التقريب فالأصوات هي المواد الخام التي انبنت بها اللغة ، وهي التي يكوّن بها اللسان الكلمات .
ولسان الإنسان يختلف اختلافاً بيناً عن ألسنة الحيوان الأخرى ، التي لا تكاد تزيد عن نطق الحرف والحرفين ( في مقاطع ساذجة )، ولا مدخل للسان في إخراجها ، وإنما هي أصوات خارجة من "الجوف" فإذا هي : نباح أو عُواء أو مواء أو نهيق أو صهيل أو سجع أو زقزقة أو صفير أو هدهدة ونحوه .
ومهما علت أصواتها فهي في نظر العربيّ عجماوات لا تفصح ولا تبين عما في أنفسها للناس ، وإن كانت تتعايش بذلك فيما بينها .
حتى إذا أتيت على ألسنة الأناسي وجدتها تزيد عن ذلك العدد من الأصوات، وتتفاضل فيما بينها في تلك الأعداد وتختلف في توزيع المخارج وأنواع الصفات والوظائف التعبيرية والجمالية .
الحيوانات متعلمة بالإلهام الغريزي (وأوحى ربك إلى النحل)، فلا تحتاج أن تتعلم لغاتها في أصوات وصرف ونحو وبلاغة !!!، إنما هي أصوات فقط وحركات .
أما الإنسان فهو عالم بالتعلم ، لأنه مكلف بالإرادة ، محتاج إلى تعلم اللغة والشرع والخلق والعمل والإبداع والسباحة والرماية وركوب الخيل .. وعلّم الله آدم ما علمه من أصول البيان .. فتعلّمه ونجح في الامتحان البيان (أنبأهم بأسمائهم).
وسندرس هذه الوحدات الصوتية في العربية ، وستكون هذه الدراسة من أوثق كتب هذا الفن ؛ كتاب إمام النحويين سيبويه ، عليه رحمة الله .
قال سيبويه في الكتاب 4/431، و432 [ط هارون]:
" هذا باب عدد الحروف العربية ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها .
فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفاً :
الهمزة والألف والهاء والعين والحاء والغين والخاء والكاف والقاف والضاد والجيم والشين والياء واللام والراء والنون والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والثاء والفاء والباء والميم والواو.
وتكون خمسةً وثلاثين حرفاً، بحروفٍ هن فروعٌ، وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرةٌ يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار؛ وهي النون الخفيفة، والهمزة التي بين بين، والألف التي تمال إمالةً شديدة، والشين التي كالجيم، والصاد التي تكون كالزاي، وألف التفخيم يعنى بلغة أهل الحجاز في قولهم الصلاة والزكاة والحياة .
وتكون اثنين وأربعين حرفاً، بحروف غير مستحسنةٍ ولا كثيرة، في لغة من ترتضي عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر؛ وهي الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين، والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين، والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء.
وهذه الحروف التي تممتها اثنين وأربعين، جيدها ورديئها، أصلها التسعة والعشرون، لا تتبين إلا بالمشافهة ... ". انتهى .
ترتيب سيبويه للأصوات ترتيب صوتي "على مذاقها وتصعدها"؛ كما هو مبيّن في (سر صناعة الإعراب لابن جني)، وهو أدق من ترتيب من سبقه (على أي أساس نسَقي رُتبت أحرف العجم: A B C D E F …..) ؟ .أظن أنه لا أساس له إلا أنه مأثور .
هذه هي الحروف التي يخرجها اللسان العربي ، إخراجاً مجرداً من هيئة ذلك الإخراج ، أي الأصوات في حالة سكونها واستقرارها .
وهيئة إخراجه هي تلبسه بحركة تلازمه حالة النطق، وهي الحركات المعروفة : الضم للشفتين والفتح والكسر ، ما عدا الألف ؛ لأنه ساكن أبداً لا يقبل الحركات .
وقد رأيت أن سيبويه نقل عن العرب تنوعاً في نطقها بين فصيح (29) ومستحسن (6) ومستهجن (8)، حتى بلغت اثنين وأربعين حرفاً ، ترتدّ كلها إلى الأصول التسعة والعشرين الفصيحة ( المنتخبة ).
وفي الكتاب وغيره من كتب اللغة والقراءة وصف لتلك المخارج وصفاتها وإدغامها وسائر أحكامها ، فلا نطيل بذكرها .
فتحصل للسان العربي تسعة وعشرون حرفاً متوزعة على جهاز التصويت الإنسانيّ من الجوف إلى الحلق فاللسان والشفتين والخيشوم .منها حرف مدّيّ هو الألف ، وله أخوان مدّيّان ؛ الواو والياء . وهذه الأحرف المدية تسمّى : الحركات الطويلة ؛ فهي ثلاث حركات .
فإذا قصرت هذه الأحرف المدية الثلاثة كانت هي الحركات القصيرة أو أبعاض حروف المد واللين (كما في سر الصناعة)؛ أيْ : الضمة والفتحة والكسرة ، وقد تسمى الضمةُ واواً صغيرة ، والفتحة ألفاً صغيرة ، والكسرة ياء صغيرة .
وعدد هذه الحركات ؛ الطويلة والقصيرة = ستة ، وهي صالحة لأن تتعاقب على الحروف الأصول الثمانية والعشرين ( بعد أن أدخلنا الألف المدية في الحركات الطويلة ).
فتحصل أن مع الحروف الثمانية والعشرين ( وهي الساكنة في الأصل ) ستّ حركات ؛ أي لكل حرف صحيح من الثمانية والعشرين سبع أحوال مقطعية بسيطة .
وتصوير هذا حساباً يكون كالآتي :
( 28 حرفاً ) × ( 7 مقاطع بسيطة ) = 196 ( صوت ) = مجموع أصوات العربية .
أو قل : مجموع المواد التي تستطيع أن تؤلف بها الكلمات = 196 .
وتمثيل تلك الأحوال في حرف الباء من الحروف الثمانية والعشرين = ما يأتي :
ابْ ، بَـ ، بِـ ، بُـ ، بَا ، بي ، بُو .
موازنة :
اختفت من الانجليزية هذه الأصوات: الحاء والخاء والضاد والظاء والطاء والعين والغين .
وتفرع عن الفاء (أو انشطرت إلى) ثلاثة أشكال (أشطار)، فعبروا عنه بـ(F V PH) ، والجيم (G J) واختلط فيها السين والصاد (C S)، وضعفت فيها الراء R، واختلطت الحروف ( الساكنة : الصامتة بالحركات (المتحركة : الصائتة ). وكانت الفروقُ بينها إما في الحركة والسكون كـ C و S أو الصفات كـ V وF، أو قلة الرموز كـ TH وSH، أو اختلاط الأصوات في الحرف الواحد كـ X ، الذي نعبر عنه بحرفين : اكس ، رغم أن هناك Q و S .
وعلى ذلك فحروف الانجليزية تكافئ نصف الحروف الفصيحة في العربية أو ثلث الحروف المستهجنة منها .
هذا وصف لهذه الأصوات في حال مقاطعها البسيطة، يظهر مبلغ فقر الإنجليزية الصوتي أمام غنى العربية.
ومثل الانجليزية في فقرها الصوتي الفرنسية ، وقد حلّ فيها الغين محل الراء، ولا ينطق فيها حرف الهاء (H) ، فيقولون : أوتيل في (هوتيل) : فندق ، وينطقون السين أحياناً زاياً ، ولا ينطقون الحروف الصحاح ( السواكن ) إذا وقعت في الأواخر ؛ اقتصاداً ، ويُخرجون مُجاوِرات الميم والنون من الخيشوم ! .
وتتكون الصينية ( (Hanzi) : هانْ زِي = الأحرف الصينية) من أكثر من أربعة وأربعين ألف حرف ( 44444 ) ، هي في الحقيقة مقاطع تعبيرية ، وكلّ مقطع منها كلمة ذات معنى .
وبقرار من ( ماو سي تونغ ؛ وكان معلماً للغة الصينية ) اختصرت إلى الربع من ذلك ، فصارت عشرة آلاف حرف؛ أي (10000) كلمة أو مقطع ، ولمحو الأمية يحتاج الطالب إلى تعلم أربعة آلاف حرف ( 4000 )، وقريب من نظامها المقطعي الجامد هذا: اليابانية والكورية والفيتنامية ..
ومعنى أنها مقاطع أنّها تتكون في أصغر وحداتها الصوتية من المقطع، ولا أصغر منه، ولا ينظر فيها إلى الحروف البسائط كما ننظرُ ، إلا من جهة أنها خادمة للمقطع ولبنة من لبناته .هي تنشئ الكلمات على غير نظام تصريفي ولا اشتقاقي ؛ أو قل : نحو الصوت فيها مختلط بنحو الكلمة .وتتبّعُ أصواتها المكوّنة لمقاطعها يُظهر نقصان أصوات كثيرة منها؛ تزيد على عشرة.
واختفى من العبرية ( القديمة بله الحديثة الممسوخة!): الثاء والذال والضاد والظاء والواو .ويهتمون فيها بضبط السكون حتى إن عندهم سكوناً متحركاً (لعلهم يقصدون الحرف المقلْقل) ! .
واختفى من الفارسية : الثاء والحاء والصاد والضاد والطاء والظاء والقاف والعين . وفيها جيمان وباءان وزايان؛ أيْ : من الحسَن والهجين في العربية . وهي لغة فخيمة المخارج ( يفخمون بعض المرققات في العربية ).
هذه حروف خمسة ألسنة، للناطقين بها شهرة وعديد وتاريخ، تنقص أصواتها عن أصوات العربية يقيناً، ولا يضاهي تاريخها تاريخ العربية .
وتتجلى من بينها العربية بأصواتها المستوعبة والباقية في لغتها الأدبية والمحكية والمتوزعة على مخارجها من غير اختلاط ولا غمغمة، والمترتبة على فصيحة ثم حسنة ثم هجينة، والبينة التقاطيع والتخاليف، والصافية النطق، والواضحة الصفات، والقابلة للسكون والحركة في حال البساطة وفي حال التركيب، والمد والقصر، والإدغام والإخفاء، في أقل قدر من الشذوذ .
وفي المقابل ترى :
- اختفاء أصول من الأصوات الإنسانية من تلك الألسنة متفقٍ على أن اللسان الإنساني يقتدر على نطقها بدرجات من اليسر . وهذه مزية للعربية التي حفظت أصواتها إلى الآن .
- ميل العربية إلى الصفات القوية التأثير في الحديث في أغلب حروفها ، وهي الرقة (استفال اللسان حال النطق ) ، وإلى الجهارة ( اهتزاز الوترين ) ، والرخاوة ( انحباس الهواء مع النطق ) ، والانفتاح ( بعد اللسان عن الحنك الأعلى ) ، والثبات ( قلة حروق القلقلة.
- نظام التهجي في العربية مطرد لا يتخلف إلا في كلمات معدودة معروفة الأسباب (أسباب إملائية تكون بحذف حروف العلة أو إثباتها اختصاراً أو تفرقة ، وليس ذلك في الحروف الصحاح ، وليست أسباب صوتية ) مثل : هذا ، وأولئك ، وعمرو .
- الحروف الثمانية والعشرون في العربية هي حروف منتخبة من أصوات حسنة وهجينة ، انتخاباً كان عبر تاريخ عميق (هذا على القول الذي يرى أن اللغة اصطناع بشري!)، فتراها غير قابلة للتجريد أو للضمّ أو للحذف أو للاقتصاد أو للاعوجاج .
وأما الهجينة منها فهي في نظر العربي تقوم عليها أبجديات كثير من الألسنة الأعجمية .
- كثير من الأبجديات ترى لها رموزاً كثيرة في الكتابة ، ولكن إجالة النظر في أصواتها المنطوقة فعلاً تردها إلى عدد أقلّ مما هو وافر في أبجدية لسان العربية ، ونظامها التشكيلي ذي الحركات والسكنات .فهل يكون ذلك الاختلاف مؤذناً بالمزية ؟ .
مزية في التأليف الصوتي :
يجوز لنا في العربية أن نؤلف من تلك المقاطع الصوتية البسائط المحصورة العدد المؤلفة من الحروف والحركات الطويلة والقصيرة ، والتي قاربت المائتَيْن = كلماتٍ لا حصر لها ، من الجذر الواحد فضلاً عن الجذور المختلفة ، والمثال شهير ( ض ر ب ) : ضرَب ، يضرِب ، اضرب ، ضرْب ، ضارب ، مضروب ، مضرب ، ضربة ، ضريب ، ضريبة ، ضرّاب ، ضِراب ، اضطراب ، ... (مزية لا تجارى ).
وتتعاقب الحركات والسكنات في أحرف الكلمات ، بلا كلفة ولا حظر ، لولا بعض ما يستثقله العرب مما يخالف الفصاحة وعذوبة المنطق ورقته ووضوحه وترسّله ، فإذا قلت مثلاً : اِبَّـبِـبُـبَـابـيـبُـو ؛ في تأليف ذلك المثل السالف المضروب على أحوال الأصوات على ما سبق ترتيبه :اِبْ ، بَـ ، بِـ ، بُـ ، بَا ، بي ، بُو= كنت قد أتيت بما يستثقله لسان العربيّ ، ولم يؤثر عنه مثله ؛ لأن العرب تكره فيما هو كالكلمة الواحدة : كلفة البدء بصوت ساكن إلا بِصلة ، كما تكره الوقف على صوت متحرك إلا بسكت ، وتكره توالي ساكنين صحيحين ، وتكره عثار توالي أكثر من متماثلين ، وتكره اضطراب توالي أربع متحركات ، وتكره ثقل مجاوزة الاسم سبعة أحرف والفعل ستة أحرف ، وتكره عسر الانتقال من كسر إلى ضم ، وتكره تعاقب أحرف متقاربة في المخرج أو الصفة من نحو : " مُسْتَشْزِرَات ": مرتفعات ، و"الهُعْخُعُ": نَبْت، أو لم يعهد استعمالها عندهم ، نحو مهندز ؛ بالزاي بعد الدال ؛ ولذا عربوها من الفارسي إلى : مهندس ؛ بالسين .
وعلة هذه الكراهة لتلك الأمور أنهم يتوافقون مع قوانين البديهة والحسّ والعلوم الطبيعية ؛ جمعاً وتوزيعاً وتحريكاً وتسكيناً .
وأحسب أن للتأليف الصوتي في آلة الكلمة في اللسان العربي نظاماً وحراكاً وخصوبة وتوالداً لا تراها في غيرها من آلات كلمات الألسنة الأخرى .
وبيان ذلك بإيجاز: أن هذه الكلمة تتألف من مقاطع ثابتة ومرنة معاً، وهي الأحرف الصحاح الثابتة في بنية الكلمة، وتدور حول الأحرف الصحاح الأحرفُ العليلة وأبعاضها، في تأويب تجري فيه الحركات إلى مستقر لها؛ البدء بمتحرك والوقف بالسكون؛ دورانَ الجسيمات في الذرة والكواكب في المجرة، ودوران كل شيء بحسبه!، ولا يصحّ أن تحذف تلك الأحرف الصحاح التي عليها المدار بحال، أو أن تضطرب، أو تنشز، أو تقتصد، أو تعوجّ، إلا ترخيماً كيا سُعا، أو تخفيفاً كيَدٍ، وذلك نادر لا يقاس عليه؛ بخلاف العليلة التي تحذف وتبدل وتتغير .
ويأتي الإعراب في أواخر المعربات والتحريكُ في أواخر المبنيات الساكنات = ليجعل التقاطيع والتخاليف فيها مفتوحة مسترسلة مرتّلة ، إلا في حالات الوقف (المقطع المغلق)، وليؤلف من الكلم ما يجعله في نظم صوتي واحد، كتغريدات عصفور متتابعة أو سجعات حمامة، أو كخطوات منتظمة ، أو قطرات متتابعة .
وترى بدائع من ذلك التأليف الصوتي الحكيم = في علم العرب وديوانهم ، الذي ليس لهم علم أصحُّ منه ، وهو توقيع أبيات الشعر؛ على أوزانه الستة عشر ؛ في عد الخليل وتكميل الأخفش ، وأصواته المائة كما ذكر الأصفهاني في الأغاني .
ويفهم هذا في قوله تعالى : ( ورتلناه ترتيلاً ) ، ووصف نطق النبيء عليه الصلاة والسلام أن فيه ترسيلاً وترتيلاً ؛ بجامع تتابع نظام الأصوات، وتتابع نظام الكلمات والآيات، وتتابع نظام المعاني والعبر .
وقد تكون العبرية أقرب في هذا النظام إلى العربية؛ كلاهما ساميّ، ولكنك ترى فيها، زيادة على النظام التشكيلي للحروف، نبرَ بعض المقاطع (النبر : إبراز نطق حرف بكلفة دون غيره ، وهو من سمات ذوات المقاطع الجامدة كالصينية)، بل ترى له قواعد تصريفية ووظائف معنوية فارقة ، وترى توالي ساكنين صحيحين ، بقلقلة الأول ، وأن كلّ الحروف قابلة للقلقلة (يسمونه : السكون المتحرك) إذا ابتدئت بها صدور المقاطع ، وترى شَدّتها خفيفة حيناً مع أحرف وثقيلة في أحوال أخرى ، و لا تشدد أحرف الحلق ولا تسكن ، وقد يقولون شدة مقدرة أي غير ظاهرة !.
إن كثرة الأصوات في اللسان الإنساني ككثرة المعادن في الكون ، وفقر لسان من بعضها كأنما هو فقر في خامات التصنيع ، وأنواع البذور ، وأجناس الأحياء وأوتار الأصوات ، ونقصان أصوات من بعض الألسنة أو اختلاطها ببعضها أو ضعف نطق بعضها .. قد أضر بها ضرراً لا ينكره أهلها ..
وقد وصل البحث اللغوي الحديث إلى أن لكل صوت من أصوات اللسان الإنساني موقعه في رقعة اللغة ، وزوال جزء منها مؤذن بزوال جميعها ولو بعد حين .
وتعمد ألسنة كثيرة إلى أمور أخرى غير الأصوات الطبيعية في التعبير عن مراداتها ، ومنها التنغيم والتقطيع والنبر والتحزين والحركات الجسدية والإيحاءات والإشارات والرفرفة والحومان والتقليد وغيرها ، مما لا يستطيع أحد تسطيره في كتاب. وما ذلك الذي يصنعه أهلها إلا من قبيل جبر ما بها من كسر ورتق الفتق وسد الخلل وتعويض الضائع..
... فعلى ماذا يدل هذا ؟ ! ! ..
سبحان من أنزل بها كتابه الحكيم ، وجعلها في أحسن تقويم وصراط مستقيم وفضل كريم ، فأنهلها وأعلّها ، وأدقها وأجلّها ، وأكثرها وأقلها ، وأثّلها وأبلّها .
[ يتبع .. ثانياً : نحو الكلمة ]