فصول في الرؤيا

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أما بعد :
فعبر التاريخ كان للرؤيا شأن في حياة الأمم أفرادا وجماعات ، فقد كان لها تأثير في رائيها ، وربما انسحب الأثر على مجتمعه كله إن كان حاكما ؛ ففرعون قتل أولاد بني إسرائيل لرؤيا رآها ، وعبرت له بأنه سيولد في بني إسرائيل من سيكون زوال ملكه على يديه ؛ فكان موسى عليه السلام ، والقصة معروفة .
وتغيرت في مصر أحوال برؤيا رآها ملك مصر وعبرها له يوسف عليه السلام ، وترتب على ذلك ما كان من تولية يوسف عليه السلام خزائن مصر ، فأحيا الله تعالى به البلاد والعباد وتفادى الناس مجاعة محققة .
وخرج صاحبا يوسف في السجن من السجن ، أحدهما إلى الإكرام بالقرب من الملك ، والآخر إلى الإهانة بصلبه وأكل الطير من رأسه .. لرؤيا عبرها لهما يوسف عليه السلام .
ولو تتبع أحد أحداث التاريخ لوجد للرؤيا أثرًا بالغًا في حياة الناس ؛ ذلك لأن الرؤيا من الغيب الذي يريد الله تعالى كشفه للناس قبل وقوعه لحكمة يريدها ، وهو العليم الحكيم .
وليس تعبير الرؤى ضربًا من الخيال ، أو نسجًا من الشعوذة ، وإنما علم التعبير علم شريف لطيف ، علَّمه الله تعالى أنبياءه وبعض خلقه ؛ وليس كل أحد يحسنه .
وقد أشكل على الناس أمور مما يتعلق بالرؤيا ؛ فأردت بهذه الرسالة أن أبيَّن فصولا من الرؤيا توضح معالمها ، وترفع إشكالات ظهرت عند البعض حولها ، وتشرح آدابها ، ليكون المرء على بينة من أمره فيها ، فلا يحزن لحلم رآه من تحزين الشيطان ، وإنما يستعيذ بالله تعالى ، وينفث عن شماله ، ويقوم فيصلي ، ولا يقصه على أحد ؛ فإنه لا يضره ؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك لا يسارع هو بتعبير رؤيا ظاهرها مكروه ، فقد تكون علامة على بشرى لا يقف هو عليها ، وإنما يعرضها على عالم بتعبير الرؤى ليقف على حقيقة تأويلها ؛ كما أن هناك نوعا آخر من الرؤى ، وهو الرؤيا من تحديث النفس ، وهذه لا تفسير لها ، وكذلك أضغاث الأحلام ، التي يختلط فيها الأمور ، ولا يذكر صاحبها منها شيئا يمكن أن يكون مفهوما ، فإنها ليس لها تأويل أيضا .
لهذا ستتناول هذه الرسالة الفصول الآتية :
تعريف الرؤيا
أهمية الرؤيا وتعلم تعبيرها
أقسام الرؤى
آداب الرؤيا والحلم
أصدق الرؤى
من تحلَّم كاذبا
من الذي يعبر الرؤيا ؟
الرؤيا في القرآن
أمثلة للرؤى من السنة
أمثلة من تعبير المعبرين
والله أسأل أن ينفع بها ، وأن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية​
 
فصل : تعريف الرؤيا والحلم
الرُّؤْيَا : بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَبِالْقَصْرِ : مَا يَرَاهُ النَّائِمُ فِي مَنَامِهِ ؛ والحُلْمُ بضم اللام وسكونها أيضًا : ما يراه النائم ؛ وقد حَلَم بفتح اللام يحلُم بالضم ، حُلْما وحُلُما ، واحْتَلَم أيضا ؛ وتَحَلَّم تكلف الحلم . وقيل : الْحُلْمُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ ، وَيُضَمُّ : مَا يُرَى فِي الْمَنَامِ مِنْ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ ؛ قَالَ ابن الأثير فِي ( النِّهَايَةِ ) : الْحُلْمُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَرَاهُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ ، لَكِنْ غَلَبَتْ الرُّؤْيَا عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّيْءِ الْحَسَنِ ، وَغَلَبَ الْحُلْمُ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْ الشَّرِّ وَالْأَمْرِ الْقَبِيحِ ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ] أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [ وَيُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ ، وَتُضَمُّ لَامَ الْحُلْمِ وَتُسَكَّنُ .ا.هـ .
وأما الحِلْمُ بالكسر فهو : الأناة ، وقد حَلُم بالضم حِلْما ( [1] ) .

[1] - انظر لسان العرب باب الميم فصل الحاء ؛ ومفردات غريب القرآن ، والنهاية في غريب الحديث مادة ( ح ل م ) .
 
حقيقة الرؤيا

قال الإمام النووي في ( شرح مسلم ) : قَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ : مَذْهَب أَهْل السُّنَّة فِي حَقِيقَة الرُّؤْيَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْلُق فِي قَلْب النَّائِم اِعْتِقَادَات كَمَا يَخْلُقهَا فِي قَلْب الْيَقْظَان ، وَهُوَ سُبْحَانه وَتَعَالَى يَفْعَل مَا يَشَاء ، لَا يَمْنَعهُ نَوْم وَلَا يَقِظَة ، فَإِذَا خَلَقَ هَذِهِ الِاعْتِقَادَات فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى أُمُور أُخَر يَخْلُقهَا فِي ثَانِي الْحَال ، أَوْ كَانَ قَدْ خَلَقَهَا . فَإِذَا خَلَقَ فِي قَلْب النَّائِم الطَّيَرَان ، وَلَيْسَ بِطَائِرٍ ، فَأَكْثَر مَا فِيهِ أَنَّهُ اِعْتَقَدَ أَمْرًا عَلَى خِلَاف مَا هُوَ ، فَيَكُون ذَلِكَ الِاعْتِقَاد عَلَمًا عَلَى غَيْره ، كَمَا يَكُون خَلْق اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْغَيْم عِلْمًا عَلَى الْمَطَر ، وَالْجَمِيع خَلْق اللَّه تَعَالَى ، وَلَكِنْ يَخْلُق الرُّؤْيَا وَالِاعْتِقَادَات الَّتِي جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى مَا يَسُرُّ بِغَيْرِ حَضْرَة الشَّيْطَان ، وَيَخْلُق مَا هُوَ عَلَم عَلَى مَا يَضُرُّ بِحَضْرَةِ الشَّيْطَان ، فَيُنْسَب إِلَى الشَّيْطَان مَجَازًا لِحُضُورِهِ عِنْدهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا فِعْل لَهُ حَقِيقَة ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله e " الرُّؤْيَا مِنْ اللَّه ، وَالْحُلْم مِنْ الشَّيْطَان " ( [1] ) لَا عَلَى أَنَّ الشَّيْطَان يَفْعَل شَيْئًا ؛ فَالرُّؤْيَا اِسْم لِلْمَحْبُوبِ ، وَالْحُلْم اِسْم لِلْمَكْرُوهِ . هَذَا كَلَام الْمَازِرِيِّ . وَقَالَ غَيْره : أَضَافَ الرُّؤْيَا الْمَحْبُوبَة إِلَى اللَّه إِضَافَة تَشْرِيف بِخِلَافِ الْمَكْرُوهَة ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مِنْ خَلْق اللَّه تَعَالَى وَتَدْبِيره ، وَبِإِرَادَتِهِ ، وَلَا فِعْل لِلشَّيْطَانِ فِيهِمَا ، لَكِنَّهُ يَحْضُر الْمَكْرُوهَة ، وَيَرْتَضِيهَا ، وَيُسَرُّ بِهَا ( [2] ) . وقال ابن العربي - رحمه الله : هي إدراكات يخلقها الله تعالى في قلب العبد على يدي الملَك أو الشيطان ، إما بأمثالها ، وإما بكناها ، وإما تخليطا ؛ ونظير ذلك في اليقظة : الخواطر ، فإنها تأتي على فسق في قصد ، وتأتي مسترسلة غير محصلة ؛ فإذا خلق الله من ذلك في المنام على يد الملك شيئًا كان وحيًا منظومًا وبرهانا مفهوما([3]). وقال ابن القيم - رحمه الله - بعد أن أورد قولين في تعريف الرؤية وردهما : ومن قائل : إن الرؤيا أمثال مضروبة يضربها الله للعبد بحسب استعداده على يد ملك الرؤيا ؛ فمرة يكون مثلا مضروبًا ، ومرة يكون نفس ما رآه الرائي فيطابق الواقع مطابقة العلم لمعلومِه .
وهذا أقرب من القولين قبله [ أي اللذين ردهما ] ولكن الرؤيا ليست مقصورة عليه ، بل لها أسباب أخر ؛ من ملاقاة الأرواح وأخبار بعضها بعضًا ، ومن إلقاء الملَك الذي في القلب والروع ، ومن رؤية الروح للأشياء مكافحة بلا واسطة ( [4] ) .
قال ابن القيم - رحمه الله : والرؤيا الصحيحة أقسام :
منها : إلهام يلقيه الله سبحانه في قلب العبد ؛ وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام كما قال عبادة بن الصامت وغيره .
ومنها : مثل يضربه له ملَك الرؤيا الموكل بها .
ومنها : التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم .
ومنها : عروج روحه إلى الله سبحانه وخطابها له .
ومنها : دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها .. وغير ذلك ( [5] ) .

[1] - سيأتي تخريجه .

[2] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 15 ، 16 .

[3] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 104 ( دار الفكر – بيروت )

[4] - الروح ص 30 ، ومكافحة ، أي : مواجهة .

[5] - انظر ( الروح ) لابن القيم ص 29 ، وقد ذكر لذلك أمثلة من رؤى الناس ، فليرجع إليها من شاء .
 
فصل : أهمية الرؤيا وتعلم تعبيرها

علم تعبير الرؤى علم شريف ؛ يدل على ذلك قول الله تعالى : ] وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [ ( يوسف : 6 ) ، وهذا إخبار من الله تعالى على لسان يعقوب u لما سيكون من أمر يوسف u ، وقوله تعالى : ] وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ[ ( يوسف : 21 ) ، وهذا إخبار من الله تعالى حكاية عن ما سيؤول من أمر يوسف u من علم تعبير الرؤى ، ثم قال الله تعالى على لسان يوسف u : ] وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [ ( يوسف : 101 ) ، وهو يعدد نعم الله تعالى عليه ؛ واستدل بعض أهل العلم من ذلك بأن تعبير الرؤى ، وإن كان له علامات وإشارات تدل على ذلك ، إلا أن فيه جانبا من الإلهام في إصابة الحق ، والعلم عند الله تعالى .
ومما يدلك على أهمية الرؤيا أن النبي e كان يسأل أصحابه بعد صلاة الصبح : " هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا ؟ " فهذا يدل على أن للرؤيا شأنًا ؛ وكأنه - أيضا - كان يريد أن يعلم أصحابه تعبير الرؤى ، لما في ذلك من الفضل ، وهو يدل على شرف هذا العلم أيضا .
روى مسلم عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ e إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ : " هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا ؟ " ( [1] ) . قال النووي - رحمه الله : وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب السُّؤَال عَنْ الرُّؤْيَا وَالْمُبَادَرَة إِلَى تَأْوِيلهَا وَتَعْجِيلهَا أَوَّل النَّهَار لِهَذَا الْحَدِيث ، وَلِأَنَّ الذِّهْن جُمِعَ قَبْل أَنْ يَتَشَعَّبَ بِإِشْغَالِهِ فِي مَعَايِش الدُّنْيَا ، وَلِأَنَّ عَهْد الرَّائِي قَرِيب لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُهَوِّشُ الرُّؤْيَا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا يُسْتَحَبُّ تَعْجِيله كَالْحَثِّ عَلَى خَيْر ، أَوْ التَّحْذِير مِنْ مَعْصِيَة ، وَنَحْو ذَلِكَ . وَفِيهِ إِبَاحَة الْكَلَام فِي الْعِلْم وَتَفْسِير الرُّؤْيَا وَنَحْوهمَا بَعْد صَلَاة الصُّبْح ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ا.هـ ( [2] ) .
وفي رواية : " كَانَ مِمَّا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا " قَالَ الْقَاضِي : مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَة عِنْدهمْ كَثِيرًا مَا كَانَ يَفْعَل كَذَا ، وَكَأَنَّهُ قَالَ :مِنْ شَأْنه . وَفِي الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى عِلْم الرُّؤْيَا وَالسُّؤَال عَنْهَا وَتَأْوِيلهَا ، قَالَ الْعُلَمَاء : وَسُؤَالهمْ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ e يُعَلِّمُهُمْ تَأْوِيلهَا وَفَضِيلَتهَا وَاشْتِمَالهَا عَلَى مَا شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْإِخْبَار بِالْغَيْبِ([3]).ا.هـ.
وفي ( موطأ مالك ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَقُولُ : " هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا " وَيَقُولُ : " لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ " ( [4] ) .
وفي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ e كَانَ مِمَّا يَقُولُ لأَصْحَابِهِ : " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا فَلْيَقُصَّهَا أَعْبُرْهَا لَهُ " ( [5] ) . مَعْنَى قَوْله : " فَلْيَقُصَّهَا " لِيَذْكُرْ قِصَّتهَا وَيَتَّبِع جُزْئِيَّاتهَا حَتَّى لَا يَتْرُك مِنْهَا شَيْئًا ، مِنْ قَصَصْت الْأَثَر إِذَا اِتَّبَعْته ؛ وقوله : " أَعْبُرهَا " أَيْ : أُفَسِّرهَا( [6] ) .
قال القرطبي : إنما كان يسألهم عن ذلك لما كانوا عليه من الصلاح والصدق ، وعلم أن رؤياهم صحيحة يستفاد منها الاطلاع على كثير من علم الغيب ، وليُسنَّ لهم الاعتناء بالرؤيا والتشوق لفوائدها ، ويعلمهم كيفية التعبير ، وليستكثر من الاطلاع على الغيب ( [7] ) .
وفي حديث النبي e : " رُؤْيَا الْمُؤْمِن جُزْء مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " ( [8] ) ، بيان أهمية الرؤيا ، وأن لها فضلاً عظيمًا إذ عدت من أجزاء النبوة .
قال النووي – رحمه الله : قَوْله e : " وَرُؤْيَا الْمُسْلِم جُزْء مِنْ خَمْسَة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " وَفِي رِوَايَة : " رُؤْيَا الْمُؤْمِن جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " وَفِي رِوَايَة : " رُؤْيَا الرَّجُل الصَّالِح جُزْء مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " وَفِي رِوَايَة : " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْء مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة " ( [9] ) فَحَصَلَ ثَلَاث رِوَايَات ، الْمَشْهُور سِتَّة وَأَرْبَعُونَ ، وَالثَّانِيَة خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ، وَالثَّالِثَة سَبْعُونَ جُزْءًا . وَفِي غَيْر مُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن عَبَّاس " مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا " وَفِي رِوَايَة : " مِنْ تِسْعَة وَأَرْبَعِينَ " وَفِي رِوَايَة الْعَبَّاس " مِنْ خَمْسِينَ " وَمَنْ رِوَايَة اِبْن عُمَر " مِنْ سِتَّة وَعِشْرِينَ " وَمِنْ رِوَايَة عُبَادَةَ " مِنْ أَرْبَعَة وَأَرْبَعِينَ " قَالَ الْقَاضِي : أَشَارَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَاف رَاجِع إِلَى اِخْتِلَاف حَال الرَّائِي ، فَالْمُؤْمِن الصَّالِح تَكُون رُؤْيَاهُ جُزْءًا مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا ، وَالْفَاسِق جُزْءًا مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا ، وَقِيلَ : الْمُرَاد أَنَّ الْخَفِيَّ مِنْهَا جُزْء مِنْ سَبْعِينَ ، وَالْجَلِيّ جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : أَقَامَ e يُوحَى إِلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَة ، مِنْهَا عَشْر سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ ، وَثَلَاث عَشْرَة بِمَكَّة ، وَكَانَ قَبْل ذَلِكَ سِتَّة أَشْهُر يَرَى فِي الْمَنَام الْوَحْي ، وَهِيَ جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا . قَالَ الْمَازِرِيّ : وَقِيلَ : الْمُرَاد أَنَّ لِلْمَنَامَاتِ شَبَهًا مِمَّا حَصَلَ لَهُ وَمَيَّزَ بِهِ النُّبُوَّة بِجُزْءٍ مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا ... قَالَ : وَقَدْ قَدَح بَعْضهمْ فِي الْأَوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت أَنَّ أَمَد رُؤْيَاهُ e قَبْل النُّبُوَّة سِتَّة أَشْهُر ، وَبِأَنَّهُ رَأَى بَعْد النُّبُوَّة مَنَامَات كَثِيرَة ، فَلْتُضَمَّ إِلَى الْأَشْهُر السِّتَّة ، حِينَئِذٍ تَتَغَيَّر النِّسْبَة . قَالَ الْمَازِرِيّ : هَذَا الِاعْتِرَاض الثَّانِي بَاطِل ؛ لِأَنَّ الْمَنَامَات الْمَوْجُودَة بَعْد الْوَحْي بِإِرْسَالِ الْمَلَك مُنْغَمِرَة فِي الْوَحْي ، فَلَمْ تُحْسَب . قَالَ : وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَنَّ الْمَنَام فِيهِ إِخْبَار الْغَيْب ، وَهُوَ إِحْدَى ثَمَرَات النُّبُوَّة ، وَهُوَ لَيْسَ فِي حَدّ النُّبُوَّة ؛ لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَبْعَث اللَّه تَعَالَى نَبِيًّا لِيُشَرِّع الشَّرَائِع ، وَيُبَيِّن الْأَحْكَام ، وَلَا يُخْبِر بِغَيْبٍ أَبَدًا ، وَلَا يَقْدَح ذَلِكَ فِي نُبُوَّته ، وَلَا يُؤَثِّر فِي مَقْصُودهَا ، هَذَا الْجُزْء مِنْ النُّبُوَّة وَهُوَ الْإِخْبَار بِالْغَيْبِ إِذَا وَقَعَ لَا يَكُون إِلَّا صِدْقًا . وَاللَّهُ أَعْلَم .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذَا الْحَدِيث تَوْكِيد لِأَمْرِ الرُّؤْيَا وَتَحْقِيق مَنْزِلَتهَا ، وَقَالَ : وَإِنَّمَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة فِي حَقّ الْأَنْبِيَاء دُون غَيْرهمْ ، وَكَانَ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ فِي مَنَامهمْ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِمْ فِي الْيَقِظَة .. قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الرُّؤْيَا تَأْتِي عَلَى مُوَافَقَة النُّبُوَّة ، لِأَنَّهَا جُزْء بَاقٍ مِنْ النُّبُوَّة . وَاللَّه أَعْلَم .ا.هـ ( [10] ) .

[1] - مسلم ( 2275 ) .

[2] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 35 .

[3] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 30 .

[4] - الموطأ : 2 / 956 ( 1714 ) ، ورواه أحمد : 2 / 325 ، وأبو داود ( 5017 ) ، و النسائي في الكبرى ( 7621 ) .

[5] - مسلم ( 2269 ) .

[6] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 12 / 433 ، وعزاه للقرطبي .

[7] - نقلا عن ( فيض القدير ) للمناوي : 5 / 147 .

[8] - رواه مسلم ( 2264 ) عن عبادة بن الصامت وأنس رضي الله عنهما ، وسيأتي عن أبي هريرة أيضا .

[9] - رواه مسلم ( 2265 ) عن ابن عمر رضي الله عنهما .

[10] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 21 .
 
فائدة
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في حديث أبي هريرة المتقدم : فيه ردٌّ على من قال من أهل التعبير : يستحب أن يكون تفسير الرؤيا بعد طلوع الشمس إلى الرابعة من العصر إلى قبيل المغرب ؛ فإن الحديث دل على ندب تعبيرها قبل طلوع الشمس ، ولا يصح قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة ؛ قال المهلب : تعبير الرؤيا بعد الصبح أولى من جميع الأوقات لحفظ صاحبها لـها ، لقرب عهده بها ، وقَلَّ ما يعرض له نسيانها ، ولحضور ذهن العابر وقلة شغلـه فيما يفكر فيه فيما يتعلق بمعاشه ، وليعرض الرائي ما يعرض لـه بسبب رؤياه .ا.هـ ( [1] ) .

[1] - انظر فتح الباري : 12 / 439 .
 
المبشرات

مما يدل على أهمية الرؤيا وفضلها ما رواه أحمد والترمذي وحسنه عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ] لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ فَقَالَ : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُكَ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ e فَقَالَ : " مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُكَ مُنْذُ أُنْزِلَتْ ، هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ " ؛ وله شاهد عند الترمذي وحسنه عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : نُبِّئْتُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ e عَنْ قَوْلِهِ : ] لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ قَالَ : " هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ " ( [1] ) . وروى أحمد والترمذي عن أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدْ انْقَطَعَتْ ، فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ " قَالَ : فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ ، قَالَ : قَالَ : " وَلَكِنْ الْمُبَشِّرَاتُ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ ؟ قَالَ : " رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ " ( [2] ) . وروى أحمد عن أَبِي الطُّفَيْلِ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ " قَالَ : قِيلَ وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ " أَوْ قَالَ : " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ " ( [3] ) ؛ وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ " قَالُوا : وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ ؟ " قَالَ : " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ " ( [4] ) . والْمُبَشِّرَات بِكَسْرِ الشِّين الْمُعْجَمَة جَمْع مُبَشِّرَة ، وَهِيَ الْبُشْرَى ، وَهِيَ مَا اِشْتَمَلَ عَلَى الْخَبَر السَّارِّ مِنْ وَحْي وَإِلْهَام وَرُؤْيَا وَنَحْوهَا ؛ قال الحافظ ابن حجر : وَالْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ بَعْد النُّبُوَّة الْمُخْتَصَّةُ بِي إِلَّا الْمُبَشِّرَات ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالرُّؤْيَا .ا.هـ .
وروى مُسْلِم وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ e كَشَفَ السِّتَارَة وَرَأْسه مَعْصُوب فِي مَرَضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ،وَالنَّاسصُفُوفخَلْف أَبِيبَكْرفَقَالَ:" يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَات النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة ، يَرَاهَا الْمُسْلِم أَوْ تُرَى لَهُ " ( [5] ) ؛ وفي حَدِيث أُمِّ كُرْز ( بِضَمِّ الْكَاف وَسُكُون الرَّاء بَعْدهَا زَاي ) الْكَعْبِيَّة قَالَتْ : سَمِعْت النَّبِيّ e يَقُول : " ذَهَبَتْ النُّبُوَّة وَبَقِيَتْ الْمُبَشِّرَات " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْن مَاجَهْ وَابْن حِبَّان ( [6] ) ، وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا " لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ الْمُبَشِّرَات إِلَّا الرُّؤْيَا " ( [7] ) ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة بْن أُسَيْد مَرْفُوعًا " ذَهَبَتْ النُّبُوَّة ، وَبَقِيَتْ الْمُبَشِّرَات " ( [8] ) وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيث أَنَس رَفَعَهُ : " إِنَّ الرِّسَالَة وَالنُّبُوَّة قَدْ انْقَطَعَتْ ، وَلَا نَبِيّ وَلَا رَسُول بَعْدِي ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ الْمُبَشِّرَات " قَالُوا : وَمَا الْمُبَشِّرَات ؟ قَالَ : " رُؤْيَا الْمُسْلِمِينَ ؛ جُزْء مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة " .

[1] - حديث أبي الدرداء رواه أحمد : 6 / 445 ، 446 ، 452 ، والترمذي ( 3106 ) ، وابن جرير : 11 / 93 وغيرهم ؛ وحديث عبادة رواه أحمد : 5 / 315 ، 321 ، 325 ، والطيالسي ( 583 ) ، وابن جرير : 11 / 93 ، 94 . ورواه الترمذي ( 2273 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 3898 ) ، والدارمي ( 2132 ) ، والحاكم : 2 / 340 ، و صححه ووافقه الذهبي ، ثم رواه : 4 / 391 ، وصححه على شرطيهما ووافقه الذهبي ، وصححه الضياء في المختارة : 8 / 259 ( 315 ) ؛ ورواه ابن جرير : 11 / 94 عن أبي هريرة . ورواه عبد بن حميد ( 1105 ) عن جابر .

2 – أحمد : 3 / 267 ، والترمذي ( 2272 ) . ورواه الحاكم : 4 / 391 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي .

[3] - أحمد : 5 / 454 . ورواه الطبراني في الكبير : 3 / 179 ( 3051 ) عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، وله شاهد رواه أحمد: 6 / 129 عن عائشة ، وآخر رواه أحمد : 6 / 381 ، وابن ماجة ( 3896 ) عن أم كرز الكعبية وإسناده صحيح .

[4] - البخاري ( 6990 ) .

[5] - مسلم ( 479 ) .

[6] - أحمد : 6 / 381 ، وابن ماجة ( 3869 ) ، والدارمي ( 2138 ) ، وابن حبان ( 6047 ) .

[7] - أحمد : 6 / 129 .

[8] - أحمد : ، والطبراني في الكبير : 3 / 379 ( 3051 ) .
 
التأثر بالرؤيا

مما يدل على أهمية الرؤيا في حياة الناس : تأَثُرالنفس بها ؛ فقد روى الجماعة عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا أُعْرَى مِنْهَا غَيْرَ أَنِّي لَا أُزَمَّلُ ، حَتَّى لَقِيتُ أَبَا قَتَادَةَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ ، وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ "( [1] ) ؛ وفي الموطأ بعد أن ذكر الحديث : قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا هِيَ أَثْقَلُ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ ، فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا كُنْتُ أُبَالِيهَا ؛ وفي رواية : عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي ، قَالَ : فَلَقِيتُ أَبَا قَتَادَةَ فَقَالَ : وَأَنَا كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي ، حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : فذكر الحديث . وقوله : أُزَمَّل : أُغَطَّى وَأُلَفُّ كَالْمَحْمُومِ ؛ وَأُعْرَى ، أَيْ : أُحَمُّ ( أي تصيبه الحمى ) لِخَوْفِي مِنْ ظَاهِرهَا فِي مَعْرِفَتِي ؛ قَالَ أَهْل اللُّغَة : يُقَال : عُرِيَ الرَّجُل بِضَمِّ الْعَيْن وَتَخْفِيف الرَّاء يُعْرَى ، إِذَا أَصَابَهُ عُرَاء بِضَمِّ الْعَيْن وَبِالْمَدِّ ، وَهُوَ نَفْض الْحُمَّى ، وَقِيلَ : رَعْدَة .
فانظر كيف كان يتأثر أبو سلمة بن عبد الرحمن - رحمه الله - بالرؤيا يراها حتى كانت تمرضه ، فلما سأل أبا قتادة t وجد أنه كان يتأثر كذلك بالرؤيا يراها حتى بيَّن النبي e أقسام الرؤى .

[1] - أحمد : 5 / 296 ، 300 ، والبخاري ( 3292 ) ، ومسلم ( 2261 ) ، وأبو داود ( 5021 ) ، والترمذي ( 2277 ) ، والنسائي في الكبرى ( 7627 ) ، وابن ماجة ( 3903 ) .
 
فصل : أقسام الرؤية
روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ ؛ وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا ، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ : فَالرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ؛ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ " قَالَ : " وَأُحِبُّ الْقَيْدَ وَأَكْرَهُ الْغُلَّ ، وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ " ؛ وفي لفظ للترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ : فَرُؤْيَا حَقٌّ ، وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَمَنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ " وَكَانَ يَقُولُ : " يُعْجِبُنِي الْقَيْدُ وَأَكْرَهُ الْغُلَّ ، الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ " وَكَانَ يَقُولُ : " مَنْ رَآنِي فَإِنِّي أَنَا هُوَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِي " وَكَانَ يَقُولُ : " لَا تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ " ( [1] ) .
وعند ابن أبي شيبة وابن ماجة والطبراني وابن حبان عن عوف بن مالك أن رسول الله e قال : " الرُّؤْيَـا ثَلَاثَةٌ : مِنْهَا تَهْويِلُ مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ابْنَ آدَمَ ، وَمِنْهَا مَا يَهِمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ فَرَآهُ فِي مَنَامِهِ ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ " ولفظ ابن ماجة : " مِنْهَا أَهَاوِيلُ " : جَمْع أَهْوَال وهُوَ جَمْع هَوْلٍ ، كَأَقَاوِيل : جَمْع أَقْوَال جَمْع قَوْل ، والهول : الخوف الشديد( [2] ) .
وروى الجماعة عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ : " الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ ، وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ " ( [3] ) . وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : الرؤيا ثلاثة : حضور الشيطان ، والرجل يحدث نفسه بالنهار فيراه بالليل ، والرؤيا التي هي الرؤيا ( [4] ) . قال القرطبي - رحمه الله : الرؤيا المضافة إلى الله تعالى التي خلصت من الأضغاث والأوهام ، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ ؛ والرؤيا التي هي من خبر الأضغاث هي الحلم ، وهى المضافة إلى الشيطان ؛ وإنما سميت ضغثا ، لأن فيها أشياء متضادة ؛ قال معناه المهلب ( [5] ) .
فمن هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة يتبين أن أقسام الرؤى ثلاثة :
1 - رؤيا من الله تعالى ؛ وهي الرؤيا الحسنة الصالحة ، وهي رؤيا الحق ، وهي التي من المبشرات التي هي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة . وهذا الرؤيا هي التي تعبر وتؤوَّل .
2 – حلم من الشيطان ؛ وهي الرؤيا السوء ، وهي التي يريد الشيطان بها أن يحزن ابن آدم ؛ وهذه لا يلقي لها بالا ، ولا يقصها على أحد ، وليس لها تأويل ؛ قال ابن العربي - رحمه الله : يضرب ( أي الشيطان ) له الأمثال المكروهة الكاذبة ليحزنه .ا.هـ ( [6] ) .
وسيأتي الحديث عن آداب الحلم .
3 – رؤيا من تحديث النفس ؛ وهي ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه ؛ وهذه ليس لها تأويل أيضا ؛ قال ابن العربي - رحمه الله : وأما خطرات الوساوس وحديث النفوس فيجري على غير قصد ولا عقد في المنام جريانها في اليقظة ( [7] ) .
وقد يضاف إليها نوع رابع وهو : أضغاث الأحلام : وهي الرؤيا التي لا يصح تأويلها لاختلاطها ؛ ومعنى اختلاطها التباسها بالرؤيا الصادقة وغيرها ، ولا يصح تأويلها لذلك .

[1] - البُخاري ( 7017 ) ، ومسلم ( 2263 ) ، والترمذي ( 2280 ) ، ورواه غيرهم .

[2] - ابن أبي شيبة ( 30507 ) ، وابن ماجة ( 3907 ) ، والطبراني في الأوسط ( 6742 ) ، وابن حبان ( 6042 ) .

[3] - أحمد : 5 / 296 ، 403 ، والبخاري ( 3292 ، 6984 ، 6986 ) ، ومسلم ( 2261 ) ، وأبو داود ( 5021 ) ، والترمذي ( 2277 ) ، والنسائي في الكبرى ( 7655 ، 10734 : 10738 ) ، وابن ماجة ( 3909 ) .

[4] - ابن أبي شيبة ( 30509 ) .

[5] - انظر تفسير القرطبي : 9 / 125 ، بتصرف يسير .

[6] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 107 ( دار الفكر – بيروت )

[7] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 107 ( دار الفكر – بيروت )
 
فائدتان
الأولى : قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) بعد أن ذكر حديث عوف بن مالك : قُلْت : وَلَيْسَ الْحَصْر مُرَادًا مِنْ قَوْله : " ثَلَاث " لِثُبُوتِ نَوْع رَابِع فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي الْبَاب وَهُوَ حَدِيث النَّفْس ؛ وَلَيْسَ فِي حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي سَعِيد الْمَاضِيَيْنِ سِوَى ذِكْر وَصْف الرُّؤْيَا بِأَنَّهَا مَكْرُوهَة وَمَحْبُوبَة أَوْ حَسَنَة وَسَيِّئَة ؛ وَبَقِيَ نَوْع خَامِس وَهُوَ تَلَاعُب الشَّيْطَان ... وَنَوْع سَادِس ، وَهُوَ رُؤْيَا مَا يَعْتَادهُ الرَّائِي فِي الْيَقَظَة ، كَمَنْ كَانَتْ عَادَته أَنْ يَأْكُل فِي وَقْت فَنَامَ فِيهِ ، فَرَأَى أَنَّهُ يَأْكُل ؛ أَوْ بَاتَ طَافِحًا مِنْ أَكْل أَوْ شُرْب فَرَأَى أَنَّهُ يَتَقَيَّأ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيث النَّفْس عُمُوم وَخُصُوص ؛ وَسَابِع وَهُوَ الْأَضْغَاث .ا.هـ ( [1] ) .
قال مقيده - عفا الله عنه : في حديث عوف t : " وَمِنْهَا مَا يَهِمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ فَرَآهُ فِي مَنَامِهِ " وهذا هو المراد من تحديث النفس في حديث أبي هريرة t ؛ وكذلك ما ذكره الحافظ - رحمه الله - في النوع السادس يدخل فيها ، وقد أشار هو إليه بقوله : وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيث النَّفْس عُمُوم وَخُصُوص ؛ وأما تلاعب الشيطان فيدخل في ( الحلم ) . فظهر أن أقسام الرؤيا كما ذكرنا ؛ وهي كما يقول ابن القيم رحمه الله : والرؤيا كالكشف منها رحماني ومنها نفساني ومنها شيطاني ( [2] ) ، ويبقى الرابع وهو الأضغاث الذي يمكن أن يكون أخلاطًا من الثلاثة ؛ والعلم عند الله تعالى .
الثانية : قال ابن حجر - رحمه الله : قَالَ أَهْل الْعِلْم بِالتَّعْبِيرِ : إِذَا رَأَى الْكَافِر أَوْ الْفَاسِق الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فَإِنَّهَا تَكُون بُشْرَى لَهُ بِهِدَايَتِهِ إِلَى الْإِيمَان مَثَلًا أَوْ التَّوْبَة ، أَوْ إِنْذَارًا مِنْ بَقَائِهِ عَلَى الْكُفْر أَوْ الْفِسْق , وَقَدْ تَكُون لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُنْسَب إِلَيْهِ مِنْ أَهْل الْفَضْل , وَقَدْ يَرَى مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ وَيَكُون مِنْ جُمْلَة الِابْتِلَاء وَالْغُرُور وَالْمَكْر ؛ وَنَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ( [3] ) .

[1] - انظر فتح الباري : 12 / 408 .

[2] - مدارج السالكين : 1 / 51 ( دار الكتاب العربي ) .

[3] - انظر فتح الباري : 12 / 397 ، 398 .
 
فصل : آداب الرؤيا والحلم
لما كان للرؤية تلكم الأهمية التي أسلفنا الحديث عنها ، جاء في السنة ما يبين آداب الرؤيا والحلم ، فأما الرؤيا التي من تحديث النفس ، فلا تفسير لها وغالبا ما تكون معروفة لصاحبها ، وهاكم بيان ما يتعلق بالرؤية والحلم من آداب ؛ ولنبدأ بآداب الحلم .


آداب الحلم ( الرؤيا المكروهة )
تقدم معنا كيف كان للرؤيا تأثير على النفوس حتى إنها لتؤدي إلى مرض صاحبها ؛ وهذا لعدم معرفة صاحبها بما يتعلق بها من آداب تدفع عنه أثر هذه الرؤيا ، فلما علم ذلك لم يلق لها بالا ؛ ففي حديث أبي قتادة المتقدم أن النبي e قال : " فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ " ؛ قال النووي - رحمه الله - في ( شرح مسلم ) : إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ هَذَا سَبَبًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ مَكْرُوه يَتَرَتَّب عَلَيْهَا ، كَمَا جَعَلَ الصَّدَقَة وِقَايَة لِلْمَالِ وَسَبَبًا لِدَفْعِ الْبَلَاء ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْمَع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات ، وَيُعْمَل بِهَا كُلّهَا . فَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَههُ نَفَثَ عَنْ يَسَاره ثَلَاثًا قَائِلًا : أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان وَمِنْ شَرّهَا ، وَلْيَتَحَوَّلْ إِلَى جَنْبه الْآخَر ، وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ، فَيَكُون قَدْ عَمِلَ بِجَمِيعِ الرِّوَايَات . وَإِنْ اِقْتَصَرَ عَلَى بَعْضهَا أَجْزَأَهُ فِي دَفْع ضَرَرهَا بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيث . ا.هـ .
ومن مجموع الأحاديث الواردة في ذلك نستخلص هذه الآداب :
1 - التحول عن جنبه الذي كان عليه ؛ أي : يتحول عن الجهة التي كان نائما إليها ، إلى جهة أخرى ، ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا ، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ " ( [1] ) ؛ وفيه تفاؤل بتحول الحال ، كما قد يكون فيه أيضا بُعْدٌ عن الجهة التي بها الشيطان .
2 - التعوذ من الشيطان ؛ أي : اللجوء إلى الله تعالى أن يقيه شر ما يكون من الشيطان من تخويف وتحزين ، ويحتمل مطلق التعوذ من كل ما يكون من الشيطان .

3 - النفث عن اليسار ثلاثا ؛ والنفث أقل من التفل ، والتفل يكون معه شيء من الريق ، وأما النفث فشبيه بالنفخ ، وقيل هما بمعنى ؛ وقيل مع النفث ريق خفيف ، وقال أبو عبيد : يشترط في التفل ريق يسير ، ولا يكون في النفث ، وقيل عكسه .. قال وسئلت عائشة عن نفث النبي e في الرقية ؟ فقالت : كما ينفث آكل الزبيب ، لا ريق معه ، قال : ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة ولا يقصد ذلك ، وقد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب : فكان يجمع بزاقه ويتفل ، والله أعلم . قلت : وصوَّب ابن حجر - رحمه الله - أن النفث فيه ريق خفيف ، لكنه فرق بين النفث في الرقية ، والنفث إذا رأى ما يكره في الرؤيا ، لأنَّ الْمَطْلُوب فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِف ، فالْمَطْلُوب فِي الرُّقْيَة التَّبَرُّك بِرُطُوبَةِ الذِّكْر ، وَالْمَطْلُوب هُنَا طَرْد الشَّيْطَان وَإِظْهَار اِحْتِقَاره وَاسْتِقْذَاره - كَمَا نَقَلَهُ النووي عَنْ عِيَاض - فَاَلَّذِي يَجْمَع الثَّلَاثَةَ الْحَمْلُ عَلَى التَّفْل فَإِنَّهُ نَفْخ مَعَهُ رِيق لَطِيف ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى النَّفْخ قِيلَ لَهُ نَفْث وَبِالنَّظَرِ إِلَى الرِّيق قِيلَ لَهُ بُصَاق . ( [2] ) . والعلم عند الله تعالى .
والحكمة من النَّفْثِ ثَلَاثًا - كما نقل النووي عن القاضي عياض - طَرْدُ الشَّيْطَانِ الَّذِي حَضَرَ رُؤْيَاهُ الْمَكْرُوهَة تَحْقِيرًا لَهُ وَاسْتِقْذَارًا ، وَخُصَّتْ بِهِ الْيَسَار لِأَنَّهَا مَحَلّ الْأَقْذَار وَالْمَكْرُوهَات وَنَحْوهَا ، وَالْيَمِين ضِدَّهَا ( [3] ) .
وقد جاء فِي رِوَايَة جابر : " فَلْيَبْصُقْ عَلَى يَسَاره ثَلَاثًا ؛ وفي أخرى : " فَلْيَتْفُل " ؛ قال النووي : فَحَاصِله ثَلَاثَة ؛ أَنَّهُ جَاءَ : " فَلْيَنْفُثْ " ، وَ" فَلْيَبْصُق " ، وَ" فَلْيَتْفُل " ؛ وَأَكْثَر الرِّوَايَات " فَلْيَنْفُثْ " ، ومن العلماء من فرق بَيْن هَذِهِ الْأَلْفَاظ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهَا بِمَعْنًى ، وَلَعَلَّ الْمُرَاد بِالْجَمِيعِ النَّفْث ، وَهُوَ نَفْخ لَطِيف بِلَا رِيق ، وَيَكُون التَّفْل وَالْبَصْق مَحْمُولَيْنِ عَلَيْهِ مَجَازًا . انتهى مختصرا ( [4] ) ؛ قال ابن العربي - رحمه الله : وأمر بالتفل كما يتفل الراقي ليقرر في النفس رميه عنها باحتقار ، فإذا تمكن ذلك في النفس خلق الله عند ذلك العصمة كما يخلق الشفاء عند تفل الراقي ( [5] ) .
ويكون النفث حين يستيقظ من نومه ؛ ففي رواية لمسلم عن أبي قتادة : " فَلْيَبْصُقْ عَلَى يَسَارِهِ حِينَ يَهُبُّ مِنْ نَوْمِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " ويهب ، أي : يَسْتَيْقِظ .
4 - يقوم فيتوضأ ويصلي ، كما في حديث أبي هريرة المتقدم : " فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ " ، لأنه بدخوله في الصلاة يكون قد لجأ إلى الله تعالى ، وقد كان النبي e إذا حزبه أمر يهرع إلى الصلاة ، لما في ذلك من القرب من الله تعالى الذي ينجي العبد مما هو فيه . وقال ابن العربي : لأن التحرم بها عصمة من الأسواء ، ونهي عن المنكر والفحشاء ( [6] ) .
5 - لا يخبر بها أحدا ؛ لقَوْله e : " وَلَا يُحَدِّث بِهَا أَحَدًا " وَسَبَبه أَنَّهُ رُبَّمَا فَسَّرَهَا تَفْسِيرًا مَكْرُوهًا عَلَى ظَاهِر صُورَتهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا ، فَوَقَعَتْ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّه تَعَالَى ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْل طَائِر ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا كَانَتْ مُحْتَمِلَة وَجْهَيْنِ فَفُسِّرَتْ بِأَحَدِهِمَا وَقَعَتْ عَلَى قُرْب تِلْكَ الصِّفَة ؛ قَالُوا : وَقَدْ يَكُون ظَاهِر الرُّؤْيَا مَكْرُوهًا ، وَيُفَسَّر بِمَحْبُوب ، وَعَكْسه ، وَهَذَا مَعْرُوف لِأَهْلِهِ ( [7] ) ؛ ومن ذلك ما رواه أحمد ومسلم وابن ماجة عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ فَقَالَ : إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ e وَقَالَ : " لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ " ؛ وفي رواية : قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي ضُرِبَ فَتَدَحْرَجَ ، فَاشْتَدَدْتُ عَلَى أَثَرِهِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e لِلْأَعْرَابِيِّ : " لَا تُحَدِّثْ النَّاسَ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي مَنَامِكَ " وَقَالَ [ جابر ] سَمِعْتُ النَّبِيَّ e بَعْدُ يَخْطُبُ فَقَالَ : " لَا يُحَدِّثَنَّ أَحَدُكُمْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي مَنَامِهِ " ؛ وفي رواية أحمد وابن ماجة : " إِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُخْبِرْ النَّاسَ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ " ( [8] ) ؛ وروى أحمد والنسائي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : إِنِّي رَأَيْتُ رَأْسِي ضُرِبَ ، فَرَأَيْتُهُ يَتَدَهْدَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " يَعْمِدُ الشَّيْطَانُ إِلَى أَحَدِكُمْ فَيَتَهَوَّلُ لَهُ ، ثُمَّ يَغْدُو يُخْبِرُ النَّاسَ " ( [9] ) ، ويَتَدَهْدَه : أَيْ يَتَدَحْرَج وَيَضْطَرِب .
فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن من رأى رؤيا هي من تلعب الشيطان ، أو من تحزين الشيطان وتخويفه لابن آدم ، فلا يخبر بها أحدًا ؛ وهي - إن شاء الله - لا تضره إن فعل تلكم الآداب الخمسة التي أسلفنا الحديث عنها .


[1] - مسلم ( 2262 ) ، ورواه أبو داود ( 5022 ) .

[2] - انظر لسان العرب مادة ( نفث ) ، والمفردات للراغب : 521 ( نفث ) ، وشرح مسلم : 14 / 182 ، والنهاية في غريب الحديث : 5 / 88 ، وفتح الباري : 7 / 738 ، 12 / 371 .

[3] - انظر شرح مسلم : 15 / 18 .

[4] - انظر شرح مسلم : 15 / 18 .

[5] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 108 ( دار الفكر – بيروت )

[6] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 108 ( دار الفكر – بيروت )

[7] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 18 .

[8] - أحمد : 3 / 350 ، ومسلم ( 2268 ) ، وابن ماجة ( 3913 ) .

[9] - أحمد : 2 / 364 ، والنسائي في الكبرى ( 10749 ) ، وابن ماجة ( 3911 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 2453 ) .
 
فائدة :
نقل النووي عن الْمَازِرِيُّ - رحمهما الله - قال : يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّ مَنَامه هَذَا مِنْ الْأَضْغَاث بِوَحْيٍ ، أَوْ بِدَلَالَةٍ مِنْ الْمَنَام دَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَكْرُوه الَّذِي هُوَ مِنْ تَحْزِين الشَّيَاطِين .ا.هـ . وَأَمَّا الْعَابِرُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ فِي كُتُبهمْ عَلَى قَطْع الرَّأْس ، وَيَجْعَلُونَهُ دَلَالَة عَلَى مُفَارَقَة الرَّائِي مَا هُوَ فِيهِ مِنْ النِّعَم ، أَوْ مُفَارَقَة مَنْ فَوْقه ، وَيَزُولُ سُلْطَانُهُ ، وَيَتَغَيَّرُ حَاله فِي جَمِيع أُمُوره ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَدُلُّ عَلَى عِتْقه ، أَوْ مَرِيضًا فَعَلَى شِفَائِهِ ، أَوْ مَدْيُونًا فَعَلَى قَضَاء دَيْنه ، أَوْ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فَعَلَى أَنَّهُ يَحُجُّ ، أَوْ مَغْمُومًا فَعَلَى فَرَحِهِ ، أَوْ خَائِفًا فَعَلَى أَمْنِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( 1 ) .
______________
1 ) انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 27 .
 
آداب الرؤيا ( المحبوبة )

أما آداب الرؤيا المحبوبة التي هي بشرى لصاحبها أو لغيره ، فيمكن إجمالها فيما يلي :
1 - حمد الله تعالى على الرؤيا الحسنة ؛ فإنها بشرى ، والبشرى نعمة لقوله e : " فَالرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ " .
2 - يستبشر خيرًا بما رآه ، لقوله e : " فَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً فَلْيُبْشِرْ " مِنْ الْإِبْشَار وَالْبُشْرَى والبشارة ، فهي في نفسها بشرى لعظم مسرتها في نفس الرائي .
3 - لا يخبر بها إلا من يحب ؛ لقَوْله e فِي الرُّؤْيَا الْمَحْبُوبَة الْحَسَنَة : " لَا تُخْبِر بِهَا إِلَّا مَنْ تُحِبّ " وَسَبَبه - كما يقول النووي - أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَا يُحِبّ رُبَّمَا حَمَلَهُ الْبُغْض أَوْ الْحَسَد عَلَى تَفْسِيرهَا بِمَكْرُوهٍ ، فَقَدْ يَقَع عَلَى تِلْكَ الصِّفَة ، وَإِلَّا فَيَحْصُل لَهُ فِي الْحَال حُزْن وَنَكَد مِنْ سُوء تَفْسِيرهَا ؛ وَاللَّهُ أَعْلَم ([1])؛ وفي حديث أبي رزين العقيلي t عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجةمرفوعا: " وَلَا تُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا لَبِيبًا أَوْ حَبِيبًا " فـ(أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ ؛ واللبيب : العَاقِل ، وهو إِمَّا أن يَعْبُرُ بِالْمَحْبُوبِ ، أَوْ يَسْكُتُ عَنْ الْمَكْرُوهِ ؛ والحَبِيب، أَيْ : المُحِبُّ لَا يَعْبُرُ لَك إِلَّا بِمَا يَسُرُّك ، وفي رواية : " وَلَا يَقُصّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْي " ([2]) ؛ والوادُّ اِسْم فَاعِل مِنْ الْوُدِّ .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فقد يكون حكايتهالمبغضداعيًالأن يكيد له كيدا ؛ كما يفهم من وصية يعقوب ليوسف - عليهما السلام : ] لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ[ ( يوسف : 5 ).

4 - لا يطلب تأويلها إلا من عالم بتعبير الرؤى ؛ ففِي حديث أبي هريرة المتقدم " لَا تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ " ؛ وليس كل أحد يحسن تأويل الرؤى ، فإنه علم دقيق ؛ وقوله e في حديث أبي رزين العقيلي : " أَوْ ذِي رَأْي " مَعْنَاهُ : ذُو عِلْم بِعِبَارَةِ الرُّؤْيَا ؛ فَإِنَّهُ يُخْبِرك بِحَقِيقَةِ تَفْسِيرهَا أَوْ بِأَقْرَب مَا يُعْلَم مِنْهُ ؛ نقله العظيم أبادي في ( عون المعبود ) عن الزَّجَّاج ( [3] ) . ونقل ابن حجر عن الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيِّ قَالَ : أَمَّا الْعَالِم فَإِنَّهُ يُؤَوِّلهَا لَهُ عَلَى الْخَيْر مَهْمَا أَمْكَنَهُ ، وَأَمَّا النَّاصِح فَإِنَّهُ يُرْشِد إِلَى مَا يَنْفَعهُ وَيُعِينهُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا اللَّبِيب وَهُوَ الْعَارِف بِتَأْوِيلِهَا فَإِنَّهُ يُعْلِمهُ بِمَا يُعَوَّل عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَوْ يَسْكُت ، وَأَمَّا الْحَبِيب فَإِنْ عَرَفَ خَيْرًا قَالَهُ وَإِنْ جَهِلَ أَوْ شَكَّ سَكَتَ ؛ ثم قال ابن حجر – رحمه الله : قُلْت : وَالْأَوْلَى الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّبِيب عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْعَالِم ؛ وَالْحَبِيب عَبَّرَ بِهِ عَنْ النَّاصِح ( [4] ) .ا.هـ . قال مقيده - عفا الله عنه - وهو جمع حسن . وسيأتي مزيد بيان عند الحديث عن ( من يعبر الرؤيا ؟ ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .
[1] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 20 .

[2] - سيأتي الحديث بتمامه وتخريجه إن شاء الله تعالى .

[3] - انظر عون المعبود : 8 / 331 ( دار الحديث ) .

[4] - انظر فتح الباري : 12 / 386 .
 
فائدة :
قال ابن حجر – رحمه الله : وَذَكَرَ أَئِمَّة التَّعْبِير أَنَّ مِنْ أَدَب الرَّائِي أَنْ يَكُون صَادِق اللَّهْجَة ، وَأَنْ يَنَام عَلَى وُضُوء عَلَى جَنْبه الْأَيْمَن ، وَأَنْ يَقْرَأ عِنْدَ نَوْمه الشَّمْس وَاللَّيْل وَالتِّين وَسُورَة الْإِخْلَاص وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ، وَيَقُول : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِك مِنْ سَيِّئ الْأَحْلَام , وَأَسْتَجِير بِك مِنْ تَلَاعُب الشَّيْطَان فِي الْيَقَظَة وَالْمَنَام ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك رُؤْيَا صَالِحَة صَادِقَة نَافِعَة حَافِظَة غَيْر مُنْسِيَة , اللَّهُمَّ أَرِنِي فِي مَنَامِي مَا أُحِبُّ ؛ وَمِنْ أَدَبه أَنْ لَا يَقُصَّهَا عَلَى عَدُوٍّ وَلَا جَاهِل ( [1] ) .

[1] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 451 مختصرا ؛ وما ذكره الحافظ نقلا عن أئمة التغبير من القراءة والدعاء المذكورين ؛ ليس عليه دليل ، لكن يجوز فعله لمناسبة الحال ، وحتى لا يظن أحد سنيته ، لزم التنويه ؛ ويكفي في ذلك ما ثبت عن النبي e من أذكار عند النوم .
 
فصل : أصدق الرؤى

يتعلق الحكم على ( أصدق الرؤى ) بوقت الرؤيا من ليل أو نهار ، وزمانها من حيث اعتدال الزمان أو قرب الساعة ، وحال الرائي من صدق أو كذب ؛ ولا يثبت شيء من هذا إلا بدليل ، أو طول تمرس وسبر لأحوال الرائين .
فأما ما يتعلق بوقت الرؤيا ؛ فقد بوب البخاري بابين ، الأول : ( بَاب رُؤْيَا اللَّيْل ) قال ابن حجر : أَيْ رُؤْيَا الشَّخْص فِي اللَّيْل هَلْ تُسَاوِي رُؤْيَاهُ بِالنَّهَارِ أَوْ تَتَفَاوَتَانِ ؟ وَهَلْ بَيْن زَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَفَاوُتٌ ؟ وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أَبِي سَعِيد " أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالْأَسْحَارِ " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان ؛ وَذَكَرَ نَصْر بْن يَعْقُوب الدِّينَوَرِيّ أَنَّ الرُّؤْيَا أَوَّلَ اللَّيْل يُبْطِئ تَأْوِيلُهَا ، وَمِنْ النِّصْف الثَّانِي يُسْرِع بِتَفَاوُتِ أَجْزَاء اللَّيْل ، وَأَنَّ أَسْرَعَهَا تَأْوِيلًا رُؤْيَا السَّحَر ، وَلَا سِيَّمَا عِنْد طُلُوع الْفَجْر , وَعَنْ جَعْفَر الصَّادِق أَسْرَعُهَا تَأْوِيلًا رُؤْيَا الْقَيْلُولَة ( [1] ) . والباب الثاني : ( بَاب الرُّؤْيَا بِالنَّهَارِ )، وروى عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قال : رُؤْيَا النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ ( [2] ) ، قال الحافظ في ( الفتح ) : قَالَ الْقَيْرَوَانِيّ : وَلَا فَرْقَ فِي حُكْم الْعِبَارَة بَيْن رُؤْيَا اللَّيْل وَالنَّهَار ، وَكَذَا رُؤْيَا النِّسَاء وَالرِّجَال ، وَقَالَ الْمُهَلَّب نَحْوه ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْو مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضهمْ فِي التَّفَاوُت , وَقَدْ يَتَفَاوَتَانِ أَيْضًا فِي مَرَاتِب الصِّدْق ( [3] ) .
والحديث الذي أشار إليه الحافظ رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالْأَسْحَارِ " ( [4] ) أَيْ : مَا رُئِيَ بِالْأَسْحَارِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ الْخَوَاطِرُ مُجْتَمِعَةً وَالدَّوَاعِي سَاكِنَةً ، وَلِأَنَّ الْمَعِدَةَ خَالِيَةٌ فَلَا يَتَصَاعَدُ مِنْهَا الْأَبْخِرَةُ الْمُشَوِّشَةُ ، وَلِأَنَّهَا وَقْتُنُ زُولِ الْمَلَائِكَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَشْهُودَةِ ؛ ذَكَرَهُالطِّيبِيُّ([5]) ؛ وقال ابن العربي - رحمه الله : وذلك لوجهين : أحدهما : فضل الوقت بانتشار الرحمة فيه ؛ والثاني : لراحة القلب والبدن بالنوم ، وخروجهما عن تعب الخواطر وتوتر الشعور والتصرفات ، ومتى كان القلب أفرغ كان الوعي لما يلقى إليه ( [6] ) .
قال مقيده عفا الله عنه : لو صح الحديث لكان رافعا للإشكال ، ولكنه فيه ضعف ، فلذلك نقلنا الخلاف في الوقت ؛ ونقل ابن بطال عن المهلب قال : معنى هذين البابين أنه لا يخص نوم النهار على نوم الليل، ولا نوم الليل على نوم النهار بشيء من صحة الرؤيا وكذبها ، وأن الرؤيا متى أريت فحكمها واحد .ا.هـ . على أنه يمكن أن يترجح وقت السحر بفضيلة هذا الوقت وبما ذكر العلماء من حال الرائي في هذا الوقت ، قال ابن القيم - رحمه الله - في ( مدارج السالكين ) : وأصدق الرؤيا رؤيا الأسحار ، فإنه وقت النزول الإلهي ، واقتراب الرحمة والمغفرة ، وسكون الشياطين ؛ وعكسه رؤيا العتمة عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية .ا.هـ ( [7] ) . والعلم عند الله تعالى .
فهذا ما يختص بوقت الرؤيا .
وأما ما يتعلق بزمان الرؤيا وحال الرائي ؛ ففي المقال الآتي ... إن شاء الله تعالى .

[1] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 407 ( دار الريان للتراث ) .

[2] - رواه معلقا عن ابن سيرين في ترجمة بَاب ( الرُّؤْيَا بِالنَّهَارِ ) من كتاب ( التعبير ) .

[3] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 409 ( دار الريان للتراث ) .

[4] - أحمد : 3 / 29 ، 68 ، والترمذي ( 2274 ) ، والدارمي ( 2146 ) ، وفي إسناده ابن لهيعة لكنه من حديث قتيبة عنه عند الترمذي ، وقتيبة ممن سمع منه قديما ، وتابعه عمرو بن الحارث عن دراج به عند أحمد : 3 / 68 ، وابن حبان ( 1799 ) والحاكم : 4 / 392 ، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي ؛ لكنَّ درَّاجا أبا السمح ضعيف في روايته عن أبي الهيثم ، ويحسِّن له عنأبيالهيثمالترمذيوابنحبانوالحاكم، وقد أورده الذهبي في ( المغني في ضعفاء الرجال ) وقال : ضعفه أبو حاتم ، وقال أحمد : أحاديثه مناكير ؛ وعد ابن عدي هذا الحديث مما أنكر من أحاديث درَّاج ؛ و أما الترمذي فسكت عنه .

[5] - نقلا عن تحفة الأحوذي للمباركفوري : 6 / 552 .

[6] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 108 ( دار الفكر – بيروت )

[7] - انظر مدارج السالكين : 1 / 52 .
 
ما يتعلق بزمان الرؤيا وحال الرائي
في حديث أبي هريرة المتقدم : " إِذَا اِقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ ؛ وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا " .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره : قِيلَ : الْمُرَاد إِذَا قَارَبَ الزَّمَان أَنْ يَعْتَدِل لَيْله وَنَهَاره ، وَقِيلَ : الْمُرَاد إِذَا قَارَبَ الْقِيَامَة ؛ وَالْأَوَّل أَشْهَر عِنْد أَهْل عَبْر الرُّؤْيَا ، وَجَاءَ فِي حَدِيث مَا يُؤَيِّد الثَّانِي ؛ وَاللَّهُ أَعْلَم ( [1] ) . وقَالَ صَاحِبُ ( الْفَائِقِ ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا أَنَّهُ أَرَادَ آخِرَ الزَّمَانِ وَاقْتِرَابَ السَّاعَةِ ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَلَّ وَتَقَاصَرَ تَقَارَبَتْ أَطْرَافُهُ ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ e : " فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ " ( [2] ) ؛ ثَانِيهَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اِسْتِوَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، لِزَعْمِ الْعَابِرِينَ أَنَّ أَصْدَقَ الْأَزْمَانِ لِوُقُوعِ الْعِبَارَةِ وَقْتُ اِنْفِتَاقِ الْأَنْوَارِ ، وَزَمَانُ إِدْرَاكِ الْأَثْمَارِ ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ . وَثَالِثُهَا أَنَّهُ مِنْ قوله e : " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمْعَةِ ، وَالْجُمْعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَالْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ " ، قَالُوا : يُرِيدُ بِهِ زَمَنَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ وَبَسْطِ الْعَدْلِ وَذَلِكَ زَمَانٌ يُسْتَقْصَرُ لِاسْتِلْذَاذِهِ فَيَتَقَارَبُ أَطْرَافُهُ .ا.هـ ( [3] ) . ورجح ابن العربي في ( عارضة الأحوذي ) أن المراد بتقارب الزمان : اقتراب يوم القيامة ، فإنها الحاقة التي تحق فيها الحقائق ، فكلما قرب منها فهو أخص بها ( [4] ) ، وكذا رجحه الحافظ في ( فتح الباري ) ( [5] ) . وقال ابن القيم : وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ كما قال النبي e ؛ وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها ، فيتعوض المؤمنون بالرؤيا ؛ وأما في زمن قوة نور النبوة ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا ( [6] ) . فهذا ما يختص بالزمان .

ما يتعلق بحال الرائي
فقَوْله e : " وَأَصْدَقكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقكُمْ حَدِيثًا " قال النووي - رحمه الله : ظَاهِره أَنَّهُ عَلَى إِطْلَاقه ؛ لِأَنَّ غَيْر الصَّادِق فِي حَدِيثه يَتَطَرَّق الْخَلَل إِلَى رُؤْيَاهُ وَحِكَايَته إِيَّاهَا .ا.هـ ( [7] ) . ورواية الترمذي : " وَأَصْدَقهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقهُمْ حَدِيثًا " قال ابن العربي - رحمه الله : وذلك لأن الأمثال إنما تضرب على مقتضى أحواله من تخليط وتحقيق ، وكذب وصدق ، وهزل وجد ، ومعصية وطاعة .. قال ابن سيرين : ما احتلمت في حرام قط ، فقال بعضهم : ليت عقل ابن سيرين في المنام يكون لي في اليقظة ( [8] ) .
قال الغزالي - رحمه الله : الرؤيا انكشاف لا يحصل إلا بانقشاع الغشاوة عن القلب فلذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الصالح الصادق ، ومن كثر كذبه لم تصدق رؤياه ، ومن كثر فساده ومعاصيه أظلم قلبه فكان ما يراه أضغاث أحلام ؛ ولهذا أمر بالطهارة عند النوم لينام طاهرًا ، وهو إشارة لطهارة الباطن أيضا فهو الأصل ، وطهارة الظاهر كالتتمة ( [9] ) .
قال ابن القيم - رحمه الله : والرؤيا مبدأ الوحي ؛ وصدقها بحسب صدق الرائي ، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا ، وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ كما قال النبي e ( [10] ) .

[1] - نقلا عن شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 23 ( دار المعرفة - ط 8 ) ، وفتح الباري : 12 / 423 ( الريان للتراث ) .

[2] - معنى حديث أبي هريرة المتقدم : " إذا تقارب الزمان .. " الحديث .

[3] - انظر ( الفائق في غريب الحديث ) للزمخشري : 3 / 175 .

[4] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 105 ( دار الفكر – بيروت ) .

[5] - انظر فتح الباري : 12 / 423 ( الريان للتراث ) .

[6] - انظر مدارج السالكين : 1 / 50 .

[7] - نقلا عن شرح النووي على صحيح مسلم : 15 / 23 ( دار المعرفة – ط 8 ) .

[8] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 105 ( دار الفكر – بيروت )

[9] - نقلا عن فيض القدير : 4 / 60 .

[10] - انظر مدارج السالكين : 1 / 50 .
 
فوائد
1 - قال ابن القيم - رحمه الله : ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق ، وأكل الحلال ، والمحافظة على الأمر والنهي ، ولينم على طهارة كاملة ، مستقبلا لقبلة ، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه ، فإن رؤياه لا تكاد تكذب ألبتة ( [1] ) .
2 - قال الكرماني - رحمه الله : رؤيا المسلم أصدق من رؤيا الكافر ، ورؤيا العالم أصدق من رؤيا الجاهل ، ورؤيا المستور أصدق من رؤيا غير المستور ، ورؤيا الشيخ أصدق من رؤيا الشاب ( [2] ) .
3 - الرؤيا الصادقة قسمان : قسم مفسر ظاهر لا يحتاج إلى تعبير ولا يفتقر إلى تفسير ؛ وقسم مكنى مضمر تودع فيه الحكمة والأنباء في جواهر مرئياته ( [3] ) .
4 - قال النابلسي : وأصدق الرؤيا رؤيا ملك أو مملوك ؛ وقد يكون الإنسان صدوقًا في حديثه فتصدق رؤيته ، وقد يكون كذابًا ويحب الكذب فتكذب عليه رؤيته ، أو يكون كذابًا يكره الكذب من غيره ، فتصدق رؤيته ( [4] ) .

[1] - انظر مدارج السالكين : 1 / 51 ، 52 .

[2] - نقلا عن ( الإشارات في علم العبارات ) لابن شاهين ص 647 .

[3] - انظر ( تعطير الأنام ) ص 352 .

[4] - انظر ( تعطير الأنام ) : 2 / 353 .
 
فصل : من تحلَّم كاذبًا
يولع البعض بمحاولة إثارة الاهتمام حوله بأنه يرى رؤى عجيبة وأنها تتحقق ، وقد يقص أشياء من خياله ثم ينزلها على بعض الوقائع ، ليوهم السامعين بأنه صادق ؛ وهذا من أكذب الكذب ، لأنه كذب على الله تعالى ، وافتراء على مقام النبوة إذ الرؤيا جزء من النبوة كما تقدم ، وصاحبه - إن لم يتب - يعذب بهذا الافتراء يوم القيامة .
فقد روى البخاري وغيره عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ " ( [1] ) ، ورواه أحمد والبخاري وغيرهما عَنْ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ ، أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e مَا لَمْ يَقُلْ " وفي لفظ لأحمد : " إِنَّ أَعْظَمَ الْفِرْيَةِ ثَلَاثٌ : أَنْ يَفْتَرِيَ الرَّجُلُ عَلَى عَيْنَيْهِ ، يَقُولُ : رَأَيْتُ وَلَمْ يَرَ ؛ وَأَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى وَالِدَيْهِ ، يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ ؛ وَأَنْ يَقُولَ : قَدْ سَمِعْتُ وَلَمْ يَسْمَعْ " ورواه الطبراني عَنْ وَاثِلَةَ بلفظ : " أَفْرَى الْفِرَى : مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ ، وَمَنْ أَرَى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ يَرَ ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ " ( [2] ) .
وأَفْرَى : أَفْعَل تَفْضِيل ، أَيْ : أَعْظَم الْكِذْبَات ، وَالْفِرَى ( بِكَسْرِ الْفَاء وَالْقَصْر ) جَمْع فِرْيَة ، قَالَ ابْن بَطَّال : الْفِرْيَة : الْكِذْبَة الْعَظِيمَة الَّتِي يُتَعَجَّب مِنْهَا ؛ وَقَالَ الطِّيبِيُّ : فَأَرَى الرَّجُل عَيْنَيْهِ وَصَفَهُمَا بِمَا لَيْسَ فِيهِمَا .. قَالَ : وَنِسْبَة الْكِذْبَات إِلَى الْكَذِب لِلْمُبَالَغَةِ نَحْو قَوْلهمْ : لَيْل أَلْيَل . قال ابن حجر : وقَوْله : " أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ " مَعْنَى نِسْبَة الرُّؤْيَا إِلَى عَيْنَيْهِ - مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا شَيْئًا - أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمَا بِالرُّؤْيَةِ وَهُوَ كَاذِب ( [3] ) .
وَهذا بَيِّن في كَوْن هَذَا الْكَذِب أَعْظَم الْأَكَاذِيب ؛ لأن الرؤيا جزء من النبوة والكاذب فيها كاذب على الله ، وهو أعظم الفرى ، وأولى بعظيم العقوبة ؛ فقد روى البخاري وغيره عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ " ؛ وفِي رِوَايَة عِنْدَ أَحْمَد : " عُذِّبَ حَتَّى يَعْقِد بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَيْسَ عَاقِدًا " وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَة : " مَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا دُفِعَ إِلَيْهِ شَعِيرَة وَعُذِّبَ حَتَّى يَعْقِد بَيْنَ طَرَفَيْهَا وَلَيْسَ بِعَاقِدٍ " ( [4] ) ، قَوْله : " مَنْ تَحَلَّمَ " أَيْ : مَنْ تَكَلَّفَ الْحُلْم ؛ وَالْمُرَاد بقوله : " كُلِّفَ " نَوْع مِنْ التَّعْذِيب ؛ قال الكلاباذي في ( بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار ) : وإنما عظمت عقوبة من كذب على عينيه في الرؤيا لعظم جرمه وكبير ذنبه ، وذلك أنه كذب على الله U أو على ملَك الرؤيا ، والكذب على الملَك كذب على الله تعالى ؛ لأن الإنسان إنما يدعي ويكذب بالرؤيا الصالحة التي هي بشرى من الله U ، ولا يكاد يتخرص بالرؤيا التي هي حلم من الشيطان ، أو حديث النفس التي هي أضغاث أحلام .ا.هـ .
وَمَعْنَى الْعَقْد بَيْنَ الشَّعِيرَتَيْنِ أَنْ يَفْتِل إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُمْكِن عَادَةً ؛ قال ابن العربي - رحمه الله : إن المخبر بما لم ير عقد من الكلام عقدا باطلا لم يشعر به ، أي لم يعلمه ؛ فقيل له : اعقد بين شعيرتين أو اعقد في شعرة واحدة عقدتين ، ولا ينعقد ذلك أبدًا عقوبة لعقده بين كلمات لم يكن منها شيء ؛ وذلك عقوبة من جنس الذنب ؛ وخص الشعر بذلك لما بينهما من نسبة تلبيسه بما لم يشعر به ( [5] ) .

[1] - رواه أحمد : 2 / 96 ، 118 ، والبخاري ( 7043 ) ، والبيهقي ( 4771 ) عن ابن عمر .

[2] - أحمد : 3 / 490 ، 4 / 106 ، 107 ، والبخاري ( 3509 ) ، وابن حبان ( 32 ) ، والحاكم ، وصححه ووافقه الذهبي ؛ ورواه الطبراني في الكبير : .

[3] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 449 .

[4] - أحمد : 1 / 359 ، والبخاري ( 7042 ) ، وأبو داود ( 5024 ) ، والترمذي ( 2283 ) ، وابن ماجة ( 3916 ) ، وابن حبان ( 5685 ) عن ابن عباس .

[5] - انظر ( عارضة الأحوذي ) : 5 / 111 ( دار الفكر – بيروت )
 
هل تقع الرؤيا الكاذبة إذا عبرت ؟
قد يجعل الله تعالى عقوبة بعض من يكذب في رؤياه - ويحاول أن يجد لكذبه تعبيرا - وقوع ما عبرت به إن كان ذلك مما تكرهه النفس ؛ فقد أخرج الحاكم عن ابن مسعود t في رؤيا صاحبي يوسف في السجن ؛ قال : لما حكيا ما رأياه ، وعبر يوسف u ، قال أحدهما : ما رأينا شيئا ! فقال : ] قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [ ( [1] ) ؛ قال ابن كثير رحمه الله : وحاصله أن من تحلم بباطل وفسره فإنه يلزم بتأويله ، والله تعالى أعلم ( [2] ) .
وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب t فقال : إني رأيت كأن الأرض أعشبت ثم أجدبت ، ثم أعشبت ثم أجدبت ؛ فقال عمر : أنت رجل تؤمن ثم تكفر ، ثم تؤمن ثم تكفر ، ثم تموت كافرا ، فقال الرجل : لم أر شيئا ! فقال عمر : ] قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [ ، قد قضي لك ما قضي لصاحب يوسف ( [3] ) .
وقال الذهبي - رحمه الله : وعن هشام بن حسان قال : قص رجل على ابن سيرين ، فقال : رأيت كأن بيدي قدحًا من زجاج فيه ماء ، فانكسر القدح وبقي الماء ؛ فقال له : اتق الله ، فإنك لم تر شيئا ؛ فقال : سبحان الله ! أقص عليك الرؤيا وتقول لم تر شيئا ؟ قال ابن سيرين : فمن كذب فما علي ، ستلد امرأتك وتموت ، ويبقى ولدها .
فلما خرج الرجل قال : والله ما رأيت شيئا ؛ فما لبث أن ولد له وماتت امرأته ( [4] ) .
قال النابلسي في ( تعطير الأنام ) : وإذا سأل سائل عن رؤيا عنادًا ولم يكن رآها ، فلا يترك المعبر سؤاله بغير جواب ؛ فإنه إن كان خيرًا فمصروف إلى المعبر ، وإن كان شرًا فمصروف إلى المعاند ، لأنه مخذول ، والمجيب منصور على أعدائه ؛ كما ورد في قصة يوسف u حين سأله الفتيان في السجن عنادًا فـ ] قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ [ فقال لهما يوسف u : ] أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [ ( يوسف: 41 ) ( [5] ) .

[1] - ابن جرير : 12 / 131 ، وابن أبي حاتم : 7 / 2148 ، ورواه الحاكم : 2 / 346 ، وصححه ، ورواه بنحوه : 4 / 395 ، 396 ، و صححه على شرطهما ، ووافقه الذهبي .

[2] - انظر تفسير ابن كثير عند الآية ( 41 ) من سورة يوسف .

[3] - مصنف عبد الرزاق ( 20362 ) ، وإسناده صحيح إلى قتادة ، إلا أن قتادة لم يدرك عمر ؛ وقد حكى ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) في ترجمة صفوان بن أمية ، هذه القصة وذكر أن صاحبها ربيعة ابن أمية بن خلف ، وأنه شرب الخمر في عهد عمر فجلده الحد ونفاه إلى خيبر فلحق بالروم فتنصر . انظر الاستيعاب ص 366 – دار المعرفة ( ط1 - 1427 هـ - 2006 م ) .

[4] - انظر ( تاريخ دمشق ) : 53 / 232 ، و ( سير أعلام النبلاء ) : 4 / 617 .

[5] - ( تعطير الأنام في تفسير الأحلام ) ص 7 .
 
فصل : من يعبر الرؤيا ؟
تعبير الرؤيا هو تفسيرها بما يؤول إليه أمرها ؛ يقال : عَبَرتُ الرُّؤْيا أعبُرُها عَبْرًا , وعَبَّرتُها تَعْبيرًا ، إذا أوّلْتُها وفَسَّرتُها وخبَّرت بآخِر ما يؤُول إليه أمرُها , والعابرُ : الناظرُ في الشَّيء والمعتَبِر : المُسْتَدِلُّ بالشَّيء على الشَّيء ( [1] ) 0 وقيل : التعبير مختص بتفسير الرؤيا : وهو العبور من ظواهرها إلى بواطنها ( [2] ) .
وتعبير الرؤى وتفسيرها علم شريف دقيق ، لا يحسنه كل أحد ، وعلى هذا درج الناس منذ القديم ؛ حتى قال الملأ لملك مصر لما سألهم عن رؤيته التي رآها : ] أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [ ( يوسف : 44 ) ، فلما عرضت على يوسف u ظهر أنها رؤيا وأن لها تفسيرًا ، وأن تفسيرها وقع كما فسرها يوسف e .

[1] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ( مادة : ع ب ر ) .

[2] - انظر ( التعاريف ) للمناوي ص 557 .
 
لا تقص الرؤيا إلا على ناصح أو عالم

تقدم أن من آداب الرؤيا ألا يطلب تأويلها إلا من عالم بتعبير الرؤى ؛ ونزيد هنا بيانا لذلك ؛ فقد روى الحاكم عن أنس t قال : قال رسول الله e : " إن الرؤيا تقع على ما تعبر ؛ ومَثَلُ ذلك مَثل رجلٍ رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها ، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحًا أو عالِمًا " ( [1] ) .
فالحديث صريح بأن الرؤيا تقع على ما تفسر به ، ولذلك أرشدنا رسول الله e إلى أن لا نقصها إلا على ناصح أو عالم ؛ وتقدم قول ابْن الْعَرَبِيِّ - رحمه الله : أَمَّا الْعَالِم فَإِنَّهُ يُؤَوِّلهَا لَهُ عَلَى الْخَيْر مَهْمَا أَمْكَنَهُ، وَأَمَّا النَّاصِح فَإِنَّهُ يُرْشِد إِلَى مَا يَنْفَعهُ وَيُعِينهُ عَلَيْهِ.ا.هـ. وعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " رُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ " وفي رواية : قَالَ : وَأَحْسَبُهُ قَالَ : " وَلَا يُحَدِّثُ بِهَا إِلَّا لَبِيبًا أَوْ حَبِيبًا " ، وفي أخرى : " وَلَا تَقُصَّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ " ( [2] ) . فقوله : " عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ " هَذَا مَثَلٌ فِي عَدَمِ تَقَرُّرِ الشَّيْءِ ، أَيْ : لَا تَسْتَقِرُّ الرُّؤْيَا قَرَارًا كَالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ ؛ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ بِرِجْلِ الطَّائِرِ لَا اِسْتِقْرَارَ لَهَا ( [3] ) ؛ وقَالَ ابن الأثير فِي ( النِّهَايَةِ في غريب الحديث ) : أَيْ لَا يَسْتَقِرُّ تَأْوِيلُهَا حَتَّى تُعْبَرَ ، يُرِيدُ أَنَّهَا سَرِيعَةُ السُّقُوطِ إِذَا عُبِّرَتْ ؛ كَمَا أَنَّ الطَّيْرَ لَا يَسْتَقِرُّ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَا عَلَى رِجْلِهِ ( [4] ) ؟ وقوله : " فَإِذَا تَحَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ " أَيْ تِلْكَ الرُّؤْيَا عَلَى الرَّائِي يَعْنِي يَلْحَقُهُ حُكْمُهَا .

ولكي يقف القارئ على خطورة تعبير الرؤيا ، يقرأ هذا الحديث بتدبر وتأمل : روى الدارمي عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهَا زَوْجٌ تَاجِرٌ يَخْتَلِفُ [ يعني في التجارة ] ، فَكَانَتْ تَرَى رُؤْيَا كُلَّمَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا - وَقَلَّمَا يَغِيبُ إِلَّا تَرَكَهَا حَامِلًا - فَتَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ e فَتَقُولُ : إِنَّ زَوْجِي خَرَجَ تَاجِرًا فَتَرَكَنِي حَامِلًا ، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ سَارِيَةَ بَيْتِي انْكَسَرَتْ ، وَأَنِّي وَلَدْتُ غُلَامًا أَعْوَرَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " خَيْرٌ ؛ يَرْجِعُ زَوْجُكِ عَلَيْكِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - صَالِحًا ، وَتَلِدِينَ غُلَامًا بَرًّا " فَكَانَتْ تَرَاهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ تَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ e فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهَا ، فَيَرْجِعُ زَوْجُهَا وَتَلِدُ غُلَامًا ؛ فَجَاءَتْ يَوْمًا كَمَا كَانَتْ تَأْتِيهِ وَرَسُولُ اللَّهِ e غَائِبٌ ، وَقَدْ رَأَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا ، فَقُلْتُ لَهَا : عَمَّ تَسْأَلِينَ رَسُولَ اللَّهِ e يَا أَمَةَ اللَّهِ ؟ فَقَالَتْ : رُؤْيَا كُنْتُ أرَاهَا فَآتِي رَسُولَ اللَّهِ e فَأَسْأَلُهُ عَنْهَا فَيَقُولُ خَيْرًا ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ ؛ فَقُلْتُ : فَأَخْبِرِينِي مَا هِيَ ؟ قَالَتْ : حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ e فَأَعْرِضَهَا عَلَيْهِ كَمَا كُنْتُ أَعْرِضُ ؛ فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهَا حَتَّى أَخْبَرَتْنِي ، فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَيَمُوتَنَّ زَوْجُكِ ، وَتَلِدِينَ غُلَامًا فَاجِرًا ؛ فَقَعَدَتْ تَبْكِي ، وَقَالَتْ : مَا لِي حِينَ عَرَضْتُ عَلَيْكِ رُؤْيَايَ ؟! فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ e وَهِيَ تَبْكِي ، فَقَالَ لَهَا : " مَا لَهَا يَا عَائِشَةُ " فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ ، وَمَا تَأَوَّلْتُ لَهَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَهْ يَا عَائِشَةُ ! إِذَا عَبَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِ الرُّؤْيَا فَاعْبُرُوهَا عَلَى الْخَيْرِ ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا تَكُونُ عَلَى مَا يَعْبُرُهَا صَاحِبُهَا " فَمَاتَ وَاللَّهِ زَوْجُهَا ، وَلَا أُرَاهَا إِلَّا وَلَدَتْ غُلَامًا فَاجِرًا ( [5] ) .

[1] - الحاكم : 4 / 391 ، وصححه ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في ( الصحيحة رقم 120 ) .

[2] - أحمد : 4 / 10 ، وأبو داود ( 5020 ) ، والترمذي ( 2278 ، 2279 ) وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة (3914)، والدارمي ( 2144 ) ، وابن حبان ( 6050 ) وغيرهم كلهم عن أبي رزين العقيلي ؛ واسمه لقيط بن صبرة .

[3] - انظر ( تحفة الأحوذي ) للمباركفوري : 6 / 558 ( دار إحياء التراث ) باختصار .

[4] - النهاية في غريب الحديث والأثر : 3 / 150 .

[5] - الدارمي ( 2163 ) ، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : 12 / 451 .
 
أقوال العلماء فيمن يعبر الرؤيا
أنقل في هذا المقام كلمات لأهل العلم ليُعلم شرف هذا العلم ودقته ، فلا يتسور عليه متجرئ ، ولا يدعيه من ليس من أهله .
قال ابن عبد البر - رحمه الله : قيل لمالك - رحمه الله : أيعبر الرؤيا كل احد ؟ فقال : أبالنبوة يلعب ؟ وقال مالك : لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها ، فإن رأى خيرًا أخبر به ، وإن رأى مكروها فليقل خيرًا أو ليصمت ؛ قيل : فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه ، لقول من قال : إنها على ما أولت عليه ؟ فقال : لا ؛ ثم قال : الرؤيا جزء من النبوة ، فلا يتلاعب بالنبوة ( [1] ) . وقال أبو الوليد الباجي في ( المنتقى شرح الموطأ ) : وَلَا يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إِلَّا مَنْ يُحْسِنُهَا ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يُحْسِنُهَا فَلْيَتْرُكْ .ا.هـ . ثم نقل كلام مالك السابق .
وقال الراغب - رحمه الله : الرؤيا فعل للنفس الناطقة ، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة ، وهي ضربان : ضربٌ - وهو الأكثر - أضغاث أحلام وأحاديث نفس من الخواطر الرديئة ، تكون النفس في تلك الحال كالماء المتموج الذي لا يقبل صورة ؛ وضربٌ - وهو الأقل - صحيح ؛ هو قسمان : قسم لا يحتاج إلى تأويل ، وقسم يحتاج إليه ؛ ولهذا يحتاج المعبر إلى مهارة للفرق بين الأضغاث وغيرها ، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية ، ويفرق بين طبقات الناس : إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا ؛ ثم من تصح له : منهم مَنْ يرشح لأن يلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة ، ومنهم من لا يرشح لذلك ... قال : وهذا العلم لا يحتاج إلى مناسبة بينه وبين متحريه ، فرب حكيم لا يرزق حذقا فيه ، ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم يوجد له فيه قوة عجيبة ( [2] ) .
وقال ابن تيمية - رحمه الله : فمعلوم أن العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام الذي يخبر به ، فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفية غامضة ، لا يهتدي لها جمهور الناس ( [3] ) .
وقال ابن القيم - رحمه الله - عن عِبَارَةِ الرّؤْيَا : فَإِنّ الْعَبْدَ إذَا نَفَذَ فِيهَا وَكَمُلَ اطّلَاعُهُ جَاءَ بِالْعَجَائِبِ ، وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورًا عَجِيبَةً يَحْكُمُ فِيهَا الْمُعَبِّرُ بِأَحْكَامِ مُتَلَازِمَةٍ صَادِقَةٍ سَرِيعَةٍ وَبَطِيئَةٍ ، وَيَقُولُ سَامِعُهَا : هَذِهِ عِلْمُ غَيْبٍ ؛ وَإِنّمَا هِيَ مَعْرِفَةُ مَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَسْبَابِ انْفَرَدَ هُوَ بِعِلْمِهَا وَخَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهِ ( [4] ) .
وقال ابن خلدون - رحمه الله : والرؤيا مدرك من مدارك الغيب ... قال : ثم إن علم التعبير : علمٌ بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يُقص عليه وتأويله ؛ كما يقولون : البحر يدل على السلطان ، وفي موضع آخر يقولون : البحر يدل على الغيظ ، وفي موضع آخر يقولون : البحر يدل على الهم والأمر الفادح .
ومثل ما يقولون : الحية تدل على العدو ، وفي موضع آخر يقولون : هي كاتم سر ، وفي موضع آخر يقولون : تدل على الحياة .. وأمثال ذلك فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية ، ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ، ما هو أليق بالرؤيا .
وتلك القرائن منها في اليقظة ، ومنها في النوم ، ومنها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه ، وكل ميسر لما خلق .
ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف ؛ وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء ، وكتب عنه في ذلك القوانين ، وتناقلها الناس لهذا العهد ، وألف الكرماني فيه من بعده ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل : ( الممتع ) وغيره ؛ وكتاب : ( الإشارة ) للسالمي ؛ وهو علم مضيء بنور النبوة للمناسبة بينهما كما وقع في الصحيح ، والله علام الغيوب .ا.هـ ( [5] ) .
وقال خليل بن شاهين الظاهري ( ت : 873 ) - رحمه الله - في ( الإشارات في علم العبارات ) : لا ينبغي أن تقص الرؤيا إلا على معبر ؛ ويجب على من لا يعرف علم التعبير أن لا يعبر رؤيا أحد فإنه يأثم على ذلك ؛ لأنها كالفتوى ، وهي في الحقيقة علم نفيس .ا.هـ .
فليس تعبير الرؤيا ضرب من الخيال ، ولا نوع من الشعوذة ؛ وإنما هي علم يختص الله به من يشاء من عباده ، ويحتاج إلى أدوات ، وفراسة ، واجتهاد ، وكثرة اطلاع على أقوال المعبرين ، وحسن مقايسة بين الأشياء ؛ وله أهله الذين برعوا فيه وكتبوا في أصوله وفروعه .

[1] - التمهيد : 1 / 288 .

[2] - نقلا عن ( فيض القدير ) للمناوي : 4 / 47 .

[3] - انظر مجموعة الفتاوى : 17 / 403 .

[4] - انظر ( زاد المعاد ) : 5 / 696 .

[5] - انظر مقدمة ابن خلدون ص ، وانظر أبجد العلوم : 2 / 166 : 168 ( الكتب العلمية ) .
 
هل الرُّؤْيا لأوَّلِ عابرٍ ؟
هل تقع الرؤيا على ما يعبره أول عابر لها وإن كان جاهلا بالتعبير ؟ هذا مما اختلف فيه أهل العلم ؛ وقد بوَّب البخاري ( بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِر إِذَا لَمْ يُصِبْ ) ؛ قال الحافظ في الفتح : كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أَنَس t قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه e - فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ : " وَالرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِر " ( [1] ) وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف ، فِيهِ يَزِيد الرَّقَاشِيِّ , وَلَكِنْ لَهُ شَاهِد أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَن وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم عَنْ أَبِي رَزِين الْعَقِيلِيِّ رَفَعَهُ : " الرُّؤْيَا عَلَى رَجُل طَائِر مَا لَمْ تُعْبَر فَإِذَا عُبِرَتْ وَقَعَتْ " ؛ وَفِي مُرْسَل أَبِي قِلَابَةَ عِنْدَ عَبْد الرَّزَّاق " الرُّؤْيَا تَقَع عَلَى مَا يُعْبَر , مَثَل ذَلِكَ مَثَل رَجُل رَفَعَ رِجْلَه فَهُوَ يَنْتَظِر مَتَى يَضَعهَا " ( [2] ) وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِم مَوْصُولًا بِذِكْرِ أَنَس , وَعِنْدَ سَعِيد بْن مَنْصُور بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ عَطَاء : كَانَ يُقَال الرُّؤْيَا عَلَى مَا أُوِّلَتْ ؛ وَعِنْدَ الدَّارِمِيِّ بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَتْ اِمْرَأَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة لَهَا زَوْج تَاجِر - فذكر الحديث المتقدم - وَعِنْدَ سَعِيد بْن مَنْصُور مِنْ مُرْسَل عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح قَالَ : جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه e فَقَالَتْ : إِنِّي رَأَيْت كَأَنَّ حَائِز بَيْتِي انْكَسَرَ - وَكَانَ زَوْجهَا غَائِبًا - فَقَالَ : " رَدَّ اللَّه عَلَيْك زَوْجك " فَرَجَعَ سَالِمًا ، [ ثم غاب فجاءت الثانية ، فقالت : إِنِّي رَأَيْت كَأَنَّ حَائِز بَيْتِي اِنْكَسَرَ ؛ فقال لها مثل ذلك ، فقدم زوجها ؛ ثم جاءت الثالثة فلم تجد رسول الله e ووجدت أبا بكر وعمر أو أحدهما ، فأخبرت بما رأت فقال : يموت زوجك ؛ ثم أتت رسول الله e فأخبرته ، فقال لها : " هل سألت أحدا قبلي ، قالت : نعم ، قال : " فهو كما قال لك " ] ( [3] ) .
فَأَشَارَ الْبُخَارِيّ إِلَى تَخْصِيص ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْعَابِر مُصِيبًا فِي تَعْبِيره , وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْله e لِأَبِي بَكْر فِي حَدِيث الْبَاب " أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا " ( [4] ) فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ فِيهِ لَوْ بَيَّنَهُ لَهُ لَكَانَ الَّذِي بَيَّنَهُ لَهُ هُوَ التَّعْبِير الصَّحِيح ، وَلَا عِبْرَة بِالتَّعْبِيرِ الْأَوَّل . قَالَ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره : مَعْنَى قَوْله : " الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِر " إِذَا كَانَ الْعَابِر الْأَوَّل عَالِمًا فَعَبَرَ فَأَصَابَ وَجْه التَّعْبِير , وَإِلَّا فَهِيَ لِمَنْ أَصَابَ بَعْدَهُ , إِذْ لَيْسَ الْمَدَار إِلَّا عَلَى إِصَابَة الصَّوَاب فِي تَعْبِير الْمَنَام , لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى مُرَاد اللَّه فِيمَا ضَرَبَهُ مِنْ الْمَثَل , فَإِذَا أَصَابَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَل غَيْره , وَإِنْ لَمْ يُصِبْ فَلْيَسْأَلْ الثَّانِي , وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِر بِمَا عِنْدَهُ وَيُبَيِّن مَا جَهِلَ الْأَوَّل .ا.هـ . قُلْت : وَهَذَا التَّأْوِيل لَا يُسَاعِدُهُ حَدِيث أَبِي رَزِين " إِنَّ الرُّؤْيَا إِذَا عُبِرَتْ وَقَعَتْ " إِلَّا أَنْ يَدَّعِي تَخْصِيص " عُبِرَتْ " بِأَنَّ عَابِرهَا يَكُون عَالِمًا مُصِيبًا , فَيُعَكِّر عَلَيْهِ قَوْله فِي الرُّؤْيَا الْمَكْرُوهَة : " وَلَا يُحَدِّث بِهَا أَحَدًا " فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حِكْمَة هَذَا النَّهْي أَنَّهُ رُبَّمَا فَسَّرَهَا تَفْسِيرًا مَكْرُوهًا عَلَى ظَاهِرهَا ، مَعَ اِحْتِمَال أَنْ تَكُون مَحْبُوبَة فِي الْبَاطِن فَتَقَع عَلَى مَا فُسِّرَ ؛ وَيُمْكِن الْجَوَاب بِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّق بِالرَّائِي , فَلَهُ إِذَا قَصَّهَا عَلَى أَحَد فَفَسَّرَهَا لَهُ عَلَى الْمَكْرُوه أَنْ يُبَادِر فَيَسْأَل غَيْره مِمَّنْ يُصِيب فَلَا يَتَحَتَّم وُقُوع الْأَوَّل ، بَلْ وَيَقَع تَأْوِيل مَنْ أَصَابَ ؛ فَإِنْ قَصَّرَ الرَّائِي فَلَمْ يَسْأَل الثَّانِي وَقَعَتْ عَلَى مَا فَسَّرَ الْأَوَّل ( [5] ) .
قال النووي – رحمه الله في قوله e : " أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا " أَنَّ عَابِر الرؤيا قَدْ يُصِيبُ , وَقَدْ يُخْطِئُ ؛ وَأَنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ لِأَوَّلِ عَابِرٍ عَلَى الْإِطْلَاق , وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا أَصَابَ وَجْههَا ( [6] ) . وقال صاحب ( الإشارات في علم العبارات ) : وليست الرؤيا تبطل بتأويل ما أول بما يخالف التعبير ، إذ لو كان ذلك لبطلت رؤيا عزيز مصر لقول المعبرين : أضغاث أحلام .ا.هـ .
وصفوة القول : أن الرؤيا قسمان : الأول ما يحتمل تأويلا واحدًا ؛ وهذه لا تقع بتأويل العابر الأول ، وإنما يبحث لها عن من يتقن التعبير ؛ كما حدث في رؤيا ملك مصر .
والقسم الثاني : ما يحتمل تأويلين ، فهذه لأول عابر ؛ كما في حديث عائشة وأنس وأبي رزين ومرسل عطاء . وبهذا تلتئم الأدلة ؛ وما قاله الحافظ ابن حجر له وجهه في الجمع ؛ والعلم عند الله تعالى .


[1] - رواه ابن أبي شيبة ( 30495 ) ، وابن ماجة ( 3915 ) ، وأبو يعلى ( 4131 ) ، ومداره على الرقاشي .

[2] - مصنف عبد الرزاق ( 20354 ) ، وهو مرسل صحيح وصله الحاكم عن أنس ، وتقدم تخريجه .

[3] - ما بين المعكوفين أضفتهما من كتاب ( الرياض النضرة ) لأحمد بن عبد الله الطبري : 2 / 65 ( دار الغرب الإسلامي ) .

[4] - البخاري ( 7046 ) ، ومسلم ( 2269 ) .

[5] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 450 ، 451 .

[6] - انظر شرح مسلم : 15 / 30 .
 
فائدة
نقل ابن حجر - رحمه الله – عن إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه الْكَرْمَانِيُّ الْمُعَبِّر قَالَ : لَا يُغَيِّر الرُّؤْيَا عَنْ وَجْههَا عِبَارَة عَابِر وَلَا غَيْره ، وَكَيْف يَسْتَطِيع مَخْلُوق أَنْ يُغَيِّر مَا كَانَتْ نُسْخَته مِنْ أُمّ الْكِتَاب ، غَيْر أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ لَمْ يَتَدَرَّب فِي عِلْم التَّأْوِيل أَنْ لَا يَتَعَرَّض لِمَا سَبَقَ إِلَيْهِ مَنْ لَا يُشَكُّ فِي أَمَانَته وَدِينه .ا.هـ . ثم قال ابن حجر – رحمه الله : قُلْت : وَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى تَسْلِيم أَنَّ الْمَرَائِي تُنْسَخ مِنْ أُمّ الْكِتَاب عَلَى وَفْق مَا يَعْبُرهَا الْعَارِف ؛ وَمَا الْمَانِع أَنَّهَا تُنْسَخ عَلَى وَفْق مَا يَعْبُرهَا أَوَّل عَابِر ؟! ا.هـ ( [1] ) .
قال مقيده عفا الله عنه : لا مانع ، والأدلة المتقدمة عن عائشة وأبي رزين وغيرهما تؤكد ذلك .

[1] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 437 .
 
صفات وآداب المعبر
قال خليل بن شاهين الظاهري في ( الإشارات في علم العبارات ) وينبغي أن يكون المعبر ذا حذاقة وفطنة ، صدوقا في كلامه ، حسنا في أفعاله ، مشتهرًا بالديانة والصيانة ، بحيث لا ينكر عليه فيما يعبره لشهرة صدقه ، ولذلك سمى الله يوسف بالصديق ( [1] ) ؛ وقال النابلسي في ( تعطير الأنام ) : وليكن العابر عالمًا فطنًا ذكيًّا تقيا نقيًّا من الفواحش ، عالمًا بكتاب اللّه تعالى وحديث النبي e ولغة العرب وأمثالها وما يجري على ألسنة الناس .ا.هـ ( [2] ). وقال في موضع آخر : ويحتاج المعبر إلى صلاح حاله وشأنه وطعامه وشرابه وإخلاصه في أعماله ؛
ليرث بذلك حسن التوسم في الناس عند التعبير لمناماتهم ( [3] ) .
وقال ابن شاهين : وأن يكون عارفا بالأصول في علم التعبير ( [4] ) . قال النابلسي : تعبير الرؤيا لا يكون إلا بعد معرفة الأصول مثل أن يعرف أن القمح والشعير والتبن والدقيق والعسل واللبن والصوف ، والحديد والملح والتراب ونحو ذلك أموال ؛ وأن الفرس والأسد والذئب والجبل والشجر والطير والوحش ونحو ذلك رجال ؛ وأن السرج والإكاف والسراويل وإناث الطير والبهائم ونحو ذلك نساء ، وأن النمارق والوسائد والأباريق والطسوت ونحو ذلك خدم وعبيد ، وقدر كل واحد منها على قدر صنف في صنفه ؛ وإن كان ابتداء يراه الإنسان دون انتهاء ، فإن الأمر الذي هو طالبه لا يبلغ آخره ؛ وإن كان
نزول من مركب فإنه نزول من حال كان عليه ( [5] ) .
قال مقيده - عفا الله عنه : إنما ذكر العلماء هذه الصفات لأن عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي - كما يقول ابن القيم - مبنية على القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس ( [6] ) ؛ وقال النابلسي : عبارة الرؤيا قياس واعتبار وتشبيه وظن ، لا يقطع بها ولا يحلف على غيبها ، إلا أن يظهر صدقها ( [7] ) . وقال ابن تيمية - رحمه الله : النائم تضرب له الأمثال في منامه بنوع يشابه تأويل الرؤيا ؛ ولهذا كان مدار تأويل الرؤيا على معرفة القياس والاعتبار ( [8] ) . وتعبير هذه الأمثلة لا يكون إلا ممن اتصف بتلكم الصفات المتقدمة ؛ ومعلوم أن أقدار الناس في ذلك متفاوتة .
ومن هنا وضع العلماء آدابا لضبط تعبير الرؤيا ، ينبغي على المنتصب لذلك الإلمام بها ، وأجملها فيما يلي :
1 - قال ابن حجر في ( الفتح ) : وَمِنْ أَدَب الْعَابِر أَنْ لَا يَعْبُرهَا عِنْدَ طُلُوع الشَّمْس وَلَا عِنْدَ غُرُوبهَا وَلَا عِنْدَ الزَّوَال وَلَا فِي اللَّيْل ( [9] ) ؛ قال النابلسي : قالوا : وإن تعبير الرؤيا بالغداوت بعد طلوع الفجر ، وقيل : طلوع الشمس أحسن ؛ لحضور فهم المعبرين وتذكر الرائي لتلك الرؤيا من غير نسيان ، وقول النبي e : " اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا " ( [10] ) .

2 – قال النابلسي في ( تعطير الأنام ) : وينبغي للمعبر إذا قصت عليه الرؤيا أن يقول خيرًا رأيت ، وخيرًا نلقاه وشرًا نتوقاه ، خيرًا لنا وشرًا لأعدائنا ، الحمد لله رب العالمين ؛ اقصص رؤياك ( [11] ) .

3 - أن يحسن الاستماع إلى الرؤيا ، ثم يفهم السائل التأويل لها بأحسن عبارة .

4 - قال ابن شاهين : ينبغي للمعبر أن يستوفي قص الرؤيا ، فما كان منها موافقا للأصول فيجتهد في تعبيره وما كان خارج عنها فيلغيه عنه ، وإذا قصت عليه رؤيا ورأى ما يكره فلا يكتمه ، بل يعرف الرائي بعبارة حسنة بحيث يفهم الرائي منه ذلك ، ومنهم من قال إنه يعبر الرؤية الجيدة ويترك ضدها بحيث يأمر الرائي بالتحذير والتوبة والصدقة .ا.هـ . قال النابلسي : ولا يعجل المعبر بتفسير الرؤيا حتى يعرف وجهها ومخرجها وقدرها ، ويسأل صاحبها عن نفسه وحاله وقومه وصناعته ومعيشته ، ولا يدع شيئًا مما يستدل به على علم مسألته إلا فعله ، فإن لم يصح ذلك له ، فليجتهد فيها برأيه ؛ وقد نقل عن ابن سيرين - رحمه الله تعالى - أنه كان إذا وردت عليه مسألة رؤيا مكث فيها مليًّا من النهار يسأل صاحبها عن نفسه وحاله وصناعته وعن قومه ومعيشته ( [12] ) .

5 - قال ابن شاهين : ويعتبر في تعبيره على ما يظهر له من آيات القرآن وتفسيره ، ومن حديث رسول الله e ، وما ينقله المتقدمون في كتبهم وقد يقع نوادر ، ويعتمد على تعبيرها من الألفاظ الجليلة الظاهرة بين الناس ، وما نقل عن الأدباء في أشعارهم .. وغير ذلك من أشياء تناسب في المعنى ، ولو اعتمد المعبرون على ما ضبط في الكتب خاصة لعجزوا عن أشياء كثيرة لم تذكر في الكتب ، لأن علم التعبير واختلاف رؤيا الناس كبحر ليس له شاطئ ( [13] ) . ونقل ابن الأثير عن ابن سيرين أنه كان يقولُ : إني اعْتَبر الحديث ؛ قال ابن الأثير : المعنى أنَّه يُعبِّر الرُّؤيا على الحديث ويَعْتَبِرُ به ، كما يَعْتَبِرَها بالقُرآن في تأوِيلها ؛ مثل أن يُعبِّر الغُرابَ بالرجُل الفاسِق والضِّلعَ بالمرأةِ , لأنَّ النبي e سَمَّى الغُرابَ فاسِقًا ، وجعل المرأة كالضِّلَع ؛ ونحو ذلك من الكُنى والأسْماء ( [14] ) . وقال النابلسي : والتأويل بالمعنى أو باشتقاق الأسماء ، والعابر لا ينبغي له أن يستعين على عبارته بزجر في اليقظة يزجره ، ولا يقول عند ذلك بسمعه ولا بحساب من حساب المنجمين يحسبه ؛ ويحتاج العابر إلى اعتبار القرآن وأمثاله ومعانيه ، والأحاديث كذلك واعتبار الأشعار والأمثال واشتقاق اللغة ومعانيها ( [15] ) . ونقل ابن حجر عن ابن بطال أَنَّ أَصْل التَّعْبِير مِنْ قِبَل الْأَنْبِيَاء ؛ وَلِذَلِكَ تَمَنَّى اِبْن عُمَر أَنَّهُ يَرَى رُؤْيَا فَيَعْبُرهَا لَهُ الشَّارِع لِيَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَصْلًا ... قَالَ : لَكِنَّ الْوَارِد عَنْ الْأَنْبِيَاء فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَلَا يَعُمُّ جَمِيع الْمَرَائِي , فَلَا بُدَّ لِلْحَاذِقِ فِي هَذَا الْفَنِّ أَنْ يُسْتَدَلّ بِحُسْنِ نَظَرِهِ ، فَيَرُدّ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ إِلَى حُكْم التَّمْثِيل ، وَيُحْكَم لَهُ بِحُكْمِ النِّسْبَة الصَّحِيحَة ، فَيُجْعَل أَصْلًا يَلْحَق بِهِ غَيْره ، كَمَا يَفْعَل الْفَقِيه فِي فُرُوع الْفِقْه ( [16] ) .

6 - قال ابن شاهين : أن يميز رؤية كل أحد بحسب حاله وما يليق به وما يناسبه ، ولا يساوي الناس فيما يرونه ( [17] ) ؛ قال النابلسي : وقد تتغير الرؤيا باختلاف هيئات الناس وصنائعهم وأقدارهم وأديانهم ، فتكون لواحد رحمة وعلى آخر عذاب ( [18] ) .. وقال في موضع آخر : وتتغاير رؤيا المؤمن والكافر والمستور والفاسق ؛ فإن المستور إذا رأى في منامه أنه يأكل عسلاً ، فإن تأويله حلاوة القرآن والذكر في قلبه ؛ وهو للكافر حلاوة الدنيا وغنيمتها ( [19] ) . قال النووي - رحمه الله - في قَوْله e : " وَأُحِبّ الْقَيْد ، وَأَكْرَه الْغُلَّ ، وَالْقَيْد ثَبَات فِي الدِّين " قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا أَحَبَّ الْقَيْد لِأَنَّهُ فِي الرِّجْلَيْنِ ، وَهُوَ كَفٌّ عَنْ الْمَعَاصِي وَالشُّرُور وَأَنْوَاع الْبَاطِل . وَأَمَّا الْغُلّ فَمَوْضِعه الْعُنُق ، وَهُوَ صِفَة أَهْل النَّار . قَـالَ اللَّه تَعَالَى : ] إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا [ وَقَالَ اللَّه تَعَالَى : ] إِذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [ ؛ وَأَمَّا أَهْل الْعِبَارَة فَنَزَّلُوا هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مَنَازِل ، فَقَالُوا : إِذَا رَأَى الْقَيْد فِي رِجْلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِد أَوْ مَشْهَد خَيْر أَوْ عَلَى حَالَة حَسَنَة فَهُوَ دَلِيل لِثَبَاتِهِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَا لَوْ رَآهُ صَاحِب وِلَايَة كَانَ دَلِيلًا لِثَبَاتِهِ فِيهَا ، وَلَوْ رَآهُ مَرِيض أَوْ مَسْجُون أَوْ مُسَافِر أَوْ مَكْرُوب كَانَ دَلِيلًا لِثَبَاتِهِ فِيهِ ... قَالُوا : وَلَوْ قَارَنَهُ مَكْرُوه بِأَنْ يَكُون مَعَ الْقَيْد غُلٌّ غَلَّبَ الْمَكْرُوه لِأَنَّهَا صِفَة الْمُعَذَّبِينَ . وَأَمَّا الْغُلّ فَهُوَ مَذْمُوم إِذَا كَانَ فِي الْعُنُق ، وَقَدْ يَدُلّ لِلْوَلَايَاتِ إِذَا كَانَ مَعَهُ قَرَائِن ، كَمَا كُلُّ وَالٍ يُحْشَر مَغْلُولًا حَتَّى يُطْلِقهُ عَدْله . فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَغْلُول الْيَدَيْنِ دُون الْعُنُق فَهُوَ حَسَن ، وَدَلِيل لِكَفِّهِمَا عَنْ الشَّرّ ، وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى مَنْع مَا نَوَاهُ مِنْ الْأَفْعَال .ا.هـ ( [20] ) .

7 - أن يعبرها على أحسن الوجوه ؛ كما تقدم في حديث عائشة وأنس وأبي رزين y .

8 - قال ابن شاهين : وأن يكتم على الناس عوراتهم ويسمع السؤال بأجمعه ، ويميز بين الشريف والوضيع ، ويتمهل ولا يعجل في رد الجواب ، ولا يعبر الرؤيا حتى يعرف لمن هي، ويميز كل جنس وما يليق به .ا.هـ . وقال النابلسي : وقد تنصرف الرؤيا عن أصلها من الشر بكلام الخير والبر ، وعن أصلها من الخير بكلام الرفث والشر ؛ وإن كانت الرؤيا تدل على فاحشة وقبيح سترت ذلك وواريت عنه بأحسن ما تقدر من اللفظ ، وأسررته إلى صاحبها ( [21] ) .

9 - قال النابلسي : وينبغي للمعبر التثبت فيما يرد عليه وترك التعنيف ولا يأنف أن يقول لما أشكل عليه لا أعرفه وقد كان محمد بن سيرين رحمه اللّه تعالى إمام الناس في هذا الفن وكان ما يمسك عنه أكثر مما يفسر حتى كان إذا سئل عن الرؤيا ربما يعبر من الأربعين واحدة ( [22] ) .
10 - أن يكتم على الرائي رؤياه فلا يفشيها ؛ فإنه أمانة .


[1] - انظر ( الإشارات ) ص 27 .

[2] - انظر ( تعطير الأنام ) : 1 / 6 .

[3] - انظر ( تعطير الأنام ) : 2 / 352 .

[4] - انظر ( الإشارات ) ص 27 .

[5] - انظر ( تعطير الأنام ) : 2 / 354 ، 355 .

[6] - انظر ( إعلام الموقعين ) : 1 / 190 ؛ ثم ذكر لذلك أمثلة كثيرة ، فليراجعها من شاء .

[7] - انظر ( تعطير الأنام ) : 2 / 351 .

[8] - انظر ( بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة ) ص 316 – مكتبة العلوم والحكم ط 1 – 1408 هـ .

[9] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 451 .

[10] - انظر ( تعطير الأنام في تفسير الأحلام ) : 2 / 351 ؛ والحديث رواه أحمد : 4 / 384 ، 390 ، أبو داود ( 2606 ) ، والترمذي ( 1212 ) وحسنه ، والنسائي في الكبرى ( 8833 ) ، وابن ماجة ( 2236 ) ، وغيرهم عن صخر الغامدي t .

[11] - انظر ( تعطير الأنام في تفسير الأحلام ) : 1 / 6 ؛ وقد نقل الحافظ في ( الفتح : 12 / 451 ) في هذا حديثا عن الاستيعاب لابن عبد البر ، وضعفه جدا ؛ لكن الكلام جائز ، وفيه أدب ، وهو دعاء لعله يسكن شيئا في نفس الرائي .

[12] - انظر ( تعطير الأنام ) : 2 / 353 .

[13] - انظر ( الإشارات ) ص 27 ، 28 باختصار .

[14] - انظر ( النهاية في غريب الحديث والأثر ) : 3 / 170 ، 171 .

[15] - انظر ( تعطير الأنام ) : 2 / 351 ، 352 .

[16] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 12 / 419 .

[17] - انظر ( الإشارات ) ص 27 .

[18] - انظر ( تعطير الأنام ) ص 352 .

[19] - انظر ( تعطير الأنام ) : 2 / 354 .

[20] - انظر ( شرح النووي على صحيح مسلم ) : 15 : 22 - 24 .

[21] - انظر ( تعطير الأنام ) ص 352 ، 353 .

[22] - انظر ( تعطير الأنام ) ص 352 .
 
فصل الرؤى في القرآن والسنة
جاءت الرؤى في كتاب الله تعالى في آي ذوات عدد ؛ منها رؤيا إبراهيم e في ذبح ابنه ؛ ورؤيا يوسف u في سجود الكواكب والشمس والقمر له ، ورؤيا صاحبي يوسف في السجن ، ورؤيا الملك للبقرات والسنابل ؛ ورؤيا النبي محمد e والمسلمين في غزوة بدر ، ورؤيا النبي e في دخول مكة . وإليك بيانها :

الرؤيا في غزوة بدر
قال الله تعالى : ] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ ( الأنفال : 43 ) .
فهذه رؤيا رآها النبي e في منامه ، وكانت بشرى له وتثبيتا لمن معه من المسلمين ، وتحقق ذلك في الرؤية البصرية فلما التقى الجمعان ، قال ابن مسعود t : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : لا ، بل هم مائة ؛ حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه ، فقال : كنا ألفا ( [1] ) ؛ قال الله تعالى : ] وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [ ( الأنفال : 44 ) .

[1] - رواه ابن أبي شيبة ( 36698 ) ، وابن جرير : 3 / 132 ، وابن أبي حاتم : 5 / 1710 ( 9127 ) .
 
الرؤيا في دخول مكة

قَوْلِهِ تَعَالَى : ] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [ ( الفتح : 27 ) .
وهذه أيضا كانت رؤيا بشرى للمسلمين ، وقد تحقق ذلك ؛ فقد كان رسول الله e قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت ، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة ، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تُفسر هذا العام ، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ، ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل ، وقع في نفس بعض الصحابة y من ذلك شيء ، حتى سأل عمر بن الخطاب t في ذلك ، فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ " قال : لا ، قال النبي e : " فإنك آتيه ومطوف به " ؛ وبهذا أجاب الصديق t أيضًا ، حذو القذة بالقذة ( [1] ) ؛ فكان ذلك في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ؛ فإن النبي e لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة ، فأقام بها ذا الحجة والمحرم ، وخرج في صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحًا ، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع ، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية ؛ ثم رجع إلى المدينة ، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج e إلى مكة معتمرًا هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي ، فلبى وسار أصحابه يلبون ، فلما كان e قريبًا من مر الظهران بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعبًا شديدًا ، وظنوا أن رسول الله e يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة ، فلما جاء رسول الله e فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه ، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص ، فقال : يا محمد ما عرفناك تنقض العهد ! فقال e : " وما ذاك ؟ " قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح ، فقال e : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى يأجج " فقال : بهذا عرفناك : بالبر والوفاء . وخرجت رءوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله e وإلى أصحابه y غيظا وحنقا ، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله e وأصحابه ، فدخلها e وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام ناقة رسول الله e يقودها وهو يقول :

باسم الذي لا دين إلا دينه ... باسم الذي محمد رسوله

خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله


ويذهل الخليل عن خليله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله ... بأن خير القتل في سبيله

يا رب إني مؤمن بقيله

وهذا مجموع من روايات متفرقة ( [2] ) .

[1]جزء من حديث أخرجه البخاري ( 2731 ، 2732 ) .

[ 2 ] انظر طبقات ابن سعد : 2 / 120 ، 121 . وأما الجزء الأخير منه الذي فيه شعر ابن رواحة فرواه عبد بن حميد (1275) ، والترمذي (2847) ، والنسائي(2873) ، وأبو يعلى(3440) ، وابن خزيمة (2680) ، وغيرهم عن أنس ، وإسناده حسن .
 
رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ u
قَوْلُهُ تَعَالَى : ] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [ .
قَالَ مُجَاهِدٌ : ] أَسْلَمَا [ سَلَّمَا مَا أُمِرَا بِهِ ، ] وَتَلَّهُ [ وَضَعَ وَجْهَهُ بِالْأَرْضِ .
قد كانت رؤيا منام لإبراهيم u أن يذبح ابنه ، ورؤيا الأنبياء حق ؛ فأخبر ابنه فصدقا الرؤيا وأسلما أمرهما له رب العالمين صادقَين ، ففدى الله تعالى إسماعيل بذبح عظيم .
 
رُؤْيَا يُوسُفَ u
] إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ . قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ ؛ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ] يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [ .
الْمُرَاد بقَوْله : ] تَأْوِيل رُؤْيَايَ [ أَيْ : الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرهَا ، وَهِيَ رُؤْيَة الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر سَاجِدِينَ لَهُ ، فَلَمَّا وَصَلَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَته إِلَى مِصْر ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَرْتَبَة الْمُلْك وَسَجَدُوا لَهُ - وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي شَرِيعَتهمْ - فَكَانَ التَّأْوِيل فِي السَّاجِدِينَ وَكَوْنهَا حَقًّا فِي السُّجُود ، وكَانَتْ تَحِيَّتهم ، قَالَ الطَّبَرِيُّ : أَرَادُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَيْنهمْ لَا عَلَى وَجْه الْعِبَادَة بَلْ الْإِكْرَام ؛ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُدَّة الَّتِي كَانَتْ بَيْن الرُّؤْيَا وَتَفْسِيرهَا ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ( الشُّعَبِ ) بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيِّ قَالَ : كَانَ بَيْن رُؤْيَا يُوسُف وَعِبَارَتهَا أَرْبَعُونَ عَامًا ( [1] ) ؛ وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ لَهُ شَاهِدًا عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد وَزَادَ : وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي أَمَدُ الرُّؤْيَا ( [2] ) . هذا أَقْوَى ما ورد وَالْعِلْم عِنْد اللَّه ( [3] ) .

[1] - الحاكم ( 8198 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 4780 ) ، ورواه ابن أبي شيبة ( 30527 ) .

[2] - شعب الإيمان ( 4781 ) ، ورواه ابن أبي شيبة ( 30525 ) .

[3] - انظر ( فتح الباري ) : 12 / 377 ، باختصار .
 
رؤيا صاحبي السجن
قوله تعالى : ] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (36 ) [ .
قال قتادة كان أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه ( [1] ) . وكان يوسف u قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة ، وصدق الحديث وحسن السمت ، وكثرة العبادة ، ومعرفة التعبير ، والإحسان إلى أهل السجن ، وعيادة مرضاهم ، والقيام بحقوقهم ، صلوات الله عليه وسلامه . ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه ، ثم إنهما رأيا مناما ، فرأى الساقي أنه يعصر خمرا ، يعني : عنبا . ] نبئنا بتأويله [ الآية : المشهور عند الأكثرين أنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره ، وروى الحاكم واللفظ له عن ابن مسعود قال : الفتيان اللذان أتيا يوسف u في الرؤيا إنما كانا تكاذبا ، فلما أوَّل رؤياهما قالا : إنا كنا نلعب ، قال يوسف : ] قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [ ، وعند ابن جرير عنه : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، إنما كانا تحالما ليجربا علمه ( [2] ) .
وكان تعبيرها : ] يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) [ .
قال لهما دون تعيين أحدهما لئلا يحزن الآخر ، ولهذا أبهمه في قوله : ] أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ [ وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا ، ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه ، وهو واقع لا محالة ، لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ، وقال ابن مسعود : لما قالا وأخبرهما قالا : ما رأينا شيئا ، فقال : ] قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [ وكذا فسره مجاهد وابن زيد وغيرهما ( [3] ) .

[1] - رواه ابن جرير : 12 / 127 ، وابن أبي حاتم : 7 / 2141 ، ورواه عن ابن عباس بنحوه .

[2] - ابن جرير : 12 / 131 . ورواه بنحوه ابن أبي حاتم : 7 / 2148 ، والحاكم : 2 / 346 وصححه .

[3] - ابن جرير : 12 / 131 ، وابن أبي حاتم : 7 / 2148 ، ورواه الحاكم : 2 / 346 ، وصححه ، ورواه بنحوه : 4 / 395 ، 396 ، و صححه على شرطهما ، ووافقه الذهبي .
 
رؤيا ملك مصر
قو له تعالى : ] وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( 43 ) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ( 44 ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي ( 45 ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( 46 ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ( 47 ) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ( 48 ) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ( 49 ) [ .
لما توقف ملأ الملك عن التأويل وعدوها أضغاث أحلام ، هنا تذكر الناجي من صاحبي يوسف في السجن وهو ساقي الملك ، فطلب أن يرسله إلى يوسف e ، فلما انتهى إليه وقص الرؤيا ، قال يوسف u : ] تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا [ أي : يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تستغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر ، ثم أرشدهم إلى ما يعتدونه في تلك السنين بأن يدخروا غلة السبع السنين الخصب فيدعوها في سنابلها ، ليكون أبقى لها وأبعد عن إسراع الفساد إليها ، إلا المقدار الذي يأكلونه ، لينتفعوا بذلك في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان ، لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب ، وهن السنبلات اليابسات ، وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ، ولهذا قال : ] يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ [ ، ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ] عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [ أي : يأتيهم الغيث ، وهو المطر ، وتغل البلاد ، ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت ونحوه ، وسَكَرٍ ونحوه .
 
أمثلة للرؤيا من السنة
حفلت السنة النبوية بكثير من تأويل الرؤى ؛ نذكر هاهنا بعضها :
1 - عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ ، فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ ؛ فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا ، وَالْعَاقِبَةَ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ " ( [1] ) .
قَالَ الْمُظْهِر : تَأْوِيله هَكَذَا قَانُون قِيَاس التَّعْبِير عَلَى مَا يُرَى فِي الْمَنَام بِالْأَسْمَاءِ الْحَسَنَة ؛ كَمَا أَخَذَ الْعَاقِبَة مِنْ لَفْظ عُقْبَةَ ، وَالرِّفْعَة مِنْ رَافِع ، وَطِيب الدِّين مِنْ طَابٍ ( [2] ) .


[1] - رواه أحمد : 3 / 213 ، 286 ، ومسلم ( 2270 ) ، وأبو داود ( 5025 ) .

[2] - نقلا عن عون المعبود : 13 / 251 .
 
أمثلة للرؤيا من السنة
2 - عَنْ أَبِي مُوسَى أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " رَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ ؛ فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ ؛ فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ " متفق عليه .
قَالَ الْمُهَلَّب : هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ ضَرْب الْمَثَل ، وَلَمَّا كَانَ النَّبِيّ e يَصُول بِالصَّحَابَةِ عَبَّرَ عَنْ السَّيْف بِهِمْ وَبِهَزِّهِ عَنْ أَمْره لَهُمْ بِالْحَرْبِ ، وَعَنْ الْقَطْع فِيهِ بِالْقَتْلِ فِيهِمْ ؛ وَفِي الْهَزَّة الْأُخْرَى لَمَّا عَادَ إِلَى حَالَته مِنْ الِاسْتِوَاء عَبَّرَ بِهِ عَنْ اِجْتِمَاعهمْ وَالْفَتْح عَلَيْهِمْ .
وَلِأَهْلِ التَّعْبِير فِي السَّيْف تَصَرُّف عَلَى أَوْجُه مِنْهَا أَنَّ مَنْ نَالَ سَيْفًا فَإِنَّهُ يَنَال سُلْطَانًا إِمَّا وِلَايَة وَإِمَّا وَدِيعَة وَإِمَّا زَوْجَة وَإِمَّا وَلَدًا فَإِنْ سَلَّهُ مِنْ غِمْده فَانْثَلَمَ سَلِمَتْ زَوْجَته وَأُصِيبَ وَلَده ، فَإِنْ اِنْكَسَرَ الْغِمْد وَسَلِمَ السَّيْف فَبِالْعَكْسِ ، وَإِنْ سَلِمَا أَوْ عَطِبَا فَكَذَلِكَ ، وَقَائِم السَّيْف يَتَعَلَّق بِالْأَبِ وَالْعَصَبَات وَنَصْله بِالْأُمِّ وَذَوِي الرَّحِم ، وَإِنْ جَرَّدَ السَّيْف وَأَرَادَ قَتْل شَخْص فَهُوَ لِسَانه يُجَرِّدهُ فِي خُصُومه ، وَرُبَّمَا عُبِّرَ السَّيْف بِسُلْطَانٍ جَائِر . اِنْتَهَى مُلَخَّصًا ؛ وَقَالَ بَعْضهمْ : مَنْ رَأَى أَنَّهُ أَغْمَدَ السَّيْف فَإِنَّهُ يَتَزَوَّج ، أَوْ ضَرَبَ شَخْصًا بِسَيْفٍ فَإِنَّهُ يَبْسُط لِسَانه فِيهِ ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقَاتِل آخَر وَسَيْفه أَطْوَل مِنْ سَيْفه فَإِنَّهُ يَغْلِبهُ ، وَمَنْ رَأَى سَيْفًا عَظِيمًا فَهِيَ فِتْنَة ، وَمَنْ قُلِّدَ سَيْفًا قُلِّدَ أَمْرًا ، فَإِنْ كَانَ قَصِيرًا لَمْ يَدُمْ أَمْره . وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يَجُرّ حَمَائِله فَإِنَّهُ يَعْجِز عَنْهُ ( [1] ) .


[1] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 12 / 427 .
 
أمثلة للرؤيا من السنة
3 - عن ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ e ، فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e ، فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ e مَا شَاءَ اللَّهُ ؛ وَأَنَا غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ ، وَبَيْتِي الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ ؛ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلَاءِ ، فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيَّ خَيْرًا فَأَرِنِي رُؤْيَا ؛ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَنِي مَلَكَانِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ يُقْبِلَانِ بِي إِلَى جَهَنَّمَ ، وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ ؛ ثُمَّ أُرَانِي لَقِيَنِي مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ : لَنْ تُرَاعَ ؛ نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلَاةَ ! فَانْطَلَقُوا بِي حَتَّى وَقَفُوا بِي عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ لَهَا قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ ، بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ، وَأَرَى فِيهَا رِجَالًا مُعَلَّقِينَ بِالسَّلَاسِلِ رُءُوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ ، عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ؛ فَانْصَرَفُوا بِي عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ . فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ " فَقَالَ نَافِعٌ : فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ ( [1] ) . والمِقْمَعَة : مفرد مَقَامِع ، وَهِيَ كَالسِّيَاطِ مِنْ حَدِيد رُءُوسهَا مُعْوَجَّة , وقَوْله : " لَمْ تُرَعْ " أَيْ : لَمْ تُفْزَع , وفِي رِوَايَة : " لَنْ تُرَاعَ " فَعَلَى الْأَوَّل : لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ لَمْ يَقَع لَهُ فَزَع ، بَلْ لَمَّا كَانَ الَّذِي فَزِعَ مِنْهُ لَمْ يَسْتَمِرّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْزَع ؛ وَعَلَى الثَّانِيَة فَالْمُرَاد أَنَّك لَا رَوْع عَلَيْك بَعْدَ ذَلِكَ . وقَوْله : " كَطَيِّ الْبِئْر لَهَا قُرُون " قُرُون الْبِئْر جَوَانِبهَا الَّتِي تُبْنَى مِنْ حِجَارَة تُوضَع عَلَيْهَا الْخَشَبَة الَّتِي تَعَلَّقَ فِيهَا الْبَكْرَة , وَالْعَادَة أَنَّ لِكُلِّ بِئْر قَرْنَيْنِ .
قَالَ اِبْن بَطَّال : فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ بَعْض الرُّؤْيَا لَا يَحْتَاج إِلَى تَعْبِير , وَعَلَى أَنَّ مَا فُسِّرَ فِي النَّوْم فَهُوَ تَفْسِيره فِي الْيَقَظَة ، لِأَنَّ النَّبِيّ e لَمْ يَزِدْ فِي تَفْسِيرهَا عَلَى مَا فَسَّرَهَا الْمَلَك . قُلْت : يُشِير إِلَى قَوْله e فِي آخِر الْحَدِيث " إِنَّ عَبْد اللَّه رَجُل صَالِح " وَقَوْل الْمَلَك قَبْلَ ذَلِكَ " نِعْمَ الرَّجُل أَنْتَ لَوْ كُنْت تُكْثِر الصَّلَاة " وفي رواية أَنَّ الْمَلَك قَالَهُ لَهُ : " لَمْ تَرُعْ إِنَّك رَجُل صَالِح " ، وَفِي آخِره أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ " إِنَّ عَبْد اللَّه رَجُل صَالِح لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ " ( [2] ) .


[1] - البخاري ( 7029 ) ، ومسلم ( 2479 ) وغيرهما .

[2] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 12 / 419 باختصار .
 
أمثلة للرؤية من السنة
4 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنْ انْفُخْهُمَا ، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا ؛ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِي ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ صَاحِبَ صَنْعَاءَ ، وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبَ الْيَمَامَةِ " ( [1] ) . قال النووي - رحمه الله : وَنَفْخه e إِيَّاهُمَا فَطَارَا دَلِيل لِانْمِحَاقِهِمَا وَاضْمِحْلَال أَمْرِهِمَا , وَكَانَ كَذَلِكَ , وَهُوَ مِنْ الْمُعْجِزَات . قَوْله e : " فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي , فَكَانَ أَحَدهمَا الْعَنْسِي صَاحِب صَنْعَاء , وَالْآخَر مُسَيْلَمَة صَاحِب الْيَمَامَة " قَالَ الْعُلَمَاء : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ e : " يَخْرُجَانِ بَعْدِي " أَيْ : يُظْهِرَانِ شَوْكَتهمَا أَوْ مُحَارَبَتهمَا وَدَعْوَاهُمَا النُّبُوَّة , وَإِلَّا فَقَدْ كَانَا فِي زَمَنه .ا.هـ ( [2] ) . وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ السِّوَار وَسَائِر آلَات أَنْوَاع الْحُلِيّ اللَّائِقَة بِالنِّسَاءِ تَعْبِير لِلرِّجَالِ بِمَا يَسُوءهُمْ وَلَا يَسُرّهُمْ ؛ قاله ابن حجر ( [3] ) . وقَالَ الْمُهَلَّب : هَذِهِ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ عَلَى وَجْههَا , وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ ضَرْب الْمَثَل , وَإِنَّمَا أَوَّلَ النَّبِيّ e السِّوَارَيْنِ بِالْكَذَّابَيْنِ لِأَنَّ الْكَذِب وَضْع الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه , فَلَمَّا رَأَى فِي ذِرَاعَيْهِ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب وَلَيْسَا مِنْ لُبْسه - لِأَنَّهُمَا مِنْ حِلْيَة النِّسَاء - عَرَفَ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ مَنْ يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ , وَأَيْضًا فَفِي كَوْنهمَا مِنْ ذَهَب وَالذَّهَب مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسه دَلِيل عَلَى الْكَذِب , وَأَيْضًا فَالذَّهَب مُشْتَقّ مِنْ الذَّهَاب فَعُلِمَ أَنَّهُ شَيْء يَذْهَب عَنْهُ , وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي نَفْخهمَا فَطَارَا فَعُرِفَ أَنَّهُ لَا يَثْبُت لَهُمَا أَمْر وَأَنَّ كَلَامه بِالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ يُزِيلهُمَا عَنْ مَوْضِعهمَا وَالنَّفْخ يَدُلّ عَلَى الْكَلَام . اِنْتَهَى مُلَخَّصًا ( [4] ) .

[1] - البخاري ( 3621 ) ، ومسلم ( 2273 ، 2274 ) .

[2] - انظر شرخ النووي على مسلم : 15 / 34 ، 35 .

[3] - انظر فتح الباري : 8 / 90 .

[4] - نقلا عن فتح الباري : 12 / 421 .
 
أمثلة للرؤيا من السنة
5 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ e فَقَالَ : إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا ، فَالْمُسْتَكْثِرُوَالْمُسْتَقِلُّ ؛ وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ، ثُمَّ وُصِلَ ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ e : " اعْبُرْهَا " قَالَ:أَمَّا الظُّلَّةُ فَالْإِسْلَامُ ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ، تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ، ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ ؛ فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ e : " أَصَبْتَ بَعْضًا ، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا " قَالَ : فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ ، قَالَ :" لَا تُقْسِمْ" متفق عليه ( [1] ) . والظُّلَّة : السَّحَابَة ، وَتَنْطِفُ ، أَيْ : تَقْطُرُ قَلِيلًا قَلِيلًا ، وَيَتَكَفَّفُونَ : يَأْخُذُونَ بِأَكُفِّهِمْ ، وقَوْله : " فَالْمُسْتَكْثِر وَالْمُسْتَقِلّ " أَيْ : الْآخِذ كَثِيرًا وَالْآخِذ قَلِيلًا ، وَالسَّبَب : الْحَبْل ؛ قَالَ الْمُهَلَّب - رحمه الله : تَوْجِيه تَعْبِير أَبِي بَكْر أَنَّ الظُّلَّة نِعْمَة مِنْ نِعَم الله عَلَى أَهْل الْجَنَّة ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَام يَقِي الْأَذَى وَيَنْعَم بِهِ الْمُؤْمِن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ، وَأَمَّا الْعَسَل فَإِنَّ اللَّه جَعَلَهُ شِفَاء لِلنَّاسِ ، وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الْقُرْآن : ] شِفَاء لِمَا فِي الصُّدُور [ وَقَالَ إِنَّهُ : ] شِفَاء وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ [ وَهُوَ حُلْو عَلَى الْأَسْمَاع كَحَلَاوَةِ الْعَسَل فِي الْمَذَاق، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيث أَنَّ فِي السَّمْن شِفَاء ؛ قَال َالْقَاضِي عِيَاض : وَقَدْ يَكُون عَبَرَ الظُّلَّة بِذَلِكَ لَمَّا نَطَفْت الْعَسَل وَالسَّمْن اللَّذَيْنِ عَبَرَهُمَا بِالْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ الْإِسْلَام وَالشَّرِيعَة ، وَالسَّبَب فِي اللُّغَة الْحَبْل وَالْعَهْد وَالْمِيثَاق ، وَاَلَّذِينَ أَخَذُوا بِهِ بَعْدَ النَّبِيّ e وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِد هُمْ الْخُلَفَاء الثَّلَاثَة ، وَعُثْمَان هُوَ الَّذِي اِنْقَطَعَ بِهِ ثُمَّ اِتَّصَلَ . انْتَهَى مُلَخَّصًا ( [2] ) . وأما قَوْله e : " أَصَبْت بَعْضًا , وَأَخْطَأْت بَعْضًا " فقال النووي - رحمه الله : إِنَّمَا أَخْطَأَ فِي تَرْكه تَفْسِير بَعْضهَا , فَإِنَّ الرَّائِي قَالَ : رَأَيْت ظُلَّة تَنْطِفُ السَّمْن وَالْعَسَل , فَفَسَّرَهُ الصِّدِّيق t بِالْقُرْآنِ حَلَاوَته وَلِينه , وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ تَفْسِير الْعَسَل , وَتَرَكَ تَفْسِير السَّمْن ، وَتَفْسِيره : السُّنَّة , فَكَانَ حَقّه أَنْ يَقُول : الْقُرْآن وَالسُّنَّة , وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْخَطَأ وَقَعَ فِي خَلْع عُثْمَان ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَنَام أَنَّهُ أَخَذَ بِالسَّبَبِ فَانْقَطَعَ بِهِ , وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اِنْخِلَاعه بِنَفْسِهِ , وَفَسَّرَهُ الصِّدِّيق بِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِهِ رَجُل فَيَنْقَطِعُ بِهِ , ثُمَّ يُوصَلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ , وَعُثْمَان قَدْ خُلِعَ قَهْرًا , وَقُتِلَ , وَوُلِّيَ غَيْره ؛ فَالصَّوَاب فِي تَفْسِيره أَنْ يُحْمَلَ وَصْله عَلَى وِلَايَة غَيْره مِنْ قَوْمه ([3]). والعلم عند الله تعالى .

[1] - البخاري ( 7046 ) ، ومسلم ( 2269 ) .

[2] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 12 / 435 .

[3] - انظر شرح مسلم للنووي : 15 / 29 .
 
أمثلة للرؤيا من السنة
6 - روى أحمد عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e تُعْجِبُهُ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ ، فَرُبَّمَا قَالَ : " هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا " فَإِذَا رَأَى الرَّجُلُ رُؤْيَا سَأَلَ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ كَانَ أَعْجَبَ لِرُؤْيَاهُ إِلَيْهِ ؛ قَالَ : فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! رَأَيْتُ كَأَنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، فَسَمِعْتُ بِهَا وَجْبَةً ارْتَجَّتْ لَهَا الْجَنَّةُ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا قَدْ جِيءَ بِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، حَتَّى عَدَّتْ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ؛ وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ e سَرِيَّةً قَبْلَ ذَلِكَ ، قَالَتْ : فَجِيءَ بِهِمْ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ طُلْسٌ ، تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُمْ ؛ قَالَ : فَقِيلَ : اذْهَبُوا بِهِمْ إِلَى نَهْرِ الْبَيْدَخِ - أَوْ قَالَ : إِلَى نَهَرِ الْبَيْدَجِ - قَالَ : فَغُمِسُوا فِيهِ فَخَرَجُوا مِنْهُ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، قَالَ : ثُمَّ أَتَوْا بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ فَقَعَدُوا عَلَيْهَا ، وَأُتِيَ بِصَحْفَةٍ - أَوْ كَلِمَةٍ نَحْوِهَا - فِيهَا بُسْرَةٌ فَأَكَلُوا مِنْهَا ، فَمَا يُقَلِّبُونَهَا لِشِقٍّ إِلَّا أَكَلُوا مِنْ فَاكِهَةٍ مَا أَرَادُوا ، وَأَكَلْتُ مَعَهُمْ . قَالَ : فَجَاءَ الْبَشِيرُ مِنْ تِلْكَ السَّرِيَّةِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَانَ مِنْ أَمْرِنَا كَذَا وَكَذَا وَأُصِيبَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ، حَتَّى عَدَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ عَدَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " عَلَيَّ بِالْمَرْأَةِ " فَجَاءَتْ ، قَالَ : قُصِّي عَلَى هَذَا رُؤْيَاكِ فَقَصَّتْ ؛ قَالَ : هُوَ كَمَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ e ( [1] ) .

[1] - أحمد : 3 / 135 ، 257 ، وإسناده صحيح .
 
فصل : أمثلة من تعبير المعبرين

رأيت أن أسوق للقارئ أمثلة من تعبير المعبرين ، ليقف عن دقة هذا العلم ولطفه .
ما عبره أبو بكر الصديق t :
تقدم تأويل أبي بكر t لرؤيا الرجل في حضرة رسول الله e ؛ وهذه أُخر .
1 - عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : رَأَيْتُ كَأَنَّ ثَلاثَةَ أَقْمَارٍ سَقَطْنَ فِي حُجْرَتِي ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ t : إِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ دُفِنَ فِي بَيْتِكِ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ ثَلاثَةٌ ، فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ e ، قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ : خَيْرُ أَقْمَارِكِ يَا عَائِشَةُ ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ( [1] ) .
قال ابن عبد البر في ( التمهيد ) : وفي هذا الحديث دليل على اشتغال أنفس السلف بالرؤيا وتأويلها ( [2] ) .

2 - عن مسروق قال : مر صهيب t بأبي بكر t فأعرض عنه ؛ فقال : مالك أعرضت عني ؟ أبلغك شيء تكرهه ؟ قال : لا والله ؛ إلا لرؤيا رأيتها كرهتها ، قال : وما رأيت ؟ قال : رأيت يدك مغلولة إلى عنقك ، على باب رجل من الأنصار يقال له : أبو الحشر ؛ قال أبو بكر : نعم ما رأيت ، جمع لي ديني إلى يوم الحشر ( [3] ) .

3 - عن أبي قلابة أن رجلا أتى أبا بكر t فقال : إني رأيت في النوم كأني أبول دما ! قال : أُراك تأتي امرأتك وهي حائض ؛ قال : نعم ، قال : فاتق الله ( [4] ) .

4 - عن الشعبي قال : قالت عائشة – رضي الله عنها - لأبي بكر t : إني رأيت في المنام بقرًا ينحرن حولي ! قال : إن صدقت رؤياك قُتِلت حولك فئة ( [5] ) . ورواه ابن أبي شيبة عن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : رأيتني على تل كأن حولي بقرًا ينحرن ؛ فقال مسروق : إن استطعت أن لا تكوني أنت هي فافعلي ؛ قال : فابتليت بذلك رحمها الله .ا.هـ ( [6] ) . أي : ما كان في موقعة الجمل .

[1] - هذا الحديث جاء مرفوعًا على أن الذي فسر لها الرؤيا رسول الله e، وموقوفا على أن الذي فسرها لها أبوبكرt ؛ أماالمرفوع فرواه الطبراني في الكبير : 23 / 48 عن أبي بكر t ، وقال الهيثمي في( مجمع الزوائد : 7 / 185 ) : فيه عمر بن سعيد الأبح وهو ضعيف .ا.هـ . ورواه الحاكم ( 4401 ) من طريق الأبح عن أنس ؛ وأما الموقوف ؛ فرواه مالك في الموطأ :1/232(548) عن يحيى بن سعيد أن عائشة ، وفيه انقطاع ، ووصله الطبراني في الكبير : 23 / 47 ، والحاكم (4400)عن يحيى عن سعيد بن المسيب ؛ و ( 8192 ) عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة وصححه ؛ ورواه ابن أبي شيبة ( 30497 ) من طريق أخرى عن أبي قلابة عن عائشة ، ورواه الطبراني في الكبير : 23 / 48 من طريق أخرى عن محمد بن سيرين عن عائشة رضي الله عنها .

[2] - انظر التمهيد : 24 / 48 .

[3] - رواه ابن أبي شيبة ( 30496 ) .

[4] - رواه ابن أبي شيبة ( 30498 ) .

[5] - رواه ابن أبي شيبة ( 30500 ) .

[6] - ابن أبي شيبة ( 30513 ) .
 
ما عبره عمرt
تقدم ما عبره عمر لربيعة ابن أمية ؛ وهذه أُخر :
1 - فيصحيح مسلم عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَبِيَّ اللَّهِ e ، وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ ، قَالَ : إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي ... الحديث ( [1] ) ؛ وفي رواية عند أحمد عَنْ مَعْدَانَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ e وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ t ، ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ رُؤْيَا لَا أُرَاهَا إِلَّا لِحُضُورِ أَجَلِي ؛ رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي نَقْرَتَيْنِ ، قَالَ : وَذَكَرَ لِي أَنَّهُ دِيكٌ أَحْمَرُ ؛ فَقَصَصْتُهَا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَتْ : يَقْتُلُكَ رَجُلٌ مِنْ الْعَجَمِ ( [2] ) . وفي رواية عند ابن أبي شيبة عن عبد الله بن الحارث الخزاعي : فلم يلبث إلا قليلا حتى قتله عبد المغيرة : أبو لؤلؤة ( [3] ) .

2 - عن عطاء بن السائب قال : أخبرني غير واحد أن قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ! رأيت رؤيا أفظعتني ، قال : وما رأيت ؟ قال : رأيت الشمس والقمر يقتتلان ، والنجوم معهما نصفين ، قال : فمع أيهما كنت ؟ قال : كنت مع القمر على الشمس ، فقال عمر : ] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [(الاسراء: من الآية12) ، فانطلق فوالله لا تعمل لي عملا أبدا ، قال عطاء : فبلغني أنه قتل مع معاوية يوم صفين ( [4] ) . وفي ( فيض القدير ) للمناوي : في الروض الأنف أن رجلا قال لعمر t : رأيت الليلة كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل نجوم ؛ قال عمر : مع أيهما كنت قال : مع القمر ؛ قال : كنت مع الآية الممحوة ، اذهب ولا تعمل لي عملا أبدا ، فعزله ؛ فقتل يوم صفين مع معاوية ، واسمه حابس بن سعد ( [5] ) .

[1] - صحيح مسلم ( 567 ) ، ورواه أحمد : 1 / 27 ، وابن أبي شيبة ( 30501 ) ، والطيالسي ( 53 ) ، وأبو يعلى ( 184 ) ، وابن حبان ( 2091 ) بألفاظ متقاربة .

[2] - رواه أحمد : 1 / 15 ، ورواه بنحوه ابن أبي شيبة ( 30506 ) .

[3] - ابن أبي شيبة ( 30503 ) .

[4] - رواه ابن أبي شيبة ( 30501 ، 30705 ، 37864 ) .

[5] - فيض القدير : 6 / 474 .
 
بعض ما جاء عن ابن سيرين رحمه الله من تعبير الرؤيا
روى ابن عساكر أن رجلا جاء يسأل الحسن عن رؤيا ، فقال : أخطأت قريبًا ؛ ذاك ابن سيرين الذي يعبر الرؤيا كأنه من آل يعقوب ( [1] ) . وقال الذهبي : قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب يطول الكتاب بذكرها ، وكان له في ذلك تأييد إلهي ( [2] ) . وكان ابن سيرين إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل : اتق الله في اليقظة ولا يضرك ما رأيت في المنام ( [3] ) .
وهذه طائفة من تعبيره - رحمه الله :
1 - قال معمر : جاء رجل إلى ابن سيرين فقال : رأيت كأن حمامة التقمت لؤلؤة ، فخرجت منها أعظم ما كانت ، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت أصغر مما دخلت ، ورأيت أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت كما دخلت ؛ فقال ابن سيرين : أما الأولى فذاك الحسن ، يسمع الحديث فيجوده بمنطقه ، ويصل فيه من مواعظه ؛ وأما التي صغرت فأنا، أسمع الحديث فأسقط منه ؛ وأما التي خرجت كما دخلت فقتادة ، فهو أحفظ الناس ( [4] ) .
2 - عن عبد الله بن مسلم المروزي قال : كنت أجالس ابن سيرين فتركته وجالست الأباضية ، فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي e ، فأتيت ابن سيرين فذكرته له ، فقال : ما لك جالست أقوامًا يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي e ( [5] ) .

3 - دخل رجل على ابن سيرين فقال : رأيت كأني وجارية لي سوداء نأكل في قصعة من صدر سمكة . قال : أتهيئ لي طعامًا وتدعوني ؟ قال : نعم ، ففعل ، فلما وضعت المائدة ، إذا جارية سوداء ! فقال له ابن سيرين : هل أصبت هذه ؟ قال : لا ، قال : فادخل بها المخدع ، فدخل وصاح : يا أبا بكر ، رَجُلٌ والله ، فقال : هذا الذي شاركك في أهلك ( [6] ) .
4 - عن مغيرة بن حفص ، قال : سئل ابن سيرين ، فقيل : رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا ، قال : هذا الحسن يموت قبلي ، ثم أتبعه ، وهو أرفع مني ( [7] ) .
5 - جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت : إني رأيت رؤيا - وكان قاعدا على الغداء - فقال لها : تتركيني آكل أم أترك الأكل وأقص رؤياك ؟ قالت : كل ، فأكل ثم قال لها : قصي ، فقالت : رأيت القمر يدخل في الثريا ، ومناد ينادي من خلفي توجهي إلى ابن سيرين وقصي رؤياك ! فلفظ يده من الطعام ، وقال لها : ويلك ! كيف رأيت ؟ فأعادت عليه فتغير لونه ، وأخذه بطنه ؛ فقالت له أخته : ما لك يا أخي ؟! قال : زعمت هذه المرأة أنني ميت بعد سبعة أيام .. فدفن في اليوم السابع .


[1] - رواه ابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) : 53 / 230 .

[2] - انظر سير أعلام النبلاء : 4 / 606 .

[3] - البداية والنهاية : 9 / 303 .

[4] - انظر : تاريخ دمشق : 53 / 231 ، و ( سير أعلام النبلاء ) : 4 / 617 .

[5] - انظر : تاريخ دمشق : 53 / 231 ، و ( سير أعلام النبلاء ) : 4 / 617 .

[6] - انظر ( تاريخ دمشق ) : 53 / 233 ، و( سير أعلام النبلاء ) : 4 / 617 .

[7] - انظر ( سير أعلام النبلاء ) : 4 / 617 .
 
ومما جاء عن ابن سيرين
6 - جاء رجل إلى ابن سيرين فقال : رأيت كأني أخذت جرة حبلها واثق فأدليتها ، فانفلتت الجرة عن الحبل ، وسقطت الجرة ؛ فقال : أنت رجل أرسلت شخصا لك به عهد يخطب لك امرأة ، فمكر بك وتزوجها .
7 - روي أن امرأة جاءت إلى ابن سيرين فقالت : رأيت ابنة لي ماتت ، فقلت لها : يا ابنتي أي الأعمال أحسن ؟ فقالت : يا أماه عليك بالجوز واقسمي على المساكين ، فقال ابن سيرين : إن صدقت رؤياك فإنك دفنت كنزا عندك ، فأخرجيه وأعط المساكين منه نصيبهم ؛ فقالت : صدقت ، دفنته في أيام الطاعون .
8 - جاء رجل إلى ابن سيرين فقال : رأيت امرأة من أقاربي بين يديها إناء فيه لبن كلما رفعته إلى فيها لتشرب منه أعجلها البول فتضعه ؛ فقال : هذه المرأة صالحة فامض فتزوجها ؛ ففعل كذلك .
9 - جاء رجل إلى ابن سيرين فقال : إني خطبت امرأة في المنام سوداء قصيرة ؛ فقال له : اذهب فتزوجها ، فإن سوادها مال ؛ وقصرها قصر عمرها ، وترثها سريعا .. فكان كما قال .
10 – أتى رجل ابن سيرين وقال : رأيت كأني أشرب من قلة لها رأسان ، رأس مالح ورأس حلو ؛ قال : لك امرأة ولها أخت ، وأنت تراود أختها عن نفسها ، فاتق الله تعالى ؛ قال : صدقت ، وأشهدك على أني تبت إلى الله تعالى ( [1] ) .
11 - وقال له رجل : رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون ، فقال : فتش على امرأتك فإنها أمك ؛ ففتش فإذا هي أمه ؛ وذلك أن الرجل أخذ من بلاده صغيرا سبيا ثم مكث في بلاد الإسلام إلى أن كبر ، ثم سبيت أمه فاشتراها جاهلا أنها أمه ، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابن سيرين ، فأمره أن يفتش على ذلك ، ففتش فوجد الأمر على ما ذكره ( [2] ) .
12 - وقال له آخر : رأيت كأن على سطح بيتي حبات شعير فجاء ديك فلقطها ، فقال له : إن سرق لك شيء في هذه الأيام فأتني . فوضعوا بساطًا على سطحهم فسرق ، فجاء إليه فأخبره ، فقال : اذهب إلى مؤذن محلتك فخذه منه ؛ فجاء إلى المؤذن فأخذ البساط منه ( [3] ) .
13 - وقال له رجل : رأيت لحيتي قد طالت وأنا أنظر إليها . فقال له : أمؤذن أنت ؟ قال : نعم ! قال له : اتق الله ولا تنظر إلى دور الجيران ( [4] ) .



[1] - من رقم ( 5 ) إلى رقم ( 10 ) انتقيتها من فصل ( النوادر ) من كتاب ( الاشارات في علم العبارات ) لابن شاهين .

[2] - انظر ( البداية والنهاية ) لابن كثير : 9 / 303 ، 304 .

[3] - انظر ( البداية والنهاية ) لابن كثير : 9 / 304 .

[4] - انظر ( البداية والنهاية ) لابن كثير : 9 / 304 .
 
متفرقات
1 – قال الطفيل بن عمرو الدوسي t : رأيت كأن رأسي حلق ، وخرج من فمي طائر ، وكأن امرأة أدخلتني في فرجها ، وكأن ابني يطلبني طلبا حثيثا ، فحيل بيني وبينه ، فحدثت بها قومي ، فقالوا : خيرًا ، فقلت : أما أنا فقد أولتها : أما حلق رأسي فقطعه ، وأما الطائر فروحي ، والمرأة : الأرض أدفن فيها ، فقد روعت أن أقتل شهيدًا ، وأما طلب ابني إياي ، فما أُراه إلا سيعذر في طلب الشهادة ، ولا أُراه يلحق في سفره هذا . .. فقتل الطفيل يوم اليمامة ، وجرح ابنه ، ثم قتل يوم اليرموك بعد ( [1] ) .
2 - عن مسلم الحناط قال : رجل لابن المسيب : رأيت أني أبول في يدي ! فقال : اتق الله فإن تحتك ذات محرم ؛ فنظر فإذا امرأة بينهما رضاع ( [2] ) .
3 - عن إسماعيل بن أبي حكيم قال : قال رجل : رأيت كأن عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد النبي e أربع مرار ؛ فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال : إن صدقت رؤياك ، قام فيه من صلبه أربعة خلفاء ( [3] ) .
4 - أتى رجل معبرًا فقال : إني رأيت طيرًا طار من عبي ، ثم أتيت إلى أمي فأدخلتني جوفها ؛ فقال له المعبر : إن صدقت رؤياك تموت وتدفن ؛ لأن طيران الطير من عبك خروج روحك من جسدك ، وأما دخولك جوف أمك فهي الأرض لقوله تعالى : ] مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [ ( طـه : 55 ) .
5 - حكى أبو عبيدة قال : رأت أم جرير في نومها وهي حامل به كأنها ولدت حبلاً من شعر أسود ، فلما وقع منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه ، حتى فعل ذلك برجال كثير ، فانتبهت مرعوبة ، فطلبت تأويل الرؤيا ، فقيل لها : تلدين غلاما شاعرًا ذا شر وشدة شكيمة وبلاء على الناس ، فلما ولدته سمته جريرًا باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها ، والجرير : الحبل ( [4] ) .


[1] - انظر تاريخ دمشق : 25 / 15 ، وسير أعلام النبلاء : 1 / 346 ، والبداية والنهاية : 3 / 125 .

[2] - انظر ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد : 5 / 124 ، و ( سير أعلام النبلاء ) : 4 / 236 .

[3] - انظر ( طبقات ابن سعد ) 5 / 124 ، و ( سير أعلام النبلاء ) : 4 / 236 .

[4] - انظر ( وفيات الأعيان ) لا بن خلكان - تحقيق إحسان عباس - دار صادر - بيروت : 1 / 323 .
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم في تسطير هذه الفصول ، وأساله سبحانه أن يتقبلها ، وأن ينفع بها ؛ وما كان فيها من صواب فبتوفيق الله وحده ، وله الحمد والمنة ، وما كان من تقصير فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله العظيم منه .
لكن قـدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
والله أسأل التوفيق والسداد ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
] رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ ( البقرة : 286 ) . ] رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ ( آل عمران : 8 ) . آمين .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وآله وصحبه .
 
علل الدارقطني = العلل الواردة في الأحاديث النبوية (10/ 31)
وسئل عن حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنُ أَنْ تَكْذِبَ، وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلَا يُحَدِّثُ بِهَا وَلْيُصَلِّ، وَالرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ، وَأَكْرَهُ الْغُلَّ.
فَقَالَ: يَرْوِيهِ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛
فَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هريرة مَوْقُوفًا
 
عودة
أعلى