فصل من كتاب (أفكار مارقة) للدكتور إبراهيم عوض عن المستشار محمد سعيد العشماوي

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
محامو الشيطان
مع المستشار ا لكونى سعيد العشماوى
كنت أبحث ذات مرة فى مكتبة كلية الآداب بجامعة عين شمس عن كتاب "تاريخ الثقافة العربية فى السودان" للدكتور عبد المجيد عابدين، فلفت نظرى فى رف مجاور كتاب بعنوان "مصر والحملة الفرنسية" للمستشار سعيد عشماوى (سلسلة "تاريخ المصريين"/ العدد 163/ 1999م)، فأخذته واستعرته. ومن الطريف أننى لم أعثر على كتاب الدكتور عابدين مع ذلك، وهى تدبيرة من تدابير القدر! وما إن عدت إلى البيت حتى شرعت أقرأ الكتاب، فهالنى أن أجد المؤلف ينحاز بطريقةٍ سافرةٍ فِجَّةٍ إلى الجانب الفرنسى عاملا بكل قواه على تشويه المقاومة الدينية الوطنية التى مرَّرت حياة الكلاب الفرنسيين فى مصرنا الحبيبة وجعلتهم يعيشون طَوَال وجودهم على صفيح ملتهب حتى جَلَوْا عن أرض الكنانة بعد أن ظلوا يدنسونها بوجودهم النجس ثلاثة أعوام. كما أطلق لمشاعر الكراهية العِنَان فكال الاتهامات البشعة لسليمان الحلبى البطل العربى المسلم الذى شرفه الله سبحانه وتعالى بقتل الخنزير الحقير المسمَّى: "كليبر" بيديه الطاهرتين.
وكنت قد لاحظت فى المقدمة التى مهد بها لكتابه هذا أنه يتيه عُجْبًا وفخرا بمجالسته لبعض المسؤولين الفرنسيين أثناء زيارته التى سبقت تأليفه الكتاب المذكور واهتمامهم بما يكتبه عن الإسلام. كما هالنى ما رأيته من وصفه لنفسه بأنه "مفكر كونى". جاء ذلك ردا على سؤال خبيث وجهه له وزير العدل الفرنسى فى سنة 1988م أثناء زيارته المذكورة لفرنسا، إذ سأله بالإنجليزية: "How did you escape the destruction of your totalitarian culture?"، ومعناه: "كيف استطعت الإفلات من الأثر المدمر لثقافتكم؟". والمقصود بطبيعة الحال هو "الثقافة العربية الإسلامية"، هذه الثقافة التى وصفها الوزير الوقح مرارا بأنها "ثقافة شمولية"، أى جاهلة منغلقة "ذات تأثير مدمر على العقلية والشخصية"، إذ تؤدى إلى "انشطار العقل وانكسار القول" على حد تعبيره.
وبدلاً من أن يحاول "المفكر الكونى" تصحيح الوزير الفرنسى، بل زَجْره وإفهامه أن ما قاله لا ينطبق على ثقافتنا، بل عليهم هم، إذ يريدون منا باسم "العولمة، وما أدراك ما العولمة؟" أن نتخلى عن خصائصنا الثقافية، سواء فيما يتعلق بالعقيدة أو التشريع أو الذوق الفنى والأدبى أو العادات والتقاليد أو المثل العليا، ونتابعهم على ما هم عليه بحجة أن الأرض قد أضحت قرية صغيرة… إلى آخر هذا الهراء! بدلا من ذلك نراه ينخرط فى معزوفة مملة عن منحاه العقلى والفكرى وأنه رجل كونى منذ شبابه الأول يعلو فوق الخصوصيات المحلية فى "الثقافة والمعرفة والفن"، ومن ثم كُتِبَتْ له النجاة من الجهل الذى يدفع إلى التعصب لما عند قومه وأمته، وأن سر نجاته من هذا الأثر المدمر هو "طبيعته الخاصة وثقافته الإنسانية"، وأنه إن كان يُحِسّ (كما لاحظ الوزير الفرنسى السليط اللسان) بــ"الاغتراب" بين أبناء مجتمعه فإنه، وهذا هو المهم، يشعر "بالتوحد مع ذاته" ويحس أنه "فى صميم الكونية وحقيق الإنسانية وجميع الصِّدْقية". ليس ذلك فحسب، بل أضاف قائلا: "فصِرْتُ أُبَشِّر بالإنسان الكونى وأُقَدِّم نفسى مثلا ومثالا عليه"! يا ألله على هذا التواضع الحميد المجيد!
لكن سيادته، للأسف الشديد، قد نسى أن يقول لنا ماذا يا ترى كانت نتيجة هذا التبشير بذاته الكونية بين الفرنسيين والغربيين الذين يشنّف آذانهم ويبهج قلوبهم هذا النوع من الألحان الفكرية! وإن كنت أعرف من تلقاء نفسى الرد على هذا السؤال، فمثل هذه الأفكار لا تقال إلا للمتخلفين من أمثالنا نحن العرب والمسلمين، أما هم فسادة أعزة كرام لا يتخلَّوْن أبدا عن ثقافتهم الفرنسية أو الإنجليزية أو الأمريكية… ولا يلتفتون لهذا الهراء الذى لا يجوز إلا على عقول السُّذَّج الأغرار كأَنَا وأمثالى!
مقطع الحق أنه لا يوجد فى الدنيا شىء اسمه "الكونية" بالمعنى الذى يقصده السيد المستشار، وإلا فكيف يمكننى أن أتمسك بدينى إذا وضعت فى دماغى أن كل الأديان متساوية؟ أو كيف يمكننى أن أعتز بالصالح من عاداتى وتقاليدى إذا وضعت فى دماغى أن كل العادات والتقاليد متساوية؟ أو كيف يمكننى أن أدافع عن وطنى وأمتى إذا وضعت فى دماغى أن كل الأوطان والأمم متساوية؟… وهكذا، وهكذا. إن هذا تمييعٌ للأمور مؤذٍ بل مُهْلِك، وهو تمييع تروّجه الدوائر المعادية لنا كى تحطم روحنا المعنوية فتصير مواقفنا بهذه الطريقة مواقف هلامية لا تماسُك فيها ولا تمسُّك بشىء، ومن ثَمّ يسهل انكسارنا وتحطيمنا وتفتيتنا. أما اعتزازنا بأنفسنا وأمتنا وتاريخنا وثقافتنا، وقبل ذلك كله اعتزازنا بديننا وإيماننا بأنه هو وحده الدين الصحيح الذى لم ينله تحريف ولا تبديل، فضلا عن أنه هو وحده الدين العالمى، أما هذا الاعتزاز فهو ضمانتنا الوحيدة للصمود والبقاء والانتصار عاجلا أو آجلا على أعدائنا محترفى الكذب والإجرام والحرب المعنوية التدميرية، وإلا فليس أمامنا إلا الذوبان فى العدو والركوع تحت قدمه وفناء هويتنا فى هويته وامّحاء اسمنا من خريطة الحضارة، بل من خريطة التاريخ ذاته. إننا نحن البشر لا يمكن أن يتحقق لنا وجود إلا فى مكان معين (وزمان معين أيضا)، ومن ثم لا مناص لنا من الانتماء إلى وطن معين وأمة معينة لا إلى الكون كله، وإلا فأين ذلك الإنسان الذى يوجد خارج نطاق كل الأرضين بحيث نستطيع وصفه بـــ"الكونى"؟
والواقع أن الذى يسمع سيادة المستشار وهو يتحدث عن "كونيته" سيظن أن لدى الرجل علما غزيرا عميقا لم تَجُدْ به الأقدار على سواه، مع أن كتابه الذى يحتوى على هذه الدعوى العجيبة مملوء بالأخطاء الفاحشة من كل شكل ولون: بدءًا بالأخطاء الإملائية واللغوية، وانتهاءً بالأخطاء التاريخية والحضارية والسياسية. ونبدأ بالأخطاء الإملائية واللغوية التى هى من الكثرة والشُّنْع بمكان مكين، وكان ينبغى ألا يكون لها موضع فى كتابات مستشار قانونى له كتب متعددة ويوصف من قِبَل من يرافئونه على أفكاره ومواقفه ويفتحون له صدور مجلاتهم وينشرون له كتبه بأنه "مفكر". وكان قد سبق أن تهكم الدكتور محمد عمارة عليه وعلى استعماله كلمة "الفطيرة" بمعنى "الفِطْرَة" شارحا له أن هذا عيب لا يليق، لكن يبدو أن سيادة المستشار ليس لديه وقت يضيعه فى مثل هذه الصغائر التافهة، ولهذا لم يستغل هذه الفرصة "الفطيرية" التاريخية التى أتاحها له القدر وكانت مسجلة فى اللوح المحفوظ منذ قديم الأزل، فرصة تعليم الدكتور عمارة له وتنبيهه إياه إلى الأخطاء اللغوية المخزية التى يجب أن يتحرز منها بمزيد من التعلم والمعرفة، وليس فى ذلك أدنى عيب، بل العيب فى أن يظل الإنسان على ما هو عليه من الجهل بما لا ينبغى له الجهل به.
وكلنا نجهل هذا الموضوع أو ذاك، لكننا إذا ما نُبِّهْنا تنبهنا وحاولنا أن نستدرك على أنفسنا ما كان قد فاتنا، ولا نستنكف أبدا من أن نتعلم من جديد حتى لا نكون سُخْرَةً للساخرين ولا هدفًا للنقاد المتهكمين وحتى لا يفكر أحد كالمرحوم عباس الأسوانى فى كتابة مقامة عن وكستنا اسمها: "المقامة الفَطِيرِيّة" كــ"المقامة المَضِيرِيّة" التى ألفها بديع الزمان الهمدانى، أو ما دام لا يمكن أن يكتب عنا عباس الأسوانى مقامةً لأنه قد مات رحمه الله فقد يفعلها ابنه علاء ويكتب عنا "قصة قصيرة" اسمها "فطيرة عَشْمَاوْيان" على غرار "عمارة يعقوبيان"، يشرح لنا فيها حكاية الفطيرة، وهل كانت بالسمن أو بالزيت أو بالسكر أو بالسجق أو بالجبن الرومى أو بالبسطرمة؟ ومن الذى يا ترى عجنها؟ ومن الذى خبزها؟ ومن الذى سرقها؟ ومن الذى أكلها هَمّ يا مَمّ؟ لقد دخلت هذه الفطيرة التاريخ ولن تخرج منه أبدا إلا مع نفخة الصور يوم القيامة بإذن الله!
ترى هل يليق بــ"مفكر" أن يقول مثلا: "وعددهم اثْنَىْ وعشرون مستشارا" (ص 10)؟ ولا يمكن أن يكون هذا خطأ مطبعيا، وإلا لكُتِبَتْ "الياء" بنقطتين، على اعتبار أن الطابع قد كتب الياء، وفى ذهنه أن يلحق بها "نونا"، فهى من ثم ياء متوسطة بنقطتين تحتها. أما وقد خلت "الياء" من نقطتيها فمعناه أن سيادة المستشار الكونى قد كتب الكلمة فعلا على أنها "اثْنَىْ"! وهوخطأ كونى لم يحدث أن وقع فيه أحد من قبل لأنه لم يكن ثَمَّ مفكر كونى من قبل. وصواب هذا الخطإ الكونى المضحك هو "اثنان وعشرون مستشارا". ومثل هذا الكلام لم يصدر قَطُّ ولا يمكن أن يصدر عَوْضُ عن عربى، وهو يذكِّرنى بما سمعتُه من سيدة روسية فى أوائل الثمانينات متزوجة من شاب مصرى قالت لى أنا وزوجتى فى دكان من دكاكين الأثاث قابلناها فيه بحدائق القبة إن عند زوجها مكتبة "فيها تلاتهْ أَلْف كُتُب ونُسّ" (أى "ثلاثة آلاف كتاب ونصف الأَلْف")! إنه كلام خواجاتى! أعاذنا الله من الخواجات وكلام الخواجات! أم هل يليق بمن يوصف بأنه "مفكر" (و"مفكر كونى"، وليس أى مفكر! خذ بالك!) أن يقول: "العاطى والآخذ" (ص 13)؟ إن العامة تقول مثلا: "سبحان العاطى"، يقصدون: "المعطى"، غير دارين (وكيف يدرون، وهم عوامّ؟) أن العاطى هو "المُتَنَاوِل" لا "المُنَاوِل"، أى أنه الآخذ لا المعطى، لكن سيادة المستشار "الكونى" لا يعرف هذا الفرق بين الكلمتين لأنه لا يتنزل لمستوى المحلية، فهو رجل كونى أكبر من الانتماءات القومية والعرقية والبيئية والثقافية واللغوية، ومن باب الأَوْلَى فوق الاهتمام بالفرق بين هاتين الكلمتين اللتين يمكن أن يهتم بالتمييز بين معنييهما رجل مثلى لا هو كونى ولا دْيَاوْلُو، بل رجل على قد حاله، رجل لا فى العير ولا فى النفير، رجل لا يجد من ينخدع فيه فيصفه بأنه "مفكر"، رجل ليس عنده ما يشغله عن الاهتمام بالتفاهات والصغائر، وبالتالى يستطيع أن يوجه جهوده إلى مسألة تافهة كهذه لا يليق الالتفات لها بــ"مفكر كونى" كسيادة المستشار عشماوى!
بيد أن سيادة المستشار ينظر من عَلٍ إلى لغة الجَبَرْتِىّ ومعاصريه قائلا إن "لغة الكتابة فى ذلك العصر كانت قد انحطت شأن كل شىء فى مصر آنذاك" (ص 29)، وهذا هو الذى دفعنى إلى أن أفتح هذا الملف فيما كتبه جنابه فى الكتاب الذى بين أيدينا، ولولا ذلك فلربما كنت قد ألصقت "سيلوتيبًا" على فمى وسكتّ. لكن انتقاده لأسلوب الجبرتى الذى، رغم ما فيه من الهنات، هو أفضل مائة مرة من أسلوب المستشار عشماوى، على الأقل بما فيه من حيوية فى الوصف وحرارة فى التعبير ومرونة فى تأدية كل المعانى والأفكار التى كان كثير منها جديدا على الرجل رحمه الله، فضلا عن أنه لم يكن مصريا صميما كعشماوى، بل يرجع بنسبه إلى "جَبَرْت" الصومالية، ولا كان يتمطَّق بالحديث عن مجد الفراعنة فى مواجهة الإسلام كما يفعل بعض المتحذلقين ممن توقعهم حذلقاتهم فى المعايب والمعاطب، وفوق ذلك كانت العربية، ثقافةً ولغةً، قد وصلت إلى أدنى دركات انحطاطها على مدى تاريخها الطويل! وبالمناسبة فــ"يتمطَّق" كلمة فصيحة صحيحة فى هذا المعنى. قال حُرَيْثُ بن عَتَّاب يهجو بني ثُعَل:
دِيَافِيّةٌ قُلُفٌ كأَنَّ خَطِيبَهُمْ، * سَرَاةَ الضُّحَى، في سَلْحِهِ، يتَمَطَّقُ
أقول: إن انتقاد عشماوى لأسلوب الجبرتى ومعاصريه قد ذكّرنى ببيت الشعر الذى يقول:
يا أيها الرجل المعلِّم غَيْرَه * هَلاَّ لنفسك كان ذا التعليمُ؟
ودفعنى بالتالى إلى تنبيهه لتلك التفاهات التى ما كان يصح ولا يليق ولا يحق أن أشغله بها عن مهامه الكونية التى لا يصلح إلا لها ولا تصلح إلا له كما كانت الحال بين الخلافة والمهدىّ على حد قول أبى العتاهية:
أتته الخلافة منقـادةً * إليه تجـــرِّر أذيالها
فلم تَكُ تَصْلُح إلا له * ولم يَكُ يَصْلُح إلا لها!
ومُضِيًّا مع سياسة تنبيه الكائنات "الكونية" للتفاهات "المحلية" أقول إن سيادة المستشار قد وقع فى أخطاء كثيرة أخرى تافهة مثل هذه أرى أنه لا بد من التنبيه إليها. صحيح أنه فوق الاهتمام بأمثالها، لكنْ على القراء الكرام ألا يَنْسَوْا أننى إن لم أشغل نفسى بمثل هذه الأمور فماذا أفعل؟ ومن أين آكل أنا وأولادى؟ إن وظيفتى هى فى رصد هذه التفاهات والكتابة عنها حتى يقال إننى أستاذ كاتب، وحتى تفرح أم عيالى التى لا أدرى أىّ شيطان سوَّل لها أن تختار رجلها على أساس أنه أديب! منها لله! هى التى أوقعتنى فى هذا الشر!
ومن هذه التفاهات التى لا يليق أن أشغل الرجل "الكونى" بها لولا أننى ليس عندى شغلة ولا مشغلة تشعلنى عن رصد هذه التفاهات كما قلت، كتابته ألف جماعة فى "سيئوا الخلق، قليلوا الخبرة" (ص 72، وهذه لا يقع فيها إلا الكتاب من فئة "الكَوْنِيّين" الذين عندهم من الاهتمامات والمشاغل ما يصرفهم عن الانتباه لمثلها ومعرفة أن هذه الألف لا تضاف إلا للفعل المضارع المسند لواو الجماعة فى حالة النصب والجزم فحسب)، وكذلك قوله: "فكأن العثمانيون هم الذين أثاروا النعرة الطائفية" (ص 83، برفع اسم "كأن"، وصحته "العثمانيين")، وكتابته: "يجترءون" بهمزة على السطر لا على نبرة (ص 98)، وقوله: "يسميها (الجبرتى) ديوان" (ص 102، بدلا من "ديوانا" بالنصب لأنها مفعول ثان كما يعرفها كل من له أدنى إلمام بعلم النحو "المحلى" الذى لا وشيجة بينه وبين "الكونيات" العشماوية)، وقوله: "إنها فكرة الجبرية… التى تدعوا الناس إلى.." بزيادة ألف جماعة فى غير محلّها (ص 115)، وقوله: "وكان كل فرد غارق فى الجهل والأنانية" (ص 150، وصوابها "غارقا" حسبما يعلم ذلك صغار التلاميذ منذ المرحلة الابتدائية لأنها خبر "كان" كما هو بين واضح حتى للأعمى)، وقوله: "وإذا بهم يفرّوا من المعركة ويتخلَّوْا عن المصريين" (ص 151، بحذف "نون" الرفع من آخر المضارع مرتين متتابعتين دون ناصب أو جازم)، وقوله: "كان يعين القضاة بعد أن يحصل منهم على الرشاوى فيظلموا هم كما يشاءون" (ص 154- 155، وهى نفس الغلطة السابقة)، وقوله: "وهل خلَّدَ أحد منهم تخاذلُه وجبنُه؟" (ص 159، برفع "أحد" رغم أنه مفعول به)، وقوله: "ألم يعى أحدهم المعانى الحقيقية للكفاح…؟" (ص 159، بإثبات حرف العلة فى نهاية المضارع المجزوم)، وكتابته كَلِمتَىْ "رءاءا ورياءا" (ص 162، على خلاف ما كما نفعل ونحن عيال صغار فى الكتّاب، إذ كنا وما زلنا نكتبها هكذا:"رئاءً ورياءً"، وهو ما لا تصح كتابتهما بخلافه، علاوة على أن "رئاء" هى ذاتها "رياء" دون أى فرق إلا فى تحقيق الهمزة أو تسهيلها، فــ"أحمد" هو "الحاج أحمد")، وقوله: "أما المصريين فما إن بدرت لهم البادرة…" (ص 173)، "أما المصريين… فقد كانت لديهم… حالة من الانكفاء على الذات" (ص 189، بنصب "المصريين" فى الجملتين رغم كونها مبتدأً)، وقوله: "فما بين هزيمة المماليك… وبين سنة 1823 خمسة وعشرين عاما" (ص 173، بنصب المبتدإ مرة أخرى، وهو "خمسة وعشرين"، وصحته "خمسة وعشرون")، وكتابته كلمة "ملء" بهمزة على ألف فى الجملة التالية: "صار … ملأ السمع والبصر" (ص 182، بدلا من "مِلْءَ السمع والبصر")، وقوله: "كان الفرنسيون مستعمرون" (ص 184، برفع خبر "كان")، وقوله: "مجاز وليس واقع" (ص 191، برَفْع خبر "ليس" أو ربما خَفْضه)، وقوله: "فضلا عن أنهم ورؤساؤهم كانوا يشاركون التجار والحرفيين فى أعمالهم" (ص 201، برفع المعطوف على اسم "إن" (أو المفعول معه) كما هو واضح لكل ذى عينين وكل غير ذى عينين أيضا، وجميع التلاميذ يدركون أن المعطوف يأخذ الحكم الإعرابى للمعطوف عليه، ومن ثم كان حقه أن يُنْصَب كما هو واضح أيضا لكل ذى… وكل غير ذى… إلخ. كذلك يعرف تلاميذ المدارس أن المفعول معه حقه النصب)!
وأحب أن أنبه الأذهان إلى أن هذه الأخطاء ما هى إلا عينة من أخطاء أكثر، كما أننى أخمن أن الكتاب قد خضع فوق ذلك للتصحيح، فضلا عن أن كثيرا من صفحات الكتاب إنما هى نقولٌ من الجبرتى، ومعنى هذا أن نسبة الأخطاء فيما خَطّتْه يد السيد المستشار نفسه هى نسبة فاحشة، لكن لا بد مع ذلك من المسارعة إلى القول بأنها إنما توصف بكونها "فاحشة" بالنسبة إلى الكتاب "المحليين" لا غير، أما الكتاب "الكونيون" فلا تُعَدّ فى حقهم شيئا لأنهم أكبر من أن يشغلوا أنفسهم بمثل هذه التُّرَّهات! على أن هذه الأخطاء ليست كل شىء فى الكتاب على صغر ما خطته فيه يد الكاتب كما قلنا، بل هناك أخطاء من نوع آخر، إذ هو لا يجرى على وتيرة واحدة فى إعراب الكلمات التى يكتبها بين قوسين شرحا لما يكتبه الجبرتى مما يرى سيادته أنه يحتاج إلى شرح، ومن ثم يجعلها "بدلا" من الكلمة التى تفسرها أو "نعتا" لها حسب السياق، بل نراه يكتبها مرة مرفوعة، ومرة منصوبة، ومرة مجرورة كيفما اتفق، وهو ما يدل على أن المسألة غير واضحة فى ذهنه بتاتا. كما أنه كثيرا ما يفسر عبارة الجبرتى تفسيرا خاطئا.
لنأخذ مثلا الشواهد التالية: إنه يفسر"الإيراد والإصدار" فى قول الجبرتى عن مراد بك إنه كان يشارك إبراهيم بك "فى الأحكام والنقض والإبرام، والإيراد والإصدار" بأنهما "المصروفات" (ص 31، مع أن الكلام، حسبما يقول السياق، هو عما كان يَرِدُ عليه من أمور وما كان يصدر عنه من تصرفات لا عن الأموال والمصروفات). كذلك نجده يفسر "البُمْبات" بــ"البُمْب"، (ص 31- 32، وكأننا إزاء ما يلعب به الأولاد فى العيد من بُمْب يفرقعونه فى الشوارع وعلى سلالم البيوت، ولسنا بصدد الحديث عن القنابل التى كان يضرب بها الفرنسيون المساكن والمساجد فيدكّونها دكًّا، والتى كثيرا ما عبر عنها الجبرتى بــ"القنبر" و"القنابر"، وهى الكلمة التى تطورت بعد ذلك إلى "القنابل"). وبالمثل يشرح كلمة "البَوّ" فى قول الجبرتى عن رجل أبله سمين غاية السمن إنه "صار مثل البَوّ العظيم" بأنه "الشىء" (ص 40، وهو شرح لا معنى له لأنه يصدق على كل شىء وعلى أى شىء، إذ ما من شىء إلا ويوصف بأنه شىء، فهو كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء، أو كالشاعر الذى يقول عابثا هازلا:
الأرضُ أرضٌ، والسماءُ سماءُ ** والماءُ ماءٌ، والفضاءُ فضاءُ
أما "البَوّ" فهو الجلد المحشوّ المنتفخ! وكنا ونحن صغار نلعب فى القرية أحيانا بنوع بدائى ضخم من الكرة المحشوة خِرَقًا يسمّونه: "البَوّ". وأصل الكلمة هو "ولد الناقة"، ثم تطورت وأصبح معناها أيضا: جلد ولد الناقة إذا حُشِىَ تبنا وقُرِّب من أمه لتحنّ فيسهل إدرارها اللبن… وهكذا).
أما فى قول الجبرتى عن شناعة ما فعله الفرنسيون فى أول ليلة لهم بالقاهرة وعَجْزه عن وصف ذلك: "وكانت ليلة وصباحها فى غاية الشناعة. جرى فيها ما لم يتفق مثله فى مصر ولا سمعنا بما شَابَهَ بعضه فى تواريخ المتقدمين، فما راءٍ كمن سَمِعَ" (ص 45)، فإن سيادة المستشار "الكونى" يشرح كلمة "شَابَهَ" بمعنى "حَدَث"، فاعجب أيها القارئ الكريم كما يحلو لك من تلك العبقرية الكونية، فلن تجد من يلومك. أما عبارة: "فما راءٍ كمن سَمِعَ" فإنها تتحول بقدرة قادر بفضل عبقرية سيادته التى ليس لها شبيه إلى: "فما (فمن) رأى (ليس) كمن سمع"، مع أن الجملة مثلٌ مشهور عند العرب! وهو ما يصدق عليه المثل البلدى: "جاء يكحّلها فأعماها"! وفى العبارة التالية: "تبين أن الإفرنج (الفرنسيون) لم يعدّوا إلى البرّ الشرقى" (ص 46) يكتب فى شرح كلمة "الإفرنج" كلمة "الفرنسيون" بالرفع، مع أنها بدل من "الإفرنج" المنصوبة! ومثلها: "بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العسكر… وتَجَاريهم (اجتراءهم) على هدم البنية الإنسانية" (ص 49، بنصب الكلمة المفسِّرة بدلا من "اجترائهم" بالجر إتباعا لجرّ "تجاريهم"). ومثلها أيضا: "وفَتَحَ بعض الإفرنج البلديين (المقيمون فى مصر) بيوتا" (ص 51)، "التفّت عليه طائفة من المغاربة البلدية (المقيمون فى مصر)" (ص 78، بدلا من "المقيمين" فى الحالتين). ومثلها: "هذا من فعل ناصف باشا وكتخدا الدولة وإبراهيم بك (العثمانيون)" (ص 80، بدلا من "العثمانيين"). أما فى المثالين التاليين: "وكانت العساكر (العثمانيون) يخطفون ما يجدونه بأيدى الناس" (ص 80)، "بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العسكر… وتَجَارِيهم (اجترائهم) على هدم البنية الإنسانية" (ص 86) فقد كتب الكلمة الشارحة صحيحة، لكن على سبيل المصادفة والاعتباط بطبيعة الحال، فهو كما قال الشاعر:
يُعْطِى ويَمْنَعُ لا بخلاً ولا كرمًا * وإنما خطراتٌ من وساوسهِ
وفى قول الجبرتى إن الفرنسيين قد استحدثوا بمصر نظام تسجيل العقود "وأن يُقَيَّد… من يتصدى لذلك ويرتبه ويدبره" (ص 62) نجد سيادة مفكرنا الكونى يفسر كلمة "يُقَيَّد" بـــ"يُُقَيَّض"، مع أن معناها بمنتهى البساطة هو "يُعَيَّن" كما هو ظاهر لا يحتاج لأى تفلسف، أما "يُُقَيَّض" فمعناها "يتاح"، وأين هذا من ذاك؟ أما فى الشاهد التالى فهو يفسد الأمر إفسادا شنيعا، وإن ظن أنه يصحح خطأ وقع فيه الجبرتى: "لم يُجِزْهم (يجيزهم) على عوائدهم" (ص 134)، أى أنه للمرة الثانية "جاء يكحّلها فأعماها"، إذ عندنا هنا حرف جَزْم هو "لم"، وعلى هذا فلا بد من حذف ياء الفعل المضارع الأجوف تبعا لتسكين الحرف التالى لها (وهو حرف "الزاى") فنقول: "لم يُجِزْ"، لكن جناب السيد المستشار (جنابه الكونى العظيم الذى لا يليق به الالتفات إلى الصغائر والسخافات التى لا تقدم ولا تؤخر) قد أثبت هذه الياء برغم أنف النحو واللغة وعلمائها وأصحابها! ولم لا، والنحو مسألة قومية، و"القومىّ" لا يناسب "الكَوْنىّ" ولا يرتفع لموطئ قدميه كما هو معروف؟ تُرَى: أقَوْمِىٌّ وكَوْنِىّ؟ طبعا لا يجوز!
وفى قول الجبرتى يصف أول معركة بين الفرنسيين والمماليك: "ودقَّ (يقصد الجيش الفرنسى) طبوله وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع" (ص42، 172) نرى مفكرنا الكونى الذى لا نملك غيره يفسر عبارة "بنادقه المتتالية" بأنها "البنادق الآلية" رغم أن ذلك السلاح لم يظهر إلى الوجود إلا فى منتصف القرن التاسع عشر، أى بعد ذلك بعشرات السنين، وكذلك رغم أنه رجل قانون ويعرف الأسلحة، إذ هى جزء أصيل من تخصص القانون الجنائى. جاء فى النسخة الإنجليزية من "الويكيبديا" (Wikipedia) تحت عنوان "Machine gun":
" It would not be until the mid-1800s that successful machine-gun designs came into existence"
لكن أصول الكَوْنِيّة تقتضى من جَنَاب المتصفين بها التعالى عن المبالاة بمثل تلك التفاهات العلمية أيضا قياسًا على التفاهات النحوية. فكله، كما ترى، تفاهات فى تفاهات! إن البنادق هنا ليست هى الآلات التى نعرفها، بل الطلقات التى كانت تشبه هذا اللون من المكسّرات، ولهذا كانت تسمَّى: "البُنْدُق" وتُجْمَع على "بنادق"، ومن هنا جاءت تسمية "البندقية". جاء فى "لسان العرب" ضمن معانى "البندق": "والبُنْدُقُ: الذي يُرْمَى به، والواحدة بُنْدُقة، والجمع البنَادِق". وفى "تاج العروس" للزبيدى: "البُنْدُقُ…: الَّذِي يُرْمَى بِه. الواحدَةُ بــ"هَاء"، والجمع "البَنادِق" كما في "الصِّحاح"…". وفى معجم "لاروس" (العربى- العربى): "البندق: رصاص كروىّ الشكل صغير يُسْتَعْمَل فى بعض القاذفات للقتال أو للصيد. واحدته "بندقة"…". ويزيد "المعجم الوسيط" الأمر وضوحا فيقول: "والبندق: كرة فى حجم البندقة يُرْمَى بها فى القتال والصيد… والبندقية: قناة جوفاء كانوا يرمون بها البندق فى صيد الطيور. والبندقية: آلة حديد يُقْذَف بها الرصاص على التشبيه بالأولى". أى أن هذا المعنى هو مما ينبغى أن يعرفه كل طالب عادى، إذ لا يقتصر وجوده على المعاجم القديمة بل يوجد فى الحديث منها أيضا. ثم إنه لا يصح أن يقال إن الفرنسيين قد "أرسلوا" على المماليك البنادق (بهذا المعنى)، فالبنادق (الآلات) لا تُرْسَل على الأعداء، بل البنادق (الطلقات)، وذلك من الوضوح بحيث لا يمكن الخطأ فيه، ولكن ماذا نقول فى الكَوْنِيّة العشْمَلّيّة؟ أكاد أخرج فى هذا العيد إلى الشوارع وفى يدى بَيْرَق وأصيح: "يا رب يا متجلِّى، عليك بالعَشْمَلِّى"! لكنى أخشى أن يظن الناس بى الظنون وينتهى أمرى إلى العباسية! كما أننى أخاف أن نفقد "المفكر الكونى" الوحيد الذى نملكه، ونحن لم نكد نصدّق أن عندنا مفكرا كونيا! مسكين يا جبرتى مع سيادة المستشار الألمعى الذى لا يعجبه أسلوبك وينظر إليه بتَعَالٍ "كَوْنِىّ"!
إن المفكرين الصغار المحليين من أشباه محمد عبده وإبراهيم اليازجى وسليمان البستانى والشدياق وحفنى ناصف وباحثة البادية والرافعى وشكيب أرسلان والعقاد والمازنى وأحمد أمين ومحمد كرد على وشفيق جبرى وخليل سكاكينى وعبد الحميد بن باديس ومحمد عزة دَرْوَزَة وعادل زعيتر وأمين الخولى وعبد الوهاب عزام ومحمد حسين هيكل والزيات وسيد قطب ومحمد عبد الله دراز ومحمود شلتوت ومحمد مفيد الشوباشى وعبد المتعال الصعيدى ومحمد الطاهر بن عاشور والبشير الإبراهيمى ومحمود قاسم وأحمد الحوفى وبنت الشاطئ ومحمود شاكر وشوقى ضيف ومحمد عبد الغنى حسن وغيرهم من فئة "العشرة بملِّيم" الذين كان الواحد منهم يمشى بجوار الحائط داعيا الله أن يعدّيها على خير، ولا يطمع فى عالمية ولا كونية ولا مهلِّبية، وكانوا يُخْلِدون إلى سُرُرهم من لدن المغرب، وإذا شربوا ماءً قَرَاحًا أخذهم السُّعَال وكادت نفوسهم أن تَزْهَق ولم يتخلصوا منه إلا باللَّتَيّا والَّتِى، وإذا ركبوا إلى ميدان التحرير حسبوا أنفسهم قد وصلوا إلى القطب الشمالى، ولا تتطالّ آمالهم إلى مجالسة الوزراء الفرنسيس، هؤلاء المفكرون الصغار المحليون لم يكونوا يخطئون فى اللغة لأن هذا كان منتهى الأمل عندهم، أما مفكرنا الكونى الفريد الوحيد فإن عينيه العبقريتين تتطلعان إلى الأعالى، وليس لديه من الوقت ما ينفقه فى مراعاة نحو أو صرف! وصدق الله العظيم إذ يقول: "قل: كُلٌّ يعمل على شاكلته"، وشاكلة المفكر المحلى هى الاهتمام بالأشياء الصغيرة، أما المفكر الكونى فشاكلته القضايا الكبرى! وأين المحلىُّ من الكونىّ؟
والكتاب مقسم إلى فصول: الفصلان الأولان بعنوان "مصر قبل الحملة الفرنسية" و"الوضع العام فى مصر"، وفيهما يعرض المؤلف لقطاتٍ مما نعرف جميعا أنه كان سائدا فى مصر آنذاك من استبداد وجهل وفوضى وفقر وقذارة وابتعاد عن الفهم والمِرَاس الصحيح للدين، وإنْ ظن هو بكونيته أنه قد أتى فيهما بشىء جديد، فأصوات المصلحين قد بُحَّت، وحناجرهم وقلوبهم وعقولهم تعبت من كثرة ما نادَوْا بدعوات الإصلاح وكثرة ما عادوا بخُفَّىْ حُنَيْن من هذه الدعوات لبطء استجابة الأمة وفتور اهتمامها بالخروج مما هى فيه، والشرخ بل الفَلْق الواسع الذى يفصل بين الحكام والشعوب ويمنع الطرفين من التعاون رجاء التخلص من هذه الأزمة الجبارة التى تهدد الأمة فى وجودها ذاته، فضلا عن التآمر المستمر من جانب الدول الاستعمارية والمعارك التى يستدرجوننا إليها كل فترة ويحطمون فيها كل ما نكون قد بنيناه قبلها، والفُرْقة بل العداوة التى تشتت الدول العربية والإسلامية وانحياز كل دولة منها إلى سيد أجنبى يسومها الخسف والهوان ويمتص خيراتها ويمنعها من مد يدها لأخواتها، وزرع الدولة الصهيونية زرعًا فى قلب الوطن العربى… إلى آخر العوامل التى تعرقل مسيرة نهضتنا وتدمر إنجازاتنا. وليس فى هذين الفصلين تقريبا شىء مما يمكن أن يكون مثار خلاف بيننا وبين مفكرنا الكونى.
أما فى الفصل الثالث، وعنوانه "الفرنسيون فى مصر" فيبدأ التدليس على أصوله، وإن لم يمنع هذا من وجود بعض النقاط التى نلتقى نحن وهو فيها كالقول بأن المصريين، حكومةً وشعبًا، لم يكونوا مستعدين لمواجهة الحملة الفرنسية مواجهةً عسكريةً منظمةً بل لم يكونوا على علم بقدومها… إلى أن رَأَوُا الأسطول الفرنسى بغتة قبالة السواحل المصرية، وأنهم لهذا قد انهزموا سريعا أمام الجيش الفرنسى الذى كان مسلحا ومدربا على أصول الحرب الحديثة، على حين كان المماليك يحاربونه بأساليب عفا عليها الزمن وأكل عليها الدهر وشرب، ولذلك لم يثبتوا فى الميدان إلا قليلا كما هو معروف، وإِنْ أدت المقاومة الوطنية دورها الذى عوّض عن هذا الخزى وجعل حياة الفرنسيين جحيما رغم التفوق الذى كانوا يتمتعون به عسكريا وإداريا وعلميا، وكان للمماليك مساهمتهم فيها هم أيضا.
ومن التدليس قَوْلُ الكاتب إن الفرنسيين قد عبّروا عن أهدافهم من احتلال مصر بـ"أنها إزالة المماليك وترتيب ديوان منتخب لحكم البلاد وتطبيق الشريعة" (ص 52). فأى شريعة تلك التى جاء الفرنسيون لتطبيقها؟ وأى حكم كانوا يريدون أن يعيدوه لأبناء مصر؟ هل سمع أحد أن الحدأة ترمى كتاكيت؟ إن المستشار الكونى، بطيبته وصفاء نيته ورهافة قلبه التى لا يشك فيها إلا جاحد معاند، يظن أن بمستطاعه تربيع الدائرة! وهو هنا ينتقد المصريين انتقادا شديدا، وأنا معه، لأنهم لم يقفوا فى وجه الاستبداد المملوكى الذى أوصلهم إلى هذه الهزيمة وذلك الهوان الذى لم يتوقف تقريبا منذ ذلك الحين. لكن سيادة المستشار الكونى قد انتقد المصريين أيضا لعكس هذا السبب، ألا وهو أنهم هبوا ثائرين فى وجه المجرمين الفرنسيين، فاندفع فى فاصل من السخرية والتبكيت والتعنيف لأنهم فعلوا ذلك. والسبب هو أن الفرنسيين، كما يصورهم، لم يصنعوا شيئا يمكن أن يتعلل به عليهم المصريون الظلمة الكفرة الذين اعْتَدَوْا على أملاكهم واستهزأوا بهم حين شاموا أنهم فى طريقهم إلى الانكساح من مصر.
لقد كان سيادة المستشار يريد من الثائرين أن ينتظروا حتى تكون لديهم لجان ومنظمات تخطط لنشاط المقاومة ومحاربة الفرنسيس، وهو ما يعنى أن الانتظار كان سيطول عقودا وعقودا، إذ أين لمصر آنئذ الفكر والتخطيط اللازم لتلك العملية؟ لقد هب الناس بباعث من دينهم فأذاقوا المجرمين الغزاة من المصائب والبلايا على قدر ما استطاعوا دون حذلقات إنتليجنسية ماسخة لا تقدم ولا تؤخر، حذلقات تنظيرية من تلك التى يبرع فيها نفر منا من أحلاس المكاتب والقهوات والتى ينتقد فريق من المنتسبين إلينا هذه الأيام على أساسها أبطال المقاومة فى أفغانستان والعراق وفلسطين لأنهم ارتكبوا هذا الخطأ أو ذاك مما لا تبرأ منه أية مقاومة فى الأرض، ناسين بل متناسين ومتجاهلين ويلات الجحيم التى يصبها العدو الصهيونى والأمريكى والبريطانى صَبًّا على رؤوس أهلينا فى تلك البلاد من تدميرٍ للبيوت والمدارس والمساجد وتقتيلٍ للأطفال والنساء والرجال، واعتداءٍ على الأعراض وبَقْرٍ للبطون وسَجْنٍ للأحرار الشرفاء فى معتقلات فظيعة مرعبة وقذرة مفحشة لم يعرف التاريخ لها نظيرا. ولا يخطئ أحلاس المقاهى أبدا فيفتحوا أفواههم النجسة القبيحة أبدا بكلمة حق ينتقدون فيها المستعمر، وكأننا بإزاء معركة بين شياطين (هم بطبيعة الحال رجالنا وأبطالنا الميامين) وملائكة (يمثلهم المجرمون الملعونون فى كل كتاب من أمريكان وصهاينة وبريطان وغيرهم).
ولقد نَسِىَ المفكر الكونىّ أنه هو نفسه بعظمة لسانه قد ذكر فى الفصل المسمَّى: "الخطاب الفرنسى للمصريين" أن الفرنسيين كانوا يغيرون من خطابهم تبعا لتغير الوقت والظروف، ومَدَحَهم لهذا السبب على أساس أنهم كانوا واعين لقواعد اللعبة وحافظين لأصولها (وكأن احتلال مصر العظيمة لعبة من اللعب! بئست كلمةً تخرج من أفواه القائلين بها!): فقد قالوا مثلا فى البداية إنهم جاءوا لتخليص مصر من المماليك الخارجين على السلطان ولتطبيق الشريعة والانتقام للإسلام من فرسان المعبد النصارى. لكنهم بدلوا هذا الكلام بعد ذلك فهاجموا العثمانيين وسلطانهم واتهموهم بالغباوة والجهل والاستبداد بالمصريين وظلمهم لهم، ودخلوا الأزهر بخيولهم النجسة مثلهم ودمروا المساجد. كما أنهم قد عزفوا أولاً على وتر الجبرية لتيئيس المصريين من الوقوف فى وجه مخططاتهم وأطماعهم باعتبار أن احتلالهم لمصر هو من الأمور المقدورة منذ الأزل فلا معنى لمقاومته ولا جدوى من الثورة عليه، لينقلبوا فيما بعد على هذه العقيدة داعين المصريين أنفسهم إلى أن يأخذوا زمام المبادرة فى أيديهم ويهبوا ويتخلصوا من العثمانيين والمماليك… إلخ.
ومعنى ذلك أنهم حين قالوا إنهم يريدون تطبيق الشريعة إنما كانوا يكذبون ويخادعون وينافقون نفاقا خبيثا مثلهم، وأن المصريين حين لم يصدقوهم وثاروا عليهم وكبّدوهم الخسائر إنما كانوا يتبعون عين العقل والحكمة، ولو كانوا فعلوا غير هذا لكانوا من الضالين الخاسرين. ومهما يُؤْخَذْ عليهم من أخطاء فلا ريب أن ظُفْر أحقر حشرة فيهم، كما يحب عشماوى أن يسمى أبطال المقاومة الوطنية، هو أشرف من رقبة أى وغد لئيم يبيع نفسه لأعداء الدين والوطن ويجعل وُكْدَه الحظوة برضاهم الحقير! وفى الفصل المعنون باسم "الترتيبات الإدارية والإنشاءات المادية" يمنّ علينا كاتبنا الكونىّ بأن المجرمين الفرنسيس قد أقاموا فى مصر لأول مرة ديوانا منتخبا لحكم البلاد دون أن يبذل المصريون أى جهد فى هذا السبيل. يعنى: "حاجة ببلاش كده!" مثل "تُوبْس: Tops" (هل تذكرون إعلاناته التى كانت شائعة فى ثمانينات القرن البائد؟). وكأن المجرمين القتلة مصاصى دماء الشعوب كانوا يعملون فعلا على أن يحكم المصريون أنفسهم بأنفسهم فجاءوا من بلادهم البعيدة وأنفقوا الأموال الطائلة لهذا الغرض الإنسانى الكريم! لقد دخل الفرنسيون الجزائر وبَقُوا فيها مائة وثلاثين عاما، فماذا فعلوا أثناءها يا ترى؟ لقد ارتكبوا من الفظائع والشنائع والتقتيل والتدمير ما لم نسمع به من قبل. وعندما خرجوا من الجزائر فى منتصف القرن العشرين بعد أن فشلوا فى إلحاقها بفرنسا بناءً على زعمهم الوقح أنها جزء من التراب الفرنسى (شوفوا الفجور والعهر!) كانت تلك البلاد فى حال تُبَكِّى القلب بل تُدْمِيه من التخلف والفقر والجهل والقذارة والمرض والهوان!
لقد كان نابليون من أكبر المستبدين فى التاريخ، وكان يعمل دائما على تأليه نفسه والعصف بخصومه، ولم يكن يطيق أن يسمع صوتا سوى صوته حتى فى فرنسا. ومن أقواله التى تكشف عن المدى الذى بلغته كراهيته للرأى الآخر واحتقاره للشعوب التى كتبت عليها الأقدار أن تقع تحت سلطانه هذه الكلمة التى قالها عن هولندا حين كانت جزءا من الإمبراطورية التى أقامها بعد هروبه من مصر مُجَلَّلاً بالعار: "أنا لم أستول على حكومة هولندا لآخذ رأى سكان أمستردام بعد ذلك وأعمل ما يريده الآخرون" (د. ليلى عنان/ الحملة الفرنسية: تنوير أم تزوير؟/ كتب الهلال/ العدد 567/ مارس 1998م/ 148). فإذا كان هذا هو رأيه فى شعب هولندا الأوربى النصرانى، فكيف يظن بعضٌ من عباقرة آخر زمن أن بمستطاعهم إقناعنا بأن ذلك الأفاق كان يريد للمصريين المسلمين حياةً شُورِيّةً تكفل لهم حكم بلادهم وإدارة شؤونها بحرية تامة؟ ومِنْ تألُّه ذلك الأفاق وتجبُّره أن القساوسة ورجال السياسة فى فرنسا كانوا يتملقونه تملقا قميئا وضيعا مثلهم كقول أحد القسس إن نابليون ممثل الله على الأرض، وإنه واثق أن الرب يأسف لأنه سبق أن أرسل المسيح لمعرفته أن نابليون كان أجدر بأن يكون ابنه، وكقول قس آخر: "إنه لشرف عظيم للرب أن عبقرية خارقة (مثل عبقرية نابليون) تسبّح له"، وقول أحد جنرالاته: "خلق الرب بونابرت ثم استراح". أما المجرم الأفاق فقد قال فى تواضع زائف إزاء نفاق هؤلاء الشياطين: "أنا أعفيكم من مقارنتى بالرب"! (المرجع السابق/ 2/ 138). ثم يقول بعض العباقرة إن نابليون قد عمل على أن يحكم المصريون بلدهم بأنفسهم! عجبى!
ومن التدليس أيضا التركيز، لدى الكلام عن غزو الفرنسيس لمصر، على أنهم قد انتشروا فى الأحياء بدون سلاح وتبسطوا مع الناس وضاحكوهم واشْتَرَوُا البضائع بأسعار أغلى من قيمتها الحقيقية (يا للكرم ونبل النفس!)، فيما كان المصريون يستغلون هذا الوضع فأخذوا يغشونهم فى الشراء والبيع (طبعا لأنهم لصوص أولاد لصوص!)، بل ويعتدون على أموالهم (وكأنه كان للفرنسيين أموال فى مصر غير ما سرقوه من أهلها!). ويصل الأمر إلى مدى لا يمكن السكوت عليه حين يقول المفكر الكونىّ: "قامت بين المصريين والفرنسيين محبة ومودة فصاروا كأنهم شعب واحد أو جماعة واحدة". يا للمصريين إذن من كفار نعمة إذ نسوا أيادى الفرنسيس الكريمة البيضاء وقاوموهم ليخرجوهم من بلادهم! إن هذا لَضلال مبين وعقوق ونكران للجميل رهيب!
إننا مع الكاتب فى أن المماليك والعثمانيين فى أواخر حكمهم كانوا قد بلغوا فى الفساد والظلم مدى بعيدا، لكننا لا نرتب على ذلك ما يرتبه هو من أن الحكم الفرنسى كان يريد بالبلاد خيرا، ومن ثم ما كان يجدر بالمصريين الانتقاض على الاحتلال الفرنسى، فهذا تدليسٌ أبلقُ. وإذا كان المماليك والعثمانيون ظلمة مستبدين إن الفرنسيين لأظلم منهم وأشنع استبدادا. كل ما فى الأمر أن فساد الأولين كان فساد الفوضى، أما فساد الفرنسيس وظلمهم فهو من النوع المنظم الذى يعمل على نهب ثروة البلاد تماما، فالأمر إذن كما قال حافظ إبراهيم فى كرومر وبَغْيه وجبروته، ذلك "الكرومر" الذى لم يكن يفتأ يذكّر المصريين بما كان الخديو إسماعيل يجترحه فى حقهم من بغى واعتداء على حياتهم وحريتهم وأموالهم:
لَقَدْ كانَ فينا الظُلْمُ فَوْضَى فَهُذِّبَتْ * حَوَاشِيهِ حَتّى باتَ ظُلْمًا مُنَظَّما
علاوة على أن ظلم الفرنسيس يزيد على ظلم المماليك والعثمانيين بأنه ظلمٌ من غير المسلم للمسلم، فهو يقترن بإهانة الكرامة الدينية والوطنية، وهذا ما يجعل الظلم أضعافا مضاعفة! وقد تنبه كليبر الكلب إلى هذا، إذ قال فى خطاب له إلى حكومته فى فرنسا: "التعصب الإسلامى ضدنا لا يُرَوَّض بأية وسيلة، فهذا الشعب لا يرى مسيحيين يحكمونه إلا بصبر نافد، ولا تمنع أقسى العقوبات سكان القرى من الثورة عند سماع أى خبر فى غير صالحنا أو أى فرمان ضدنا يُنْشَر بينهم" (السابق/ 2/ 128). ومع ذلك كله لم يكن لدى الفرنسيس مانع من اقتسام الحكم مع المماليك، إذ عرض كليبر تلك الخطة على مراد بك على أن يترك له الحكم كله بعد ذلك حين يرحل هو وجنوده عن مصر! (السابق/ 2/ 136- 137). أما إن كان هناك من لا يَرَوْنَ رأينا هذا ولا يبالون بالاعتبار الدينى أو يهتمون بالإسلام فهؤلاء سبيلهم غير سبيلنا، ولا يمكن أن تلتقى السبيلان! ومن خطابات كليبر قائد الحملة الفرنسية بعد فرار نابليون بليلٍ نقتطف هذه الجملة التى تبرهن بأجلى برهان على مدى المحبة التى كان الفرنسيون يكنونها لنا: "عزيزى الجنرال، علينا الآن أن نعصر مصر كما يعصر الشربتلى الليمونة. وبعد أن نقوم باستخلاص كل شىء من نقود إلى عينيات فإننا بالكاد نكون قد حصلنا على ما نحتاج إليه فى هذه الظروف" (السابق/ 2/ 124).
وأما الزعم بأن المصريين كانوا يعيشون هم والفرنسيون فى محبة ومودة كأنهم شعب واحد أو جماعة واحدة فهو استبلاه لا يجوز على من يتمتع بأدنى درجات الذكاء. ذلك أنه إذا كان بين المصريين من يتداخل مع الفرنسيين ويتوسع فى التعامل معهم فمرجع ذلك إما العجز بالنسبة للمضطرين أو الخيانة فى حالة الخائنين، فكيف يحاججنا المؤلف بهذا الوضع الشاذ؟ إن كل الأمم الحرة لا تعرف فى التفاهم مع المستعمر إلا لغة واحدة، ألا وهى لغة الجهاد، وإلا ضاعت وأكلها الوحش! وهو ما صنعه المصريون أكثر من مرة أثناء الحملة الفرنسية ومرَّروا به عيشة الفرنسيين فى بلادنا فظهر هؤلاء الكلاب على حقيقتهم، إذ دمروا وأحرقوا كثيرا من القرى والمدن وأحياء القاهرة وجعلوا عاليها سافلها وقتلوا الألوف من أجدادنا الذين لم يجدوا من المستشار عشماوى كلمة إنصاف، فضلا عن كلمة مدح وثناء! ذلك أن الرجل مفكر كونىّ، والمفكرون الكونيون لا تشغلهم، كما رأينا ونبّهنا مرارا، هذه المسائل المحلية، مسائل الكرامة الوطنية والعزة الدينية وضريبة الدم التى لا بد من دفعها فى سبيل الاستقلال! هذه، فى نظر الفكر الكونى، تفاهات وضلالات وسخافات لا تساوى شَرْوَى نَقِير!
وأيا ما يكن الأمر فها هو ذا أحد المسؤولين الفرنسيين فى مصر يقول فى رسالة منه لحكومته فى باريس إن "شعب مصر الذى كان علينا أن نَعُدّه صديقا أصبح فجأة عدوا لنا". كما يتكلم مسؤول آخر (هو تاليان السياسى الفرنسى الذى كان مصاحبا للحملة) عن "ثورات القاهرة والمنصورة ودمنهور التى ذُبِح فيها كل الفرنسيين (الذين كانوا فى هذه المدن)، بالإضافة إلى العديد من حركات التمرد التى كلفنا إخمادها حياة كثير من الشجعان". وبعد الحديث عن الملايين التى نهبها الفرنسيون من أجدادنا بقوة السلاح والعسف والإكراه يؤكد هذا "التاليان" أن السيطرة على مصر أمر فى غاية الصعوبة لتعارض عادات البلد وتقاليده ودينه مع ما لدى الفرنسيين من عادات وتقاليد ودين، و"أننا لم نجد حتى الآن إلا بضعة رجال يتحالفون معنا تحالفا مؤقتا وغير مضمون، بضعة رجال يَرَوْنَ أن مصالحهم تتماشى مع مصالحنا. ومن المؤكد أنهم سيتركوننا عند أولى هزائمنا لأننا فى بلد شعبه كثير، ودائما على أهبة الاستعداد للثورة". كما يطالعنا، فى تقرير لكليبر وقواده عن الأوضاع فى مصر بعد هرب نابليون، التساؤل التالى: "كيف نستطيع فى حالة الهزيمة الحربية إنقاذ حياة عشرين ألف جندى من موت محقق على أيدى جند جامحين وشعب من المتعصبين الذين يجهلون كل حقوق الحروب والشعوب المتمدينة؟". وبالمثل يقول مسؤول فرنسى آخر فى تقريره عن الحالة فى مصر: "لنا فى كل مكان عشرة آلاف عدو خفى، وصديق واحد ظاهرى" (د. ليلى عنان/ الحملة الفرنسية فى محكمة التاريخ/ كتاب الهلال/ العدد 574/ أكتوبر 1998م/ 113- 117، 131).
وفى الفصل المسمَّى: "ثورة المصريين على الفرنسيين" يبدأ المؤلف كلامه بتلخيص ما أراد أن يغرسه فى نفوسنا وعقولنا وضمائرنا فى الفصل السابق من أن "العلاقة بين المصريين والفرنسيين لم تكن مضطربة متعكرة، بل على العكس فإن فيما ذكره الجبرتى ما يفيد أن هذه العلاقة كانت حسنة طيبة. ساعد على ذلك أن الفرنسيين… لم يقتلوا اعتباطا، ولم يصادروا بغشومة، ولم يعتدوا بالعنف، وإنما تعاملوا مع الناس بالحسنى ودفعوا أثمان ما كانوا يشترون وضبطوا تصرفاتهم وسكنوا بين المصريين ولم يشوشوا عليهم أو يسيئوا إليهم". ثم يعقب على ذلك متسائلا: "ما دام الحال كذلك، فما الذى عكّر صفو العلاقة بين الجانبين؟". ثم يستعرض رأى من قال بأن المصريين قد قاوموا الاحتلال الفرنسى منذ البداية وأنهم قاموا بثورتين، مؤكدا أن ذلك ضلال فى ضلال وأن الانتفاضتين اللتين قام بهما المصريون لم تزيدا على أن تكونا حركتين غاشمتين من صنع الأوباش والحرافيش والحشرات، ومركِّزا على التجاوزات التى وقعت أثناءهما مادحا الفرنسيين فى كل فقرة، فى الوقت الذى خسف فيه الأرض بالثوار عازيا إليهم كل وحشية ومَثْلَبَة حتى لقد اتهمهم بالتعدى على أموال الفرنسيين! إى والله: "أموال الفرنسيين"، وكأن أولاد الكلب الأوغاد (نعم: أولاد الكلب الأوغاد، وإن رَغِمَتْ أنوف!) قد ورثوا هذه الأموال عن أمهاتهم وآبائهم ولم يسرقوها من بلادنا وكانوا يخططون لسرقة الباقى وكَسْحه إلى فرنسا كما فعلوا بعد ذلك بقليل فى الجزائر ثم تونس والمغرب، كسحهم الله إلى نار جهنم هم وكل من يظاهرهم ويتخذ جانبهم!
وقد تناسى كاتبنا النحرير أن سكوت الفرنسيين (إن كانوا قد سكتوا فى بداية الغزو فلم يؤذوا المصريين) إنما سببه أن أحدا لم يكن قد وقف فى طريقهم من المواطنين بعد فظنوا أنهم نعاج يسهل ذبحها حين يجىء أوان الذبح والسلخ والالتهام، لكنهم حين تحققوا أنهم ليسوا بإزاء نعاج مستأنَسة بل كباش تنطح بقرونها وتحطّم بأظلافها فقد انقلبوا عليهم تقتيلا وضربا بالقنابل، وعلى بيوتهم تدميرا وتحطيما! وهكذا تكون الإنسانية الفرنسية التى صدَّع بها كاتبنا الكونىّ دماغنا وكأننا أمام ملائكة أطهار لا يعرفون الدنس! وهو ما يكذّبه كلام القادة الفرنسيين الذى قرأناه آنفا كل التكذيب، ولسوف أسوق بعد قليل نصوصا من الجبرتى ذاته تزيد ذلك تكذيبا!
ومن أعجب وأغرب ما قرأت فى هذا الفصل استدلالُ كاتبنا، لصحة هجومه على الثوار المصريين ضد الاحتلال الصليبى الفرنسى، بأن الجبرتى لم يستخدم لتلك الانتقاضة فى المرتين اللتين اشتعلت فيهما كلمةَ "ثورة" بل "حركة"! الله أكبر! هكذا ينبغى أن يكون التفكير الكونىّ، وإلا فلا! فلتكن الكلمة التى استخدمها الجبرتى ما تكون، فهل الكلمة هى الحاكمة للفعل؟ أم هل الفعل هو الحاكم على الكلمة؟ ترى ماذا يضير لو سميتُ أنا مثلا كلمتى هذه مقالا أو بحثا أو دراسة أو رسالة أو كتابا أو عرضا أو تعليقا، أَوَيُغَيِّر ذلك من حقيقة أمرها شيئا؟ كلا وألف كلا! وحتى لو كان الجبرتى يقصد انتقاد الثورة ولم يكن موافقا على قيامها، هل كلام الجبرتى قرآن مجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ إنما هو رأى من الآراء! وعجيب على كل حال أن يتخذ عشماوى من كلام الجبرتى حجة، وهو الذى لا يعجبه أى شىء فى ثقافتنا العربية الإسلامية التى ينتقص منها ويهينها ويزعم أنها ثقافة أذن وسماع وشائعات (بما فى ذلك الجبرتى وكتابات الجبرتى بطبيعة الحال)، لا ثقافة عقل وعلم وتحليل مما سنأتى إليه تفصيلا فيما بعد، ولا يعرف أن القادة والمسؤولين الفرنسيين فى مصر أبناء الثقافة التى ليست سماعية ولا شفاهية ولا بطّيخية كانوا يسمونها: "ثورة" حسبما قرأنا فى بعض النصوص التى استشهدت بها للتو. كما أن كليبر فى أحد خطاباته إلى المسؤولين فى باريس قد وصف شعبنا الكريم الذى أبى الذل والهوان رغم ما كان يعانيه من ضعف عسكرى واقتصادى وعلمى بأنه "شعب ثائر"، وحذر فى خطاب آخر من أن "التوتر مستمر، والخوف من الثورات قائم باستمرار" (د. ليلى عنان/ الحملة الفرنسية فى محكمة التاريخ/ 119، 121)!
وعلى كل حال فقد أطلق الجبرتى على الثورة الفرنسية ذاتها كلمة "قيام"، التى يستخدمها أيضا لأعمال المقاومة والثورة على الفرنسيس فى مصر، كما استعمل كلمة "حركة" للتنقلات العسكرية. إن اللغة لتختلف من عصر لعصر، وما نسميه الآن: "ثورة" كان عصر الجبرتى يسميه تارة: "حركة"، وتارة: "قياما". وهذه أولا بعض النصوص التى يستخدم فيها الجبرتى كلمة "القيام"، ففى ربيع الأول من عام 1213هــ نقرأ: "وفي أواخره كانت انتقال الشمس لبرج الميزان وهو الاعتدال الخريفي فشرع الفرنساوية في عمل عيدهم ببركة الأزبكية. وذلك اليوم كان ابتداء قيام الجمهور ببلادهم فجعلوا ذلك اليوم عيدًا وتاريخًا". وفى جمادى الأولى من عام 1213هــ: "وكثير من الناس ذبحوهم، وفي بحر النيل قذفوهم، ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، وطال بالكفرة بغيهم وعنادهم، ونالوا من المسلمين قصدهم ومرادهم. وأصبح يوم الأربع فركب فيه المشايخ أجمع وذهبوا لبيت صاري عسكر وقابلوه، وخاطبوه في العفو ولاطفوه، والتمسوا منه أمانًا كافيًا، وعفوًا ينادون به باللغتين شافيًا، لتطمئن بذلك قلوب الرعية، ويسكن روعهم من هذه الرزيّة، فوعدهم وعدًا مشوبًا بالتسويف، وطالبهم بالتبيين والتعريف، عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام، وحرضهم على الخلاف والقيام". وفى رجب من عام 1213هــ: "وفي يوم الخميس حضر كبير الفرنسيس الذي بناحية قليوب وصحبته سليمان الشواربي شيخ الناحية وكبيرها، فلما حضر حبسوه بالقلعة. قيل إنهم عثروا له على مكتوب أرسله وقت الفتنة السابقة الى سرياقوس لينهض أهل تلك النواحي في القيام ويأمرهم بالحضور وقت أن يرى الغلبة على الفرنسيس"‏. ‏وفى المحرم من عام 1214هــ: "وتيبو هذا هو الذي كان حضر الى إسلامبول بالهدية التي من جملتها طائران يتكلمان بالهندية والسرير والمنبر من خشب العود وطلب منه الإمداد والمعاونة على الانكليز المحاربين له في بلاده فوعدوه ومَنَّوْه وكتبوا له أوراقًا وأوامرَ… وذلك في سنة 1202 أيام السلطان عبد الحميد، وقد سبقت الإشارة إليه في حوادث تلك السنة. وهو رجل كان مقعدًا تحمله أتباعه في تخت لطيف بديع الصنعة على أعناقهم. ثم إنه توجه الى بلاد فرانسا واجتمع بسلطانها، وذلك قبل حضوره إلى مصر، واتفق معه على أمر في السر لم يطلع أحد غيرهما، ورجع الى بلاده على طريق القلزم. فلما قدم الفرنساوية لمصر كاتبه كبيرهم بذلك السر لأنه اطلع عليه عند قيام الجمهور، وتملكه خزانة كتب السلطان". وفى ربيع الثانى من عام 1215هــ: "وفي خامسه كان عيد الصليب، وهو انتقال الشمس لبرج الميزان والاعتدال الخريفي، وهو أول سنة الفرنسيس، وهي السنة التاسعة من تاريخ قيامهم، ويسمى عندهم هذا الشهر: وندميير، وذلك يوم عيدهم السنوي". وفى صفر من عام 1216هــ: "وفي يوم الاثنين ثالثه حصلت الجمعية بالديوان وحضر التجار ومشايخ الحارات والآغا، وحضر مكتوب من بليار قائمقام خطابًا بالأرباب الديوان والحاضرين يذكر فيه أن حضر إليه مكتوب من كبيرهم منوبًا بالإسكندرية صحبة هجانة فرنسيس وصلوا إليهم من طريق البرية‏، مضمونه أنه طيب بخير، والأقوات كثيرة عندهم يأتي بها العربان إليهم. وبلغهم خبر وصول عمارة مراكب الفرنساوية الى بحر الخزر وأنها من قريب تصل الاسكندرية، وأن العمارة حاربت بلاد الانكليز واستولت على شقة كبيرة منها، فكونوا مطمئنين الخاطر من طرفنا ودوموا على هدوئكم وسكونكم... إلى آخر ما فيه من التمويهات. وكل ذلك لسكون الناس وخوفًا من قيامهم في هذه الحالة. وكان وصول هذا المكتوب بعد نيف وأربعين يومًا من انقطاع أخباره من الإسكندرية. ولا أصل لذلك"‏.‏ والآن إلى نص آخر استخدم فيه الجبرتى كلمة "حركة" وصفًا لتنقلات الفرنسيين العسكرية، وهو مأخوذ مما كتبه عن حوادث صفر من عام 1214هــ: "وفي ليلة الاثنين حادي عشره وردت أخبار ومكاتيب مع السعاة لبعض الناس من الاسكندرية وأبي قير، وأخبروا بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية الى أبي قير فتبين أن حركة الفرنساوية وتعديتهم الى البر الغربي بسبب ذلك. وأخذوا صحبتهم جرجس الجوهري". ومن الناحية الأخرى نرى الجبرتى يستعمل كلمة "ثار" و"ثورة" وَصْفًا للفتن والانقلابات كما فى النصوص التالية: "ذو القعدة لعام 2002هــ: … وفي يوم الثلاثاء ثار جماعة الشوام وبعض المغاربة بالأزهر على الشيخ العروسي بسبب الجراية، وقفلوا في وجهه باب الجامع وهو خارج يريد الذهاب بعد كلام وصياح ومنعوه من الخروج، فرجع الى رواق المغاربة وجلس به إلى الغروب ثم تخلص منهم وركب الى بيته. ولم يفتحوا الجامع وأصبحوا فخرجوا الى السوق وأمروا الناس بغلق الدكاكين. وذهب الشيخ إلى إسمعيل بك وتكلم معه فقال له‏:‏ أنت الذي تأمرهم بذلك وتريدون تحريك الفتن علينا، ومنكم أناس يذهبون الى أخصامنا ويعودون. فتبرأ من ذلك فلم يقبل، وذهب أيضًا وصحبته بعض المتعممين إلى الباشا بحضرة إسمعيل بك، فقال الباشا مثل ذلك وطلب الذين يثيرون الفتن من المجاورين ليؤدبهم وينفيهم فمانعوا في ذلك. ثم ذهبوا إلى علي بك الدفتردار، وهو الناظر على الجامع، فتلا في القضية وصالح إسمعيل بك، وأجروا لهم الأخبار بعد مشقة وكلام من جنس ما تقدم. وامتنع الشيخ العروسي من دخول الجامع أيامًا وقرأ درسه بالصالحية"‏. "المحرم لعام 1218 هــ: … وفي يوم الجمعة سابعه ثارت العسكر وحضروا إلى بيت الدفتردار فاجتمعوا بالحوش وقفلوا باب القيطون وطردوا القواسة، وطلع جمع منهم فوقفوا بفسحة المكان الجالس به الدفتردار. ودخل أربعة منهم عند الدفتردار فكلموه في إنجاز الوعد، فقال لهم: إنه اجتمع عندي نحو الستين ألف قرش. فإما أن تأخذوها أو تصبروا كم يوم حتى يكمل لكم المطلوب. فقالوا: لابد من التشهيل، فإن العسكر تلقلقوا من طول المواعيد. فكتب ورقة وأرسلها الى الباشا بأن يرسل إليه جانب دراهم تكملة للقدر الحاصل عنده في الخزينة، فرجع الرسول وهو يقول: لا أدفع ولا آذن بدفع شيء. فإما أن يخرجوا ويسافروا من بلدي أو لا بد من قتلهم عن آخرهم. فعندما رجع بذلك الجواب قال له: ارجع إليه وأخبره أن البيت قد امتلأ بالعساكر فوق وتحت، وأني محصور بينهم. فعند وصول المرسال وقبل رجوعه أمر الباشا بأن يديروا المدافع ويضربوها على بيت الدفتردار وعلى العسكر. فما يشعر الدفتردار إلا وجلّة وقعت بين يديه، فقام من مجلسه الى مجلس آخر، وتتابع الرمي واشتعلت النيران في البيت وفي الكشك الذي أنشأه ببيت جده المجاور لبيته وهو من الخشب والحجنة من غير بياض فلم يكمل، فالتهب بالنار فنزل إلى أسفل، والأرنؤد محيطة به. وبات تحت السلالم إلى الصباح، ونهب العسكر الخزينة والبيت". وعن وفاة ‏الأمير على بك المعروف بالهندى عام 1140 هــ، وكان قد تولى كشوفية الغربية والمنوفية وبنى سويف ونظر الخاصكية بأمر سلطاني قيد حياته،‏ يقول الجبرتى: "فلما استوحش جركس من ذي الفقار وجرد عليه وهو في كشوفية المنوفية هرب وحضر إلى مصر ودخل عند علي بك الهندي المذكور، فأخفاه عنده خمسة وستين يومًا، ثم انتقل إلى مكان آخر والمترجم يكتم أمره فيه، وجركس وأتباعه يتجسسون ويفحصون عليه ليلا ونهارًا. وعزل جركس محمد باشا وحضر علي باشا ودبروا أمر ظهور ذي الفقار مع عثمان كتخدا الغازدغلي وأحضروا إليهم المترجم وصدروه لذلك وأعانوه بالمال، وفتح بيته وجمع إليه الايواظية والخاملين من عشيرتهم، وكتموا أمرهم وثاروا ثورة واحدة وأزالوا دولة جركس"‏. وبالمثل نجده يقول عن وفاة الأمير رضوان كتخدا إبراهيم بك عام 1218 هــ: "واستمر على حالته معدودًا في أرباب الرياسة، وتأتي الأمراء إلى داره، ولم يزل حتى ثارت العسكر على من بالبلدة من الأمراء"‏.‏ فما المشكلة إذن؟
إن الذى يقرأ ما كتبه عشماوى عن ثورة المصريين على المجرمين الفرنسيين يخيَّل له أنه لم يَقُمْ بها إلا الأوباش، وفى نطاق جد محدود بحيث إن ما فعله هؤلاء الأوباش كان شذوذا ونشازا على النغمة العامة، نغمة الرضا بالاحتلال والمودة والمحبة التى كانت قائمة بين المصريين والفرنسيين! وهو بهذا يتغافل عن الحقيقة التى تفقأ عين كل مكابر يريد أن يزين الباطل بالتدليس ويكسر الروح المعنوية ويقضى على النزعة الدينية التى استطاعت أن تعوض كل نقصان فى ظروف مصر آنذاك. لقد كان الميزان فى صالح الفرنسيين فى كل شىء، ما عدا شيئا واحدا هو أن الروح الدينية، رغم الانحطاط الذى كان يلف البلاد، كانت لا تزال فيها بقية صالحة مستكنة فى أعماق النفوس. وهذه البقية هى التى أنست المصريين أنهم ضعفاء عسكريا واقتصاديا ودفعتهم إلى مقاومة هؤلاء الكلاب منذ البداية بكل ما أوتوا من قوة رغم أنه بالنسبة لما كان لدى الفرنسيين لم يكن شيئا مذكورا، لكنهم قد أعذروا إلى الله من أنفسهم فلم يدخروا وسعا، وكانوا يسارعون دائما إلى تلبية داعى الجهاد. كما أن هذه البقية أيضا لم تدعهم يهدأون ويخلدون للنوم (فى العسل؟ لا بل) فى المجارى التى يريد بعض الناس لهم أن يظلوا نائمين فيها يشخّرون شخيرا عميقا حتى يستطيع الاستعمار أن ينتهى من مهمته الإجرامية، بل هيَّجتهم على جلاديهم الجدد، جلاديهم المنظمين المتحضرين فى أساليب السرقة والنهب وتدمير البلاد والنفوس والعباد والعقائد والعوائد وكل شىء يمكن أو لا يمكن تصوره!
كذلك فإن المصريين جميعا قد ساهموا فى هذه الثورة التى عمت كل أرجاء البلاد ولم تقتصر على القاهرة وحدها كما تقول كلمات المستشار عشماوى، وأرهقت الفرنسيين أيما إرهاق حسبما يقول الفرنسيون أنفسهم مما سوف نشير إليه فيما يلى على عكس ما يقول الأستاذ عشماوى أيضا، إذ يحاول أن يوهمنا أنه لم تأت للمصريين إلا بالوبال والنكال! صحيح أن الفرنسيين لم يدخروا أى وحشية أو إجرام فى التعامل مع الثورة، وهذا ما يريد المستعمر عن طريقه أن يزرع اليأس فى القلوب وأن يقضى على روح الثورة. لكن الثوار يعرفون بطبيعة الحال أن ثورتهم ستُنْزِل بهم الأذى والآلام والخسائر وستُزْهِق منهم الأرواح، إلا أن هذا لا يَثْنِيَهم عن ثورتهم ولا يقتل فيهم روح العزة والكرامة والحمية الدينية والوطنية. وبهذا ينجحون فى إفشال المخطط الاستعمارى الجهنمى، إذ يتيقن المستعمر أنه لا قرار له فى الديار وأنه مهما يفعل فليس ذلك بمبلغه شيئا من غاياته الوحشية، وهذا هو السبيل الوحيد المؤدى إلى التخلص من الاحتلال حتى لو طال الأمد بعض الشىء!
وإذا كان الثوار قد أساءوا فى بعض تصرفاتهم فليس معنى هذا أبدا أن ندين الثورة والثوار، بل علينا أن ننص على وجه الخطإ دون تشنيع أو تحطيم للنفوس، ودون أن نُثْنِىَ بالكذب والباطل على المستعمرين القتلة اللصوص المجرمين مهما كان مستواهم الحضارى وتقدمهم العسكرى والإدارى. إن هذا التحضر ليس لنا ولا يمكن أن يكون يوما فى خدمتنا، بل هو أداة لقتلنا ونهبنا وتركيعنا وإذلالنا ومحو ديننا من نفوسنا ومن الأرض جميعا واستعباد المنخوبى القلوب من بيننا يسبّحون بحمد المجرمين ويجمّلون صورتهم الوحشية القبيحة البشعة أملا فى إطفاء نار الثورة المباركة فى أرواحنا! ويكفى الثوار فخرا، رغم ما قد يكونون اجترحوه من تقصير وإساءة، أنهم جادوا بكل ما فى جَعْبتهم من إمكانات على قلتها وضعفها، فقديما قيل: "الجُود من الموجُود"! أما العملاء المتنورون الذين يوالسون مع الأعداء ويذهبون فى أودية التحذلق لغير ما نهاية فهؤلاء أوغاد حقراء، وإن أوهموا الأغبياء من أمثالهم أنهم هم الأذكياء اللوذعيون!
وهذه الروح الجهادية هى التى أخرجت قوات الاحتلال من كل أرض عربية وإسلامية. أما إذا كان الاستعمار قد أفلح من استقطاب عدد من الحكام من وراء ظهور شعوبهم وعاد من خلالهم مرة أخرى إلى البلاد فينبغى أن تتدارك الشعوب هذه الثغرة وأن تسد الأبواب السرية التى ضيّعت عليها ثمار جهادها وأفشلت ما بذلته من جهود كريمة وعظيمة، وإلا فسيطول ليل الاحتلال الذى حط بكلكله على بلاد الأفغان والرافدين ومن قبل ذلك فى الأرض التى بارك الله فيها للعالمين، أرض فلسطين السليبة، وسوف ينتشر منها كانتشار الجَرَب إلى بقية بلاد الإسلام، وحينئذ فالعفاء على كل شىء، وسوف يكون الحساب الإلهى لنا جميعا فى منتهى السوء والعنف، وحَقّ أن يفعل سبحانه ذلك بعباده المتبلدين الذين ضللهم المارقون المدلسون!
وإلى جانب ما مر هناك قضية قتل الكلب كليبر التى خصص لها سيادة المستشار فصلا كاملا بعنوان "محاكمة سليمان الحلبى"، هذا البطل المغوار الذى يحرص كَوْنِيُّنا على تلطيخ بطولته وتشويه سمعته والقول بأنه لم يكن مجاهدا وطنيا، بناء على ما نشره الفرنسيون الأوساخ من وقائع المحاكمة التى يطنب سيادته فى الإشادة بها ويزعج رؤوسنا بالكلام عما تعكسه من تحضر الغزاة، فهم لا يعاقبون أحدا إلا بعد "سين وجيم" وأخذٍ وردّ… إلخ، مع أنهم، بإقراره هو نفسه، قد استخدموا أساليب التعذيب فى الضَّغْطِ على بطلنا المغوار، رضى الله عنه وأسكنه عُلْيا الجنان، ودَفْعِه إلى الاعتراف بما يريدون، فأين التحضر هنا؟
سيقول: لكن هذه هى الطريقة التى كانت متبعة فى مصر آنذاك. ونحن لا نريد أن نضيع وقتنا فى الجدال فى ذلك، لكننا نتساءل: فبأى حق يزعجنا الكاتب إذن بحضارة الفرنسيس واحترامهم للقوانين؟ إن ذلك كله ليس إلا قشرة سطحية تخفى البربرية والهمجية والتوحش! ثم إن الطريقة التى أُعْدِم بها البطل الحلبى هى أيضا من الدلائل الكاشفة التى تفضح أولئك الأوغاد! لقد أحرقوا يده ثم أدخلوا الخازوق فى دبره حتى مزَّق أمعاءه ومعدته ومريئه وحلقه وفمه ومخه وثَقَبَ جمجمته ونفذ منها (يا لطيف اللطف يا رب! إننى لا أستطيع أن أهدأ وأنا أكتب هذه السطور من الرعب الفظيع الذى أشعر به أثناء قراءة ذلك الوصف! اللهم لا ترحم كل من اشترك فى تعذيب الرجل، وخذ معهم بعزتك وجبروتك أولئك الذين يحاولون تشويه الأبطال المجاهدين!)، ثم تركوا جثته وجثث زملائه النبلاء الكرام فى العراء ليأكلها الطير! رحمهم الله رحمة واسعة وجَحَمَ من قتلوهم ومن يدافعون عن قَتَلتهم!
ولا ننس بعد هذا كله أنهم ليس لهم حق أصلا فى محاكمة الحلبى، بل هم الذين كان ينبغى أن يحاكَموا لا هو لو كانت الأمور تجرى على أسس المنطق والعدل. لكننا بإزاء مبدإ "القوى يأكل الضعيف"! وبالمناسبة فأمريكا قد حاولت فى البداية أن يكون غزوها للعراق تحت مظلة الأمم المتحدة والقانون الدولى لأنها (يا كبدى عليها!) دولة متحضرة لا تلتهم الأوطان وتسحق البشر إلا بمباركة القانون وقواعد القانون. لكنها لما أعياها الأمر قالت فى غير ما حياء ولا خجل: إننا ذاهبون إلى العراق حتى لو رفضت الأمم المتحدة ذلك. وقد كان! ثم يكلمنا بعضهم عن احترام الحضارة الغربية للقانون! أى قانون هذا يا أبا قانون أنت وهو؟ ليست هناك إلا شريعة الغاب، وعلى المسلمين أن يفهموا هذا ويتخذوه "حلقة فى أذنهم" ويتصرفوا على أساس منه، وإلا ضاعوا. ولابد أن يفهموا أيضا أن الدنيا، فى التعامل مع هؤلاء الوحوش، إما غالب أو مغلوب، ولا مكان للرحمة والحق والقانون لديهم، اللهم إلا عندما يُجْلِبون علينا ويحاولون أن يربكونا عن طريق صبيانهم المندسين بيننا فى كل مكان والذين أخذوا على عاتقهم إشاعة الاضطراب والشك فى مفاهيمنا وقيمنا وبلبلتنا من خلال وضعنا موضع الاتهام دائما، وكأننا على خطإٍ لازب، وأولئك الأوغاد على صوابٍ دائم!
 
إن الحلبى هو بطل قومى ودينى حتى لو كان ما أراد الكاتب أن يقنعنا به صحيحا من أنه لم يكن غرضه الجهاد فى سبيل الله، بل كان قاتلا مأجورا من قِبَل بعض المسؤولين الأتراك فى الشام مقابل إزالة الظلم الواقع على أبيه هناك. سأفترض أن الحلبى لم يكن كذلك فحسب، بل كان كافرا ابن كافر، وكان قاتلا مرتزقا. أفلا ينبغى أن أفرح بما صنعته يداه من تخليص مصر والمصريين من الكلب كليبر وإفهام الفرنسيس الكلاب بأنهم لن يهنأ لهم عيش فى أرض الكنانة وأن مصر ليست ولن تكون أبدا لقمة سائغة فى حلوقهم النجسة؟ أوهذا مما يُشَنَّع به على الحلبى عليه رحمة الله؟ ثم إن الكاتب الكونىّ يضع المسألة وضعا خاطئا مرة أخرى حين يتساءل: هل يحق للمسلم أن يقتل كافرا لمجرد أنه كافر لم يقع منه عدوان عليه، مزهقًا بذلك روحا إنسانية بريئة؟ يا حرام! قطّعت قلبى يا رجل!
وهو نفس المنطق الذى نسمعه الآن من بعض المنتسبين إلينا عند الحديث عن قتلى الأمريكان فى العراق وأفغانستان وقتلى الصهاينة فى فلسطين السليبة! وأصحاب هذا التشويش والتدليس يتناسَوْن الألوف المؤلفة الذين يَسْقُطون ضحايا للاحتلال الأمريكى الصليبى والإسرائيلى الصهيونى! إن الدماء العربية والمسلمة عندهم هى دماء نجسة كالماء الذى يجرى فى مواسير المجارى، فلا بد من التخلص منها! وهذه الإنسانية العطوف لا تظهر إلا دفاعا عن دماء القتلة المجرمين الذين يحتلون أوطاننا ويقتلون أهلنا ويدمرون بلادنا. فهى إذن إنسانية زائفة مهما تشدقت بالحديث عن إزهاق النفس الإنسانية البريئة! أية نفوس بريئة يتحدث هؤلاء عنها؟ هل كان كليبر نفسا إنسانية بريئة؟ هل كان كليبر مجرد كافر عادى لم يعتد على بلاد المسلمين ويقتل منهم ما شاء الله له أن يقتل؟ هل كان كليبر رجلا فى حاله ماشيا فى الشارع لا به ولا عليه، فجاء المجنون سليمان الحلبى وقتله هكذا "لله فى لله"؟ إن كليبر، يا خَلْق هُوووووووووهْ، رجل محتل مجرم سارق ناهب معتدٍ على ديارنا وقاتل لرجالنا ونسائنا وأطفالنا ومدمِّر لبيوتنا ومدنِّس لمساجدنا، وكان يخطط هو وأمثاله من قواد الفرنسيس للقضاء على استقلالنا وكرامتنا وعزة أنفسنا والتهام مصرنا العزيزة الغالية فى أجوافهم الدنسة، ولو كان قُيِّضَ له أن ينجح لكان مصير مصر كمصير الجزائر، لكن الله سلَّم!
ألم يقل الكلب تاليران رئيس الوزراء الفرنسى عندما تقدم بمشروع غزو مصر لحكومة بلاده: "كانت مصر مقاطعة فى الحكومة الرومانية، فيجب أن تصبح للحكومة الفرنسية" (د. ليلى عنان/ الحملة الفرنسية: تنوير أم تزوير؟/ كتاب الهلال/ العد 567/ مارس 1998م/ 88). وكان ثمن هذه السلامة التى سلَّم الله مصر بها هو التضحيات التى تحملها أجدادنا الميامين والفَعْلة البطولية التى فعلها سليمان الحلبى فأفهمت أخلاف كليبر أن حياتهم فى مصر ليست نزهة مسلية بل لها ضريبة باهظة لن يمكنهم الاستمرار فى تحملها! هذا هو وضع المسألة لا الذى يهرف به الهارفون!
ولنعرِّج هنا على ما كتبه عبد الرحمن الرافعى عن كليبر (لعنه الله ولعن معه من يَأْسَى على مصيره النجس) عشية اغتياله الذى كسحه إلى قعر جهنم وبئس المصير جزاء وفاقا لجبروته وكفره واستبداده ونهبه أموال المصريين وعداوته لدين سيد الرسل والأنبياء عليه الصلاة والسلام والعمل على إطفاء نوره وطَىّ أرض الكنانة وبقية بلاد العرب المسلمين تحت إبط فرنسا الصليبية التى يتشدق عُتَاتُها ويتشدق أذنابهم من بيننا ظلما وزورا بشعارات التنوير والحرية. قال المؤرخ المصرى: "كان موقف كليبر فى أوائل شهر يونيه سنة 1800 غاية فى المنعة، وقد قويت آماله فى أن يخلّد مركزه فى وادى النيل ويحقّق مشروعاته الاستعمارية، لكن هذه الآمال تحطمت فى لحظة واحدة، وهى اللحظة الرهيبة التى امتدت إليه فيها يد سليمان الحلبى بطعنة خنجر أردته سريعا. كان ذلك يوم السبت 14 يونيه سنة 1800… ففى صبيحة هذا اليوم ذهب كليبر إلى جزيرة الروضة ليعرض كتيبة الأروام الذين انخرطوا فى سلك الجيش الفرنسى بمصر، وعاد بعد العرض إلى الأزبكية ليتفقد أعمال الترميم التى كانت تُعْمَل فى دار القيادة العامة ومسكن القائد العام (سراى الألفى بك) لإزالة آثار الإتلاف الذى أصابها من قنابل الثوار. وكان يصحبه المسيو بروتان المهندس المعمارى، فتفقدا الأعمال معا، ثم ذهبا إلى دار الجنرال داماس رئيس أركان الحرب حيث أعد وليمة غداء للقائد العام دعا إليها طائفة من القواد وأعضاء المجمع العلمى ورؤساء الإدارة، فتغدى كليبر مع المدعوين. وكان منشرح الصدر على المائدة يتحدث مطمئنا عن الحالة فى مصر، واستمرت الوليمة إلى الساعة الثانية بعد الظهر، ثم انصرف كليبر بصحبة المهندس بروتان عائدين إلى دار القيادة العامة ليستأنفا تفقد أعمال الترميم والإصلاح فيها. وكانت حديقة السراى تتصل بدار رئيس أركان الحرب برواقٍ طويل تظلله تكعيبة من العنب. فسار كليبر وبجانبه بروتان فى هذا الرواق يتحدثان فى إصلاح السراى، وبينما هما سائران إذ خرج عليهما رجل يكمن وراء بئر عليها ساقية، فاقترب الرجل من الجنرال كليبر كمن يريد أن يستجديه أو يتوسل إليه، فلم يَرْتَبْ كليبر فى نية ذلك السائل. لكنه لم يكد يلتفت إليه حتى عاجله بطعنة خنجر مميتة أصابته فى صدره، فصاح كليبر: إلىَّ أيها الحراس! ثم سقط على الأرض مضرَّجا فى دمه. وهناك أسرع المسيو بروتان فى تعقب القاتل، فلما أدركه تماسك الاثنان، فطعنه القاتل ست طعنات سقط منها على الأرض بجوار كليبر. وعاد القاتل إلى كليبر فطعنه ثلاث طعنات ليُجْهِز عليه، بيد أن الطعنة الأولى كانت القاضية لأنها نفذت إلى القلب…" (عبد الرحمن الرافعى/ مصر فى مواجهة الحملة الفرنسية/ مركز النيل للإعلام/ 189- 191). سلمت يدك يا أيها الشجاع المغوار! والله إنها ليد تستحق التقبيل لا الحرق، أحرق الله من أحرقوها هم ومن يشايعونهم على هذا الظلم والجبروت!
وقد دخل مفكرنا الكونى فى فاصل من المباهاة بعدل الفرنسيس لأنهم لم يسارعوا إلى معاقبة الشهيد الحلبى قبل محاكمته والتحقق من أنه هو الذى قتل الكلب كليبر، وتغافل كونيّنا عن أنهم إنما أرادوا بهذه المحاكمة معرفة كل من اشترك فى هذه البطولة حتى ينكلوا به ويجعلوه عبرة لسواه فلا يفكر أحد بعدها فى رفع رأسه، وإلا جُزَّتْ! كما تناسى المفكر الكونىّ ما كتبه الجبرتى من أنهم كانوا قد تأهبوا فى الحال (بمجرد علمهم بمقتل كلبهم النجس) للقضاء على سكان مصر جميعا لولا أنهم تبينوا ألاّ يَدَ للمصريين فى هذا الأمر. أى أنهم كانوا عازمين على إفناء المصريين عن بكرة أبيهم لقاء مقتل كلب من كلابهم. كما أنهم قتلوا مع سليمان الحلبى من كانوا على علم بنيته ولم يبلغوا السلطات مع مصادرة أموالهم لحساب الفرنسيين، رغم أنهم لم يعلموا بنيته إلا قبل إنجازه عمله البطولى بوقت ضيق. كما أنهم، حسبما جاء على لسانهم فى التحقيق، لم يتخيلوا أنه ينوى أن يقتل كليبر فعلا، بل ظنوا أنه كلام مجنون، وإلا لأبلغوا عنه. وهذا بافتراض أن ما فعله الحلبى عليه رحمات الله ورضوانه هو مما تجرِّمه قوانين المنطق والإنصاف والإنسانية! وهكذا يكون العدل وتطبيق القانون الذى يباهينا به مفكرنا الكونى!
وإلى القارئ الكريم ما كتبه الجبرتى فى هذا الصدد عما وقع بعد علم الفرنسيس بمقتل كليبر: "ولم يجدوا القاتل فانزعجوا وضربوا طبلهم وخرجوا مسرعين وجَرَوْا من كل ناحية يفتشون على القاتل. واجتمع رؤساؤهم وأرسلوا العساكر إلى الحصون والقلاع، وظنوا أنها من فعل أهل مصر فاحتاطوا بالبلد وعمروا المدافع وحرروا القنابر وقالوا: لابد من قتل أهل مصر عن آخرهم. ووقعت هوجة عظيمة في الناس وكَرْشة وشدة انزعاج، وأكثرهم لا يدري حقيقة الحال. ولم يزالوا يفتشون عن ذلك القاتل حتى وجدوه منزويًا في البستان المجاور لبيت ساري عسكر المعروف بغيط مصباح بجانب حائط منهدم، فقبضوا عليه فوجدوه شاميًّا، فأحضروه وسألوه عن اسمه وعمره وبلده، فوجدوه حلبيًا واسمه سليمان. فسألوه عن محل مأواه فأخبرهم أنه يأوي ويبيت بالجامع الأزهر. فسألوه عن معارفه ورفقائه وهل أخبر أحدًا بفعله، وهل شاركه أحد في رأيه وأقره على فعله أو نهاه عن ذلك، وكم له بمصر من الأيام أو الشهور، وعن صنعته وملته وعاقبوه حتى أخبرهم بحقيقة الحال. فعند ذلك علموا ببراءة أهل مصر من ذلك وتركوا ما كانوا عزموا عليه من محاربة أهل البلد. وقد كانوا أرسلوا أشخاصًا من ثقاتهم تفرقوا في الجهات والنواحي يتفرسون في الناس فلم يجدوا فيهم قرائن دالة على علمهم بذلك، ورَأَوْهم يسألون من الفرنسيس عن الخبر فتحققوا من ذلك براءتهم من ذلك. ثم إنهم أمروا بإحضار الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ أحمد العريشي القاضي وأعلموهم بذلك وعوَّقوهم إلى نصف الليل وألزموهم بإحضار الجماعة الذين ذكرهم القاتل وأنه أخبرهم بفعله، فركبوا وصُحْبَتهم الآغا وحضروا إلى الجامع الأزهر وطلبوا الجماعة فوجدوا ثلاثة منهم، ولم يجدوا الرابع. فأخذهم الآغا وحبسهم ببيت قائمقام بالأزبكية. ثم إنهم رتبوا صورة محاكمة على طريقتهم في دعاوى القِصَاص، وحكموا بقتل الثلاثة أنفار المذكورين مع القاتل، وأطلقوا مصطفى أفندي البرصلي لكونه لم يخبره بعزمه وقصده. فقتلوا الثلاثة المذكورين لكونه أخبرهم بأنه عازم على قصده صُبْحَ تاريخه ولم يخبروا عنه الفرنسيس، فكأنهم شاركوه في الفعل".
وإلى القارئ أيضا بعض ما ورد فى كلام المدّعِى الفرنسى بالقاهرة عند عزمهم على قتل البطل الحلبى: "أنا معيَّن ومأمور لاستدعاء الانتقام للمقتول، وذلك بموجب الشريعة من القاتل المسفور وشركائه كمثل أشنع المخلوقات… فلتعلم بلاد الروم والدنيا بكمالها أن الوزير الأعظم سلطنة العثمانية ورؤساء جنود جنود عسكرها رذّلوا أنفسهم حتى أرسلوا قتال معدوم العِرْض إلى الجريء والأنجب كلهبر الذي لا استطاعوا بتقهيره، وكذلك ضعوا إلى عيوب مغلوبيتهم المجرم الظالم بالذي ترأسوا قبل السماء والأرض… وسليمان الحلبي شبّ مجنون وعمره أربعة وعشرون سنة، وقد كان بلا ريب متدنس بالخطايا… وأن العته النسكي هو منصوب في أعلى رأسه المضطرب من زيغانه وجهالاته بكمالة إسلامه وباعتماده أن المسمى منه: جهاد وتهليك غير المؤمنين. فمما أنهى وأيقن أن هذا هو الإيمان… وهو بالذات مقر بذنبه بلسانه ومسمي شركاء. وهو كمادح نفسه للقتل الكريه صنع يديه، وهو مستريح بجواباته للمسائل وينظر محاضر سياسات عذابه بعين رفيعة. والرفاهية هي الثمر المحصول من العصمة والتفاوه فكيف تظهر بوجوه الآثمين؟ ومسامحينهم شركاء سليمان الأثيم كانوا مرتهنين سره للقتل الذي حصل من غفلتهم وسكوتهم قالوا باطلا أنهم ما صدقوا سليمان هو مستعدد بذا الإثم. وقالوا باطلا أيضًا أن لو كانوا صدقوا ذا المجنون كانوا في الحال شايعين خيانته … وأظن أن يليق أن تصنعوا لهم من العذابات العادية ببلاد مصر، ولكن عظمة الإثم تستدعي أن يصير عذابه مهيبًا. فإن سألتوني أجبت أنه يستحق الخوزقة وأن قبل كل شيء تحرق يد ذا الرجل الأثيم وأنه هو يموت بتعذيبه ويبقى جسده لمأكول الطيور. وبجهة المسامحين له يستحقون الموت لكن بغير عقوبة… ثم أفتوا بموت السيد عبد القادر الغزي مذنب أيضًا كما ذكر أعلاه. وكل ما تحكم يده عليه يكون حلال للجمهور الفرنساوي. ثم هذه الفتوى الشرعية تكتب وتوضع فوق الذيت الذي مختص بوضع رأسه. وأيضًا أفتوا على محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الوالي أن تقطع رؤوسهم وتوضع على نبابيت، وجسمهم يحرق بالنار. وهذا يصير في المحل المعين أعلاه، ويكون ذلك قدام سليمان الحلبي قبل أن يجري فيه شيء هذه الشريعة والفتوى".
ومما نقلناه هنا يتبين كيف يلجأ وحوش الاستعمار إلى وَسْم كل بطل يهبّ فى وجوههم ويَحْمَى أنفه لدينه ووطنه وأمته وكرامة نفسه وأهله بأنه مجنون، وتشويه صورته بالادعاء بأن تدينه ليس سوى هوس وخبال، ووصم دوافعه التى حملته على تلك البطولات بأنها دوافع خبيثة شريرة. كما يتبين لنا مدى الكذب الفاجر فى زعمهم أن العقاب الذى أوقعوه ببطلنا الكريم المغوار، لعن الله كل من يحاول الإساءة إلى ذكراه العطرة، إنما هو العقاب الذى تمليه الشريعة. أية شريعة يا أيها الوحوش؟
وبالمناسبة فقد قرأت فى أحد المواقع المشباكية السطور التالية، وهى تغنينا فى التعرف على إحدى القَسَمات النفسية لهؤلاء الحلاليف الذين تبرأ منهم الإنسانية مهما حاول البعض تجميل ملامحهم الشيطانية البشعة: "وُلِد سليمان الحلبي عام 1777 في قرية عفرين في الشمال الغربي من مدينة حلب، من أب مسلم متدين اسمه محمد أمين، كانت مهنته بيع السمن وزيت الزيتون، فلما بلغ سليمان العشرين من عمره، أرسله أبوه بَرًّا عام 1797 إلى القاهرة لتلقي العلوم الإسلامية في جامع الأزهر حيث انخرط سليمان في رواق الشوام المخصص لطلبة الأزهر من أبناء بلاد الشام، فيه يتعلم ويأكل وينام مع كوكبة من أقرانه الفتيان الشوام. وقد وطّد صلته بالشيخ أحمد الشرقاوي أحد الأساتذة الشيوخ الذين تتلمذ عليهم. وأحيانا ما كان سليمان يبيت في منزل أستاذه الشيخ الشرقاوي، الذي رفض الاستسلام للغزوة الفرنسية فساهم بإشعال فتيل ثورة القاهرة الأولى بدءا من يوم 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1798. أي أن سليمان الحلبي كان إلى جانب أستاذه الشيخ الشرقاوي حين اقتحم جيش نابليون أرض الجيزة، ثم أرض المحروسة- القاهرة حيث راح الغزاة الفرنسيون ينكلون بالشعب المصري أشد التنكيل كما يذكر الجبرتي، في الوقت الذي كان فيه إبراهيم بك يحرض المصريين على الثورة ضد الغزاة (الكفرة) من مكانه في غزة، ومراد بك يحض الشعب المصري على المقاومة من مكانه في صعيد مصر، وهو التحريض الذي دفع بونابرت إلى الزعم الباطل في رسالة بعث بها إلى شريف مكة في الحجاز غالب بن مسعود، وفي بيان وجهه إلى مشايخ وأعيان المحروسة- القاهرة، بأنه قد هدم الكنائس في أوروبا وخلع بابا روما قبل قدومه إلى مصر، وأنه عاشق للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، نصير للدين الإسلامي! إلا أن حصافة الشعب المصري لم تكن عاجزة عن إدراك بطلان هذا الزعم الكاذب الذي رافقه التنكيل بالمصريين، الذين أججوا ثورة القاهرة الأولى ضد الغزاة الكفرة انطلاقا من منطقة الجامع الأزهر.
وقد رد عليها الغزاة بقذائف مدافعهم غير الرحيمة التي نالت من مبنى المسجد الأكبر الذي لم تشفع له قدسيته كمسجد للعبادة الإسلامية، فقامت خيول الغزاة المسلحين بالبنادق والسيوف باحتلاله، وحكمت على ستة من شيوخ الأزهر بالإعدام كان بينهم أستاذ سليمان الحلبي الشيخ أحمد الشرقاوي، الذي اقتيد إلى القلعة حيث ضُرِبَتْ عنقه مع أعناق الشيوخ المجاهدين الخمسة الآخرين، وفُصِلَتْ رؤوسهم عن أجسادهم، ودُفِنوا في قبور غير معلوم مكانها حتى اليوم. وبعد تمكن الغزاة من إخماد ثورة القاهرة الأولى تضاعفت مظالم الغزاة، وطورد كل مشبوه بانتمائه إلى حركة الجهاد والمقاومة الشعبية الوطنية المصرية الإسلامية، فاختفى من اختفى، وهرب من مصر من هرب. وبذلك توافرت الظروف لتوحيد خطط الجهاد داخلية وخارجية. وكان ممن غادروا أرض مصر إلى بلاد الشام سليمان الحلبي بعد أن أقام في القاهرة ثلاث سنوات حيث توجه إلى مسقط رأسه عفرين في الشمال الغربي السوري وليلتقي في حلب أحمد آغا، وهو من إنكشارية إبراهيم بك، وليكتشف أن والي حلب العثماني قد بالغ بفرض غرامة على والده بائع السمن والزيت محمد أمين. وكان من البديهي، وهو منخرط في التنظيم الذي كان الشيخ الشرقاوي قد أنشأه في المحروسة، ثم أحياه إبراهيم بك في غزة، أن يحاول السعي لرفع الغرامة عن أبيه. وقد وعده أحمد آغا بذلك، وكلفه بالتوجه إلى مصر التي كان أقام فيها ثلاث سنوات، لأداء واجبه الإسلامي الجهادي باغتيال خليفة بونابرت الجنرال كليبر بعد أن تمكن بونابرت من اجتياح خان يونس والعريش وغزة ويافا، وبعد فشله في اجتياح أسوار عكا، التي كان واليها احمد باشا الجزار متحالفا مع إبراهيم بك، الذي غادر غزة إلى القدس وجبال نابلس والخليل مع استمرار سعيه، بالتحالف مع الآستانة، لإقلاق الغزاة (الكفرة) داخل مصر. وبعد فشله باقتحام عكا عاد نابليون بجيشه إلى مصر مدحورا من بلاد الشام، ومنها توجه سرًّا بحرًا إلى فرنسا ليلة الاثنين 16 أغسطس 1799، تاركًا قيادة جيشه في مصر إلى الجنرال كليبر بعد أن دعا نابليون في بيانه الشهير اليهود إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى بدءًا من أرض فلسطين.
بوصوله القدس صلى سليمان الحلبي في المسجد الأقصى في مارس (آذار) 1800، ثم توجه إلى الخليل حيث إبراهيم بك ورجاله في جبال نابلس، ومن الخليل توجه بعد عشرين يوما من إقامته فيها في أبريل (نيسان) 1800 إلى غزة حيث استضافه ياسين آغا أحد أنصار إبراهيم بك في الجامع الكبير، وقد سلمه سليمان رسالة حملها إليه من أحمد آغا المقيم في حلب، وكانت تتعلق بخطة تكليف سليمان بقتل الجنرال كليبر باعتبار سليمان عنصرا من عناصر المقاومة الإسلامية التي وضعت على كفيها عبء النضال لتحرير مصر من الغزاة (الكفرة). وفي غزة أنقد ياسين آغا سليمان الحلبي أربعين قرشا لتغطية كلفة سفره إلى مصر على سنام ناقة في قافلة تحمل الصابون والتبغ إلى مصر، ولشراء السكين من أحد المحال في غزة، وهي السكين التي قتل بها سليمان الجنرال كليبر. وقد استغرقت رحلة القافلة من غزة إلى القاهرة ستة أيام، انضم بعدها سليمان إلى مجموعة من الشوام المقيمين في رواق الشوام كطلبة في الأزهر. وقد كانوا أربعة فتيان من مقرئي القرآن من الفلسطينيين أبناء غزة، هم: محمد وعبد الله وسعيد عبد القادر الغزي، وأحمد الوالي. وقد أبلغهم سليمان بعزمه على قتل الجنرال كليبر وبأنه نذر حياته للجهاد الإسلامي في سبيل تحرير مصر من الغزاة. وربما لم يأخذوا كلامه على محمل الجد باعتباره كان يمارس مهنة كاتب عربي (عرضحالجي).
صباح يوم 15 يونيو 1800 كتب الفتى سليمان الحلبي عددا من الابتهالات والدعوات إلى ربه على عدد من الأوراق، ثم ثبتها في المكان المخصص لمثلها في الجامع الأزهر ثم توجه إلى بركة الأزبكية حيث كان الجنرال كليبر يقيم في قصر محمد بك الألفي، الذي اغتصبه بونابرت وأقام فيه، ثم سكنه بعد رحيل بونابرت إلى فرنسا خليفته الجنرال كليبر، الذي ما إن فرغ من تناول الغداء في قصر مجاور لسكنه (ساري عسكر داماس) حتى دخل سليمان حديقة قصر محمد الألفي بك الذي يقيم فيه كليبر، ومعه كبير المهندسين الفرنسيين قسطنطين بروتاين. وقد تمكن سليمان من أن يطعن بنصلة السكين التي اشتراها من غزة الجنرال كليبر أربع طعنات قاتلة: في كبده، وفي سُرّته، وفي ذراعه اليمنى، وفي خده الأيمن. كذلك تمكن من طعن كبير المهندسين قسطنطين بروتاين ست طعنات غير قاتلة: في الصدغ من ناحية اليسار، وفي الكف، وبين ضلوع الصدر من جهة اليسار، وتحت الثدي الأيمن، وفي الشدق الأيسر، وفي الصدر من الناحية العليا. و قد تمكن اثنان من العساكر الفرنسيين هما العسكري الخيّال الطّبْجي جوزيف برين والعسكري الخيّال الطّبْجي روبيرت من إلقاء القبض عليه في الحديقة ومن العثور على السكين التي نفذ بها مهمة القتل التي كلف بها كمجاهد إسلامي وهب حياته لحرية مصر وكبريائها المثلوم.
حوكم الفتى سليمان بعد حرق يده اليمنى خلال التحقيق معه حتى عظم الرسغ، لكنه أنكر صلته بالشيخ الشرقاوي، وبحركة المقاومة الشعبية الإسلامية المصرية المختلطة (المصرية العربية الحجازية المملوكية التركية العثمانية الشامية). وبما أن رفاقه المقيمين معه في رواق الشوام في الأزهر كانوا أربعةً جميعُهم من غزة، وليس فيهم مصري واحد، بل وبما أنه لم تكن لهؤلاء الأربعة الفلسطينيين أية صلة بعملية القتل، فقد اعترف سليمان بأنه كان مقيما معهم مدة 34 يوما قبل إقدامه على تنفيذ مهمة القتل عقب وصوله إلى القاهرة من غزة مكلفا بقتل ساري عسكر كليبر وبأنه أسَّر إليهم بعزمه على قتل الجنرال كليبر من منطلق جهادي نضالي صرف، لكنهم لم يأخذوا كلامه على محمل الجد. وبذلك أدانتهم المحكمة بالتستر على الجريمة قبل وقوعها، وحكمت على سليمان بالإعدام بالخازوق، وعلى أحمد الوالي ومحمد وعبد اللّه الغزي (سعيد عبد القادر الغزي كان هاربا) بالإعدام وفصل رؤوسهم عن أجسادهم، على أن يتم قطع رؤوسهم أمام سليمان قبل إعدامه بالخازوق.
وفي الساعة 30,11 من يوم 28/06/1800 نفذ حكم الإعدام بالفلسطينيين الثلاثة أمام عيني سليمان، ثم حرقت أجسادهم حتى التفحم، ثم غرس وتد الخازوق في مؤخرة سليمان الحلبي فوق تل حصن المجمع (تل العقارب)، ثم ترك جثمانه المغروس في أحشائه وتد الخازوق النافذ عدة أيام تنهشه الطيور الجوارح والوحوش الضواري عقب دفن جثمان الجنرال كليبر في موضع من القاهرة قريب من قصر العيني بعد تشييعه في احتفاء رسمي ضخم. وقد كان جثمانه موضوعًا في تابوت من الرصاص ملفوفًا بالعلم الفرنسي، وفوق العلم سكين سليمان الحلبي المشتراة من غزة…
وقد حمل الجنرال عبد اللّه جاك مينو معه إلى باريس عظام الجنرال كليبر في صندوق، وعظام سليمان الحلبي في صندوق آخر. وعند إنشاء متحف أنفاليد- الشهداء بالقرب من متحف اللوفْر في باريس خُصِّص في إحدى قاعات المتحف اثنان من الرفوف: رف أعلى وضعت عليه جمجمة الجنرال كليبر، وإلى جانبها لوحة صغيرة مكتوب عليها: جمجمة البطل الجنرال كليبر، ورف أدنى تحته وضعت عليه جمجمة سليمان الحلب، وإلى جانبها لوحة صغيرة مكتوب عليها: جمجمة المجرم سليمان الحلبي. والجمجمتان لا تزالان معروضتين في متحف أنفاليد حتى اليوم.
هذه بإيجاز هي حكاية سليمان الحلبي التي لا يجوز فصلها قط عن الأحوال السياسية والدينية والاجتماعية المصرية خلال فترة ما قبل وما بعد إقدام ذلك الفتى السوري البطل الذي أعدم بالخازوق فوق أرض مصر المحتلة صيف عام 1800 على قتل الجنرال كليبر بتكليف من أطراف عضوية بحركة المقاومة الإسلامية الشعبية المصرية الوطنية. تتأكد حقيقة أن سليمان الحلبي كان بطلاً حقيقيًّا، وفتى من شهداء الإسلام والعروبة والحرية، وأنه جدير بالتخليد اسمًا وكفاحًا وبطولةً. وإذا كانت أطرافٌ سوريةٌ غير رسمية قد سعت خلال السنتين المنصرمتين لدى فرنسا معبّرة عن رغبتها برد الاعتبار إلى اسم سليمان الحلبي وتطهيره من صفة "المجرم" اللصيقة بجمجمته في متحف أنفاليد، وبالموافقة على أن تسترد سورية رفاته من فرنسا لإعادة دفنها في مسقط رأسه (عفرين) أو في مدينة حلب بصفته بطلاً من شهداء الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، فإن العدل وفضيلة الوفاء يقضيان بضم جهود مصر إلى الجهود السورية في هذا السبيل، وبخاصة أن مصر ملتزمة بفضيلة الوفاء التاريخي في كل العصور. ومن حق روح سليمان الحلبي عليها أن يكون له نصيب من هذا الوفاء المصري التاريخي الشهير المضاد لكل ألوان الإجحاف والظلم والجحود".
وفى موقع آخر نقرأ بقلم عبد الهادى البكار: "حلت العام الماضي الذكري المئوية الثانية لاستشهاد فتي العروبة والاسلام العربي السوري الجسور سليمان الحلبي الذي قتل ساري عسكر‏ الحملة الفرنسية علي مصر الجنرال‏ كليبر‏ عام‏1800‏ في وقت لم يكن فيه سليمان الحلبي قد تجاوز السنة الثالثة والعشرين من عمره القصير الذي وهبه الي مصر الغالية التي كان قَدِم اليها بَرًّا عبر غزة عام‏1797 من مسقط رأسه بلدة‏ عفرين، التي ولد فيها عام‏1777.‏ وهي تقع في منتصف المسافة الفاصلة مابين مدينة حلب‏ ومدينة انطاكيه في لواء الإسكندرون من الجهة الشمالية الغربية من حلب‏.‏ بوصوله القاهرة‏‏ انتظم سليمان الحلبي طالبا للعلم في الأزهر‏‏ في وقت كانت مصر خلاله تعاني من صلف الغزاة الفرنسيين معاناة أدت إلي تشكل أول خميرة لأول خلية ثورية مصرية شعبية تحررية سرية في العصر الحديث‏ سرعان ماتقولبت في تنظيم سري وطني مصري تحت قيادة الشيخ الشرقاوي كما يذكر عبدالرحمن الجبرتي المصري في كتابه: "عجائب الآثار في التراجم والأخبار".
وقد سارع سليمان الحلبي بالانخراط في هذا التنظيم السري الشعبي التحريري المصري الوطني‏‏ بعدما شاهد بدوره قادة الغزاة الأجانب يجوبون شوارع القاهرة في عربات فارهة تجرها الخيول‏،‏ ويحيط بها الحرس من جوانبها الأربعة‏ بعد تمكن الغزاة من إخماد أكثر من انتفاضة شعبية مصرية عفوية قامت في سبيل تحقيق هدف تحرير مصر من الغزاة الاجانب‏،‏ وهو الإخماد الذي حرّض قادة الحملة الفرنسية علي الظن بأن روح مصر التحررية قد ماتت‏،‏ وأن شعب مصر قد استسلم إلى الرقاد بصفة نهائية‏..‏ وهكذا‏.‏ وعلي الر غم من أنه كان لا يزال في سن اليفع‏‏ فقد‏ انفعل سليمان الحلبي بكل ما عايشه وما رآه وما سمعه خلال السنوات الثلاث التي عاشها في مصر طالبا في الازهر‏،‏ وسرعان ما أمست آلام شعب مصر هي آلامه الشخصية‏ رغم أنه كان فتي سوريا عربيا مسلما غير مصري الجنسية‏. وقد حضّه انفعاله السامي هذا علي تحمل مسؤولية تنفيذ مهمةٍ كلفه بها التنظيم الذي كان يقوده الشيخ الشرقاوي‏،‏ وهي مهمة قيامه بقتل الجنرال‏ كليبر‏.‏ وقد نفذها سليمان الحلبي بجسارة استثنائية‏،‏ ولم يتردد في أن يمهرها حياته علي النحو الآتي‏:‏ حين كان الجنرال كليبر يتنزه في حديقة منزله في الأزبكية برفقة كبير المهندسين الفرنسيين‏‏ تمكن الفتى السوري الشجاع من التسلل إلي الحديقة التي كانت في مساحة بستان شجر متسترا بلباس خدم منزل كليبر‏.‏ فلما شاهد كليبر‏ هذا الفتى اليافع في‏ عقر داره‏‏ يتقدم نحوه‏ مد يده في اتجاهه يأمره بإشارة من أصابع كفه بالابتعاد عنه‏.‏ وربما ظن أن هذا الفتي قد تقدم نحوه متسولا‏،‏ فصرخ كليبر باللغة العربية‏:‏ مافيش‏، مافيش. كررها عددا من المرات‏،‏ إلا أن الفتي لم يتراجع‏،‏ وتقدم خطوات إضافية ثابتة بهدوء متظاهرا بأنه يريد تقبيل يد الجنرال الذي مد نحو سليمان الحلبي يده اليسرى ليقبلها‏،‏ وبذلك أصبحت يد الجنرال في قبضة الفتي السوري اليافع الذي‏ أحب مصر حتي الموت‏. وإذا بسليمان يشهر خنجرا كان يخفيه في قبضته اليمنى، ليغرس نصلته في بطن الجنرال أربع غرسات بقرت بطنه فأخرجت منها أمعاءه‏.‏ وسقط‏ كليبر‏ أرضا مخضبا بدمائه‏، في الوقت الذي راح كبير المهندسين الفرنسيين المرافقين للحملة‏ يصرخ مستغيثا‏،‏ وسليمان الحلبي يحاول أن يولي الأدبار‏.‏ فلما سمع العسكر صرخة الاستغاثة‏‏ هُرِعُوا نحو البستان ليشاهدوا الجنرال مطروحا أرضا غارقا في دمه مشقوق البطن‏ يحشرج حشرجاته الأخيرات‏،‏ وإذا بضارب الطبل من العسكر‏ يضرب ضربات سريعات متتاليات علي جلد طبلة إعلانا عن خطر داهم‏،‏ في الوقت الذي كان فيه البطل قد تمكن من الانضمام الي مجموعة الخدم الذين كان سليمان انضم إليهم منذ صباح ذلك اليوم بصفته المزعومة خادما جديدا في دار كليبر‏.‏ وسرعان ما تمكن العسكريون من إلقاء القبض عليه بعدما عثروا في البستان علي قطعة من قميصه الممزق‏،‏ وعلي الخنجر الذي نفذ به عملية القتل‏،‏ وبعدما تعرف عليه كبير المهندسين الفرنسيين الذي كان برفقة‏‏ كليبر‏ عند تنفيذ العملية‏،‏ وبعدما لاحظ العسكر خدوشا في وجه سليمان قدروا أنها آثار دفاع كليبر عن نفسه بأظافره التي أنشبها في وجه سليمان وهو ينفّذ المهمة التي كلفه بها الشيخ الشرقاوي‏. ‏
وهكذا اقتيد سليمان الي التحقيق معه‏،‏ وإلى المثول أمام‏ جاك مينو‏ في المحاكمة التي انعقدت في اليوم التالي‏‏ بعدما أصر سليمان علي إنكار أنه القاتل إنكارا صارما أعقبه تعذيبه‏،‏ وحرق لحم يده اليمني بالنار الآكلة من الأنامل حتي عظم المعصم‏.‏ ثم أعقب عملية التعذيب والحرق اعتراف سليمان بأنه القاتل‏،‏ مع تشديده علي إنكار أنه عضو في التنظيم السري الوطني المصري الذي كان يقوده الشيخ الشرقاوي‏،‏ متعللا في هذا الإنكار بأنه حنفي‏ المذهب‏،‏ وأن الشيخ الشرقاوي منتسب إلي المذهب‏ الشافعي‏،‏ والأحناف غير متحالفين مع الشوافع‏.‏ كان رئيس المحكمة جاك مينو‏ قد حل محل الجنرال كليبر، فور لفظه أنفاسه‏،‏ في قيادة الحملة الفرنسية‏. وبصفته هذه حاكم‏ جاك مينو‏ سليمان الحلبي‏،‏ وأصدر الحكم بإعدامه‏.‏ بعد أن لفظ سليمان الحلبي أنفاسه‏‏ أمر‏ جاك مينو‏ بوضع جثمانه سبعة أيام في العراء الصحراوي‏،‏ حيث افترست الجوارح والوحوش لحمه‏،‏ فلم يتبق من جثمانه سوي رفاته من العظام‏. ‏
بفشل الحملة الفرنسية علي مصر بتحقيق أغراضها‏ واندحارها المذل‏ حرص قائد الحملة علي حمل جمجمة وبقية رفات سليمان الحلبي معه إلى فرنسا عبر البحر‏.‏ وفي وقت لاحق‏ مع إنشاء متحف‏‏ أنفاليد‏ في باريس‏ في مكان قريب من متحف اللوفر وساحة الكونكورد حيث تنتصب مسلة رمسيس الثاني التي كانت منصوبة في معابد الكرنك‏ وأهداها محمد علي الكبير إلى ملك فرنسا في عصره‏‏ خُصِّص رَفّان من رفاف إحدى قاعات العرض في هذا المتحف‏:‏ علي أعلاهما وضعت جمجمة الجنرال كليبر، والي جانبها يافطة صغيرة مكتوب عليها‏:‏ جمجمة البطل الجنرال كليبر‏. وعلي الرف الأدني تحته وضعت جمجمة سليمان الحلبي‏،‏ والي جانبها وضعت يافطة صغيرة مكتوب عليها‏:‏ جمجمة المجرم‏ سليمان الحلبي‏.‏ وهي أصغر حجما من جمجمة الجنرال‏،‏ ويميزها عنها أيضا وجود فتحة في أعلي عظامها هي الفتحة التي أحدثها‏ الخازوق في رأس سليمان الحلبي عند إعدام الفتى السوري الشجاع البطل الذي وهب حياته لمصر العروبة والإسلام‏،‏ ولم يتلكأ عن الانخراط في صفوف المقاومة الشعبية المصرية الوطنية ضد صلف وعدوانية الحملة الفرنسية علي مصر‏،‏ وحفظ سر التنظيم الشعبي العربي المقاوم للاحتلال الذي قاده قبل قرنين من الزمان‏ الشيخ الشرقاوي‏،‏ فلم يعترف بصلته به‏. وبقي التنظيم بعد إعدام سليمان قائما‏.‏ ولقد خصص تاريخ مصر الحديث‏‏ موضعا في صفحاته المجيدة لاسم سليمان الحلبي‏،‏ وقُرِّرَتْ حكاية بطولته كمادة للتدريس في برامج التعليم في المدارس المصرية، وسميت باسمه عدة شوارع في القاهرة ومدن مصرية أخري تخليدا لذكراه‏،‏ وهي الذكري التي تتجدد بعد مرور قرنين علي إعدامه".
وفى موقع ثالث تطالعنا هذه السطور التى خَطَّها د. عبد العظيم الديب: "في صباح يوم مشئومٍ جاء إلى مصر فتى فرنسا الـمُبِير نابليون بونابرت. جاء بجيشٍ لَجِبٍ في قلبه من نار الحقد والثأر أكثر مما في يده من نار السلاح والعتاد. وحاول نابليون أن يداهن الشعب ويخادعه، فأعلن الإسلام وأنه جاء ليخلص مصر من ظلم المماليك، وأنه محبٌّ للسلطان العثماني (يعني جاء للتحرير). ولكن أمتنا لم يكن قد سقط وعيها بعدُ، فرفضت الاستماع، مجرد الاستماع، إلى دعاوَى ذلك السفاح، وبدأت المقاومة. وأخذ السفاح في الانتقام فكان يقتل كل يومٍ عددًا من المشايخ ورؤساء المقاومة، ويطوف برءوسهم محمولة على الرماح إرهابًا وتخويفًا… وكان ما كان حتى خرج السفاح هاربًا بجلده بعد عامٍ واحد لم تستقر له فيه قدم، ولم يهدأ له ليل. وترك وراءه خليفته كليبر، الذي أوصاه أن يفعل مثله في سفك الدماء وهدم القصور والدور ومصادرة الأموال، فثارت القاهرة ثورتها الثانية، وكانت ثورة عارمة واجهت هذا الجيش الفرنسي الذي كان يُرْهِب أوروبا كلَّها.
صمدت القاهرة أمام هذا الجيش المبير صمودًا منقطع النظير فتعرَّضت للتهديم والتحريق ونهب الأموال مع سفك الدماء بغير وازعٍ ولا رادع. وهدأت الثورة، وظنَّ كليبر أنه قد أخمدها إلى الأبد. ولكن المقاومة كانت قد اتخذت طريقًا آخر، فأنشئت خلايا سرّية كان من مهمة إحداها تخليص البلاد من رأس الشر كليبر نفسه. وقد كان، وقتل سليمانُ الحلبيُّ الأزهريُّ كليبر، فكيف تصرَّف الفرنسيون أبناء الثورة ذات الشعار المثلث: الحرية، الإخاء، المساواة؟ يقول هيرولد مؤرخ الحملة الفرنسية نقلاً عن مذكرات أحد رجالها: "قتلنا بسيوفنا وخناجرنا جميع من صادفناه من الرجال والنساء والأطفال"! ثم قُبِض على سليمان الحلبي، وبدأ التحقيق بالضرب والتعذيب. وطال التحقيق، لا رغبة في الوصول إلى العدالة وإنصاف المتهمين، بل "الكشف عن شركائهم في الجريمة" كما قال مؤرخهم هيرولد. وانتهى التحقيق إلى تقديم سليمان الحلبي والشيخ محمد الغَزِّي والشيخ عبد الله الغَزِّيّ والشيخ أحمد الوالي، وهم أعضاء خلية الجهاد التي كانت مكلفة بهذه المهمة، والتي لم يستطع التحقيق أن يصل إلى أبعد من حدودها برغم صنوف التعذيب التي صُبَّت عليهم صبًّا، ثم قُدِّموا للمحاكمة. وشُكِّلَتْ محكمة عصرية من ممثلٍ للادّعاء، وعدد من الأعضاء، وأمين سر. وجميعهم يرتدون الأوشحة، يعلوهم الوقار، يجلسون على منصةٍ مهيبة، ويقف بين يديهم محامٍ فرنسي جاء للدفاع عن المتهمين، وفوق رءوسهم علم الثورة الفرنسية، ولافتة تحمل شعارها المثلث: حرية، إخاء، مساواة. وبدأت المسرحية. صال ممثل الادعاء وجال، وانبرى له ممثل الدفاع، وبين هذا وذاك مناقشة الشهود. وانتهى عرض المسرحية، وصدر الحكم. بعد هذه المسرحية الرائعة أصدرت المحكمة العصرية أعجب حكم في التاريخ. بدأ بالكلام الظريف اللطيف الذي جاء في الديباجة: بعد الاطلاع على مرسوم تشكيل المحكمة والاطلاع على مواد القانون برقم كذا وكذا، وبعد سماع الادعاء ومناقشة الشهود والاستماع إلى مرافعة المحامي الذي كلفته المحكمة بالدفاع عن المتهمين، لم يعترف المتهمون بالمحكمة وقاطعوها ورفضوا الإجابة على أي سؤال موجه إليهم. بعد هذا جاء الحكم العجيب الغريب ينص على الآتي:
1- تقطع رؤوس المشايخ الثلاثة: محمد الغزي، وعبد الله الغزي، وأحمد الوالي، وتوضع على نبابيت (عِصيّ طويلة) وتحرق جثثهم بالنار.
2- ويكون هذا أمام سليمان الحلبي وكل العساكر وأهل البلد الموجودين في المشهد.
3- تُشْوَى يد سليمان الحلبي اليمنى في النار أولاً.
4- إذا نضجت يده تمامًا واحترقت حتى العظم يوضع على الخازوق، ويرفع إلى أعلى حتى يراه الناس جميعًا.
5- تترك جثته هكذا حتى تأكلها الطيور والهوام.
6- يطبع هذا الحكم باللغة الفرنسية والعربية والتركية، ويعمم على البلاد.
هذا هو الحكم الذي ابتكر من فنون الوحشية ما يعجز عنه الشيطان ذاته. احترامًا لعقل القارئ الكريم لن ندعوه إلى المقارنة بين ما حدث عند مقتل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وبين مقتل كليبر ممثل الثورة الفرنسية، التي عَلَّمَتِ الدنيا الحرية والإخاء والمساواة. ولكني أقف بالقراء عند فصلٍ من التزييف الذي تعرّضت له الأجيال، وغسيل المخ الذي ابتليت به أمتنا في هذا العصر. وأول ما في هذا التزوير والتزييف تلك المقولة المسلَّمة سلفًا بأن فرنسا هي التي أخذت بيدنا إلى الدخول في عصر النهضة، والخروج من الظلام والتخلف، وهذه قضية شرحها يطول. ولكن أن يقول مؤرخ الفكر المصري الحديث، والمستشار الثقافي لجريدة العرب الكبرى…: "إن هذه المحاكمة أدهشت الجبرتي، وجعلته يبدي إعجابه بهذه الطريقة العصرية المتحضرة. فلأول مرة يَرَوْن قاتلاً متلبسًا بجريمته لا يُقْتَل على الفور"! نعم لم يُقْتَل على الفور، ولكن كيف قُتِل؟ وأين الذين قُتِلوا بغير محاكمة؟ وكم عددهم؟ ومن هم؟
يقول هيرولد مؤرخهم نقلاً عن مذكرات أحد رجال الحملة الفرنسية: "ساعةَ قُتِل كليبر اندفعنا إلى الخارج، فقتلنا بسيوفنا وخناجرنا جميع من صادفناه من الرجال والنساء والأطفال"! يا لها من حضارة عظيمة تعلمناها! أما مؤرخ "الحركة القومية في مصر" فيتحدث عن سليمان الحلبي بلفظ "القاتل، الجاني، الجريمة، دم الجريمة، مكان الجريمة، لاذ الجاني"، وكأنه شرطي فرنسي. فإذا جاء إلى الحكم وطريقة تنفيذه أخفى منه مسألة شوي يد سليمان الحلبي وحرْقها حتى العظم بالنار. أخفى هذا تمامًا، ولعلَّه يريد أن يستر على بلاد النور حتى لا يحرمنا من نورها. والأدهى من ذلك ثناؤه على القضاة الفرنسيين لعدم انفعالهم وأنهم كان باستطاعتهم أن يأخذوا كثيرًا من الأبرياء بجناية القتل، ولكنهم لم يفعلوا، فكانوا نموذجًا للعدل ومدعاةً للإعجاب.
والشيء الذي لم يسترع النظر على أهميته هو أن هؤلاء الأربعة كانوا من أهل الشام، وباسم الغزو في سبيل الله جاءوا ليدافعوا عن دار الإسلام، فضربوا بذلك المثل في الوقت نفسه للوحدة العربية الحقيقية التي عِصَامُها ورباطها الإسلام. والحمد لله لم يكن أصحاب المدرسة الاستعمارية في تفسير التاريخ قد وصل إليهم مصطلح "الإرهاب" بعد، وإلاَّ فإنهم كانوا سيقولون عن سليمان الحلبي والغزَّاوية الذين كانوا معه إنهم إرهابيون أجانب تسللوا عبر الحدود إلى مصر".
رحم الله سليمان الحلبى، الذى أجهض أحلام هذا العِلْج الاستعمارى وأرداه فى الطين، ورَضِىَ سبحانه وتعالى عن ذلك البطل العربى المسلم رضًا واسعًا وكتب له عُلْيَا الفراديس وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقا، وحشر ذيول الفرنسيس ولاعقى جِزَمهم مع أولئك الخنازير فى قعر سَقَر، وبئس المصير. على أنى أحب للقراء الأعزاء أن يتنبهوا إلى ما استولى عليه الفرنسيون من قصور كثيرة عسفًا ولصوصيةً، ومنها قصر الألفى بك فى هذا النص، كما أحيلهم إلى ما كتبه الرافعى فى كتابه الذى نحن بصدده عن الضرائب والإتاوات التى كان الكلب كليبر قد فرضها على المصريين ليعرفوا مدى التدليس الذى سَوَّل لعشماوى أن يقول إن المصريين فى ثورتهم على الاحتلال الفرنسى (تلك الثورة التى أنف أن يسميها كذلك قائلا إنها مجرد حركة هوجاء، واتهمها واتهم القائمين بها بكل نقيصة ومعرَّة وحاول تلطيخها بكل الأوحال) قد اسْتَوْلَوْا عدوانا وظلما على أموال الفرنسيين. وهو ما دفعنى للتساؤل عن مصدر ملكيتهم لهذه الأموال، وهل كان أولئك الكلاب قد ورثوها عن آبائهم وأمهاتهم، لعنة الله عليهم وعلى أسلافهم وعلى من يتخذ جانبهم ويحاول زورا وبهتانا أن يجمّل قبح سياستهم وشناعاتها وفضحه وأخزاه على رؤوس الأشهاد فى الدنيا والآخرة! آمين يا رب العالمين!
ويتبقى من الكتاب أربعة فصول هى على التوالى: "مصر بعد خروج الفرنسيين" و"الثقافة السمعية والثقافة البصرية" و"الحملة العسكرية والصدمة الحضارية" و"من الأمس إلى الغد". وفى أول هذه الفصول يعرض الكاتب لما وقع بعد رحيل كلاب الفرنسيس، إذ عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل ذلك تقريبا. وإن الإنسان ليتساءل: لماذا لم يأخذ المصريون زمام المبادرة فى أيديهم ويُوَلّوا واحدا منهم على البلاد بدلا من محمد على، الذى ألان جانبه نحوهم وأبدى حبه لهم وغيرته على مصالحهم وتعاطفه معهم… حتى إذا أمكنته الفرصة بعد توليه حكم مصر انقلب عليهم وأظهر لهم نابه الفتاك. إن هذه مشكلة المشاكل فى كثير من بلاد العروبة والإسلام، إذ ما إن يتحقق جلاء المستعمر عن البلد حتى ينصرف الشعب عن متابعة الجهاد مُتَصَوِّرًا أنه قد أدى ما عليه وأن الحاكم الذى أوصله إلى الكرسى سوف يقوم بالباقى على أحسن ما يرام، مع أنه ثبت ثبوتا قطعيا أن الأمور لا تجرى على هذا النحو أبدا، وأن المستعمر القديم الذى ظنناه قد رحل وانكسح وغار وغارت أيامه لا يزال موجودا وأنه على علاقة متينة من وراء ظهورنا مع الحاكم الجديد، الذى هو منا ونحن منه، والذى باعنا بثمن بخس لقاء رضا ذلك السيد عنه، وأنه على استعداد لأن يقدمنا نحن والبلد جميعا قربانا على مذبح الرضا السامى! ولو ظلت الأمور تجرى على هذا النحو فلا أمل فى أى تقدم وسنظل "مَحَلَّك سِرْ"، بل سوف نتقهقر وتنحدر أحوالنا من سئ إلى أسوأ، وهذا إن كان هناك أسوأ من هذا الذى نحن فيه!
لا بد أن نعرف أنه ما من حاكم فى الدنيا يمكن أن يستقيم أمره مع رعيته دون رقابة صارمة ويقظة دائمة، وأن بداية الاستبداد هى ترك الحبل له على الغارب ثقةً مطلقة به أو نفاقًا له وجبنًا منه. ولو أن الأمة فتحت عينيها جيدا لما يجرى وتابعت مصالحها وسهرت عليها لمشى الحاكم على العجين فلم يلخبطه، أما الذى يحدث الآن فهو رعب الشعوب من السلطان وتخليها عن كل شىء ليدبره بمعرفته. والنتيجة هى هذا الذى نعرفه فى بلاد العروبة والإسلام كلها تقريبا: الفساد الشامل، والانهيار الكاسح، والهزائم المتتالية، والذلة المخزية، حتى لقد أضحى المسلمون، دون بقية خلق الله، مضرب المثل فى الهوان والعار، وأصبح كل من يريد أن يخيف أحدا فإنه يضرب أول ما يضرب العرب والمسلمين، وكثيرا ما يكتفى بضربهم وإهانتهم وتقتيلهم وتدمير بيوتهم فوق رؤوسهم بدلا من ضرب غيرهم، بَلْهَ قتله، لأن لغيرهم ظَهْرًا، أما هم فلا ظهر ولا كرامة ولا مخلوق يبكى عليهم. ولم لا، وهم مَلْطَشَة العالم وخِرْقته التى يمسح فيها حذاءه القذر؟ يا مسلمى العالم، يا من تَبْدُون وكأنكم مخلوقون من طينة مخالفة للطين الذى جُبِل منه سائر الناس فلا كرامة ولا تمرد على الذل الذى أنتم فيه إلى أذقانكم متورطون، لو كان حكامكم على سبيل الافتراض ملائكة من الملائكة وتركتموهم يُصَرِّفون أموركم دون أن يأخذوا رأيكم وعرفوا أنكم لا تهتمون بتلك الأمور لاستحالوا بين عشية وضحاها مردةً شياطين، فما بالكم وهم من الأصل شياطين مثلكم؟ هل تظنون أنهم يستطيعون أن يكونوا فى ظل هذه الظروف المفسدة حكاما صالحين؟
وفى الفصل المسمَّى: "الثقافة السمعية والثقافة البصرية" نرى المؤلف يعزو كل مصائبنا إلى أن الثقافة العربية والإسلامية كلها طوال تاريخها هى ثقافة سمعية متخلفة تدابر العقل وتقوم على الترديد دون فهم ولا علم ولا محاولة للتحليل والنقد، اللهم إلا الكتابات الفلسفية المأخوذة عن الإغريق، وكأن المجتمع الشفاهى ذا الثقافة السماعية المخاصمة للعقل ونزعة النقد والتحليل يمكن أن يتأثر بإغريق أو إبريق! وأساس ذلك عنده هو أن العرب الأوائل كانوا بَدْوًا لا يقرأون ولا يكتبون، ولهذا كان كل اعتمادهم على الأذن لا التفكير. وهو كلام أقل ما يوصف به أنه كلام فارغ. فأولا ليس معنى الأمية أن الشخص لا يفكر فيما يسمعه ويردده دون فهم. لو أنه قال إن الأمية لا تساعد على التقدم العلمى لقلنا له: نعم. أما أن يقول إنها تلغى أى تفكير نقدى، فكلا وألف كلا. إن الأمى يفكر بعقله كما يفكر الكتابى، وكل ما هنالك أن كليهما يفكر داخل الإطار الثقافى المتاح له. وهذا لو كان العرب كلهم أميين بحيث يصح وصفهم بأنهم شفاهيو الثقافة، فما بالنا لو عرفنا أنهم لم يكونوا جميعهم أميين، ومن ثم لم يكن المجتمع العربى مجتمعا شفاهيا كما هو معنى "الشفاهية" فى الاصطلاح العلمى؟ كذلك فأهم عناصر الثقافة العربية هو القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف، أتراهما أيضا يحضّان على الترديد باللسان دون فهم ولا مراجعة؟ إن هذا لكلام خطير، ولا أظن الكاتب غير مدرك أبعاد ما يقول، وبخاصة أنه لم يزجر، كما رأينا، المسؤول الفرنسى الوقح عندما تكلم عن الأثر التدميرى للثقافة العربية الإسلامية على كل من يتعرض لإشعاعها، بل سايره فى هذه الدعوى الجاهلة الخبيثة مستثنيا نفسه من تأثيرها المدمر بصفته رجلا كونيا أكبر من أن تمسّه عدوى تلك الثقافة المهلكة!
ومع هذا فلسوف نَضْرِب عن ذلك كله صَفْحًا ونفترض أنهم كانوا شفاهيّى الثقافة فعلا كما يريد لنا المؤلف الكونى أن نعتقد، فتَعَالَوْا نَرَ كيف كانوا يتصرفون فى المواقف المعرفية المختلفة: لنأخذْ مثلا ردَّ فعلهم حين أتاهم الرسول عليه السلام بالقرآن. فهل يا ترى ما إن سمعوا آياته حتى خَرّوا سُجَّدًا دون فهم ولا تفكير؟ أبدا، بل هبّوا فى وجهه صلى الله عليه وسلم وعاندوا وسخروا ورفضوا أن يؤمنوا بما جاءهم به دون أخذ وردّ وخصومات لم يجدوا بعدها مندوحة عن ترك المراوغة والانقياد للحقيقة التى غلبت حينئذ كل مراءٍ لديهم وفتحت بصائرهم وأبصارهم لنور الهدى واليقين، وإنْ شَذَّتْ طائفة منهم حكَّم أفرادها العقل منذ البداية وفتحوا قلوبهم للنور والهواء ولم يقيموا اعتبارا للعصبية أو المعاندة، وكان عددهم يزداد ببطء ملحوظ إلى أن تمت الهجرة كما نعرف جميعا. وعندما تحول المجتمع العربى إلى مجتمع مسلم، وبدأت عملية تفسير القرآن، هل أخذ الجميع يرددون نفس الكلام فى شرح آياته الكريمة؟ مرة أخرى أبدا، بل كان لكل مفسر رؤيته وطريقته كما نعرف جميعا. وفى مجال علم الكلام هل ردد العرب والمسلمون نفس الآراء والمقولات؟ أبدا، بل كانت هناك فرق وجماعات مختلفة من سنة وشيعة ومتصوفة ومعتزلة ومرجئة ومشبهة ومجسدة وإباضية، فضلا عن أن كل فرقة من هذه الفرق قد انقسمت بدورها إلى فُرَيْقات كما نعرف جميعا. وفى مجال علم الحديث هل كان العرب والمسلمون، إذا سمعوا حديثا ينسبه راويه إلى النبى عليه السلام، يتقبلونه فى الحال دون نقاش ولا مراجعة ولا تحليل ولا تمحيص؟ أبدا، بل كانوا يدرسونه ويدرسون أحوال رواته بعدما وضعوا فى ذلك القواعد التى ينبغى مراعاتها لمعرفة مدى صحة الحديث من عدمه ودرجته من الصحة أو الضعف كما نعرف جميعا. وفى العلوم الطبيعية هل رددوا ما وصلهم عن الأمم القديمة؟ أبدا، بل درسوا وجربوا واكتشفوا قوانين جديدة وطوروا الآلات القديمة وأضافوا إليها آلات أخرى، وانتهى بهم الأمر إلى أن أَرْسَوْا أسس المنهج التجريبى فى تلك العلوم، وهو المنهج الذى ورثته أوربا عنهم وانتفعت به فى نهضتها الحديثة وانتقلت به من حال إلى حال حتى أصبحت ما هى عليه الآن كما نعرف جميعا. وإن من يقرأ ما كتبوه فى هذا الموضوع ليبهر من مدى الدقة العقلية والفلسفية التى بلغوها.
 
من الواضح أن الكاتب الكونىّ لا يعرف شيئا فى هذه المسألة التى يخبط الكلامَ فيها كما يتفق دون تبصر ولا تدبر. ولنفترض رغم ذلك كله أن العرب الأوائل كانوا فعلا كما يهرف كاتبنا الكونى بما لا يعرف، أَوَقَدْ ظلوا طَوَال تاريخهم هكذا رغم تغير ظروفهم بعد الإسلام وانتشار الكتابة والقراءة بينهم حتى لقد استقر فى الوجدان أنه لم يكن يوجد بينهم أمى واحد أيام نهضتهم التى لم تكن هناك فى أى مكان فى العالم نهضة تضاهيها؟ إن هذا معناه أن الرسول والقرآن قد فشلا فشلا ذريعا فى تربية العرب ولم يستطيعا أن يغيرا فيهم شيئا، فقد جاء فى القرآن مثلا: "وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" (البقرة/ 165- 167)، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وََلا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ" (البقرة/ 170- 171)، "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به. ولو رَدُّوه إلى الرسول وإلى أُولِى الأمر منهم لَعَلِمه الذين يستنبطونه منهم" (النساء/ 83)، "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا" (المائدة/ 141)، "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم. لا تحسبوه شرًّا لكم، بل هو خيرٌ لكم… * لولا إذ سمعتموه ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا: هذا إفكٌ مبين * …* … * إذ تَلَقَّوْنه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم…" (النور/ 11- 15)، "يا أيها الذين آمنوا، إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبيَّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" (الحجرات/ 6)، وهو ما يفيد وجوب التثبت مما نسمعه قبل أن نقدم على أى تصرف.
كذلك شدد القرآن النكير فى مواضع مختلفة منه على من يعمل شيئا أو يتركه لا بناءً على اقتناع شخصى منه، بل لأن الآباء والأجداد أو العشيرة تفعله أو تتركه، ونهى الرسول أن يكون المسلم إِمَّعة يقول: أنا مع الناس: إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت. وفى القرآن آيات وأحاديث كثيرة تدعو إلى استخدام العقل والتفكر فى خلق الله وتفضِّل العالِم على غيره تفضيلا شديدا. ولنفترض أن العرب كانوا فى الجاهلية ثم ظلوا فى الإسلام سمّاعين لا مفكرين ولا ناقدين، أَوَكانت الأمم الأخرى التى دخلت فى الإسلام هى أيضا ولا تزال حتى الآن سماعية لا تفكيرية؟ إن هذا غير ممكن، لكن الكاتب لا يبالى بحق أو باطل، أو ممكن وغير ممكن، فهو متعصب تعصبا مؤذيا ضد العرب والمسلمين: مؤذيا له هو نفسه وللضمير العلمى ولكل مفكر حر كريم. فأما أنه مؤذٍ له فلأنه يعرّضه للقيل والقال ويدفع العلماء الحقيقيين إلى النيل منه والسَّخَر به والتهكم عليه وعدم الاطمئنان لما يقول، إذ يرونه يزعم براحته دون أدنى علم أو دليل، وبغير أن يختلج منه ضمير أو ترمش له عين، أن الثقافة العربية الإسلامية كانت كلها على مدى أربعة عشر قرنا ثقافة سماعية ليس فيها فكر ولا نقد ولا تحليل ولا علم. وأما أنه مؤذٍ للضمير العلمى فلأن ما يقوله يسير عكس ما يقضى به العقل وما يقوله تاريخ البشر الثقافى. وأما أنه مؤذٍ لكل مفكر حر كريم فلأن أحرار الفكر وكرماءه لا يطيقون أن يردد أحد أمامهم مثل هذا الكلام المضحك! لقد كانت أوربا، التى تبهر عين كاتبنا الكونى وعقله وقلبه تجلس من العرب والمسلمين مجلس التلميذ البليد! وكانت آنذاك ذات ثقافة سماعية حقيقية، إذ كانت الكنيسة تقول الشىء فلا يستطيع أحد بل لا يفكر مجرد تفكيرٍ أن يقول شيئا آخر، وهذا معلوم لكل إنسان ولا يمكن المماراة فيه.
ولقد تغيرت منذ ذلك الأوان أمور وأمور، وجرت مياه كثيرة فى النهر، وانقلب الحال غير الحال، وذلك كله أمر طبيعى. بيد أن الأمور قد طالت أكثر مما ينبغى وأصبح حال العرب والمسلمين فى منتهى السوء والقبح والخزى بحيث إننى أشبههم فى وضعهم المزرى ذاك باليهود فى العصور التى كان الاضطهاد ينصبّ عليهم من كل جانب، مع فارق مهم وخطير، هو أن اليهود كانوا أقلية حقيرة ضئيلة، أما العرب والمسلمون فإنهم يُعَدُّون بمئات الملايين، كما أن بأيديهم من النعم والثروات والإمكانات ما يتمنى كثير غيرهم من البشر أن تطوف هذه النعم والثروات والإمكانات مجرد طوفان بخيالهم فى المنام. وهو ما يقضى على كل عذر يمكنهم أن يتحججوا به! أليس مضحكا أن يجرؤ مثل الأستاذ عشماوى علينا بهذا التهور الفكرى دون أن يقيم حسابًا لأى شىء أو لأى شخص، وكل ما يهمه أن يحظى برضا الغربيين باعتبارهم سادة العالم؟ بلى والله إنه لمضحك ومخزٍ معا. وهذا من مظاهر الثقافة السمعية التى من الواضح أنها لا تتعلق بكتابية أو شفاهية، يل بطبيعة الشخص نفسه. وكاتبنا الكونى يردد دون تمحيص ما يقوله المستشرقون والمسؤولون الغربيون عنا وعن طريقتنا فى التفكير، يردده لمجرد أنه سمعه من هؤلاء الغربيين، فهم عنده قوم لا يخطئون، أو فلنقل: إنهم سادة العالم، ولا بد إذن من إرضائهم، وليس على الكاتب من ذنب إن هو التقط ما يقولونه وأشاعه بعَبَله دون تفكير أو تثبّت!
ثم إن أمريكا مثلا فى حربها فى العراق قد تخلصت من كل صحفى ومراسل مِرْنائىّ أو إذاعىّ حر ينقل الحقيقة التى على الأرض دون تزييف، ولم تُبْقِ إلا من يأتمر بأمرها ويردد ما تريد أن تشيعه فى العالم حتى لا يطلع أحد على الوحشية الإجرامية التى تصبها على رؤوس أهلينا فى ذلك البلد الكريم وحتى لا يعرف أحد مدى الوكسة التى تورطت فيها إلى أنفها هناك على أيدى المقاومة الوطنية الدينية حتى لقد أصاب جنودَها الأوساخَ الكآبةُ وانتحر وما زال ينتحر كثير منهم. كما أنها تخفى عدد قتلاها وجرحاها الحقيقى وتقلله إلى العُشْر على الأقل! أليست هذه هى الثقافة السمعية فى أوسخ صورها رغم كل التقدم العلمى والتقنى الذى تتمتع به أمريكا؟
وبذلك نبلغ الفصل الأخير الخاص بالصدمة الحضارية التى أحدثتها الحملة الفرنسية فى مصر والمصريين. ولا ريب أن مصر والعالم العربى والإسلامى كانا فى حالة يُرْثَى لها من التخلف والضعف. وقد نبهتْ هذه الحملةُ الأذهانَ والقلوبَ إلى أنه لا بد من اليقظة وتدارك ما فاتنا طوال القرون المنصرمة التى كانت أوربا قد قطعت أثناءها أشواطًا طِوَالاً بعدما استفادت مما كان عند العرب والمسلمين من علم وتقدم وآلات واختراعات وطَوَّرَتْه وأضافت إليه حتى أضحت الفجوة بينها وبين العرب والمسلمين واسعة وعميقة. ولكننا للأسف لم نزل حتى اليوم متخلفين عن الغرب تخلفا كبيرا، إذ لم نبذل الجهد الكافى الذى يمكِّننا من ردم الهوة التى تفصل بيننا وبينه، علاوة على أن الغرب لم يتركنا يوما فى حالنا، بل كان يخطط دائما ضدنا ويتآمر علينا ويجهض ما نكون قد أنجزناه على قلته رغم ذلك وعدم كفايته. وفوق هذا فإننا لم نهتم بمراقبة حكامنا ولم نحاول أن نعرف ماذا كانوا يدبِّرون من وراء ظهورنا مع حكومات ذلك الغرب. أى أن الطامة كانت مضاعفة، ومن هنا استحققنا عن جدارة ما نحن فيه الآن من تخلف وحيرة ورعب وخزى وهزيمة وحاجة مستمرة إلى الغرب، إلى جانب عودة الاحتلال الغربى المباشر دون حياء ولا خجل بعد أن كنا توهمنا، بناء على ما كان يقوله لنا حكامنا المخادعون من أن عصره ولَّى إلى غير رجعة!
والأمر الآن فى أيدينا: إن شئنا بذلنا الجهود المطلوبة وتحملنا المتاعب والآلام والدموع والتضحيات الجسام التى يتطلبها اللحاق بالغرب ومساواته على الأقل حتى لا نظل تحت رحمته، أو بالأَحْرَى: تحت إجرامه وفحشه وقلة أدبه وتخطيطه لإفنائنا أو للقضاء على ديننا وثقافتنا! وإن شئنا بَقِينا فى هذا الوضع الذى لا يتطلب منا شيئا سوى أن نظل على بلادتنا ومهانتنا وانعدام شعورنا بكرامتنا وامِّحَاء غيرتنا على ديننا وأوطاننا ونسائنا وتفريطنا فى حاضرنا ومستقبلنا… إلى أن نلقى الله يوم القيامة، وقد اسودَّت منا الوجوه بسبب اللعنة الشاملة التى حاقت بنا فى الدنيا ولحقتنا وجلَّلنا عارها فى الدار الآخرة فيتبرأ منا نبينا الكريم الذى لا يصح انتسابنا له ونحن على هذه الحال من الخزى والهوان، ولا يلتفت إلينا ربنا الذى نسينا قرآنه وسنة نبيه وما يدعوان إليه من عزة وكرامة ومجد وانتصار وتحضر وقوة واحترام، فنُحْشَر مع المجرمين من أهل الجحيم غير مأسوف علينا، وبئس المصير!
وبعد، فإن كاتبنا الكونى لم يترك مثلبة ولا شُنْعَة إلا ألصقها بالمصريين، على حين لم يدع من المحاسن وألوان الثناء شيئا إلا أضافه للفرنسيين، وكأن المصريين هم الذين غَزَوْا فرنسا واعْتَدَوْا على حرية الفرنسيين وقتلوهم وفجروا بنسائهم وهدموا بيوتهم ودور عبادتهم ورَمَوْهم بالقنابل وسرقوا منهم أموالهم وجردوهم من ممتلكاتهم وتركوهم يشحذون.
والآن أود أن أقف بشىء من التمهل أمام الدراسة العلمية المحترمة التى كتبتها بِحِسٍّ وطنىٍّ وإسلامىٍّ نبيلٍ، الدكتورة ليلى عنان أستاذة الحضارة الفرنسية بآداب القاهرة. وهذه الدراسة، على العكس من الكلام السطحى المغالط الذى سود به عشماوى صفحات كتابه، هى دراسة رصينة مملوءة علما وتحليلا، وتضع على الدوام البحث عن الحقيقة نُصْبَ عينيها، وتقدم للقارئ استعراضا مفصلا لعدد كبير من الكتب عن الحملة الفرنسية فى جزأين بعنوان "الحملة الفرنسية- تنوير أم تزوير؟"، و"الحملة الفرنسية الفرنسية- فى محكمة التاريخ" (كتاب الهلال/ العددان 567، 574/ مارس 1998م، وأكتوبر 1998م). وبعض تلك الكتب بالعربية، وبعضها مترجم إليها، وبعضها باللغة الفرنسية. وبعضها بقلم مؤرخين، وبعضها الآخر بقلم أدباء، وبعض ثالث بقلم سياسيين أو قواد عسكريين. وبعضها بقلم عرب، وبعضها بقلم فرنسيين. وعلى من يَنْشُد العلم والوطنية والاعتزاز الراقى بالإسلام ومتعة البحث والتعمق فى التحليل والنقد والمقارنة والاستنتاج أن يقرا هذا الكتاب، وأنا زعيم أنه سوف يغسل عن نفسه الأوضار التى خلَّفتها صفحات عشماوى الهزيلة، وسوف يطمئن إلى أن الدنيا بخير علمًا ووطنيةً وإخلاصًا لدين الله، وأن هناك بشرا يحترمون أنفسهم ويعتزون بأمتهم وعروبتهم وإسلامهم ولا يبتغون بها بديلا أيًّا ما يكن الثمن، لأنهم يعرفون أنه مهما كان ذلك الثمن فهو فى نهاية المطاف ليس إلا عَرَضًا من الدنيا تافهًا ضئيلاً، وأنه ساعة يجدّ الجِدّ ويحين وقت الحساب والمثول أمام الديّان فلن يغنى هذا الثمن عن صاحبه فتيلا.
ولنتمهل قليلا مع الكاتبة عند الصفحات التى خصصتها لكتاب "مذكرات عن الحملة على مصر"، الذى ألفه أحد ضباط تلك الحملة، وهو مارى- جوزيف مورايى، لنتعرف على أهداف الفرنسيين من لسان أحد ضباطهم أنفسهم: فالرجل يتحدث عن الغزو بوصفه فرصة للانتقام من مصر والإسلام لهزيمة لويس التاسع فى المنصورة منذ عدة قرون، ولاتخاذ مصر مستعمرة فرنسية تعوضهم عما فقدوه من مستعمرات فى القارة الأمريكية. وهو يبدى أسفه وضيقه لعدم وجود ما كانوا يتوقعونه من نساء يستمتعون بهن ويتخذونهن سبايا ولفقدان النبيذ وشح الماء فى الصحراء المحرقة. كما يصف التذمر العام بين أفراد الجيش وحالات الانتحار بين الجنود سخطًا ويأسًا، والدمار الذى أنزلوه بالإسكندرية حتى جعلوها حطاما، وكيف قضى الجيش الفرنسى على جميع المواطنين من رجال ونساء وأطفال كانوا قد التجأوا إلى أحد المساجد فى تلك المدينة بعد أن استطاع الفرنسيون النزول والانتشار فيها رغم شدة المقاومة الوطنية هناك، وكيف أن المقاومة فى أنحاء مصر المختلفة كانت تسبب لهم رغم ذلك من الخسائر وصور الإزعاج والاضطراب والرعب ما لم يستطيعوا فى كثير من الحالات إزاءه شيئا حاسما نظرا لاختلاف طبيعتها عن طبيعة المعارك النظامية التى كان من شأنها أن تكفل لهم الرجحان لتفوقهم فى آلات الحرب وخطط القتال كما وقع فى البداية عندما اشتبكوا مع المماليك فى موقعة الأهرام، وكيف أن نابليون كان يلجأ إلى خداع المصريين فى بياناته خالعا على نفسه من الصفات ما يجعله إلها أو شبه إله دجلاً منه وغشًّا وتزييفًا وتنكرًا لمبادئ الثورة الفرنسية التى يزعجنا ذيول الحملة من أبناء جلدتنا بأنه إنما جاء للارتقاء بمصر والعالم الإسلامى إلى فكرها التنويرى. كما كان دائب الكذب فى تقاريره التى يرسلها إلى الحكومة فى فرنسا، فهو يتحدث عن الانتصارات المدوية فى عكا مثلا، على حين أنه تجرع على أسوارها أمرّ هزيمة وأخزاها. ويكفى أن هذه الهزيمة هى التى أجهضت أحلامه الإجرامية فى تحويل المنطقة والمناطق المجاورة إلى إمبراطورية فرنسية فى الشرق… إلخ (انظر فى ذلك كتاب د. ليلى عنان/ 2/ 69 فصاعدا). وبالمناسبة فشاتوبريان فى كتابه الذى وضعه عن رحلته لمصر بعد أن تم تطهيرها من نجاسة الفرنسيين بأعوام قلائل يقول هو أيضا ما قاله الضابط الفرنسى من أن "فرساننا الذين هُزِموا يوم المنصورة انتقم لهم جنودنا فى معركة الأهرامات" (د. ليلى عنان/ 1/ 166).
وفى موضع آخر من الكتاب تتناول الأستاذة المحترمة بالعرض والتحليل رسائل كليبر التى كان يبعث بها إلى المسؤولين السياسيين والعسكريين الفرنسيين أثناء الحملة، وفيها حديث عن الطريقة التى كان الجنود الفرنسيون يتصرفون بها تجاه المصريين، إذ كانوا يتبولون ويتبرزون بجوار المساجد والمقابر، وكانوا لا يكتفون بقطف ثمار الأشجار لأكلها، بل يقتلعون الأشجار ذاتها من جذورها، ويخربون السواقى ويستولون على خشبها لاستعماله وقودا، ويتسوّرون البيوت ويقتحمونها اقتحاما ويعتدون على أعراض الحرائر ويسرقون كل ما تقع عليه أيديهم بما فى ذلك الكتب. كذلك تتحدث رسائل كليبر عن الوسائل الشيطانية التى كان الفرنسيون يحصلون بها على أموال أجدادنا كنهب الإبل منهم بقوة السلاح مثل قطاع الطرق، ومصادرة ممتلكاتهم وقصم ظهورهم بالضرائب الفادحة التى لا تترك لهم شيئا يدبرون به حياتهم. ثم يأتى بعض منا بعد هذا كله فيقول إن المصريين كانوا يعتدون على "أموال الفرنسيين" كى يسوّغ ما أتاه الكلاب أولاد الكلاب من تقتيل وتدمير لأحياءٍ ولقُرًى ومدنٍ كاملة ونشرٍ للخراب فى ربوع القاهرة والبلاد جميعا، وهو ما لم يرتكب المماليك أو العثمانيون عشر معشاره رغم الاستبداد الذى كان سائدا فى أواخر حكمهم.
وبالمثل تتحدث تلك الرسائل عن المقاومة الوطنية الباسلة التى حولت حياة الفرنسيس الكلاب إلى جحيم، وكانت أهم الأسباب فى انهيار الروح المعنوية للجيش الفرنسى رغم عدم تكافؤ القوة بين الطرفين، تلك المقاومة التى اشترك فيها جميع طوائف المصريين من الفلاحين والبدو وسكان المدن والتى انتشرت كالنار فى الهشيم فى جميع أنحاء المحروسة. كما تتحدث عن الأساليب الوحشية التى كان الفرنسيس الحلاليف يتبعونها فى الرد على أهالينا البواسل الذين لا تعجب بعضَنا بطولاتُهم النبيلة وشعورُهم الراسخ الجياش بعزة أنفسهم وكرامتهم ونفورُهم من الخضوع لهؤلاء الأوغاد الذين يختلفون عنهم فى الدين واللغة والقومية. كذلك تلقى الرسائل النور على طبيعة الدور المنوط بما يسمى بـ"المجالس النيابية"، التى يمنّ علينا القُرْع من بيننا بها مثلما تتحالى أية خادمة قرعاء بشعر سيدتها، مع أنها (كما تقول الرسائل) لم تكن إلا دَرِيئةً يستخفى وراءها الفرنسيون ساعة الجِدّ تاركين الأهالى يحمّلون أعضاء تلك المجالس المسؤولية عن المظالم والعقوبات والمصادرات التى كان الفرنسيون يُنْزِلونها بهم، فيما هم فى الحقيقة أعجز من العجز نفسه. وأخيرا لا بد من التنبيه إلى أن كليبر لا يتحدث فى خطاباته عن "مصريين"، بل عن "مسلمين"، فالمصريون عنده ليسوا سوى مسلمين (2/ 90 وما بعدها).
ولهذا مغزاه الذى لا يمكن أن تخطئه العين. ومع ذلك نرى طوائف من مثقفينا الخونة يدعوننا إلى تناسى الدين والعامل الدينى فى تعاملنا مع الغربيين خوفا من أن يتهمونا بالإرهاب. وهى شبهة حقيرة وخبيثة، إذ المقصود هو دفن الإسلام إلى غير رجعة لحساب الاستعمار الغربى، ذلك الاستعمار الذى باع له خونتنا أنفسهم الحقيرة لقاء ثمن حقير. ويا ليتنا كنا إرهابيين حقا، فالإرهابى فى سياقنا هذا هو الذى يفعل ما من شأنه إلقاء الرهبة فى نفوس أعدائه كيلا يستبيحوا دياره ويعتدوا على حريته وعِرْضه وشرفه وماله ويقتلوه ويقتلوا أهله ومواطنيه ويدمروا وطنه ويقتلعوا كل نبتة أمل تطل برأسها من تربته. ومن الواضح أننا لسنا إرهابيين، وإلا ما كانت أمريكا وبريطانيا وإسرائيل تمرح وتَبِيض وتَصْفِر فى أجوائنا بهذه الحرية وهذا الاستهتار وهذا الإجرام دون حسيب أو رقيب غير ذلك العدد القليل من الأبطال النبلاء الذين يضحون بكل شىء من أجل ألا يندثر دين محمد!
ولقد كتب نابليون ذاته بعد فراره فى جنح الليل من مصر بسبب ما لاقاه من فشل بفضل المقاومة الباسلة أنه "كان سعيدا فى ذلك البلد البعيد حيث استطاع أن يتحرر هناك من كل قيود الحضارة الغربية" (د. ليلى عنان/ 1/ 151). كما كتب تابعه ورفيقه فى المنفى لاس كاز فى كتابه: "الميموريال" بناء على ما أملاه عليه نابليون نفسه: "من شبه المؤكد، ونقولها بالدليل القاطع، أن مصر كانت ستظل مقاطعة فرنسية إلى الأبد لو أن من دافع عنها كان أى شخص آخر غير مينو. إن الأخطاء الجسيمة التى ارتكبها هذا الأخير أوصلته إلى نهايته" (المرجع السابق/ 1/ 187)، "لو أن عكا فُتِحَتْ لطار الجيش الفرنسى إلى دمشق ثم إلى حلب، وفى لمح البصر كانت جيوشنا ستصل إلى نهر الفرات. كان مسيحيو سوريا والدروز ومسيحيو أرمينيا سينضمون إلى جيشنا. كانت الشعوب ستهتز… كنت سأصل إلى القسطنطينية والهند. كنت سأغير وجه العالم" (1/ 191- 192).
تحيةً واحترامًا للزميلة الكريمة الدكتورة ليلى عنان، التى تربت فى مدارس الإرساليات الفرنسية فى العهد الملكى على النمط الذى كان التلميذ الفرنسى يربَّى عليه تماما، ومع ذلك كانت أكبر من الظروف التى تربت فيها فلم تتنكر لوطنها وأمتها ودينها، بل ظل كل ذلك حيا فى أعماق نفسها ولم تبع روحها للشيطان الغربى كما صنعت طائفة ضالّة مُضِلّة منا، لا بارك الله لهم ولا فيهم، ولعنهم لعنًا كبيرًا!

 
عودة
أعلى