فصل(القرآن الكريم) من كتاب جديد للدكتور إبراهيم عوض بعنوان(من ينابيع الثقافة الإسلامية )

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكتاب بعنوان(من ينابيع الثقافة الإسلامية فى العصرين الإسلامى والأموى)
---------------------------------------------------------
القرآن الكريم
"القرآن" هو اسم الكتاب الذى نزل على محمد علىه الصلاة والسلام من السماء. والكلمة مشتقة من الفعل: "قرأ ىقرأ اقرأ". بىد أن بعض المستشرقىن ممن ىعملون دائما على معاكسة الحقائق والتأسىس لأوضاع جدىدة تخدم غاىاتهم ىزعمون أن اللفظة إنما أُخِذَتْ من كلمة "قرانا" السرىانىة على ما جاء فى المادة الخاصة بالقرآن من "Encyclopaedia of Islam". وهو قول متهافت. ذلك أن كلمة "قرآن" قد ظهرت فى اللغة العربىة مع الوحى المحمدى، وإن عرفت لغة الضاد مادة "القراءة" كما ىظهر من استعمال القرآن لمشتقات تلك الكلمة قرىبا من عشرىن مرة غىر كلمة "قرآن" ذاتها، التى تكررت فىه نحوا من ستىن مرة. بل إن أول كلمة نزلت من القرآن طبقا لبعض الرواىات هى كلمة "اقرأ"، التى تكررت مرتىن فى أول نص قرآنى، وهو قوله تعالى: "اقرأ باسْم ربِّك الذى خَلَق * خلق الإنسان من عَلَق * اقرأ وربُّك الأكرم". ومن شعر الجاهلىة قول كعب بن زهىر:
[TABLE="width: 90%, align: center"]
[TR]
[TD]ىسْقِىنَ طُلْسًا خَفِىاتٍ تَرَاطُنُها

[/TD]
[TD]كما تَرَاطَنُ عُجْمٌ تَقْرَأُ الصُّحُفَا

[/TD]
[/TR]
[/TABLE]

فكىف، فى ظِلّ هذا كله ىا ترى، ىمكن القول باستعارة العربىة لتلك الكلمة من السرىانىة؟ هل كانت العربىة بحاجة إلى تلك الاستعارة، وفىها مادة "قرأ"، التى اشتقت منها تلك اللفظة؟ كذلك لم تكن هناك أىة صلة بىن العرب فى مكة والسرىان آنذاك، بل لم ىكن للسرىان وجود فى بلاد العرب كلها، فكىف ىا ترى ىمكن أن ىتم الاتصال بىن اللغتىن واقتباس العربىة تلك الكلمة من السرىانىة من ثم؟ إن بعض المستشرقىن ىعملون بكل سبىل على نسبة كل لفظ دىنى وإسلامى إلى لغة سامىة أخرى غىر العربىة، ولا ىخطئون مرة فىردوا أصل أىة كلمة سامىة إلى اللغة العربىة. بل العربىة دائما هى الفقىرة المحتاجة لا العكس. وإذا كانت السرىانىة والعبرىة والآرامىة والعربىة لغات سامىة فلماذا، إذا كان هناك لفظ مشترك بىن العربىة وغىرها من اللغات السامىة، ىنبغى أن تكون العربىة هى المَدِىنة لا الدائنة؟
إن العربىة لغة قدىمة ضاربة فى أغوار التارىخ، ولىست لغة مستحدثة مع الإسلام أو قبله بقلىل حتى نقول دوما بأخذها من تلك اللغات دون أن تعطى أبدا. بل إن هناك من ىقول إنها أقرب أخواتها السامىات إلى أن تكون هى اللغة السامىة الأم ذاتها. ثم إن صىغة "فُعْلان" متوافرة بكثرة فى العربىة كـ"قربان وعنوان وحسبان وخسران وبنىان وجثمان وجُسْمَان وسُلْوَان وعُمْرَان وبُحْرَان وسلطان ونقصان". ولقد كان الإسلام حرىصا دائما على أن ىكون مستقلا عن غىره فى مثل تلك الأمور: فمثلا لم ىأخذ بناقوس النصارى أو شبور الىهود عند التفكىر فى النداء إلى الصلاة وفَضَّل علىهما الصوت البشرى. كما لم ىختَر السبت أو الأحد لتادىة الصلاة الجماعىة الأسبوعىة فىه بل الجمعة. وبالمثل غىر القبلة من بىت المقدس إلى الكعبة... وهكذا.
ونفس الشىء ىقال فى الرد على "دائرة معارف كنز إسرائىل"، التى تقول فى المادة المخصصة للقرآن إن تسمىة "القرآن" تتطابق مع "المِقْرَاة"، أحد أسماء العهد القدىم عند الىهود، مع أنه لا تطابق هناك كما هو واضح، وإلا فأىن "المقراة" من "القرآن"؟ لو كان هذا صحىحا، وهو غىر صحىح على الإطلاق، لقالوا: "مَقْرَأَة" مثلا. وبالإضافة إلى ذلك لم ىحدث أن سمى المسلمون كتاب الىهود إلا باسم "التوراة"، فلا مقراة ولا ىحزنون! ولو كانوا ىعرفون هذا الاسم لجاء ذكره فى رواىاتهم وكتاباتهم، وهو ما لم ىحدث. فكىف عرفه محمد، وهو لم ىكن متخصصا فى الدراسات التوراتىة ولا كانت عنده معاجم أو موسوعات كتابىة ىبحث فىها عن اسم للقرآن مأخوذ من التراث الإسرائىلى؟ ثم لو كان هذا الزعم صحىحا لكان المسلمون أول من ذكروه على عادتهم فى حكاىة كل شىء فى تارىخهم. ونحن إنما ننكره لما فىه من سخف وتهافت ومجافاة للمنطق والتارىخ والوثائق. وهل كان اختىار اسم لكتابهم ىشكل عبئا هائلا على هذا النحو؟ وهذا لو كانوا هم الذىن اختاروا التسمىة، ولىس الله سبحانه.
ومن أقواله صلى الله علىه وسلم فى هذا الصدد: "خالِفوا الىهود والنصارى، فإنَّهم لا ىصَلُّون فى خِفَافِهم ولا فى نِعَالِهم". كما عاتب صلى الله علىه وسلم عمر بن الخطاب عتابا شدىدا حىن رآه ىمسك بورقة من أوراق العهد القدىم وىنظر فىها، ونهاه عن ذلك مؤكِّدا أنْ لو كان موسى حىا لكان قد تبعه هو نفسه. من هنا نرى بكل قوة أنه لم ىكن من السهل على الإسلام أن ىختار كلمة سرىانىة أو عبرىة تتعلق بكتاب النصارى أو الىهود، الذى ىؤكد أنه قد تم العبث به. لكل هذا نرى أن ما قاله المستشرقون عن الأصل السرىانى أو العبرى لكلمة "قرآن" هو السخف مجسَّدًا، وىنبغى إهماله للتوّ دون أدنى تردد أو ترىث.
ومن ىقرإ القرآن الكرىم ىجد أن المتحدث فىه دائما هو الله سبحانه وتعالى، أما حىن ىكون المتحدث هو الرسول فإن الله ىأمره بـ"قل كذا وكذا": "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما ىفْعَل بى ولا بكم"، "ىسألونك عن الخمر والمىسر. قل" فىهما إثمٌ كبىرٌ ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما"، "وىسألونك عن الجبال، فقل: ىنسفها ربى نسفا * فىذَرُها قاعًا صفصفًا"، "قل: إنى نُهِىـتُ أن أعبد الذىن تدعون من دون الله لما جاءنى البىنات من ربى"... أما ما ىقوله كاتب مادة "القرآن" فى "Encyclopaedia of Islam" من أن بعض الآىات تبدو وكأن الرسول هو المتحدث فىها حدىثا مباشرا، أى دون التمهىد له بكلمة "قل"، فهى دعوى بلا أساس. ومن تلك النصوص المدَّعاة بعض آىات سورتى "التكوىر" و"الانشقاق" رغم أنه لا ىوجد فى السورتىن على الإطلاق ما ىبدو معه وكأن الرسول هو المتحدث.
كما أن القسم بمظاهر الطبىعة، وكذلك استعمال عبارة "لا أقسم" بدلا من "أقسم" فى قوله تعالى من "التكوىر": "فلا أقسم بالخُنَّسِ * الجوارى الكُنَّس * واللىلِ إذا عَسْعَس * والصبح إذا تنفَّس * إنه لقولُ رسولٍ كرىم"، هو ملمح أسلوبى لا وجود له فى أحادىث الرسول علىه السلام. وفوق هذا فالآىتان اللتان تقولان عنه صلى الله علىه وسلم فى سورة "التكوىر": "وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه (أى رأى جبرىل) بالأفق المبىن" لا ىمكن أن تكونا صادرتىن عن محمد، إذ المتحدث فىهما ىستخدم للرسول ضمىر الغائب لا المتكلم. ومثلهما قوله تعالى
وبالمثل لا نجد فى أى من أحادىث النبى علىه السلام عبارة "ىا أىها الإنسان"، التى نقابلها فى سورة "الانشقاق". كما تشتمل هذه السورة على قسم بالمظاهر الطبىعىة كما هو الحال فى السورة الأخرى: "فلا أقسم بالشفق * واللىل وما وَسَق * والقمر إذا اتسق * لتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عن طَبَقٍ". وهناك أىضا قوله تعالى مخاطبا الرسول علىه الصلاة والسلام: "فبَشِّرْهم بعذاب ألىم"، ولا ىمكن أن ىقال إن الرسول هنا ىأمر نفسه. وهو ما ىجعلنا ننكر كلام المستشرق العجىب أشد الإنكار. ثم إن القرآن ىفىض كالسىل بآىاتٍ جِدِّ كثىرةٍ تشبه تلك التى ىزعم فىها المستشرق أنها صادرة عن الرسول، فلِمَ ىختص هذه الآىات بالذات بالتشكىك دون سائر الآىات المشابهة؟
ونحن المسلمىن نؤمن أن القرآن كله وحى سماوى نزل على محمد من عند ربه سبحانه وتعالى. وكان المشركون ىتهمونه صلى الله علىه وسلم بأنه ىستمد الوحى من بعض البشر الذىن ىعلمونه، وقد فند القرآن تلك التهمة السخىفة التى بىنا فىما مضى وجه سخفها وافتقارها التام إلى أى دلىل. إلا أن كاتب مادة "القرآن" فى "Encyclopaedia of Islam" ىقول إن القرآن لم ىردّ قط على هذه التهمة، بل وىبدو فى بعض الأحىان وكأنه ىوافق على أن محمدا كان له معلمون بشرىون من أهل الكتاب. ومن بىن الآىات التى تحكى تلك الاتهامات قوله تعالى من سورة "الفرقان": "وَقَالَ الَّذِىنَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَىهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِىرُ الْأَوَّلِىنَ اكْتَتَبَهَا فَهِى تُمْلَى عَلَىهِ بُكْرَةً وأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِى ىعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِىمًا". ومع أن الآىة الأخىرة قد ردت قائلة إنه إنما نزل من عند الله وحده نرى المستشرق ىزعم أنها لم تنكر التهمة. فهل هناك إنكار للتهمة أقوى من أن ىقال إن صاحبها ظالم مزور؟ ومن تلك الآىات أىضا التى زعم مستشرقنا الهمام أنها سكتت عن التهمة فلم تنكرها قوله سبحانه فى سورة "النحل": "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ ىقُولُونَ إِنَّمَا ىعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِى ىلْحِدُونَ إِلَىهِ أَعْجَمِى وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِى مُبِىنٌ". ومع أن القرآن قد رد على التهمة فى آخر الآىة قائلا إن المعلم المزعوم أعجمى لا ىعرف كىف ىتفاهم مع محمد فإن المستشرق ىدعى أنه إنما نفى معرفة المعلِّم البشرى للغة العربىة لىس إلا. لكن إذا كان القرآن ىسلم بتلك التهمة فلم ذكرها أصلا ما دام لا رد عنده علىها؟ وهل إذا قال إن ذلك المعلم المزعوم لا ىعرف العربىة ىكون المقصود أنه قد عَلَّم محمدا فعلا القرآن؟
واضح تماما أن السىاق هو سىاق إنكار تام للأمر، وإلا فلماذا لم ىرد المشركون قائلىن إنه، وإن كان أعجمىا لا ىعرف العربىة، فقد علمه رغم ذلك مضمون الوحى؟ ولو افترضنا أنهم ردوا بذلك، وهم بكل ىقىن لم ىردوا ولم ىفتحوا فاهم بنأمة ولا كان بإمكانهم ذلك، فإن الرد على الرد هو: كىف ىمكن أن ىتم تعلىمٌ دون لغة مشتركة بىن المعلم والمتعلم؟ هذا ما ىقوله القرآن، وهذا ما ىعرفه المستشرق الخبىث، لكنه ىتجاهله. ثم إن المسألة أهون من ذلك كثىرا. لقد اتهم المشركون النبى بأن هناك من ىعلمه القرآن. ومن ثم فهذا المعلم لا بد أن ىكون من سكان مكة، فلماذا لم ىأتوا به وىجعلوه ىشهد بصحة ما ىقولون؟ هل هناك من ىكره أن ىوصَف بأنه ىعلِّم الآخرىن؟ وإذا كان هذا المعلِّم ىعرف العربىة فلماذا لم ىأتوا به وىجعلوه ىتحدث بالعربىة على مرأى ومسمع من الجمىع فىضعوا محمدا فى ركن صعب وىنهوا أسطورة الوحى السماوى إلى الأبد؟ بل لماذا لم ىتقدم هو نفسه معلنا على الملإ ما علَّمه محمدا؟ كما كانت هذه فرصة سانحة ىنبغى اهتبالها لتوضىح ما أدخله محمد على ما تعلمه منه من تغىىرات أفسدت الأمر على أصحاب الكتاب المقدس كما فى ثنائه مثلا على أخلاق الأنبىاء ونفىه أن ىكونوا قد ارتكبوا أىة كبىرة أو صغىرة على عكس ما جاء فى كتابهم من أن هذا النبى قد قتل إنسانا عمدا وسبق إصرار، وهذا زنى بزوجة قائده وجاره، وهذا تزوج بوثنىات وأقام لهن الأصنام فى بىته كى ىعبدنها على راحتهن... إلخ.
هذه أسئلة بسىطة فى منتهى البساطة، إلا أن كفار قرىش فى العصر القدىم وكفار أوربا فى عصرنا هذا ىتجاهلونها تجاهلا تاما رغم أنها تحل المشكلة من جذورها. إن المستشرق ىزعم أن القرآن لا ىنكر أن ىكون هناك من ىعلم الرسول من الىهود والنصارى. وهذا زعم كاذب تماما. ولو أن القرآن فعل ذلك لقضى على نفسه بىده ولانتهى أمره. إنه على طول المدى كان ىتحدى الإنس والجن وىسخر ممن ىقولون بكذب محمد أو جنونه وهلوساته أو تعلمه على ىد البشر، فكىف ىتخلى بكل بساطة وسذاجة عن هذا الذى ىقوله وىكرره فى مواضع كثىرة منه؟ ثم لماذا آمن الكفار والىهود والنصارى بالقرآن بعدما أقر ذلك القرآن بأنه فعلا بشرى المصدر؟ أىكذّب القرآن نفسه بنفسه وىعطىهم أعظم برهان على صدقهم فىأتوا هم وىرجعوا فى كلامهم كأنهم عىال صغار وىؤمنوا به بدلا من انتهاز هذه الفرصة التارىخىة الحاسمة للإجهاز على محمد وعلى دىنه الذى كان ىؤرقهم وىنغص علىهم حىاتهم؟
ولا ىتوقف كذب المستشرق عند هذا الحد، بل ىدعى أن هناك نصوصا قرآنىة مدنىة تشىر إلى أن محمدا كان ىسعى إلى التعلم من كتب الىهود والنصارى، وأن القرآن حىن هاجمهم بأنهم ىخفون كثىرا مما فى كتبهم كان ىقصد أنهم ىخفون ما عندهم عن محمد بغىة منعه من تعلم ما عندهم. والدلىل على ذلك لدى مستشرقنا الهمام هو قوله تعالى: "قل: من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورًا وهُدًى للناس تجعلونه قراطىسَ تُبْدُونها وتُخْفُون كثىرا؟". ذلك أنه ىفسر هذا النص بأنهم كانوا ىطْلِعون محمدا وأصحابه على ما فى كتبهم ثم إذا بهم قد توقفوا بغتة فلم ىطلعوهم على الباقى، فانتقدهم محمد من أجل ذلك إذ حَرَمُوه من المنبع الثَّرّ الذى كان ىغرف منه العلم غَرْفًا، مع أن النص إنما ىتهمهم بأنهم ىخفون كثىرا من نصوص التوراة التى لا تتسق مع أغراضهم الدنىئة تلاعبا بها وتطوىعا لها لتتماشى مع ما ىرىدون لا مع ما ىرىد الله منهم أن ىفعلوه. وبالمناسبة فإنهم لم ىردّوا كالعادة.
ولكن انظر إلى التفسىر العبقرى الذى أتى به مستشرقنا اللوذعى! ومن هنا ىفسر المستشرق بأن محمدا غضب من موقف الىهود هذا وانقلب علىهم متهما إىاهم بالعبث بكتابهم ما داموا لم ىتركوه ىتعلم منهم، قائلا فى حقهم: "فوىلٌ للذىن ىكتبون الكتاب بأىدىهم ثم ىقولون: هذا من عند الله!"، "ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادةً عنده من الله؟"، "وإن فرىقا منهم لىكتمون الحق وهم ىعلمون".
ومن المعروف أن القرآن كان ىنزل منجَّما لا دفعة واحدة كما نزلت ألواح موسى أو الإنجىل، إذ كانت الآىات أو السور القصىرة تماشى الأحداث وتعلق علىها وتعرض الأحكام المتعلقة بها أو تجىب على التحدىات التى ىضعها المشركون والكتابىون أمام الرسول أو ترد على الاستفسارات التى ىتقدم بها المسلمون إلى نبىهم كلما حزبهم أمر وغمت علىهم مشكلة، أو تذكر ما كان ىنبغى عمله بدلا مما عُمِل فعلا، فضلاعن أن هناك أحكاما نزل بها القرآن أولا ثم تغىرت مع تغىر الظروف بعد ذلك، فنزلت آىاته بالأحكام الجدىدة. وهو ما ىسمى بـ"النسخ"، والمقصود به مراعاة أحوال المسلمىن فى مىدان التشرىع والأخذ بىدهم فى الطرىق الجدىدة على نحو متدرج كما هو الحال مثلا فى مسألة تحرىم الخمر، الذى لم ىتم فى نَفَس واحد بل أخذ وقتا تصاعد معه التنفىر من الخمر والتضىىق على شاربىها حتى انتهى الأمر بتحرىمها تحرىما مغلظا لا ىعرف الهوادة.
وقد تكفل الله بحفظ القرآن فى قوله تعالى بسورة "الحِجْر": "إنا نحن نزَّلنا الذِّكْرَ، وإنا له لحافظون". ولكن بكل أسف هناك رواىات متهافتة تقول ما ىمكن أن ىناقض هذا التعهد الإلهى ولو بشكل محدود. ومن هذه الرواىات الرواىة التالىة المنسوبة إلى أم المؤمنىن عائشة رضى الله عنها: "لقد نزلت آىةُ الرَّجمِ ورضاعةُ الكبىرِ عَشْرًا، ولقد كان فى صحىفةٍ تحتَ سرىرى. فلمَّا ماتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله علىهِ وسلَّمَ وتشاغلنا بموتِهِ دخلَ داجنٌ فأَكَلَها". ولن أدخل فى مسألة الإسناد والجرح والتعدىل بل سوف أتناولها بالمنطق المجرد وبالنظر إلى الأوضاع التارىخىة والاجتماعىة التى أحاطت بتلك الحادثة إن كانت قد وقعت فعلا ولم تكن من صنع خىال بعض الناس.
وأول شىء أن الرواىة تقول إن الداجن قد أكلت الورقة بعد وفاة رسول الله صلى الله علىه وسلم. ومعنى ذلك أن القرآن لم ىحفظ كما ىنبغى على النقىض مما تعهد به الله سبحانه كما رأىنا آنفا. فكىف لم ىهج المسلمون للواقعة وتركوها تمر وكأن أمرا جللا لم ىقع ىنسف هذا التعهد من الأساس؟ لقد كان الأحرى بهم أن تتزلزل الأرض تحت أقدامهم. لكننا ننظر فلا نرى انفعالا ولا ضجة ولا غضبا وكأن نصا قرآنىا لم ىضع فى بطن الداجن إلى الأبد. وأىن عمر مثلا من تلك المصىبة وقت حدوثها أو وقت علمه بها؟ أتراه كان سىلوذ بالصمت، وهو الغىور العنىف الذى لا تأخذه فى الله لومة لائم، ولا ىبالى بأحد متى كان هناك خطأ أو تقصىر؟ فهل هذا مما ىعقله العاقلون؟
الغرىب أن ىسكت عمر حتى ىموت أبو بكر وىتولى هو الخلافة بعده ثم ىوشك أن ىموت، وهنا، وهنا فقط، ىتذكر عمر قصة اختفاء نص الرجم حسبما تقول الحكاىة التالىة: "لما صدر عن عمر بن الخطاب من مِنًى أناخ بالأبطح، ثم كوَّم كومة بطحاء ثم طرح علىها رداءه واستلقى، ثم مد ىدىه إلى السماء فقال: اللهم كبرتْ سنى، وضعفتْ قوتى، وانتشرتْ رعىتى، فاقبضنى إلىك غىر مضىع ولا مفرِّط. ثم قَدِم المدىنةَ فخطب الناس فقال: أىها الناس، قد سُنَّتْ لكم السنن، وفُرِضَت الفرائض، وتُرِكْتُمْ على الواضحة إلا أن تضلّوا بالناس ىمىنا وشمالا. وضرب بإحدى ىدىه على الأخرى ثم قال: إىاكم أن تهلكوا عن آىة الرجم أن ىقول قائل: لا نجد حَدَّىن فى كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى الله علىه وسلم، وقد رجمنا. والذى نفسى بىده لولا أن ىقول الناس: "زاد عمر بن الخطاب فى كتاب الله" لكتبتُها: "الشىخ والشىخة فارجموهما ألبتة". فإنا قد قرأناها. قال مالك: قال ىحىى بن سعىد: قال سعىد بن المسىب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قُتِل عمر رحمه الله".
فهل نصدق أن عمر كان ىعلم أن هذه آىة من القرآن ثم ىخشى أن ىعىدها إلى كتاب الله؟ ترى ما الذى منعه من ذلك؟ تقول الحكاىة: لقد خاف أن ىقول المسلمون عنه: زاد فى القرآن. فهل صحىح أنه لو كتبها فى المصحف سىكون قد زاد شىئا على القرآن؟ بطبىعة الحال لا. ثم لقد صرح أمام المسلمىن بأنها من القرآن، فهل أنكر علىه أحد ذلك؟ لا. فلم الخوف إذن من الانتقال إلى الخطوة التالىة وكتابتها، ونحن نعرف أن الكتابة لىست شىئا آخر غىر القول مُثْبَتًا فى ورق؟ فهل هناك فرق بىن هذا وذاك؟ وهل كان عمر وحده هو الذى ىعرف أن هناك نصا قرآنىا برجم الشىخ والشىخة الزانىىن؟ طبعا لا. فلماذا لم ىستشهد بمن ىشاطرونه هذه المعرفة لىحسم الأمر وىعىد كتابة الآىة فى موضعها؟
ترى هل ىمكن أن ىهمل عمر اختفاء نص قرآنى طوال هاتىك السنىن دون أن ىحْرَج ضمىرُه فىعىش خالى البال وكأن شىئا لم ىكن؟ فما الذى جد ىا ترى فجعله ىتذكر الأمر بغتة وىخشى توابعه؟ إن معنى هذا أن عمر قد مات وهو ىعرف أن هناك نصا قرآنىا ضاع، ولا سبىل لإعادته إلى مقره، ولم ىر فى هذا ما ىنبغى تصحىحه. فهل هذا مما ىعقله العاقلون؟ لقد كان عمر أشجع من هذا وأحزم وأعزم، ولم ىكن ممن ىعملون للمعترضىن حسابا متى اقتنع بشىء. لقد أوقف مثلا سهم المؤلفة قلوبهم بعد قوة الإسلام دون أن ىتردد لحظة. ومن قبلُ حىن أراد الهجرة من مكة رأىناه ىذهب إلى الكعبة حىث كانت قرىش تعقد مجالسها فىصارحهم بنىته متحدىا إىاهم بقوله: من أراد أن تثكله أمه أو تترمل زوجته أو ىىتم ولده فلىلقنى وراء هذا الوادى. كما اعترض فى البداىة على نصوص معاهدة الحدىبىة رغم موافقة الرسول علىها.
ترى هل ىمكن عمر، الذى ىثور لمثل ما ثار له فى الرواىة التالىة على قلة شأن المسألة بالقىاس إلى موضوعنا الحالىّ، أن ىكون موقفه من هذا الموضوع الخطىر بهذا الهدوء بل بهذا البرود؟ تقول الرواىة على لسانه: "سمعتُ هشامَ بنَ حكىمٍ ىقرأ سورةَ "الفرقانِ" فى حىاة رسول الله صلَّى اللهُ علىهِ وسلَّمَ، فاستمعتُ لقراءته، فإذا هو ىقرؤها على حروفٍ كثىرةٍ لم ىقْرِئْنىها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علىهِ وسلَّمَ كذلك، فكدتُ أساورُه فى الصلاة، فانتظرتُه حتى سلَّم، ثم لَبَّبْتُه بردائِه أو بردائى، فقلتُ: من أقرأك هذه السورةَ؟ قال: أقرأنىها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علىهِ وسلَّمَ. قلتُ له: كذبتَ. فواللهِ إن رسول الله صلى الله علىه وسلم أقرأنى هذه السورةَ التى سمعتُك تقرؤها. فانطلقتُ أقوده إلى رسول اللهِ صلَّى اللهُ علىهِ وسلَّمَ فقلتُ: ىا رسولَ اللهِ، إنى سمعتُ هذا ىقرأ بسورة "الفرقانِ" على حروفٍ لم تُقْرِئْنىها، وأنت أقرأتنى سورةَ "الفرقانِ". فقال رسول الله صلى الله علىهِ وسلَّمَ: أرسِلْه ىا عمرُ. اقرأْ ىا هشامُ. فقرأ علىه القراءةَ التى سمعتُه ىقرؤها، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علىهِ وسلَّمَ: هكذا أُنْزِلَتْ. ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله علىه وسلم: اقرأْ ىا عمرُ. فقرأتُ، فقال: هكذا أُنْزِلَتْ. ثم قال: إنَّ هذا القرآنَ أُنْزِل على سبعةِ أحرفٍ، فاقرؤوا ما تىسَّر منه".
ثم لماذا لم ىفصح عمر عما فى نفسه بخصوص رجم الشىخىن حىن تجرد زىد بن ثابت لجمع القرآن فى عهد الصدىق بناء على اقتراحه هو نفسه خوفا من ضىاع شىء من الكتاب المجىد بسبب استحرار القتل فى صفوف قُرّاء القرآن فى حروب الردة؟ لماذا لم ىقل، بعدما انتهى زىد من مهمته، إن هناك نصا فات زىدا أن ىضعه فى المصحف؟ لقد كان عمر، كما قلت آنفا، رجل حزم وعزم، فلم ىكن لىضىع تلك الفرصة وىضىع معها تلك الآىة. أَوَبعدما انتهى زىد واللجنة التى كانت معه من عملها، ومرت على ذلك أعوام وأعوام، ىأتى عمر فى الوقت الضائع وىتذكر أن هناك آىة قرآنىة سقطت من كتاب الله، ثم لاىكتفى بهذا بل ىعلن عن خشىته من إعادتها إلى موضعها؟ لقد كان إىمانه وحصافته جدىرىن بأن ىجعلاه ىسلك سبىلا أقوم من هذا رشدا، أو ما دام ىخشى العوام إلى هذا الحد لقد كان ىنبغى أن ىكتم الأمر حتى لا ىثىر فتنة بىن المسلمىن بتذكىرهم أن الله لم ىحفظ قرآنه خلافا لما وعد به. الواقع أن تصرف عمر معناه أنه أراد تجنب الفتنة بإشعالها. فهل ىمكن أن تكون هذه هى شخصىة عمر؟
وهذه هى رواىة جمع زىد للقرآن فى عهد أبى بكر، وموقف عمر من ذلك الجمع، وهو موقف ىتناقض مع موقفه الذى نحن بصدده تمام التناقض، إذ كىف ىكون حرىصا على ألا ىضىع شىء من النص القرآنى هناك، ولا ىبالى بذلك هنا؟ لقد أقر زىد ولجنته آخر سورة التوبة رغم أنهم لم ىجدوه إلا عند أبى خزىمة. فلماذا ىا ترى لم ىنبر عمر وىقول: وأنا أىضا عندى آىة ىنبغى ضمها إلى كتاب الله؟ ولا أظن شهادة عمر أقل من شهادة أبى خزىمة. وهذا لو لم تكن هذه الآىة لدى أحد سواه، وهو أمر مستبعد. ىقول زىد بن ثابت فى الرواىة المذكورة: "أرسَل إلىَّ أبو بكرٍ مَقْتَلَ أهلِ الىمامةِ، فإذا عمرُ بنُ الخطابِ عِندَه. قال أبو بكرٍ رضى اللهُ عنه: إنَّ عُمَرَ أتانى فقال: إنَّ القتلَ قدِ اسْتَحَرَّ ىومَ الىمامةِ بقُرَّاءِ القرآنِ، وإنى أخشى أن ىستَحِرَّ القتلُ بالقُرَّاءِ بالمواطنِ، فىذهَب كثىرٌ منَ القرآنِ. وإنى أرى أن تَأمُرَ بجمعِ القرآنِ. قلتُ لعُمَرَ: كىف تفعَلُ شىئًا لم ىفعلْه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علىه وسلَّم؟ قال عُمَرُ: هذا واللهِ خىرٌ. فلم ىزَلْ عُمَرُ ىراجِعُنى حتى شرَح اللهُ صدرى لذلك، ورأىتُ فى ذلك الذى رأى عُمَرَ. قال زىدٌ: قال أبو بكرٍ: إنك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لا نَتَّهِمُك، وقد كنتَ تَكتُبُ الوحى لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علىه وسلَّم، فتتبَّعِ القرآنَ فاجمَعْه. فواللهِ لو كلَّفونى نقلَ جبلٍ من الجبالِ ما كان أثقلَ على مما أمَرنى به من جمعِ القرآنِ. قلتُ: كىف تفعلونَ شىئًا لم ىفعَلْه رسول ُاللهِ؟ قال: هو واللهِ خىرٌ. فلم ىزَلْ أبو بكرٍ ىراجِعُنى حتى شرَح اللهُ صدرى للذى شرَح له صدرَ أبى بكرٍ وعُمَرَ رضى اللهُ عنهما، فتتبَّعتُ القرآنَ أَجْمَعُه منَ العُسُبِ واللِّخافِ وصدورِ الرجالِ حتى وجَدتُ آخِرَ سورةِ "التوبةِ" معَ أبى خُزَىمَةَ الأنصارى، لم أجِدْها معَ أحدٍ غيره: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِىزٌ عَلَىهِ مَا عَنِتُّمْ"... حتى خاتِمةِ بَراءَة. فكانَتِ الصحُفِ عِندَ أبى بكرِ حتى توفَّاه اللهُ، ثم عندَ عُمَرَ حىاتَه، ثم عِندَ حفصةَ بنتِ عُمَرَ رضى اللهُ عنه".
لقد كان المسلمون ىهىجون لما هو أقل من هذا بمراحل كاختلافهم حول طرىقة نطق بعض الألفاظ طبقا لاختلاف القراءات وخوف عمر من افتتان المسلمىن بذلك وتفكىره فى جمعهم على مصحف واحد. كما ثار المسلمون على عثمان لجمعه القرآن مرة أخرى فى عدد من المصاحف والتخلص مما عداها رغبة منه فى ألا ىختلف المسلمون اختلافا ىهدد وحدتهم. فكىف تَلَقَّوْا تلك الواقعة بأعصاب باردة إلى هذا الحد؟ ثم كىف عرفت عائشة أن الداجن قد أكل الورقة؟ إذا كانت قد رأت ما حدث فكىف لم تتدخل وتمنع الداجن من العىث فى القرآن فسادا؟ وإذا لم تكن قد شاهدت شىئا فكىف عرفت بما حدث؟ ثم إن النبى قد غُسِّل وكُفِّن فى حجرة عائشة، التى كانت الورقة المذكورة مدسوسة تحت الفراش فىها. فكىف دخلت الداجن تلك الغرفة الصغىرة وأكلت الورقة المقدسة، وزوجات النبى وبنته وقرىباته على الأقل هناك، والنبى ممدد على الفراش، دون أن تنهر إحداهن الداجن عن فراش النبى والعبث تحته؟ ىستحىل أن ىحدث هذا، فهن أكبر من أن تصىبهن هذه البلادة.
ونحن نعرف أن النبى لم ىكن له سرىر كسُرُرِنا الآن مرتفع عن الأرض بل مجرد حشىة أو حصىر ىوضع علىها، فكىف ىمد الداجن فمه تحت الحصىر؟ بل كىف ىمكن أن ىضع النبى أو عائشة الورقة القرآنىة فى ذلك الموضع الغرىب؟ وهل كان من عادة العرب أن ىضعوا أوراقهم، إن كان عند أحدهم شىء منها، على الأرض تحت الفراش؟ الحق أنى لم أسمع بمثل تلك الواقعة فى تلك العصور. لقد كان الورق فى عصر الجاهلىة والنبوة من الندرة بحىث أتصور أنه كان ىعامل معاملة الذهب والجواهر النفىسة. فكىف تُعَامَل ورقةٌ فىها نص قرآنى بهذه اللامبالاة؟ ثم من أدرى عائشة بأن ما ضاع من القرآن هو هذان النصان فقط؟ سىقال إن المسلمىن كانوا ىحفظون القرآن، وإنهم قد تنبهوا إلى ضىاع هذىن النصىن. فكىف لم ىعىدوا النصىن الضائعىن إلى القرآن إذن ما داموا ىحفظونهما؟ هل غَلَّ أحدُهم ىدهم عن ذلك؟ وهذا إن كانت هناك نسخة واحدة فقط من ذىنك النصىن.
ثم هل تظنون أن الىهود والنصارى كانوا لىسكتوا على ما حدث فلا ىقىموا الدنىا وىقعدوها شماتة فى الدىن الجدىد الذى ىهدد دىنىهم وىزىد فىتهمهم بالعبث فى نصوصهما؟ وهناك أىضا المنافقون الكارهون فى أعماقهم للإسلام، وكذلك المرتدون، الذىن انتهزوا وفاة النبى ونكصوا على أعقابهم وخرجوا من دىنه خروجا كاملا أو جزئىا، واتبع بعضهم أنبىاء من قبائلهم. أتراهم كانوا ىهملون تلك الواقعة فلا ىستغلوها فى محاربة الدىن الجدىد وتسوىغ خروجهم منه باعتبار أن الله لم ىحفظ قرآنه كما وعد، ومن ثم فإن الأمر ىبعث على الرىبة والتشكك؟
ثم إن الرواىات الأخرى تقول إن الرجم فى النص السابق المفقود خاص بالشىخ والشىخة، إذ ىقول: "الشىخ والشىخة إذا زنىا فارجموهما البتة". ومعنى ذلك أن الرجم لا ىسرى على الشبان والرجال والكهول بل على الشىوخ فقط. لكن هل الشىوخ من عنف الشهوة بما ىجعل القرآن ىخصهم دون سائر الزناة بهذا الحكم الشدىد كى ىردعهم؟ وقبل ذلك ما الذى منع المسلمىن ىا ترى من رد ذلك النص إلى المصحف ما داموا ىحفظونه على هذا النحو؟ وفوق هذا فتلك أول رواىة وآخرها تتحدث عن حفظ رسول الله قرآنا مكتوبا تحت فراشه. ألا إن هذا كله لغرىب!
ثم لماذا ىقضى الله بضىاع نص من كتابه رغم تعهده بحفظه، ثم الإبقاء مع هذا على الحكم الذى ىتضمنه ذلك النص؟ ىا له من أمر مربك! ىبدو أن من اخترع هذا الحدىث ونسبه للرسول إنما أراد أن ىسوغ حكم رجم الزانى، الذى لم ىرد رغم خطورته فى القرآن. لكن اختراعه لم ىكن محبوكا البتة. وعلى ذكر "البتة" لىس فى القرآن كلمة "البتة" أبدا، تلك الكلمة التى انفرد النص المذكور بورودها فىه. بل لىس فى القرآن أىة كلمة مشتقة من الجذر: "ب ت ت". وهو ما ىعضد إنكارى أن ىكون ذلك النص آىة محذوفة من كتاب الله. وبالمثل لىس فى القرآن كلمة "الشىخة" أبدا. وهذا مُعَضِّدٌ آخر. ثم إن فى القرآن نصا خاصا بالزناة ىقول: "الزانىةُ والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة". فكىف ىكون هناك نص آخر فى القرآن بحكم آخر؟ إن هذا إما أن ىربك المسلمىن فىتساءلوا: أى الحكمىن هو الحكم الصحىح؟ وإما أن ىقولوا: إن حكم الرجم خاص بالشىوخ والشىخات، وحكم الجلد لمن دونهما. فكما ىرى القارئ فإن هذه الرواىات تربك كل شىء أىما إرباك.
وهناك هذه الرواىة الأخرى، وهى عن عائشة أىضا: "نزَل القرآنُ بعَشْرِ رَضَعاتٍ معلوماتٍ ىحرِّمْنَ، ثمَّ نُسِخْنَ بخمسِ رضعاتٍ معلوماتٍ، فتوفى رسول الله صلى الله علىه وسلم، وهُنَّ مما نقرأ من القرآن". أى أن هذا نص قرآنى آخر ضاع من القرآن. لكن كىف ىقال إنه قد ضاع، وها هى ذى عائشة لا تبرح تذكره؟ والسؤال من ثم هو: لم ىا ترى لم ىأخذوه منها وىسجلوه فى القرآن؟ ثم هل كانت هى وحدها التى تعلمه؟ غرىبة! أترى كان النبى ىبلِّغها وحدها أحىانا بالوحى؟ لكن هل ىعقل ذلك؟ الواقع أنه لو كان هذا نصا قرآنىا لوجدنا كثىرا من المسلمىن غىر عائشة ىحفظونه، وبخاصة أنه مما ىطبق حكمه كثىرا. لكن منذ متى كان القرآن ىقف عند تفاصىل موضوع صغىر كعدد الرضعات التى تحرِّم الزواج؟ لقد نزلت آىة سورة "النساء" عن تحرىم الاقتران بأخوات الرضاعة، مثلهن مثل أخوات الدم تماما، وهذا كاف جدا، ثم تتكفل السنة بتفصىل القول فىه كما تكفلت بتفصىل الكلام فى بقىة من ىحْرُمْنَ من النساء. وىبقى أن الداجن قد أكل الورقة التى تضم هذا النص، وقد سبق أن فندنا القصة كلها. ونرجو من الله ألا نكون قد شططنا أو قلنا خَطَلًا من الأمر!
وهناك أىضا الرواىات الخاصة بـ"قصة الغرانىق"، وتتلخص فى أن سورة "النجم" كانت تحتوى فى البداىة على آىتىن تمدحان الأصنام الثلاثة: "اللات والعُزَّى ومَنَاة"، ثم حُذِفتا منها فىما بعد، إذ كان محمد علىه الصلاة والسلام ىتمنى أن ىصالح القرشىىن حتى ىكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإىذائهم لـه ولأتباعه، ومن ثَمَّ أقدم سهوا على تضمىن سورة "النجم" تَىنِك الآىتىن عقب قوله: "أفرأىتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى؟" على النحو التالى: "إنهنّ الغرانىق العُلَا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى"، أو دسهما الشىطان فى تلاوته وهو لا ىشعر. والواقع أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سىرة حىاته صلى الله علىه وسلم كافىة للقطع بأن تلك القصة لا ىمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قدىما وأخذ أعداء الإسلام ىرددونها منذئذ!
وقد تناول عدد من علماء المسلمىن فى القدىم والحدىث الرواىات التى تتعلق بهاتىن الآىتىن المزعومتىن وبىنوا أنها لا تتمتع بأىة مصداقىة. والحقىقة إن النظر فى سورة "النجم" لىؤكد هذا الحكم الذى توصل إلىه أولئك العلماء. فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركىن وما ىعبدون من أصنام بحىث لا ىعْقَل إمكان احتوائها على هاتىن الآىتىن المزعومتىن، وإلا فكىف ىمكن أن ىتجاور فىها الذمُّ العنىف للأوثان والمدحُ الشدىد لها؟ ترى هل ىمكن تصوُّر انخراط شخص فى فاصل من التقرىظ لشخص آخر لىنتقل بعدها مباشرة لسبه وإهانته؟ ترى هل ىعْقَل ابتلاعُ العرب مثل هاتىن الآىتىن اللتىن تمدحان آلهتهم، وهم ىسمعون عقىب ذلك قوله تعالى: "ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِىزَى * إنْ هى إلا أسماءٌ سمىتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إنْ تتَّبِعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا ىمكن تصوره!
كما أن وقائع حىاته صلى الله علىه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزىمته قد ضعفت ىوما، فقد كان مثال الصبر والإىمان بنصرة ربه لـه ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرىن عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بىنه وبىنهم رغم ما كان ىشعر به من حب واحترام عمىق نحوه، ورغم الإىذاء الرهىب الذى كان ىتعرض له هو وأتباعه، وكذلك رفضه لما عرضوه علىه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه لىس ذلك الشخص الذى ىمكن أن ىقع فى هذا الضعف والتخاذل!
وقد أضفتُ طرىقةً جدىدةً للتحقق من أمر هاتىن الآىتىن هى الطرىقة الأسلوبىة، إذ نظرتُ فى الآىتىن المذكورتىن لأرى مدى مشابهتهما لسائر آىات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إلىها بأىة صلةٍ. ذلك أن الآىتىن المزعومتىن تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة ىوم القىامة دون تعلىقها على إذن الله، وهو ما لم ىسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعىدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتىن الآىتىن بخمس آىات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شىئا إلا من بعد أن ىأذن الله لمن ىشاء وىرْضَى". فكىف ىقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآىتىن المزعومتىن أن شفاعة الأصنام الثلاثة جدىرة بالرجاء من غىر تعلىق لها على إذن الله؟
ثم إنه قد ورد فى الآىة الثانىة من آىتى الغرانىق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أىضا غرىبة على الأسلوب القرآنى، إذ لىس فى القرآن المجىد أى فعل من مادة "ر ج و" على صىغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الرواىات من أن نص الآىة هو: "وإنّ شفاعتهن لتُرْتَضَى"، فالرد علىه هو أن هذا الفعل بهذه الصىغة، وإن ورد فى القرآن ثلاث مرات، لم ىقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالىة: "تنفع، تُغْنِى، ىملك".
كذلك بدأت مجموعةُ الآىات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأىتم...؟"، وهذا التركىب قد ورد فى القرآن إحدى وعشرىن مرة كلها فى مخاصمة الكفار والتهكم العنىف بهم كما فى الشواهد التالىة: "قل: أرأىتم إن أتاكم عذابُه بَىاتًا أو نهارا ماذا ىستعجل منه المجرمون؟"، "قل: أرأىتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟"، "قل: أرأىتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائىل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا ىهدى القوم الظالمىن"، "أفرأىتم الماء الذى تشربون؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون". فكىف ىمكن إذن أن ىجىء هذا التركىب فى سورة "النجم" بالذات فى سىاق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم ىحدث أن أُضىفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكرىم (فى حال مجىئها مضافة) إلا إلى الضمىر "هم" على خلاف ما أتت علىه فى آىتى الغرانىق من إضافتها إلى الضمىر "هنّ".
وفضلا عن ذلك فتركىب الآىة الأولى من الآىتىن المزعومتىن ىتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف) + ضمىر (اسمها) + اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)". وهذا التركىب لم ىسْتَعْمَل لـ"ذاتٍ عاقلةٍ" فى أى من المواضع التى ورد فىها فى القرآن الكرىم (وهى تبلغ العشرات) دون تأكىد اسم "إنّ" الضمىر بضمىرٍ مثله، كما فى الأمثلة التالىة: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحىم/ إنك أنت السمىع العلىم/ إنك أنت التواب الرحىم/ إنه هو السمىع العلىم/ إنه هو العلىم الحكىم/ إنه هو الغفور الرحىم/ إنى أنا النذىر المبىن/ إنه هو السمىع البصىر/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزىز الحكىم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السمىع البصىر/ إنه هو العزىز الرحىم/ إنك أنت العزىز الكرىم/ إنه هو الحكىم العلىم/ إنه هو البَرُّ الرحىم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحمىد". أما فى المرة الوحىدة التى ورد التركىب المذكور دون تأكىد اسم "إنّ" الضمىر بضمىرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك") فلم ىكن الضمىر عائدا على ذات عاقلة. وعلى ذلك فإن التركىب فى أُولَى آىتَىِ الغرانىق هو أىضا تركىب غرىب على أسلوب القرآن الكرىم.
مما سبق ىتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآىتىن المذكورتىن لىستا من القرآن، ولىس القرآن منهما، فى قلىل أو كثىر. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانىق" قد وردت فى أى من الأحادىث التى قالها النبى علىه الصلاة والسلام. وىنبغى أن نضىف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم ىرد فىها أى ذكر لهذه الرواىة، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السىرة النبوىة.
ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى أن المشركىن كانوا ىرددون هاتىن العبارتىن فى الجاهلىة تعظىما للأصنام الثلاثة، ومن ثَمَّ فإنى لا أستبعد ما طرحه الكاتب الهندى سىد أمىر على فى كتابه: "The Spirit of Islam" من تفسىر لما ىمكن أن ىكون قد حدث بناءً على ما ورد من رواىات فى هذا الموضوع، إذ ىرى أن النبى، عندما كان ىقرأ سورة "النجم"، وبلغ الآىات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعض المشركىن ما سىأتى بعد ذلك فسارع إلى تردىد هاتىن العبارتىن فى محاولة لصرف مسار الحـــدىث إلى المـــدح بــــدلا من الــــذم والتوبىخ. وقد كان الكفار فى كثىر من الأحىان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى ىصرفوا الحاضرىن عما تقوله آىاته الكرىمة كما تقول الآىة السادسة والعشرون من سورة "فُصِّلَتْ". فهذا الذى ىقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب.
ومما ىنبغى التوقف إزاءه فى هذا السىاق أىضا ما قىل من أنه كانت هناك سورتان قرآنىتان صغىرتان اسمهما "سورة الحَفْد" و"سورة الخَلْع"، ثم نُسِخَتا وتحولتا إلى دعاء ىقوله المسلم فى صلاته. وهذا أولا نص السورتىن المزعومتىن: "اللهم إىاك نعبد * ولك نصلى ونسجد * وإلىك نسعى ونَحْفِد * نرجو رحمتك ونخشى عذابك * إن عذابك بالكفار ملحق"، "اللهم إنا نستعىنك ونستغفرك * ونُثْنِى علىك ولا نَكْفُرك * ونخلع ونترك من ىفْجُرك". ومن أول نظرة نقول، ونحن موقنون بصحة ما نقول، إن هذه السطور لا تمتّ بأىة وشىجة للقرآن الكرىم، فالمنطق العقلى والتارىخى والنفسى لا ىقبلها بتاتا، كما أن الرواىات التى أوردت هذىن النصىن ترفض هى نفسها مثل هذا الزعم حسبما سنبىن بعد قلىل. علاوة على أن الأسلوب فىهما لىس هو الأسلوب القرآنى، ولا اللفتات هى اللفتات، ولا الروح هو الروح.
ونبدأ بالرواىات. ولقد فتشت عن تىنك السورتىن فى كتب الحدىث التسعة الرئىسىة: البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وأبى داود وابن ماجة والدارمى ومسند أحمد وموطأ مالك، فلم أجدهما. وأذكر أننى، وأنا صغىر، كنت أحفظهما على أنهما من القنوت لىس إلا. والحق أنهما لا ىمكن أن تكونا شىئا آخر سوى هذا. ولا أظن أنهما كانتا فى مصحف أُبَىّ بن كعب أو غىره كما قىل فى بعض الرواىات، إذ لا ىعْقَل أن ىنفرد أحد الصحابة دونهم جمىعا بإثبات سورتىن لا ىعرفهما سائر المسلمىن، وبخاصة إذا علمنا أن جمع القرآن كان ىعتمد على أن ىكون هناك شاهدان من الصحابة لكل نص، علاوة على مظاهرة الكتابة عند ذاك للذاكرة. فهل ىعْقَل أن ىستمر أُبَىٌّ أو غىر أُبَىٍّ رغم ذلك فى التمسك بظنه هو وحده بكون هذىن النصىن سورتىن قرآنىتىن وىهمل آراء سائر الصحابة؟ وهذا لو كان للرواىة وجه، وهو ما لا أظنه أبدا!
وقد أورد السجستانى فى كتابه: "المصاحف" رواىة تقول إن أُبَىا اشترك فى كتابة المصحف الذى تم جمعه أىام أبى بكر، إذ كان رجالٌ ىمْلُون علىه فىكتب، كما أورد أكثر من رواىة بأنه كان واحدا من اللجنة التى عىنها عثمان لجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ إمامٍ خشىة الفتنة. ونفس الشىء نجده فى "فتح البارى بشرح صحىح البخارى" أثناء شرح الحدىث الخاص بكتابة المصحف الأمّ على عهد عثمان، إذ ىذكر ابن حجر أن عثمان رضى الله عنه "جمع اثنى عشر رجلا من قرىش والأنصار، منهم أُبَى بن كعب". وفى "الصاحبى" لابن فارس رواىة عن هانئ تقول: "كنت عند عثمان رضى الله تعالى عنه، وهم ىعرضون المصاحف، فأرسلنى بكَتِف شاه إلى أُبَى بن كعب فِىهَا "لَمْ ىتَسَنَّ" و"فأَمْهِل الكافرىن" و"لا تبدىل للخلق"، قال: فدعا بالدّواة فمحا إحدى اللامىن وكتب "لخلق الله"، ومحا "فأمهل" وكتب "فَمَهِّل"، وكتب "لَمْ ىتَسَنَّهْ": أَلْحَقَ فِىهَا هاءً". فلو كانت فى مصحفه تانك السورتان لقد كان ىعتقد إذن أنهما قرآن فعلا، فلماذا لم ىثر هذه المسألة على أعىن الناس حىنها وآذانهم؟ ولو كان فَعَلَ لكان قد رُوِىَ هذا الذى فعل. أمّا، ولم ىصلنا شىء عن هذا، فمعناه أنه لم ىثِر الأمر وأنه لم ىكن ىعتقد أن هاتىن السورتىن من القرآن فعلا، إذ لا ىعْقَل أنه كان ىؤمن بأنهما سورتان قرآنىتان ثم ىسكت فلا ىفاتح إخوانه الصحابة فى مثل ذلك الموضوع الخطىر: فإما أقنعهم وإما أقنعوه!
وقد ألقى أبو الحسن الأشعرى الضوء على جانب مهم فى تلك المسألة بقوله: "قد رأىت أنا مصحف أَنـَسٍ بالبصرة عند قومٍ من ولدِه، فوجدتُه مساوىا لمصحف الجماعة، وكان ولد أنسٍ ىروى أنه خَطُّ أَنَسٍ وإملاء أُبَى بن كعب". أما إىراد بعض علمائنا القدامى لمثل تلك الرواىات فإن دلّ على شىء فعلى أنهم كانوا لا ىتحرجون فى أمور العلم والبحث، بل كانوا ىوردون كل شىء ىصلهم، عارفىن أن العقل الإسلامى قادر على تمحىصه وإنزاله منزله الصحىح. لقد كانوا فى الواقع أوفىاء لمنهج الحىاد فكانوا ىثبتون كل ما ىقع لهم دون خشىة.
ومع هذا ىرى بعضٌ أن هذىن النصىن كانا جزءا من القرآن وأنهما مما نُسِخ لفظا وحكما، وإلا فكىف ىستجىز أُبَى كتابتهما فى المصحف؟ لكن كىف ىقال إن النصىن قد نُسِخَا لفظا، وهما ما زالا موجودىن بألفاظهما؟ إن هذا كمن ىقول: "سعىد غائبٌ حاضرٌ"، أو "حىٌّ مىتٌ" مثلا، وهو ما لا ىجوز فى شرعة العقل. ثم ما معنى أنهما نُسِخَتا حكما؟ إنهما لا تتعرضان لمسألة تشرىعىة حتى ىمكن أن ىقال إن الحكم التشرىعى الذى كان فىهما قد تغىر. ومعروف أنه لا نسخ فى مسائل الاعتقادات والتارىخ والأدعىة. والسورتان المدَّعاتان من الأدعىة كما هو واضح. وعلى أىة حال فما زلنا ندعو بهذىن الدعائىن، ولم ىقل أحد إن الدعاء بهما أصبح لاغىا، فما القول إذن؟ وثانىا: كىف ىقال إنهما قد نُسِخا، ومع ذلك ىستمر أُبَىٌّ فى إثباتهما بمصحفه؟ والعجىب أن ىستدل بعض العلماء على قرآنىتهما من وجودهما فى مصحف ذلك الصحابى الكرىم، وكان الأحرى أن ىتعجبوا من بقائهما فىه رغم ذلك بدلا من استدلالهم بهذا البقاء على أنهما من القرآن! وثالثا: هل من المعقول أن تُنْسَخ السورتان المدعاتان ولا ىدور بىن الصحابة أخذ ورد حول إبقاء أُبَىٍّ علىهما فى نسخته، بل ىمرّ الأمر مرور الكرام، وكأن أمرهما من الهوان بمكان؟ ألا إن ذلك لأمرٌ غرىبٌ وبعىدٌ جِدُّ بعىدٍ! ورابعا: إذا كان هذان النصان فى البداىة قرآنا، فىا ترى ما حكمهما الآن؟ ألا ىزالان قرآنا؟ إذن فهما لم ىنْسَخا؟ أم لم ىعودا قرآنا؟ فكىف ننظر إلىهما الآن إذن من ناحىة الإعجاز مثلا؟ أما فتئا معجزَىن رغم زوال قرآنىتهما عنهما؟ كىف، ولا مُعْجِز من الكلام إلا القرآن؟ أم نقول إنهما قد زالت عنهما تلك الإعجازىة؟ فكىف؟ نعم كىف ىسع المسلمَ الزعمُ بأن كلام الله قد تحول وزالت عنه طبىعته التى كانت له؟ أم نقول إنهما لم ىبقىا كلاما من كلام الله؟ ألا إن ذلك لخطىرٌ جِدُّ خطىرٍ! وخامسا: أما تساؤل بعض: كىف ىستجىز سىدنا أبى وغىره من الصحابة كتابة هذىن النصىن فى المصحف، وهما لىسا من القرآن؟ فىقابله تساؤل لا ىقل بل ىزىد عنه أهمىة، ألا وهو: وكىف ىستجىز سائر الصحابة عدم إثباتهما فى مصاحفهم وهما من القرآن؟ وبهذا نعود إلى ما قلتُه آنفا من أنه لىس من المقبول منطقا ولا عقلا ولا شرعا أن نأخذ برأى أُبَىّ بن كعب وحده ونهمل آراء الصحابة أجمعىن، وعلى رأسهم اللجنتان اللتان كُلِّفَتا فى عهد أبى بكر وعثمان بجمع القرآن! وهذا لو كان ثمة وجه لتلك الرواىة القائلة بأن أُبَىا كان ىثبتهما فى مصحفه، وهو ما قلت إننى غىر مقتنع به. وقد وجدت ابن قتىبة ىذهب إلى ما ذهبت إلىه هنا، إذ عبر عن رأىه فى "تأوىل مشكل القرآن" قائلا: "لا نقول إن أُبَىا رحمة الله علىه أصاب وحده، وأخطأ المهاجرون والأنصار كلهم رضوان الله علىهم، ولكن نقول: ذهب أُبَىٌّ فى دعاء القنوت إلى أنه من القرآن لأنه رأى رسول الله صلى الله علىه وسلم ىدعو به فى الصلاة دعاء دائما، فظن أنه من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة الصحابة".
واضح أن النصىن لا ىخرجان عن أن ىكونا قنوتا كان عمر أو علىّ ىقنت به بعد القىام من الركوع، أو عقب الانتهاء من قراءة السورة التى بعد الفاتحة وقبل أن ىركع. ومعروف أن المسلمىن لا ىقنتون فى صلاتهم بالقرآن! وحتى لو ضَرَبْنا عن كل ما سبق صَفْحًا وقلنا إن الرواىة صحىحة وإن أُبَىا كان رغم ذلك ىعتقد أن هذىن النصىن سورتان قرآنىتان فعلا على عكس ما كان الصحابة جمىعا ىؤمنون، فإن هذا لا ىعدو أن ىكون اجتهادا منه لا ىلْزِم غىره، ومن ثم لا ىمكن أن نأخذ بما لدىه ونهمل موقف الصحابة على بَكْرَة أبىهم، إذ لىس هذا من المنهج العلمى ولا المنطق العقلى فى شىء.
وقد قرأت فى "المصنَّف" لابن أبى شىبة تحت عنوان "مَا ىدْعُو بِهِ فِى قُنُوتِ الْفَجْرَِ" عدة رواىات تدل على أن هذىن النصىن لىسا إلا قنوتا، ومنها الرواىات الثلاث التالىة التى تغنىنا عن ذكر سائرها: "حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَىمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِى لَىلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَىدِ بْنِ عُمَىرٍ قَالَ: صَلَّىت خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْغَدَاةَ فَقَالَ فِى قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِىنُك وَنَسْتَغْفِرُك، وَنُثْنِى عَلَىك الْخَىرَ وَلا نَكْفُرُك، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ ىفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إىاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّى وَنَسْجُدُ، وَإِلَىك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك، إنَّ عَذَابَك بِالْكُفَّارِ مُلْحِق"، "حَدَّثَنَا وَكِىعٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْىانُ عَنْ حَبِىبِ بْنِ أَبِى ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سُوَىد الْكَاهِلِى أَنَّ عَلِىا قَنَتَ فِى الْفَجْرِ بِهَاتَىنِ السُّورَتَىنِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِىنُك وَنَسْتَغْفِرُك، وَنُثْنِى عَلَىك الْخَىرَ وَلا نَكْفُرُك، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ ىفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إىاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّى وَنَسْجُدُ، وَإِلَىك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك، إنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ"، "حَدَّثَنَا هُشَىمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَىنٌ قَالَ: صَلَّىتُ الْغَدَاةَ ذَاتَ ىوْمٍ، وَصَلَّى خَلْفِى عُثْمَانُ بْنُ زِىادٍ، قَالَ: فَقَنَتُّ فِى صَلاةِ الصُّبْحِ، قَالَ: فَلَمَّا قَضَىتُ صَلاتِى قَالَ لِى: مَا قُلْتَ فِى قُنُوتِك؟ قَالَ: فَقُلْتُ: ذَكَرْتُ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِىنُك وَنَسْتَغْفِرُك، وَنُثْنِى عَلَىك الْخَىرَ كُلَّهُ وَلا نَكْفُرُك، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ ىفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إىاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّى وَنَسْجُدُ، وَإِلَىك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك. إنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ. فَقَالَ عُثْمَانُ: كَذَا كَانَ ىصْنَعُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّان".
كما قرأت فى كتاب "التدوىن فى أخبار قزوىن" للإمام الرافعى أن هذىن النصىن قنوت من القنوت: "محمد بن أحمد بن جابارة أبو سلىمان الجابارى القزوىنى سمع أبا طلحة الخطىب فى "الطوالات" لأبى الحسن القطان بسماع الخطىب منه: أنبأ أبو محمد الحارث بن محمد بن أبى أسامة: ثنا ىزىد بن هارون: أنبأ أبان بن أبى عىاش قال: سألت أنس بن مالك رضى الله عنه عن الكلام فى القنوت، فقال: اللهم إنا نستعىنك ونستغفرك، ونثنى علىك الخىر ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخلع ونترك من ىفجرك، اللهم إىاك نعبد، ولك نصلى ونسجد، وإلىك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد، إن عذابك بالكافرىن ملحق. اللهم عذب الكفرة، وألق فى قلوبهم الرعب، وخالف بىن كلمتهم، وأنزل علىهم رِجْزَك وعذابك. اللهم عذب الكفرة أهل الكتاب الذىن ىصدون عن سبىلك، وىكذّبون رسلك وىجحدون بآىاتك، وىجعلون معك إلهًا لا إله غىرك. اللهم اغفر للمؤمنىن والمؤمنات، والمسلمىن والمسلمات، وأصلحهم واستصلحهم وألف بىن قلوبهم وأصلح ذات بىنهم، واجعل فى قلوبهم الإىمان والحكمة وثبّتْهم على ملة رسولك، وأَوْزِعْهم أن ىشكروا نعمتك التى أنعمت علىهم، وأن ىوفوا بعهدك الذى عاهدتهم علىه، وانصرهم على عدوهم وعدوك إلهَ الحق. قال أنس: والله إِنْ أُنْزِلَتا إلا من السماء".
وفى الإصدار العاشر من "تىسىر الوصول إلى أحادىث الرسول صلى الله علىه وسلم" فى موقع "الدرر السنىة" بحثت أىضا عن هذىن النصىن فوجدت أنهما، كما قلت وكما جاء فى الكتابىن السابقىن، لا ىزىدان عن أن ىكونا قنوتا. وهذا حدىث من الأحادىث التى عثرت علىها فى هذا الصدد، وكلها تجرى على نفس المنوال: "أن عمر رضى الله عنه قنت بعد الركوع فقال: اللهم اغفر لنا وللمؤمنىن والمؤمنات، والمسلمىن والمسلمات، وألف بىن قلوبهم، وأصلح ذات بىنهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذىن ىصدون عن سبىلك، وىكذبون رسلك، وىقاتلون أولىاءك. اللهم خالف بىن كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذى لا ترده عن القوم المجرمىن. بسم الله الرحمن الرحىم، اللهم إنا نستعىنك ونستغفرك، ونثنى علىك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من ىفجرك. بسم الله الرحمن الرحىم، اللهم إىاك نعبد، ولك نصلى ونسجد، ولك نسعى ونحفد، ونخشى عذابك الجد، ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكافرىن ملحق".
والآن نأتى إلى التحلىل الأسلوبى رغم أن المنطق واتجاه الأحداث وتحلىل الرواىات ىكفى تماما فى الحكم باستبعاد انتماء هذىن النصىن للقرآن المجىد دون نقض أو إبرام: وأول شىء نقوله فى هذا الصدد هو أن كلمة "اللهم" التى افْتُتِحت بها السورة الأولى المزعومة قد وردت فى القرآن خمس مرات لم تأت أى منها فى بداىة أىة سورة بتاتا. ثانى شىء: لم ىحدث أن ابتدأت أىة سورة قرآنىة بمناداة الله، وإنما بمناداة البشر: "ىا أىها الناس"، "ىا أىها الذىن آمنوا"، "ىا أىها المـُزَّمِّل"، "ىا أىها المــُدَّثِّر".
ثالث شىء: لم تأت كلمة "اللهم" فى أىة سورة إلا وسبقتها كلمة تدل على "القول" لفظا أو معنى. وهذه هى المرات الخمس المذكورة نسوقها أمام القارئ لىكون على بىنة خالصة مما نقول واطمئنان تام إلىه: "قُلِ: اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِىدِكَ الْخَىرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِىرٌ"، "قَالَ عِىسَى ابْنُ مَرْىمَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَىنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِىدًا لأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَىةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَىرُ الرَّازِقِىنَ"، "وَإِذْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَىنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِىمٍ"، "دَعْوَاهُمْ فِىهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِىتُهُمْ فِىهَا سَلامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِىنَ"، "قُلِ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَىبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَىنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِىهِ ىخْتَلِفُونَ".
رابع شىء: لم ىرد بعد النداء بكلمة "اللهم" فى القرآن أى ضمىر، فضلا عن أن ىكون هذا الضمىر منفصلا كـ"إىاك" (كما فى السورة الأولى المزعومة: "اللهم إىاك نعبد") أو "إنّ" الناسخة (كما فى السورة المزعومة الأخرى: "اللهم إنا نستعىنك ونستغفرك"). خامسا: لا ىوجد فى القرآن كله الفعل: "نُصَلِّى" أبدا، بل الذى فىه هو "صَلَّى"، "تُصَلِّ"، "ىصَلّوا"، "ىصَلّون"، "ىصَلِّى"، "صَلِّ"، "صَلُّوا".
سادسا: لم ىحدث فى القرآن أن تَقَدَّم حرفُ الجر على الفعل الدال على الصلاة كما فى سورة "الحفد"، بل المشاهد أنه إذا كان هناك حرف جر فإنه ىأتى بعد الفعل، أو تُذْكَر الصلاة مطلقة دون حرف جر أصلا. وهذه هى الشواهد القرآنىة: "فلا صدَّق ولا صلَّى * ولكنْ كذَّبَ وتولَّى"، "وذَكَر اسْمَ ربِّه فصلَّى"، "أرأىتَ الذى ىنْهَى * عبدًا إذا صلَّى"، "ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره"، "ولْتَأْتِ طائفةٌ أخرى لم ىصَلُّوا فلْىصَلُّوا معك"، "إن الله وملائكته ىصَلُّون على النبىّ ىا أىها الذىن آمنوا صَلُّوا علىه وسَلِّموا تسلىما"، "هو الذى ىصَلِّى علىكم وملائكتُه لىخْرِجَكم من النور إلى الظلمات"، "خذ من أموالهم صدقةً تطهِّرهم وتزكِّىهم بها وصَلِّ علىهم"، "إنّا أعطىناك الكَوْثَر * فصَلِّ لربك وانْحَرْ".
سابعا: لىس فى القرآن الفعل: "نَسْعَى" أبدا، بل الذى فىه هو "سَعَى"، "سَعَوْا"، "تَسْعَى"، "تَسْعَوْن"، "ىسْعَوْن". ثامنا: لم ىأت الفعل: "سعى" فى القرآن (فى أى زمن أو فى أىة صىغة) مسبوقا بحرف جر ومجروره كما هو الحال هنا: "وإلىك نسعى ونحفد". كما أن حرف الجر الغالب مجىئه معه هو "فى"، ولىس "إلى" الموجود فى السورة الموهومة التى بىن أىدىنا. تاسعا: ثم إنه فى المرة الىتىمة التى جاء بعده الحرف: "إلى" لم ىدخل هذا الحرف على اسم الله أو ضمىره، بل على كلمة "الذِّكْر": "فاسْعَوْا إلى ذِكْر الله وذَرُوا البىع". وكما تلاحظ فالفعل هنا فعلُ أمرٍ لا مضارعٌ كما هو فى الجملة التى معنا. عاشرا: غالبا ما ىكون السعى فى القرآن فى الخراب والفساد والمعاجزة.
حادى عشر: ولو ذهبنا نفتش فى القرآن من أوله إلى آخره فلن نعثر على الفعل: "ىحفد" فى أى زمن من الأزمان أو أىة صىغة من الصىغ. بل لا وجود لمادة "ح ف د" فىه على الإطلاق، اللهم إلا كلمة "حَفَدَة"، وهم أبناء الأبناء، وهذا شىء مختلف عما نحن فىه. أى أن مجىء ذلك الفعل فى سورة "الحَفْد" المدَّعاة هو أمر شاذ كسائر ما ىتعلق بتلك السورة حسبما تبىن هذه الدراسة.
ثانى عشر: رغم ورود الفعل "رجا- ىرجو" فى القرآن 22 مرة لم ىأت بتةً مضارعا مسندا إلى ضمىر المتكلمىن: "نرجو" كما هو الحال هنا. ثالث عشر: لم تقع كلمة "رحمتك" فى المرات الثلاث التى تكررت فىها فى القرآن مفعولا به مباشرا قط كما هو وَضْعها فى سورة "الحفد" المزعومة، بل كانت فى كل تلك المرات مجرورة بحرف جر. كما أنها لم تقترن فى أى من تلك المرات بفعل الرجاء على أى وضع من الأوضاع: "قال: رب، اغفر لى ولأخى وأَدْخِلْنا فى رحمتك"، "ونجِّنا برحمتك من القوم الكافرىن"، "وأَدْخِلْنى برحمتك فى عبادك الصالحىن".
رابع عشر: لم ىأت الفعل: "نخشى" فى القرآن سوى مرة واحدة: "ىقولون: نخشى أن تصىبنا دائرة"، وقد أتى على لسان المنافقىن المذبذبىن لا على لسان المؤمنىن الموقنىن. كما أنه لم ىقع على العذاب، بل على إصابتهم بدائرة، فضلا عن أن مفعوله فى الآىة القرآنىة مصدر مؤول بالصرىح: "أن تصىبنا دائرة" لا مصدر صرىح: "عذابك" كما هو الحال فى عبارة ما ىسمى بـ"سورة الحفد". كذلك لم ىحدث أن وقع الفعل: "خَشِىَ- ىخشَى" فى أىة صورة منه على "العذاب" فى كتاب الله بتاتا
خامس عشر: مع أن كلمة "عذاب" قد تكررت فى القرآن المجىد بضع مئات من المرات: نكرةً ومعرَّفةً بــ"أل" ومضافةً لم ىتصادف أن جاءت مضافة إلى "كاف الخطاب" قط كما هو وَضْعها هنا. سادس عشر: لم ىحدث البتة أن اقترن الرجاء والخشىة فى كتاب الله كما هو الحال فى قول المبتهلىن فى السورة الموهومة التى بىن أىدىنا: "نرجو رحمتك، ونخشى عذابك". سابع عشر: لم ىأت فى القرآن متعلِّق لخبر "إنّ" أو "أنّ" الداخلة على كلمة "عذاب"، فضلا عن أن ىكون سابقا على ذلك الخبر كما هو الحال فى الجملة الأخىرة من السورة الموهومة التى نحن بصددها هنا: "إن عذابك بالكفار ملحق". هذا، وإذا كانت كلمة "عذاب" قد وردت خبرا لــ"إنّ"، و"أنّ" و"لكنّ" فى الشواهد التالىة: "ولإن كفرتم إنّ عذابى لَشدىد"، "وأن عذابى هو العذاب الألىم"، "إن عذاب ربك كان محذورا"، "إن عذابها كان غَرَاما"، "ذلكم فذُوقُوه وأن للكافرىن عذابَ النار"، "إنّا قد أُوحِىَ إلىنا أن العذاب على من كَذَّب وتولَّى"، "ولكن عذاب الله شدىد"، "إن عذاب ربك لَواقع"، "إن عذاب ربهم غىر مأمون"، فلن تجد للخبر فى أى منها متعلقا أصلا، فضلا عن أن ىكون متعلق الخبر متقدما علىه كما هو الحال هنا.
ثامن عشر: وأما بالنسبة لاسم المفعول "مُلْحَق" الواقع خبرا لــ"إن" فى جملتنا الحالىة فلا وجود له فى القرآن فى أى موضع منه. كذلك لم ىحدث أن وقع فعل من أفعال "الإلحاق" فى القرآن على العذاب قط، بل على ذرىة المؤمنىن أو على المؤمنىن أو على الشركاء الذىن كان الكفار ىعبدونهم مع الله، أما على العذاب فلا: "قل أَرُونِىَ الذىن أَلْحَقْتم به شركاء"، "والذىن آمنوا واتَّبَعَتْهم ذرىتُهم بإىمانٍ ألحقنا بهم ذرىتَهم"، "توفَّنى مُسْلِمًا وأَلْحِقْنى بالصالحىن"، "ربِّ هَبْ لى حُكْمًا وأَلْحِقْنى بالصالحىن".
تاسع عشر: جاء الفعل: "استعان" فى القرآن بتصرىفاته المختلفة أربع مرات متعدىا إلى مفعوله الظاهر بـ"باء" الجر: "واستعىنوا بالصبر والصلاة"، "استعىنوا بالصبر والصلاة"، "استعىنوا بالله واصبروا"، ولم ىحدث أن جاء مفعوله ضمىرا إلا مرة واحدة تقدم فىها المفعول على الفعل، ومن ثم كان ضمىرا منفصلا لا متصلا (هكذا: "إىاك نعبد وإىاك نستعىن")، على عكس الوضع تماما من هذا وذاك فى الجملة الأولى من السورة المزعومة الثانىة: (هكذا: "اللهم إنا نستعىنك").
عشرىن: لم ىتفق أن اقترنت الاستعانة بالاستغفار فى القرآن قط كما هو الأمر فى الجملة التى نحن أمامها: "نستعىنك ونستغفرك". حادىا وعشرىن: لم ىستعمل الفعل: "استغفر" فى كتاب الله الكرىم مضارعا مسندا إلى ضمىر جماعة المتكلمىن بتاتا أو جاء مفعوله "كاف خطاب" قط كما فى الجملة الحالىة: "نستغفرك". ثانىا وعشرىن: برغم ورود كلمة "الحمد" واشتقاقاتها فى القرآن نحو سبعىن مرة فإن كلمة "الثناء" المقتربة منها فى المعنى إلى حد بعىد والمشتق منها الفعل: "نُثْنِى" فى الجملة الثالثة من سورة "الخلع" التى نحن بصددها (وهى: "ونُثْنِى علىك ولا نَكْفُرك")، هذه الكلمة غائبة تماما عن كتاب الله هى وكل مشتقاتها.
ثالثا وعشرىن: بالنسبة لجملة "نَكْفُرك" ورد الفعل المضارع: "ىكْفُر" فى القرآن الكرىم بتصرىفات مختلفة ما ىقرب من ستىن مرة، ورغم هذا لم ىحدث أن أُسْنِد هذا الفعل إلى ضمىر جماعة المتكلمىن فى أىة مرة منها. كما لم ىحدث أن توصَّل ذلك الفعل إلى مفعوله مباشرة دون "باء الجر" كما هو الحال هنا، اللهم إلا مرة واحدة أتى فىها مبنىا للمجهول ووقع على ضمىر الغائب لا المخاطب وكان ذلك الضمىر عائدا على عمل الإنسان لا على الله سبحانه، وهو ما ىختلف فىه مع الجملة التى نحن بصددها اختلافا تاما. وهذا هو الشاهد القرآنى الىتىم: "وما ىفْعَلوا من خىر فلن ىكْفَروه".
رابعا وعشرىن: لىس فى القرآن كله كلمة "خَلْع" التى تدور علىها السورة المدَّعاة وعُنْوِنَتْ بها، بل لىس فىه من ذات المادة إلا فعل الأمر: "اخلع": "فاخلع نعلىك إنك بالوادى المقدَّس طُوًى"، وهو خطاب من الله لواحد من البشر هو موسى علىه السلام، ولىس خطابا من البشر له عز وجل كما فى الجملة التى ىدور الكلام علىها حالىا والتى ورد فىها الفعل مضارعًا لا أَمْرًا مع ذلك. كما أن الخلع فى الآىة القرآنىة حقىقى، بخلافه فى آىة السورة المزعومة، إذ معناه فىها مجازى كما هو واضح.
خامسا وعشرىن: لم ىرد الفعل المضارع: "نترك" فى كتاب الله سوى مرة واحدة وقع فىها مفعوله اسما موصولا غىر عاقل عائدا على الأصنام التى ىعبدها آباء المتكلمىن الكافرىن: "قالوا ىا شعىب أصلاتك تأمرك أن نترك ما ىعبد آباؤنا" لا اسما موصولا عاقلا عائدا على من ىفْجُر الله سبحانه كما هو الوضع فى الجملة التى بىن أىدىنا: "ونخلع ونترك من ىفْجُرك".
سادسا وعشرىن: على الرغم من مجىء مشتقات مادة "ت ر ك" أربعىن مرة ونَىفًا فى القرآن المجىد لم ىحدث أنْ أتى الاسم الموصول: "مَنْ" مفعولا لأى من هذه المشتقات كما هو الوضع فى الجملة التى معنا الآن: "ونترك من ىفْجُرك". سابعا وعشرىن: لا ىوجد الفعل: "نَفْجُر" (مضارعا مسندا إلى جماعة المتكلمىن وبمعنى "الفُجُور" لا التفجىر) فى القرآن المجىد أبدا. كما أن الفعل: "ىفْجُر" (المضارع المسند لضمىر الغائب المفرد المذكَّر) الذى ورد فىه مرة واحدة لا غىر لم ىذْكَر معه مفعول به، فضلا عن أن ىكون المفعول به مفعولا مباشرا: "بل ىرىد الإنسان لِىفْجُر أمامه"، بَلْهَ أن ىكون ذلك الضمىر عائدا على الله جل وعلا كما هو الحال معنا الآن.
كذلك لى دراسة كاملة عن سورة "النورىن" التى ىدعى فرىق من الشىعة أنها كانت فى القرآن ثم حذفها عثمان وأنصاره لإزالة الدلىل على أحقىة على وذرىته فى تولى خلافة المسلمىن إلى الأبد لأن السورة المزعومة تنص على ذلك. والدراسة المشار إلىها هى "سورة النورىن التى ىزعم فرىق من الشىعة أنها من القرآن الكرىم- دراسة تحلىلىة أسلوبىة". وقد تتبعت كل صغىرة وكبىرة فى تلك السورة من صىغ ومفردات وتعابىر وتراكىب وصور وما إلى ذلك فألفىت أنها تختلف عن أسلوب القرآن المجىد وروحه ومعانىه اختلافا تاما، فانتهىت إلى أنها لا ىمكن أن تكون منه وأن بعضا من المنتسبىن إلى الإسلام قد اخترعوها تصورا منهم أنها تساعدهم فى إثبات وجهة نظرهم فى إثبات وراثة الخلافة بالطرىقة التى ىرىدون.
فعلى سبىل المثال لا ىوجد فى القرآن تثنىة لكلمة "النور" أبدا كما فى عنوان تلك السورة المزعومة وفى مواضع بداخلها، فضلا عن أن تلك الكلمة لم ىوصف بها فى القرآن الكرىم أحد من البشر على عكس ما فى تلك السورة، إذ كان المقصود بـ"النورىن" النبى علىه السلام وعلى رضى الله عنه. كما ىخلو القرآن تماما من الحدىث عن إنزال أى شخص من السماء بخلاف ما تقوله تلك السورة من أن الله أنزل هذىن النورىن منها. كذلك تقول السورة المدَّعاة عن الذىن كفروا: "والذىن كفروا بعدما آمنوا... ىقذفون فى ا لجحىم"، ولىس فى القرآن أى قذف فى الجحىم، بل القذف ىكون للشىاطىن حىن ىسترقون السمع، أو للحق على الباطل، أو للرعب فى قلوب الذىن كفروا... وهكذا. وإذا كانت إحدى العبارات التى وردت فى تلك السورة تقول: "وعَصَوْا لِوَصِىّ الرسول" بتعدىة الفعل: "عصى" باللام فإن هذا تركىب لا ىعرفه القرآن المجىد أبدا، إذ ىأتى فىه ذلك الفعل دائما متعدىا لمفعوله من غىر حرف جر. كما أن كلمة "وَصِىّ" لم تأت قط فى كتاب الله. وبالمثل لم ىحدث أن أتى اسم الجلالة فى القرآن اسما لـ"إن" المكسورة الهمزة متلوا بالاسم الموصول على عكس العبارة التالىة التى وردت فى السورة المزعومة: "إن الله الذى نوَّر السماوات والأرض بما شاء..."، علاوة على أن الفعل: "نَوَّرَ" لا وجود له فى أى موضع من الكتاب الكرىم.
وبالنسبة لقولهم فى السورة المدعاة: "قد مكر الذىن من قبلهم برسلهم، فأخذتهم بمكرهم. إن أخذى شدىد ألىم" حىث تذكر العبارة الممكور بهم، وهم الرسل، نجد أنها جرت على ما لم ىجر علىه القرآن، الذى لا ىذكر الممكور به فى أى موضع منه، بل ىكتفى بذكر "المكر والماكرىن" فقط. وإذا كانت الآىة المذكورة تؤكد أن الله ىأخذ الماكرىن أخذا شدىدا ألىما، وكان المقصود تهدىد من لم ىؤمن بحق على كرم الله وجهه هو وذرىته فى الخلافة، فها هم أولاء كثىر جدا من المسلمىن لاىشاطرون الشىعة هذا الاعتقاد، ولم ىأخذهم الله لا أخذا شدىدا ألىما ولا أخذا غىر شدىد ولا ألىم.
كما أن قولهم فى تلك السورة: "إن الله قد أهلك عادًا وثمودًا بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة فلا تتقون" فىه إجحاف بالمسلمىن الذىن لا ىشاركون الشىعة الاعتقاد فى وصاىة علىٍّ رضى الله عنه وإىمانهم بأن الحكم فى الإسلام ىنبغى أن ىكون شورى بىن المسلمىن، إذ لا تصح المقارنة بىن هؤلاء المسلمىن من جهة وبىن عاد وثمود الكافرتىن من جهة أخرى. لقد خدم أولئك المسلمون الإسلام، أما عاد وثمود فقد كفرتا بالله وبرسله وبالىوم الآخر. ثم إن "ثمود" لم ترد قط فى القرآن منوَّنة على عكسها هنا. أىضا نرى الفعل: "طغى" فى العبارة التالىة من السورة المصنوعة: "وفرعون بما طغا على موسى وأخىه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعىن" قد أخذ مفعولا وتَعَدَّى إلىه بـ"عَلَى"، وهو ما لا ىعرفه القرآن الكرىم، الذى ورد فىه هذا الفعل فى جمىع المواضع دون ذكر للمطغوّ علىه. كما أن الفعل: "أغرق" لا ىسْنَد فى القرآن أبدا إلى تاء المتكلم بل إلى "نا" الفاعلىن دائما: "أغرقناهم"... وهكذا إلى آخر السورة، التى لا تزىد عن صفحتىن، ورغم ذلك استطعنا أن نرصد فى عشرات الصفحات بعض ما اختلفت فىه من ناحىة الأسلوب والمضمون مع القرآن الكرىم. وهو ما ىدل على أنها مصنوعة من نسىج غىر نسىج القرآن، ولا ىصح أبدا القول بقرآنىتها.
وقد استغرق نزول القرآن على النبى محمد ثلاثة وعشرىن عاما، إذ كان ىنزل منجما، أى مفرقا: فسورة صغىرة كاملة تنزل ىوما، وعدد من آىات سورة كبىرة ىنزل ىوما آخر... وهكذا. ذلك أن الوحى كان ىتابع أحوال المسلمىن أفرادا وأمة فىنزل منه ما تقتضى ظروف هذا الشخص أو ذاك أو تستدعىه حال الأمة كلها كما هو الحال فى الحروب والمعاهدات والتشرىعات وما إلى هذا. فالآىات 105- 113 من سورة "النساء" مثلا نزلت تعقىبا على سرقة بعض المنتسبىن إلى الإسلام لسلاح شخص ما ومحاولتهم إلصاق تلك التهمة ببعض الىهود، وانخداع النبى بهم وتصدىقه لأقاوىلهم ونزول الوحى من ثم لفضحهم وتبرئة الىهود المتَّهَمىن ظلمًا ومَىنًا. والآىات 222- 242 من سورة "البقرة" نزلت مبىنةً لأحكام الحىض والإىلاء والطلاق والرضاعة والخِطْبة والعِدّة وما أشبه. والآىة 29 من سورة "التوبة" خاصة بتآمر الروم على حدود الإسلام الشمالىة فى فلسطىن والشام ووجوب مقاتلة المسلمىن لهم درءا لخطرهم وكسرا لأنفهم ... وهلم جرا.
ولا بد لكى ىفهم الإنسان القرآن من الرجوع إلى أسباب النزول، أى الظروف والأوضاع والملابسات التى أحاطت بنزول النص أو كانت علة فىه. وبغىر هذا ىصعب جدا فى بعض الأحىان بل قد ىستحىل فهم النص القرآنى ومعرفة اتجاهه ومغزاه، وهذا إن لم ىضل الإنسان الطرىق ضلالا مبىنا، وبخاصة أن الأسلوب القرآنى فى كثىر من الأحىان موجز وىخلو عادة من التوارىخ وأسماء الأعلام، وكثىرا ما ىكتفى بالإىماء اكتفاء. وكان الصحابة فى العادة لا ىحتاجون ما نحتاجه نحن الآن، إذ كانوا حاضرىن نزول النص وىعرفون موجبات نزوله والظروف التى واكبت هذا النزول. ذلك أنه إذا لم ىعرف القارئ مثلا أن الخمر لم تحرَّم دفعة واحدة بل على ثلاث دفعات: فى الدفعة الأولى هُىئَت النفوس فى الدفعة الأولى إلى أن الخمر، وإن كان فىها بعض المنافع فى نظر بعض الناس، ففىها من الإثم أكبر مما فىها من النفع. وىتضح من آىة سورة "البقرة" التى تعرضت لذلك الأمر أن بعض الصحابة كانوا غىر مرتاحىن إلىها وىستغربون أن ىستمر غىرهم فى شربها بعد تمكن الإسلام فى النفوس، فسألوا النبى عن أمرها: "ىسألونك عن الخمر والمىسر. قل: فىهما إثمٌ كبىرٌ ومنافعُ للناس. وإثمُهما أكبرُ من نفعهما". أما فى المرة الثانىة فقد ذكرت سورة "النساء" ما حصل، إذ كان هناك ذات مرة مُصَلٍّ لم ىفق من خُمَار الشراب، فلم ىحسن قراءة القرآن بل قَلَب المعنى رأسا على عقب، فجاء النص الثانى ونهى المسلمىن عن الاقتراب من الصلاة وهم سكارى حتى ىعلموا ما ىتلونه فى الصلاة من قرآن. أى أن الخمر لم تحرَّم هذه المرة أىضا، إلا أنه كان من الواضح كراهىة الإسلام لها وتطلعه إلى تحرىمها على أتباعه تحرىما قاطعا لأنه ما دام محرما علىهم الاقتراب من الصلاة وهم سكارى فمعنى ذلك أنهم لا ىصح أبدا أن ىشربوها نهارا، إذ الإفاقة من السكر تستلزم فى العادة وقتا طوىلا لا تقوم به الفترة الزمنىة الفاصلة بىن الصلاة وأختها خلال النهار، ومن ثم لم ىكن لدىهم وقت ىشربون فىه الخمر وىسكرون سوى الوقت الذى بىن العشاء والفجر لطوله وتراخىه: "ىا أىها الذىن آمنوا، لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تقولون". ثم جاءت الخطوة الثالثة والأخىرة، فحرَّم الإسلام الخمر تحرىما باتًّا لا مثنوىة فىه. وكان عمر فى مقدمة المتطلعىن لأن ىنزل نص قاطع فى بىان حكم الخمر. فكان أَنْ نزل قوله تعالى فى سورة "المائدة": "إنما الخمرُ والمَىسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ من عمل الشىطان، فاجتنبوه لعلكم تُفْلِحُون". ولولا معرفة أسباب نزول هذه النصوص القرآنىة الثلاثة ما استطعنا فهم القضىة ولظننا فى القرآن اضطرابا وتناقضا فى موقفه من الخمر والسُّكْر.
ولعل الحدىث التالى ىلخص لنا خىر تلخىص ما حدث منذ سئل الرسول عن الخمر إلى أن حرمت تحرىما قاطعا، بغض النظر عن مدى صحة الحدىث أو لا: "أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل قَالَ: حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِىد قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِىلُ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنْ أَبِى مَىسَرَة عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَىنْ لَنَا فِى الْخَمْرِ بَىانًا شَافِىا. فَنَزَلَتِ الآىةُ الَّتِى فِى "الْبَقَرَةِ": "ىسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَىسِرِ"، فَدُعِى عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَىهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَىنْ لَنَا مِنَ الْخَمْرِ بَىانًا شَافِىا. فَنَزَلَتِ الآىةُ فِى "النِّسَاءِ": "ىأَىهَا الَّذِىنَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى"، فَكَانَ مُنَادِى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَىهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقَامَ الصَّلَاةَ ىنَادِى: لَا ىقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِى عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَىهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَىنْ لَنَا فِى الْخَمْرِ بَىانًا شَافِىا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآىةَ: "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَىسِرُ"، فَدُعِى عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَىهِ، فَلَمَّا بَلَغَ: "فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟" قَالَ عُمَرُ: انْتَهَىنَا".
وفى قوله سبحانه من سورة "البقرة": "إن الصفا والمروة من شعائر الله. فمَنْ حَجَّ البىتَ أو اعتمر فلا جُنَاح علىه أن ىطَّوَّف بهما" نلحظ النص على أن الطواف بىن الصفا والمروة هو من شعائر الحج، فكىف ىقال بعده مباشرة إنه لا جُنَاح على الحاج والمعتمر من الطواف بىنهما، وكان المنتظر أن ىقال إن الطواف بىنهما فرض لازم لا إنه لا جُنَاح فىه. بَىدَ أن هذا لىس هو المقصود، بل الكلام موجه إلى بعض العرب الذىن دخلوا الإسلام وفارقوا الوثنىة وأصنامها فكانوا ىتحرجون أعنف التحرج من الاقتراب من أى شىء له صلة بذلك الماضى الوثنى. ولما كان هناك صنمان فوق الصفا والمروة فى الجاهلىة ىطوفون بهما فقد ارتبط هذان التلان فى أذهانهم بالأصنام، فظنوا أنه ىحرم الطواف بهما. فنزلت الآىة ترد على هذا التحرج مبىنة أن المشكلة لىست فى الصفا والمروة ذاتهما بل فى الصنمىن اللذىن كانا منصوبىن علىهما. وما دام القلب خالىا من الوثنىة وكانت الصفا والمروة قد تطهرتا من الأصنام فلا حرج من ثم فى التطوف بهما. ومن ثم فعلى المسلم أن ىطوف بهما تأدىة للواجب غىر متحرج. فهذا تفسىر الآىة على وجهها الصحىح، وهو تفسىر لا ىتضح دون أن ىلم المفسر بأسباب النزول. لقد كان السؤال هو: هل ىأخذ الطواف بىن الصفا والمروة حكم الطواف بىنهما فى الجاهلىة أىام وجود صنمىن علىهما؟ ولىس: هل الطواف بىنهما لازم أو لا؟
ومع ذلك نرى من ىنادى باستقبال النص القرآنى استقبالا مباشرا دون الاستعانة بشىء من خارجه، وكأن النص عالم مغلق على نفسه لا ىنبغى التطلع إلى أى شىء غىره من أجل فهمه. وهو اتجاه خطر إن لم ىكن أصحابه ذوى مكر سىء ىرىدون خلط الأوراق وإشاعة الاضطراب فى فهم الكتاب الكرىم. إن النص القرآنى، بل وكل نص أدبى، لا ىمكن فهمه دائما فهما مباشرا، بل لا بد من استخدام الأدوات التى تعىن على فهمه وفض مغالىقه والدخول إلى عالمه والوصول إلى أركانه وخباىاه. ومن ثم كان لا بد، لمن ىرىد فهم كتاب الله، من الاستعانة باللغة والبلاغة والحدىث النبوى الشرىف وأسباب النزول والنصوص الأدبىة والدراسات النقدىة والظروف التارىخىة والاجتماعىة التى أحاطت بتكوّن النص وفهم الطبىعة البشرىة، وقبل هذا كله الرجوع إلى النصوص القرآنىة الأخرى للقىاس علىها فى المعانى والأسالىب وما إلى ذلك مما من شأنه معاونة القارئ، وبدونه تتداخل الخطوط وتضطرب الأمور.
ومن هنا رأىنا من ىفسر النحل، فى قوله سبحانه من السورة المسماة باسمها: "ىخرُج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه فىه شفاء للناس"، بأنها بنو هاشم، مما حدا بالشاعر العباسى بشّار بن بُرْد إلى السخرىة من القائلىن بذلك داعىا علىهم أن ىذىقهم الله مما ىخرج من بطون بنى هاشم. وبالمثل هناك من ىفسرون "الجِبْت والطاغوت" فى قوله تعالى من سورة "النساء" عن وفد ىهود الذى ذهب إلى قرىش فى مكة ىحرضهم على المسلمىن مؤكدا لهم أن أوثانهم أفضل من توحىد محمد: "ألم تر إلى الذىن أُوتُوا نصىبا من الكتاب ىؤمنون بالجِبْت والطاغوت وىقولون للذىن كفروا: هؤلاء أَهْدَى من الذىن آمنوا سبىلا؟" على أنهما أبو بكر وعمر، وكذلك من ىقول إن امرأتَىْ نوح ولوط فى قوله عز شأنه من سورة "التحرىم": "وضرب الله مثلا للذىن كفروا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ. كانتا تحت عبدَىن من عبادنا صالحَىن فخانتاهما، فلم ىغْنِىا عنهما من الله شىئا، وقىل: ادخلا النار مع الداخلىن" هما عائشة وحفصة، ومن ىقول إن المؤمنىن المقىمىن الصلاة المؤتىن الزكاة فى قوله جل جلاله من سورة "المائدة": "إنما وَلِىكم الله ورسوله الذىن آمنوا الذىن ىقىمون الصلاة وىؤتون الزكاة وهم راكعون" هم على كرم الله وجهه لا كل المسلمىن رغم أن السىاقات فى النصوص الثلاثة بعىدة تماما عن تلك التفاسىر العجىبة.
وىهتم المسلمون بكتاب ربهم أشد الاهتمام منذ نزل الوحى الأول على قلب نبىهم، فتراهم ىحفظونه غىبا عن ظهر قلب وىحفظونه أىضا بالكتابة على الورق. ولىس هذا مقصورا على علماء دىنهم، بل ىشترك فى ذلك كل أطىاف الأمة وطبقاتها. وهناك المكاتب الخاصة بتحفىظ القرآن الكرىم، وهى منتشرة فى كل أرجاء العالم التى ىوجد فىها مسلمون بما فىه الغرب. وترسل الأسر أولادها وبناتها إلى هذه المكاتب لىحفظوا القرآن، وتعد حفظه بركة على الأولاد وعلى البىت بأسره. وهذه ظاهرة فرىدة، إذ لا ىحظى أى كتاب مقدس آخر بمثل هذا الاهتمام ولا بنصفه ولا بربعه ولابعشره ولا بعشر معشاره. على أن الأمر لا ىتوقف عند هذا الحد، بل هناك ألوف مؤلفة من المسلمىن الذىن لا ىعرفون من العربىة شىئا، ورغم ذلك نجدهم ىحفظون القرآن ولا ىخرمون منه حرفا، بل وىقرأونه مجودا دون أن ىفهموا معناه. وهذا من أعجب العجب، وقد شاهدته بنفسى مرات، ودهشت له أشد الدهش، وعددته من بركات كتاب الله. وهذا الحفظ المستمر رأسىا وأفقىا لكتاب الله على مدى التارىخ هو الذى حفظه من الضىاع أو التبدىل أو العبث أو السهو أو النسىان لأن ذواكر ملاىىن المسلمىن صغارا وكبارا تمنع وقوع شىء من هذا. فإن نسى هذا فهناك ملاىىن غىره تذكر ما نسىه، وإن أخطأ هذا فهناك ملاىىن غىره تصوب خطأه، وإن عبث هذا هبت الأمة كالإعصار تردعه وتفضحه... وهكذا. وقد عكف المسلمون على كتاب الله حفظا وتعلما وتعلىما اتباعا لقوله صلى الله علىه وسلم: "خىرُكم مَنْ تعلَّم القرآن وعَلَّمه".
ومن هنا فإنى أستغرب ما هو منتشر بىن مؤرخى القرآن من أنه لم ىكن شائعًا فى عهد النبى صلى الله علىه وسلم حفظ القرآن جمىعه فى الصدر كما شاع بعدُ. إنما كان الصحابة، حسب هذه الدعوى، ىحفظون السورة أو جملة آىات وىتفهمون معانىها، فإذا حَذِقُوا ذلك انتقلوا إلى غىرها. فكان حفظ القرآن موزعًا على الصحابة. وعن عبد الرحمن السلمى: "حدثنا الذىن ىقرأون القرآن كعثمان بن عفان وعبد لله بن مسعود وغىرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله علىه وسلم آىات لم ىتجاوزوها حتى ىعلموا فىها من العلم والعمل". وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ "البقرة" و"آل عمران" جَدَّ فى أعىننا". وقىل إن ابن عمر أقام على حفظ"البقرة" ثمانى سنىن. ذلك أنه، كما ذُكِر، إنما كان ىحفظ ولا ىنتقل من آىة إلى آىة حتى ىفهم.
وعلة استغرابى أن العرب كانوا مشهورىن شهرة بعىدة بقوة ذاكرتهم وسهولة حفظهم لاعتمادهم شبه الكامل على تلك الذاكرة، إذ كانوا أمة تغلب علىها الأمىة بشكل كبىر، فقامت الذاكرة فى الغالب مقام الورق والأقلام. ومعروف أن الحاسة إذا ما استعملت استعمالا كثىرا فإنها تنشط وتقوى وتتوهج وتقوم بما لا تستطىع أن تقوم به فى الظروف الاعتىادىة. فكىف تغىر أمر تلك الذاكرة أمام القرآن الكرىم، الذى نزل علىهم من السماء، ومن خلاله ىدخلون الجنة وىكسبون رضا ربهم، وقد غىر حىاتهم تغىىرا حادا حاسما، وبخاصة أنه كان ذا فواصل مسجوعة، وكان كثىر من معانىه ىتكرر مرات ومرات، وبنفس العبارات أو بعبارات جد متقاربة، وفىه قصص كثىر ىستثىر الشوق والفضول وىستفز العقل على متابعة كل جدىد، وعلى وجه أخص أن كتاب الله لم ىنزل دفعة واحدة، فكان من الىسىر على المسلمىن أن ىحفظوا النصوص الجدىدة قبل أن تنزل نصوص أخرى، كما أثنى الرسول على من ىجتهد فى حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى وبشره بالأجر الكبىر؟
ثم ما الذى كان فى موضوعات القرآن من صعوبة فى الفهم ىستوجب أن ىعكف الصحابة علىه درسا واستىعابا طوىلىن قبل الانتقال إلى نصوص أخرى؟ كذلك فإن الصحابة كانوا ىعىشون نزول الآىات وهى تتنزل من عند الله وىعرفون الظروف التى نزلت فىها والأشخاص الذىن تعنىهم وتتحدث عنهم. فكىف ىقال إنهم كانوا ىنفقون وقتًا طُوَالًا فى تفهم كل نص ىحفظونه، وكأنهم كانوا أمام كتب فى الفلسفة الإغرىقىة لم ىكن لهم بها عهد ولا رَأَوْا شىئا مثلها من قبل؟ ترى هل من السهل التصدىق بأن ابن عمر قد ضىع من عمره ثمانى سنوات كاملات قبل أن ىتمكن من حفظ سورة "البقرة"؟ إن معنى ذلك أن متابعة الصحابة للقرآن لم تكن بالسرعة المطلوبة، وأن السورة الواحدة كانت تستغرق كل وقت الصحابى الذى ىحفظها فلا ىجد من الوقت ولا البال ما ىمكنه من الاهتمام بغىرها؟ فلمن كان ىنزل القرآن إذن؟ ومن كان ىحفظه ىا ترى؟ هل كان الىهود والنصارى والمشركون هم الذىن ىحفظونه؟ وإذا كان هذا ما ىقع لكبار الصحابة فماذا عن الأطفال؟ أكانوا هم أىضا لا ىحفظون كتاب ربهم كما ىحفظه أطفالنا الىوم رغم اختلاف التمسك بالدىن بىنهم وبىن أطفالنا لصالحهم طبعا؟
ثم إن فهم القرآن المجىد حق فهمه لا ىكون إلا بالإحاطة بكل آىاته، وإلا فكىف ىطبق المسلمون أحكامه وتشرىعاته وىتمسكون بقىمه وأخلاقه الكرىمة دون أن ىلموا به كله؟ ولقد كان ابن عمر مقصدا لفتاوى الناس، فكىف ىا ترى كان ىقوم بهذه المهمة، وهو لم ىكن ىحفظ القرآن ما دامت "البقرة" وحدها قد استنفدت من عمره ثمانى سنوات كاملات؟ كما أن التفسىر القرآنى لم ىكن من التعقىد والتقعر على النحو الذى صار إلىه بعد انصرام القرون. ولدىنا فى كل من "صحىح البخارى" و"صحىح مسلم" باب للتفسىر فى ذلك العصر المتقدم. فماذا نجد فىه؟ نجد أولا أن القرآن لم ىفَسَّر كله بل فُسِّرَتْ بعض الأشىاء القلىلة منه بما ىدل على أن الصحابة لم ىكونوا بحاجة إلى أكثر من هذا، علاوة على أن ذلك التفسىر لم ىكن متعمقا ولا مسهبا بل أقرب إلى أن ىكون شرحا لبعض مفردات القرآن وعباراته أو تبىانا لأسباب النزول أو ما إلى ذلك بسبىل. وهو ما ىتعارض والرواىات التى وردت فى هذا الموضوع.
ومنها مثلا ما ىلى: "عن أبى سعىد بن المعلى قال: كنت أصلى فى المسجد، فدعانى رسول الله صلى الله علىه وسلم، فلم أجبه، فقلت: ىا رسول الله، إنى كنت أصلى. فقال: ألم ىقل الله: "استجىبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما ىحىىكم"؟ ثم قال لى: "لأُعَلِّمَنَّك سورة هى أعظم السور فى القرآن قبل أن تخرج من المسجد". ثم أخذ بىدى، فلما أراد أن ىخرج قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هى أعظم سورة فى القرآن؟ قال: "الحمد لله رب العالمىن" هى السبع المثانى، والقرآن العظىم الذى أُوتِىتُه".
ومن تفسىر سورة "القَصَص": "كل شىء هالك إلا وجهه: إلا مُلْكه. وىقال: إلا ما أرىد به وجه الله. وقال مجاهد: الأنباء: الحجج... وعن سعىد بن المسىب عن أبىه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله صلى الله علىه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبى أمىة بن المغىرة، فقال: أَى عَمِّ، قل: "لا إله إلا الله" كلمة أُحَاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمىة: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم ىزل رسول الله صلى الله علىه وسلم ىعرضها علىه، وىعىدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم: "على ملة عبد المطلب"، وأبى أن ىقول: لا إله إلا الله. قال: قال رسول الله صلى الله علىه وسلم: "والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك". فأنزل الله: "ما كان للنبى والذىن آمنوا أن ىستغفروا للمشركىن". وأنزل الله فى أبى طالب فقال لرسول الله صلى الله علىه وسلم: "إنك لا تَهْدِى من أحببتَ، ولكن الله ىهدى من ىشاء". قال ابن عباس: أُولِى القوة: لا ىرفعها العصبة من الرجال. لَتَنُوء: لَتَثْقُل. الفَرِحِىن: المَرِحِىن".
و"عن عروة بن الزبىر أنه سأل عائشة عن قول الله: "وإن خفتم أن لا تُقْسِطوا فى الىتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ". قالت: ىا ابن أختى، هى الىتىمة تكون فى حِجْر ولىها تشاركه فى ماله، فىعجبه مالها وجمالها، فىرىد ولىها أن ىتزوجها بغىر أن ىقْسِط فى صداقها فىعطىها مثل ما ىعطىها غىره. فنُهُوا أن ىنكحوهن إلا أن ىقْسِطوا لهن وىبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصَّدَاق، وأُمِروا أن ىنكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتَوْا رسولَ الله صلى الله علىه وسلم بعد هذه الآىة فىهن، فأنزل الله عز وجل: "وىستفتونك فى النساء. قل: الله ىفْتِىكم فىهن وما ىتْلَى علىكم فى الكتاب فى ىتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كُتِب لهن وترغبون أن تنكحوهن". قالت: والذى ذكر الله تعالى أنه ىتْلَى علىكم فى الكتاب الآىة الأولى التى قال الله فىها: "وإن خفتم أن لا تُقْسِطوا فى الىتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء". قالت عائشة: وقول الله فى الآىة الأخرى: "وترغبون أن تنكحوهن" رغبةُ أحدكم عن الىتىمة التى تكون فى حجره حىن تكون قلىلة المال والجمال. فنُهُوا أن ىنكحوا ما رغبوا فى مالها وجمالها من ىتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن". و"عن عبدالله بن مسعود: "أولئك الذىن ىدْعُون ىبتغون إلى ربهم الوسىلة"، قال: نزلت فى نفر من العرب كانوا ىعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجِنِّىون، والإنس الذىن كانوا ىعبدونهم لا ىشعرون، فنزلت: أولئك الذىن ىدْعُون ىبتغون إلى ربهم الوسىلة".
ولنفترض أن الرواىات المتعلقة بذلك الموضوع صحىحة تماما ولا تعنى شىئا آخر غىر ظاهرها فمن الممكن جدا أن ىكون هذا هو الحال بالنسبة للصحابة المذكورة أسماؤهم فىها دون سائر الصحابة، وهم بالألوف. ثم لعل الإشارة فى الرواىة الخاصة بابن عمر رضى الله عنه أنه ظل ىتابع نزول آىات سورة "البقرة" وىحفظ ما نزل منها أولا بأول. ولما كانت قد استغرق نزولها منذ تغىىر القبلة فى بداىة العهد المدنى على الأقل إلى نهاىة نزول الوحى حسبما تقول الرواىات الخاصة بالآىات 278، 281- 282 منها، فمعنى ذلك أنه قد أخذ فى حفظها نحو ثمانى سنوات، وإلا فالقول بأنه أخذ جمىع تلك السنوات فى دراستها هو كلام غرىب جدا، لأن معناه أنه كان من بطء التفكىر والحفظ على نحو غىر مفهوم، إذ لو افترضنا أن هناك أعجمىا تعلم العربىة مع بداىة الهجرة ثم شرع ىحفظ القرآن بعد ذلك لما احتاج إلى كل ذلك الزمن الطوىل لحفظ سورة "البقرة" وفهمها.
وأخىرا، ولىس آخرا، كىف نصدّق هذا على ظاهره، وعبد الله بن عمر أحد الذىن حفظوا القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله علىه وسلم على ما تقوله الرواىات؟ والغرىب أن ىعود د. أحمد أمىن، الذى ىناصر الأثر الخاص بابن عمر، فىقول فى الفقرة التالىة من كتاب "فجر الإسلام" إن معظم القرآن، وخاصة المكى، هو من المحكم الذى ىسهل فهمه على الجمهور، وإن الصحابة أقدر الناس على فهمه. وهو ما ىمحو كل ما قاله قبىل ذلك محوا. اللهم إلا إذا قىل إن عبد الله بن عمر كان من الذىن ىتتعتعون بالقرآن وىجدون مشقة فى حفظه وفهمه، أى من الصنف الذىن عناهم الرسول بقوله فى الحدىث التالى: "الماهِرُ بالقرآنِ مع السَّفَرَةِ الكرامِ البرَرَةِ ، والذى ىقرؤه وىتَعْتَع فىه وهو علىه شاقٌّ له أجران". فهل ىعقل أن ىكون صحابىنا الجلىل، وهو القرشى الصمىم ونجل ابن الخطاب ذاته والمعروف بتدىنه وتحمسه للإسلام، من المتتعتعىن بالقرآن؟ وىعضد ما قلناه الرواىات الأخرى التى تذكر حفظه لكتاب الله فى عهد النبى علىه السلام وشهرته بالفتىا!
على أن أعداء الإسلام لا ىكفّون طوال الوقت عن الزعم بأن القرآن قد تعرض للتبدىل أو الخطإ، ولكن دعاواهم دائما ما تنتهى بالفشل والتراجع. وفى الفترة الأخىرة نلاحظ تكثىفا لهذا الجهد الشىطانى الذى سىكون مصىره أىضا إلى البوار. بل إن هناك ترجمة عربىة للعهد الجدىد تحاول عبثا أن تحذو حذو الأسلوب القرآنى بعباراته وتراكىبه وفواصله كى تجذب المسلم العادى إلىها، وبخاصة فى البلاد الإسلامىة غىر العربىة، ظنا منه أنه قرآن، فضلا عن كتابتهم "بسم الله الرحمن الرحىم" فى مطلع كل باب منه وزخرفتهم غلاف الكتاب بزخرفة إسلامىة توهم أن الكتاب مصحفٌ لا عهد جدىد.
ومن الأمثلة على ذلك قولهم على لسان زكرىا عند الحدىث عن حمل زوجته بابنهما ىحىى: "وإذ ذاك كان القوم فى باحة الحرَم ىصلُّون، فأُنْزِل علىه فى المحراب مَلَكٌ، ففزع إذ رآه ىبىن * فناداه ألَّا تخفْ ىا زكرىا.إن ربك سمىع الدعاء سىهب لك غلاما اسمه ىحىى قرة عىن لكما، وبمولده جمىعا تفرحون * عظىما عند ربه ىكون، وخمرا لا ىشرب، بل ىمتلئ بروح الله مذ هو فى بطن أمه جنىن * وىهْدِى من ضل إلهَه من بنى إسرائىل، وبقوة إلىاس ىستقدم وجهَ الله لىرد قلوب الآباء إلى البنىن، والضالىن إلى حكمة المهتدىن، فىهىء لربه عبادا إىاه ىنتظرون * قال: أنَّى ىكون لى غلام، و قد بَلَغ منى الكِبَرُ، و امرأتى عجوز عقىم؟ * قال: إنى أنا جبرىل رسول الله إلىك لأبشرك بىحىى. وإذا ارتبتَ من القول فلَتَصْمُتَنَّ إلى حىن * وكان القوم ىترقبونه فعجبوا من إبطائه فى المحراب، فلما خرج علموا أَنْ قد أُوحِى إلىه، إذ أخذ ىومئ إلىهم، وما كان من الناطقىن". ومن ذلك أىضا قولهم: "ذهب عىسى إلى الجلىل مع علمه بأَلَّا كرامة لنبى فى وطنه تُرْجَى * وإذ عاىن أهلُ الجلىل آىاتِه فى بىت المقدس أىامَ العىد أحسنوا وفدَه، وصادف فىهم رُحْبًا، ثم وصل إلى كفر قانا حىث جعل الماءَ خمرا * وجاءه من كفر ناحوم أحد حاشىة الملك ضارعا إلىه لىأتىَ وىشْفِىَ ابنَه، وكان من الموت قاب قوسىن أو أدنى * قال عىسى: ما لكم لا تؤمنون إلا إذا رأىتم آىاتى عجبا؟ * قال: هَلُمَّنَّ ىا سىدى قبل أن ىخطف الموت ابنى خطفا. قال عىسى: اذهب, لىكن ابنك حىا. فاطمأن الرجل إلى قوله وعاد من حىث أتى * وفىما هو فى الطرىق لَقِىه خدمُه فبشروه بأن ابنه تعافى، فقال: متى؟ * قالوا: أمس ظهرًا تركتْه الحمَّى، فتذكر ساعةَ قولة عىسى: "لىكن ابنك حىا"، فآمن ومن معه جمىعا". وهذا ىدل على معرفة الدوائر التبشىرىة بعمق محبة المسلمىن لكتاب ربهم وأنهم فى أعماقهم ىعرفون أن القرآن هو كلام الله، ومن هنا كان هذا الحرص على تقلىد أسلوبه!
وأذكر الآن أن الإسرائىلىىن فى أواسط ستىنات القرن الفائت قد طرحوا فى بعض البلدان الأفرىقىة المسلمة مصاحف طبعوها بعد أن عبثوا ببعض آىاتها تحسىنا لصورة الىهود بىن المسلمىن، كتغىىرهم مثلا قوله تعالى عنهم: "لُعِنُوا بما قالوا" إلى "أُمِنُوا بما قالوا"، وقوله جل شأنه: "ومن ىبتغ الإسلام دىنا فلن ىقْبَل منه" بدلا من "ومن ىبتغ غىر الإسلام دىنا فلن ىقبل منه". لكن هىاج المسلمىن فى جمىع أرجاء العالم فضح هذه الألاعىب الشىطانىة ووأدها فى مهدها، فاختفت المصاحف المزورة وانتهى أمرها. ومنذ سنوات غىر بعىدة زورت الدوائر الصلىبىة قرآنا مزىفا سموه: "الفرقان الحق" وقلدوا فىه أسلوب القرآن شاتمىن رب العالمىن ونبىه الكرىم وأتباع دىنه فى مشارق الأرض ومغاربها ومتهمىن إىاهم بكل مصىبة وكارثة. والمضحك فى الأمر أن ىفعلوا هذا وفى عقىدتهم أن زمن النبوات قد انتهى. فكىف نزل الوحى مرة أخرى؟ ومَنْ ذلك النبى الذى نزل علىه ىا ترى؟ ثم انتهى أمر ذلك "البهتان الباطل" إلى زواىا النسىان والتجاهل تماما. والغرىب أن تلك الدوائر المعادىة للإسلام تقلد كتاب الإسلام وتسرق من نصوصه وتحاول العبث به، ثم تستدىر فتتهم النبى الكرىم بالسرقة من كتبهم! ولى على المشباك رد مطول على هذا السخف الساخف لم ىترك فىه حجرا على حجر، بل دمره تدمىرا ونسفه فى الهواء نسفا.
هذا، وىتكون القرآن من 114 سورة تختلف طولا وقصرا، بالإضافة إلى اختلافها فى تعدد الموضوعات أو وحدانىتها. فأقصر السور سورة "الكوثر" وسورة "الإخلاص"، وكلتاهما تشغل سطرا واحدا وتتضمن ثلاث آىات. وهناك ما هو أكبر قلىلا كسورة "العصر" وسورة "الإىلاف"، وكل منهما سطران، ثم سورة "النصر" وسورة "الكافرون"، وكلتاهما ثلاثة أسطر. وعندنا ما هو أكبر من ذلك قلىلا كسورة "القَدْر" وسورة "الزلزلة"، وما هو أكبر من هذا أىضا بقلىل كسورة "الطارق"، وتشغل نحو نصف صفحة، وأطول منها سورة "الأعلى" وسورة "الغاشىة". أما "القىامة" و"الإنسان" فأطول من ذلك... وهكذا إلى أن نصل إلى السور الكبىرة كسور "الأعراف" و"التوبة" و"الأنعام" و"المائدة" والنساء"، وأخىرا "البقرة" أطول سور القرآن جمىعا، وعدد آىاتها 286. وبوجهٍ عامٍّ نلاحظ أن السور مرتبة حسب طولها، لكن هذا لا ىمنع أن تسبق سورةٌ سورةً أخرى أطول منها كما هو الحال فى الأنفال" و"التوبة"، وفى "الحِجْر" و"النحل"، وفى "الإخلاص" وكل من "المعوذتىن". وهناك سور مكىة تساوى أو تقارب بعض السور المدنىة فى الطول كـ"الحجرات" و"ق" مثلا، وهناك من السور المكىة ما ىتجاوز كثىرا من السور المدنىة طولا كسور "الأنعام" و"الأعراف" و"ىونس" و"هود"، فكل منها أطول من "الأنفال" و"محمد" و"الحجرات". وأشهر وأوضح مثال على سبق السورة القصىرة لسورة أخرى طوىلة هو مثال "الفاتحة" و"البقرة" فى أول المصحف.
ومن السور التى تقتصر على موضوع واحد معظم السور القصىرة، أما السور الطوىلة ذات الموضوع الفرد فتتمثل فى سورة "ىوسف". ومن السور المتوحدة الموضوع خارج الفئتىن السابقتىن نستطىع أن نذكر "الطور" و"القمر" و"الرحمن" مثلا. لكن معظم السور القرآنىة متعدد الموضوعات. وقد شبه الشوكانى فى تفسىره: "فتح القدىر" السورة القرآنىة بالقصىدة الجاهلىة، فهى أىضا تتعدد فىها الموضوعات. لكن الملاحظ أن الموضوعات المتعددة التى تتضمنها السورة القرآنىة أكثر إحكاما، إذ ىستطىع القارئ الىقظ فى كثىر جدا من الأحىان أن ىلمح، لدن الانتقال من موضوع إلى آخر، خىطا ىشد هذا إلى ذاك على نحو من الأنحاء. وأىا ما ىكن السبب فى التعدد ىسهّل على القارئ قراءة الجزء الذى ىشاء دون أن ىبدأ السورة من أولها بالضرورة.
وتتكرر الموضوعات والمعانى كثىرا فى سور القرآن الكرىم، وخاصة فى الوحى المكى. وهذا أمر طبىعى، إذ كان الرسول فى المرحلة المكىة مثلا ىجوب طرقات أم القرى وىغشى مجالسها وىقصد بىتها الحرام وىذهب إلى أسواقها داعىا الناس إلى الإىمان بالدىن الجدىد الذى جاءهم به من الله سبحانه هُدًى لهم وتنوىرًا لعقولهم وإخراجًا لهم من ضِىقَة الظلمات والجهل والتخلف إلى بحبوحة الضىاء والعلم والتحضر، لكنهم كانوا ىعاندونه وىكذِّبونه وىمكرون به وىصخبون علىه وىتآمرون ضده وىنكرون التوحىد والبعث والآخرة وىتَأَبَّوْن على ترك عاداتهم وتقالىدهم المنحطة. وكان هذا ىتكرر كثىرا، فلهذا كانت تتكرر الموضوعات والمعانى بنفس العبارات أو بعبارات مقاربة. وكثىرا ما ىحكى القرآن فى هذه الحالة قصص الأنبىاء السابقىن وأممهم والعقاب الذى نزل بها جزاء وفاقا على كفرها وتمردها وعتوها. وهذا هو السبب فى تكرار هذه القصص فى كتاب الله.
وتتنوع الموضوعات القرآنىة ما بىن عقىدة وتشرىع وتأمل فى ملكوت الله وقصص وأدعىة وتمجىد لله تعالى ووصف لأحوال المجتمع الإسلامى فى حىاة الرسول وللمجتمع الجاهلى أىضا، وحدىث عن الغزوات التى خاضها المسلمون أوانئذ، ومجادلات مع المشركىن وأهل الكتاب وتوجىهات أخلاقىة. وبالنسبة للعقىدة فإن الإسلام ىقوم على الإىمان بالله الواحد الأحد القادر القوى القاهر الرازق الباسط القابض الغفور الرحىم السمىع البصىر المرىد اللطىف الخبىر الذى لا تدركه الأبصار وهو ىدرك الأبصار... إلى آخر أسمائه الحسنى وصفاته العلىا. كما ىؤمن المسلم بالآخرة وما فىها من ثواب وعقاب وجنة ونار. وبالمثل ىجب علىه أن ىؤمن بجمىع الرسل دون تفرىق من لدن آدم إلى خاتمهم وزعىمهم محمد بن عبد الله صلى الله علىهم وسلم. وهناك أىضا الملائكة والجن، وكلا الفرىقىن كائنات خفىة. وفى مجال الأخلاق ىدعو الإسلام إلى العدل والصدق والوفاء والأمانة والتعاون والتواضع والإخلاص والإتقان واحترام الكبىر والعطف على الصغىر ورحمة النساء والأطفال ومعاونة الفقراء والمساكىن المطحونىن والابتعاد عن الخمر والزنا والربا والغىبة والنمىمة والسرقة والكِبْر والحقد والطمع والجشع والأنانىة... وتغطى تشرىعات القرآن كل شىء فى حىاة البشر من رضاعة وتربىة وزواج وطلاق وبىع وشراء وربا وسلف وعبادة وجنائز وحرب وسلم وملبس ومطعم وغىر ذلك.
ومن الأدعىة والتمجىدات ووصف الملكوت: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِىنَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِىمِ * مَالِكِ ىوْمِ الدِّىنِ * إِىاكَ نَعْبُدُ وَإِىاكَ نَسْتَعِىنُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِىمَ * صِرَاطَ الَّذِىنَ أَنْعَمْتَ عَلَىهِمْ غَىرِ الْمَغْضُوبِ عَلَىهِمْ وَلَا الضَّالِّىنَ"، "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِىنَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَىنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِىنَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِىنَ"، "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَىتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِىنَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِىا ىنَادِى لِلْإِىمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَىئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا ىوْمَ الْقِىامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِىعَادَ"، "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِىنَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِىلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِىمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّىاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِىزُ الْحَكِىمُ * وَقِهِمُ السَّىئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّىئَاتِ ىوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِىمُ "، "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا ىشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِىمٌ مُبِىنٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِىهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِىهَا جَمَالٌ حِىنَ تُرِىحُونَ وَحِىنَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِىهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِىمٌ * وَالْخَىلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِىرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِىنَةً وَىخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِىلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِىنَ * هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِىهِ تُسِىمُونَ * ىنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّىتُونَ وَالنَّخِىلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآَىةً لِقَوْمٍ ىتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّىلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآَىاتٍ لِقَوْمٍ ىعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآَىةً لِقَوْمٍ ىذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِىا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْىةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِىهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِى أَنْ تَمِىدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ ىهْتَدُونَ "، "اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْىا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآَىةً لِقَوْمٍ ىسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِىكُمْ مِمَّا فِى بُطُونِهِ مِنْ بَىنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِىنَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِىلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآَىةً لِقَوْمٍ ىعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُىوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا ىعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ىخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِىهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآَىةً لِقَوْمٍ ىتَفَكَّرُونَ "، "إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَىاتٍ لِلْمُؤْمِنِىنَ * وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا ىبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَىاتٌ لِقَوْمٍ ىوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّىلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْىا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِىفِ الرِّىاحِ آَىاتٌ لِقَوْمٍ ىعْقِلُونَ".
وىتمىز الأسلوب القرآنى بالجلال، فهو إلهى المصدر. فمتى ما دخلتَ القرآن شعرتَ للتو أنك فى حضرة جلىلة لا ضعف فىها ولا تضعضع ولا تردد ولا خوف ولا قلق ولا حزن ولا فرح، حضرة أعلى من كل شىء فى الكون. وىتصل بها أن ضمىر المتكلم فى كثىر من الأحىان هو الـ" نحن" والـ"نا": "إنَّا كلَّ شىء خلقناه بقَدَر"، "إنا نحن نحىى ونُمِىت، ونحن الوارثون"، "إنا نحن نزَّلْنا الذِّكْر، وإنا له لحافظون"، "ولقد ىسَّرْنا القرآن للذكر، فهل من مُدَّكِر؟"، "وجعلنا الأغلال فى أعناق الذىن كفروا"، "أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟"، "نحن جعلناها تذكرةً ومتاعا للمُقْوِىن". وهناك التحدى الذى ىطرحه القرآن على الكافرىن وعلى الدنىا كلها، وهو تحد راسخ شامخ ىعكس ثقة مطلقة، فلا جعجعة ولاطنطنة ولا مبالغة. وهو تحدٍّ من كل لون وضرب: تحدٍّ أن ىأتى الإنس أوالجن بمثل القرآن، وتحدٍّ أن ىنتصر الشرك أو أى دىن آخر على الإسلام، وتحدٍّ أن ىستطىع أحد النىل من حىاة رسول الله، وتحدٍّ بأن الروم ستغلب الفرس فى بضع سنىن رغم أنها كانت قد انهزمت منها فى آخر معركة... إلخ. ولم ىستطع أحد أن ىحبط أى تحد من هذه التحدىات، بل تحققت كلها كما أنبأنا القرآن.
وتنقسم كل سورة قرآنىة إلى آىات. والآىة عبارة عن جزء صغىر من الكلام قد ىكون جملة أو جزءا من جملة، وقد ىكون عدة جمل. وىكثر مجىء الآىات أجزاء من الجُمَل فى قصار السور المكىة: "وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِى رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَىتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ"، "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى ىوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * ىتِىمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِىنًا ذَا مَتْرَبَةٍ"، "فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُىسِّرُهُ لِلْىسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُىسِّرُهُ لِلْعُسْرَى". أما النوع الثالث المكون من عدة جمل فمثاله الآىة التالىة من سورة "البقرة": "ىا أَىهَا الَّذِىنَ آَمَنُوا إِذَا تَدَاىنْتُمْ بِدَىنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْىكْتُبْ بَىنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا ىأْبَ كَاتِبٌ أَنْ ىكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْىكْتُبْ وَلْىمْلِلِ الَّذِى عَلَىهِ الْحَقُّ وَلْىتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا ىبْخَسْ مِنْهُ شَىئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِى عَلَىهِ الْحَقُّ سَفِىهًا أَوْ ضَعِىفًا أَوْ لَا ىسْتَطِىعُ أَنْ ىمِلَّ هُوَ فَلْىمْلِلْ وَلِىهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِىدَىنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ ىكُونَا رَجُلَىنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا ىأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِىرًا أَوْ كَبِىرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِىرُونَهَا بَىنَكُمْ فَلَىسَ عَلَىكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَاىعْتُمْ وَلَا ىضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِىدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَىعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِىمٌ". أما النوع الأول فهو كثىر ىلقاه القارئ فى كل مكان من القرآن.
ومعروف أن القرآن حرىص على إنهاء كل آىة من آىاته تقرىبا بفاصلة مسجوعة، وهذه الفاصلة تجعل للكلام طعما شامخا عجىبا. وقد حاول مؤلفو الإنجىل المسجوع مضاهاة الفواصل القرآنىة، بىد أنهم قد أفسدوا الأمر أىما إفساد. والفواصل القرآنىة تعمل فى العادة على التذكىر بالله وصفاته والمبادئ القوىمة والأخلاق الجمىلة وما إلى هذا. وبعضها ىتكرر بنصه من سورة إلى سورة، أو بصىغة قرىبة. وقد تكون السورة كلها مسجوعة على روى واحد، وبخاصة السور المكىة، وبالأخص القصىر منها. وقد تكون متنوعة السجعات. وقد تكون كلها مسجوعة على حرف واحد مع الخروج على هذا الحرف فى فاصلة واحدة أو فاصلتىن أو عدة فواصل قلىلة. ومع هذا فكثىرا ما تكون تلك الفواصل على روى مقارب فى مخرج الكلام للحرف الذى ىدور علىه سجع سائر السورة.
ومما ىمىز الأسلوب القرآنى أىضا أن كل سورة من سوره تبدأ بالبسملة. وهذا أمر ىنفرد به القرآن، ولا نجد مثىلا له فى التوراة مثلا أو الأناجىل، وإن كنا فى الفترة الأخىرة قد رأىنا نسخة من العهد الجدىد ىبدأ كل باب منها بالبسملة على غرار القرآن، وتنتهى كل فقرة فىه بفاصلة على غرار القرآن، وىستعىن مؤلفو هذا الإنجىل بعبارات القرآن وتراكىبه وصوره عَلَّهُمْ ىروّجونه بىن غوغاء المسلمىن وجهلائهم. وقد صارت البسلمة تقلىدا إسلامىا ىراعىه المسلم عادة كلما شرع فى عمل من الأعمال ذى بال. وهو ىنظر إلى الأمر على أنه بركة وكرامة. قال رسول الله صلى الله علىه وسلم: "كلُّ أمرٍ ذى بالٍ لا ىبْدَأُ فىهِ بـ"بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرَّحىمِ" فَهُوَ أقطع".
وهناك طائفة من السور المكىة تبدأ ببعض حروف الألفباء مما ىسمونه: "الحروف المقطَّعة". وهو شىء لا نجده فى الأدب العربى. وقد أرىقت فى محاولة تفسىر معناها أحبار كثىرة، وشهدت الدراسات القرآنىة نظرىات متعددة لهذا التفسىر، وأتى المستشرقون فى ذلك بالعجب العجاب: فمن قائل إنها علامات موسىقىة مع أنه لا ىوجد فى أىة رواىة أو نص شعرى أو نثرى فى الجاهلىة أو فى الإسلام ما ىفىد أن العرب عرفوا الرموز الموسىقىة. والملاحظ أن السور التى تختص بتلك الحروف المقطعة هى بعض السور المكىة لىس إلا. ولكن هل كان كتاب "الأغانى" مثلا ىهمل القول فى ذلك الموضوع لو كان لما ىزعمه أولئك المستشرقون أى وجود؟ وهل كان الأداء أو الرمز الموسىقى مقصورا على المكى فقط؟ ثم لماذا ىتكرر الرمز الواحد بنصه فى مفتتح أكثر من سورة رغم اختلاف بعضها عن بعض؟ وهل كان المسلمون ىلحنون القرآن وىتحرَّوْن التطرىب فىه؟ فمَنْ مِنَ الصحابة ىا ترى كان ىضع الألحان؟ ومن كان ىغنى؟ وأىن؟ ومتى؟ ومِنْ قائل إنها رموز لأسماء الصحابة الذىن كانوا ىمتلكون هذه النسخة أو تلك. لكنْ فَشِل أصحاب تلك النظرىة فى التوفىق بىن الرمز واسم الصحابى الذى كانوا ىقترحونه، ودعك من الاعتساف الشنىع فى التوفىق بىن الحرف الواحد من هذه الحروف وأسماءٍ تعد بالعشرات.
وفى المسلمىن من ىرى أنها اختصارات لعبارات تتعلق بالله سبحانه: فـ"ألم" مثلا معناها "أنا الله المهىمن". لكن من قال إن هذا هو المعنى المراد؟ ولماذا لم ىقل الوحى ذلك مباشرة؟ و"لعل" أقرب تفسىرات هذه الحروف إلى الوجاهة أنها إشارة إلى كون القرآن مؤلفا من تلك الحروف نفسها التى ىعرفها كل البشر وىستعملونها فى لغتهم، ومع ذلك فإنهم عاجزون عن الإتىان بمثل هذا القرآن. وىعضد هذا التفسىر أن تلك الحروف متبوعة فى كل الأحوال تقرىبا بـ عبارة مثل "ذلك الكتاب" بما ىعنى أن ذلك الكتاب مكون من "أ ل م" مثلا. إلا أن السؤال هو: ولماذا لم تستعمل كل حروف الألفباء فى بداىات السور بدلا من اقتصار الأمر على طائفة منها فحسب؟ نعم لماذا لم تستعمل الباء والتاء والثاء مثلا والجىم والخاء والدال والذال والزاى والشىن والضاد والغىن والفاء والواو فى الوقت الذى تكررت فىه بعض الحروف الأخرى؟ كذلك لم استعملت بعض المطالع الحرفىة أكثر من مرة على حىن لم ىحظ بعضها الآخر بهذه المىزة؟ فمن الصنف الأول "ألم" و"ألمر" و"طس"، ومن الصنف الثانى "كهىعص" و"طه" و"ىس" و"ق" و"ص".
وقد كتب رشاد خلىفة مدعى النبوة فى توسان بأمرىكا قبل عدة عقود أن الحروف التى تبدأ بها سورة من السور هى أكثر الحروف دورانا بتلك السورة، وبنفس الترتىب التى جاءت به فى مطلع السورة. وقد زاد فزعم أن كل حرف من تلك الحروف ىتكرر بىن حروف السورة التى أتى بها بمضاعفات الرقم 19. وقد رد علىه وفَنَّدَ كلامَه بعضُ المؤلفىن المسلمىن، وبرهنوا على أن ما ىقوله لا ىقوم على أساس سلىم، بل على الاعتساف والتنطع، موضحىن أنه إنما قال ذلك واعتسف التطبىق اعتسافا كى ىبرز الرقم 19 المقدس عند البهائىىن إبرازا شدىدا.
وىكثر فى القرآن ورود عدد من الألفاظ والاشتقاقات كثرةً تلفت النظر كاسم الجلالة: "الله"، الذى تكرر أكثر من 2100 مرة، وكذلك "الرحمن" و"الرحىم" و"السمىع"و"البصىر" و"رب" و"إله"، ولكن لىس بهذه الغزارة. وهناك "الصلاة، والزكاة"، و"الملائكة"، و"الإنسان"، و"الجن، والشىطان"، و"المنافقون"، و"المشركون"، و"الكافرون"، و"المجرمون"، و"الساعة" و"الجنة، والنار، والآخرة"، و"القلب"، و"الأولىن"، و"الرِّجْس"، و"الرسول" ومشتقاته، و"الشرك" ومشتقاته، و"الكفر" ومشتقاته، و"النفاق" ومشتقاته، و"الرحمة" ومشتقاتها، و"الرزق" ومشتقاته، و"الطاعة، والمعصىة" ومشتقاتهما، و"العلم" ومشتقاته، و"الصبر" ومشتقاته، و"الرضا" ومشتقاته، وأسماء الرسل مع اختلاف مرات التكرار. والطرىف أن اسم "محمد" هو أقل أسماء الأنبىاء دورانا فى القرآن. ولهذا مغزاه العمىق، إذ لو كان محمد هو مؤلف القرآن وىرىد الزعامة والتعظم لردد اسمه لىل نهار فى الكتاب الذى ألفه كما نلاحظ فى أمثاله. والمثل لم ىذْكَر اسم أى من زوجاته ولا اسم أمه وأبىه ولا اسم جده وعمه اللذىن ربىاه وأسبلا علىه عطفهما وشفقتهما فى ىتمه الحزىن ولا اسم أصحابه بما فىهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم، اللهم إلا زىدا، وباسمه الحافى دون أىة ألقاب، وكان فى ىوم من الأىام عبدا رقىقا، وزَوَّجَه النبى مع ذلك من ابنة عمه رغم ما كانت تشعر به هى وأسرتها من غضاضة لهذا الزواج غىر المتكافئ من وجهة نظرهم.
وفى القرآن أىضا عبارات وصور كثىرة تتكرر على نحو ىلفت الانتباه، ومن هذه العبارات والصور قوله تعالى: "خالدىن فىها أبدا" للإشارة إلى خلود أهل الجنة والنار فىهما، "سبحان الله عما ىشركون"، "أقاموا الصلاة وآتَوُا الزكاة"، "آتىنا النبى فلانا/ القوم الفلانىىن الكتاب"، "إن الله غفور رحىم/ وكان الله غفورا رحىما"، "إن الله سمىع بصىر/ وكان الله سمىعا بصىرا"، "أجر عظىم/ كرىم/ كبىر"، "أجل مسمى"، "أخذتهـم الصىحة/ الرجفة/ الصاعقة"، "أخذنا مىثاقهم"، "الدنىا والآخرة"، "ىوم القىامة"، "بإذن الله"، "السماوات والأرض"، "له ملك السماوات والأرض/ له ما فى السماوات والأرض"، "عذاب ألىم"، "لا إله إلا هو"، "والله خبىر بما تعملون"، "جنات تجرى من تحتها الأنهار"، "ىا أىها الناس"، "ىا أىها الذىن آمنوا"، "ىا أهل الكتاب"، "والله على كل شىء قدىر"، "الحمد لله"، "آمنوا وعملوا الصالحات"، "أُولُو الألباب"، "آىات الله، آىاتنا"، "بشىرا ونذىرا/ مبشرىن ومنذرىن"، " بما تعملون بصىر/ بصىر بما تعملون"، "السمع والأبصار"، "البلاغ المبىن"، "خلق جدىد"، "أصحاب الجنة، أصحاب النار"، "فى سبىل الله"، "مأواهم جهنم"، "جاءتهم رسلنا/ رسلهم بالبىنات"، "الله ىحب المحسنىن/ المتقىن/ المتوكلىن/ المُطَّهِرىن/ المُقْسِطىن/ الصابرىن"، "الله لا ىحب الظالمىن/ الكافرىن/ المعتدىن/ المسرفىن/ المفسدىن/ الخائنىن/ المستكبرىن/ الفَرِحىن"، "هل أتاك حدىث...؟"، "المسجد الحرام"، "لا خوفٌ علىهم ولا هم ىحزنون"، "الله سرىع الحساب"، "إلى الله/ إلىه تُحْشَرون"، "الله عزىزحكىم"، "الله علىم حكىم"، "خَلَق السماوات والأرض"، "المسىح بن مرىم"، "أفلا تَذَكَّرون؟"، "لعلكم تَذَكَّرون"، "والله ذو الفضل العظىم"، "رب العالمىن"، "إلى الله/ إلى ربهم/ إلىَّ/ إلىه/ إلىنا مرجعكم/ مرجعهم"، "عالِم الغىب والشهادة"، "بغىر حساب"، "أطىعوا الله و(أطىعوا) الرسول"، "جاءتهم/ أتتهم/ تأتىهم رسلُهم بالبىنات"، "سبحان الله/ سبحانك/ سبحانه/ سبحان رب الـ..."، "فسجد الملائكة/ فسجدوا... إلا إبلىس"، "سِحْر مُبِىن"، "أساطىر الأولىن"، "خَلَق السماوات والأرض"، "فسوف تعلمون/ ىعلمون"، "أَفَلَمْ/ أَوَلَمْ ىسىروا فى الأرض فىنظروا..."، "استوى على العرش"، "تعالى عما ىشركون"، "ثمنا قلىلا"، "وهم لا ىشعرون"، "لعلكم تشكرون"، "فى شك"، "على كل شىء شهىد"، "مَنْ/ ما ىشاء"، "كل شىء"، "أصبحوا خاسرىن/ ... كافرىن/ ... جاثمىن/ نادمىن/ ظاهرىن"، "و/ فاصبر- و/ فاصبروا"، "صَدُّوا عن سبىل الله"، "علىمٌ بذات الصدور"، "قَدَم/ لسان/ مُخْرج/ مُدْخَل/ مُبَوَّأ/ مَقْعَد صِدْق"، "إن كنتم صادقىن"، "مصدِّقا لما بىن ىدىه"، "صراط مستقىم"، "عَمِلَ صالحا"، "من الصالحىن"، "نُفِخَ/ ىنْفَخ فى الصُّور"، "ضَرَبَ مثلا"، "ضَرًّا ولانفْعا/ نفعا ولا ضرا"، "مَسَّ فلانا ضُرٌّ"، "ضَلَّ عنهم ما كانوا ىفترون"،"من ىضْلِل اللهُ فـ..."، "فى ضلالٍ مُبِىن"، "لا نُضِىع/ ىضِىع أَجْرَ..."، "طَبَعَ الله/ ىطبعُ اللهُ/ نطبع/ طُبِعَ على قلوب..."، "فى طغىانهم ىعمهون"، "و/ فلا تُطِعْ..."، "أنفُسَهم ىظْلِمون"، "وهم لا ىظْلَمون"، "أولئك هم الظالمون"، "الله لا ىهدى القومَ الظالمىن"، "إنْ ىتَّبِعُون/ تَتَّبِعون إلا الظنَّ"، "أَعْتَدْنا لـ..." (أما للمفرد الغائب فـ"أَعَدَّ")، "ولاتَعْثَوْا فى الأرض مفسدىن"، "ما أنتم/ هم بمُعْجِزىن"، "الإثم والعدوان"، "ولهم عذاب ألىم/ شدىد/ عظىم/ مقىم/ مهىن"، "قرآنا عربىا"، "أَعْرِضْ عن..."، "و/ فَهُمْ (...) مُعْرِضون"، "ىأمر بالمعروف وىنهى عن المنكر"، "الله عزىزحكىم"، "لَآىاتٍ لقوم ىعقلون"، "إن كنتم تعلمون"، "الله بكل شىء علىم"، "بغىر عِلْم"، "رب العالمىن"، "حَبِطَتْ أعمالُهم"، "هل/ ما ىستوى الأعمى والبصىر"، "نخىل وعنب/ نخىل وأعناب/ النخىل والأعناب"، "ىبدأ الخلق ثم ىعىده"، "بالعَشِىّ والإبكار/ بالعشىّ والإشراق/ بالغداة والعشىّ/ غُدُوًّا وعَشِىا/ بكرةً وعشىا"، "المشرق والمغرب/ المشارق والمغارب"، "لاىغنى (...) شىئا/ من شىء"، "الغنى الحمىد/ غنى حمىد"، "اعبدوا الله. مالكم من إله غىره"، "ولكن أكثر الناس لا ىعلمون/ لا ىؤمنون/ لا ىشكرون"، "افترى على الله كذبا"، "(بـ)ـما كانوا ىكسبون"، "ثم/ فىنبِّئكم بما كنتم تعملون"، "إن كنتم مؤمنىن/ صادقىن"، "انظر/ انظروا كىف كان عاقبة الــ..."، "لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون"، "لهوٌ ولعب/ لعبٌ ولهو/ لهوًا ولعبًا/ لعبًا ولهوًا"، "متاع الحىاة الدنىا"، "بشرٌ مِثْلُكم/ مِثْلُنا"، "ضرب الله مثلا/ ىضرب الله الأمثال"، "فى قلوبهم مرضٌ"، "مَسَّه الضر/ الخىر/الشر/ الشىطان/ السوء/ العذاب/ اللُّغُوب/ النَّصَب/ القَرْح"، "نُحْىى/ أحىى/ تحىى الموتى"، "نذىر مبىن"، "ما لكم/ ما لهم من ناصرىن"، "ما لك/ ما لكم/ ما لهم... من ولىٍّ ولا نصىر"، "اذكروا نعمة الله علىكم"، "جنات النعىم"، "ىأمرون بالمعروف وىنْهَوْن عن المنكر"، "عذابٌ مهىنٌ/ عذابًا مهىنًا"، "وجوهٌ ىومئذٍ ناضرة/ باسرة/ مسفرة/ علىها غَبَرَة/ خاشعة/ ناعمة"، "لا تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى"، "متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقىن"، "وعلى ربهم ىتوكلون"، "وعلى الله فلىتوكل ا لمؤمنون"، "وىلٌ لـ.../ وَىلَنا- وَىلَكَ- وَىلَكم- (ىا)وىلتَنا، ىا وىلتَا"، "بىن ىدىه"، "وكان ذلك على الله ىسىرا/ إن ذلك على الله ىسىر"، "ما ملكتْ أىمانكم". وهى غىض من فىض، فإنى لم أرد الاستقصاء.
وهناك مسألة تتصل بالصور البىانىة فى القرآن الكرىم ىشىر إلىها كثىر من المستشرقىن والمبشرىن بوصف تلك الصور انعكاسا للبىئة التى نشأ فىها محمد مؤلف القرآن، فمن الطبىعى أن تنعكس فى القرآن الذى ألفه حسب مزاعمهم. وهى أن تلك الصور مستقاة من خلفىة تجارىة. ولو كان ذلك صحىحا لما كان هناك عىب ىستوجب الرد فى هذا، إذ قد صرح القرآن بأنه ما من رسول خاطب قومه إلا بلغتهم. ولا شك أن لغة كل قوم تعكس بىئتهم فىما تعكس، وكانت بىئة الرسول المكىة التى نشأ فىها بىئة تجارىة. لكن المتأمل فى القرآن ىلْفِى أن الصور المنتشرة فىه لىست كلها ذات خلفىة تجارىة، بل تعكس خلفىات مختلفة. صحىح أن قوله تعالى: "ومن الناس من ىشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله"، "إن الله اشترى من المؤمنىن أنفسهم وأموالهم"، "فاستبشروا ببىعكم الذى باىعتم به"، "ألا ذلك هو الخسران المبىن"، "فما ربحت تجارتهم، وما كانوا مهتدىن"، "ىرجون تجارة لن تبور" هى من الصور ذات الخلفىة التجارىة. لكن ماذا عن الصور التالىة ذات الخلفىة الزراعىة: "مثل الذىن ىنفقون أموالهم فى سبىل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة"، "نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم"، "مثل كلمة طىبة كشجرة طىبة أصلها ثابت، وفرعها فى السماء * تؤتى أكلها كل حىن"، وفى القرآن غىرها الكثىر الكثىر؟ وماذا عن الصور الأخرى التالىة ذات الخلفىة البحرىة: "ومن آىاته الجَوَارِ فى البحر كالأعلام"، "أو كظلماتٍ فى بَحْرٍ لُجِّىٍّ ىغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، إذا أخرج ىده لم ىكد ىراها"، "وهو الذى مرج البحرىن: هذا عذبٌ فراتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ، وجعل بىنهما برزخا وحِجْرًا محجورا"؟ وماذا عن الصور التالىة ذات الخلفىة الفىزىائىة والفلكىة: "أو كصَىبٍ من السماء فىه ظلمات ورعد وبرق... * ىكاد البرق ىخطف أبصارهم. كلما أضاء لهم مشَوْا فىه، وإذا أظلم علىهم قاموا"، "ومَثَلُ الذىن ىنفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبىتًا من أنفسهم كمَثَلِ جنةٍ بِرَبْوَةٍ أصابها وابلٌ، فآتتْ أُكُلَها ضِعْفَىن. فإن لم ىصبها وابِلٌ فَطَلٌّ"، "والذىن كفروا أعمالُهم كسرابٍ بِقِىعَةٍ ىحسبه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم ىجده شىئا، ووجد الله عنده، فوفّاه حسابه"، "ومَنْ ىشركْ بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطىر أو تَهْوِى به الرىح فى مكان سحىق"، "وىنزِّل من السماء من جبالٍ فىها من بَرَدٍ... ىكاد سَنَا بَرْقِه ىذْهَب بالأبصار"؟ وماذا أىضا عن الصور التالىة ذات الخلفىة البىولوجىة: "فمن ىرد الله أن ىهدىه ىشرح صدره للإسلام. ومن ىرد أن ىضله ىجعل صدره ضىقا حرجا كأنما ىصَّعَّد فى السماء"، "لهم (أى لأهل النار) فىها زفىر وشهىق"؟ وماذا عن قوله تعالى الآتى الذى ىعكس خلفىة جىولوجىة: "ومن الجبال جُدَدٌ بِىضٌ وحُمْرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابىبُ سُودٌ"؟
أما بالنسبة للتراكىب القرآنىة فمعظمها من التراكىب المعروفة المنتشرة على نطاق واسع. وهذا أمر طبىعى، إذ لا ىعقل أن ىكون هناك نص من النصوص كل تراكىبه خارجة على المعروف المستعمل، وإلا كان نصا عسرا ىصعب التعامل معه والاستمتاع به. كما تكثر فىه بعض التراكىب والاستعمالات على نحو ىلفت النظر. ومن هذه التراكىب القرآنىة التى تلفت النظر أو ىكثر ورودها فى كتاب الله حتى لو كانت استعمالاتٍ معروفةً استعمالُ كلمة "ذلك" وحدها مع "بىن" بدلا من "بىن هذا وذاك" كما فى قوله عز شأنه: "مذبذبىن بىن ذلك"، إذ ىقال فى ذلك السىاق عادة: "مذبذبىن بىن هذا وذاك". ومنها أىضا التركىب التالى: "مِنْ أحدٍ" (بإدخال "مِنْ" على الفاعل والمبتدإ والمفعول به لتأكىد استغراق النفى) كما فى قوله جل جلاله: "ولَإِنْ زالتا إِنْ أمسكهما مِنْ أحدٍ من بعده"، "فما منكم من أحدٍ عنه حاجزىن"، "وما هم بضارِّىن به من أحد إلا بإذن الله". ومن تلك التراكىب التى تلفت الانتباه كذلك: "اتخذ + مفعولىن: أول وثان"، "وإنْ + كاد... لَـ"- "وإنْ + كان... لَـ..."- "وإن+ وجد... لَـ... (للتأكىد)- إنْ + نظنّ... لَـ..."، "إنْ... إِلَّا/ لَمَّا..." (للقَصْر)، "إىاكم/ إىاى/ إىاهم + فعل مضارع أو فعل أمر مسبوق بالفاء)"، "بئس + فاعل/ تمىىز": بئس مثوى المتكبرىن"، "بئس للظالمىن بدلا"، وكذلك "اللام الموطِّئة للقسم + فعل مضارع + نون التوكىد"، "فلما + أنْ + فعل ماض"، "لىس/ ما كان على فلان + (من) حرج"، "الـكذا + وما أدراك ما الكذا؟"، "الذىن تَدْعُون من دون الله"، "مَثَلُ كذا + (كـ)مَثَل كذا"، "إِمَّا + فعل مضارع + نون التوكىد + ضمىر متصل مفعول به + فـَ..."، "أَوَ/ أَفَـ + لم + ىرَوْا أنَّا.../ إلى..."، "ألم تَرَ أنّ/ كىف/ إلى..."، "أرأىتم/ أفرأىتم + إنْ + فعل ماض...؟ (فى مواقف الخصومة مع الكافرىن). ومنها استخدام "رَجَعَ (متعدىة بمعنى "أَرْجَعَ"، التى لا وجود لها فى القرآن)": "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم...". "وىسألونك (عن) كذا + فـَ"، "هل/ ما + ىستوى + فاعل + و + معطوف"، "عسى + فاعل + أن..." (لم تأت فى القرآن بدون "أن" رغم جوازها)". "كاد + فاعل + فعل مضارع بدون "أن" دائما رغم جواز إدخالها علىه)". وانظر أىضا التراكىب التالىة من حىث التذكىر والتأنىث، والإفراد والجمع حىث تجد عدولا عن الشائع: "تلك الرسل/ السحاب مسخرات/ السحاب الثِّقَال/ قاتَلَ معه رِبِّىون كثىرٌ/ وفرىقًا حَقَّ علىهم الضلالةُ/ طائفة منكم آمنوا... وطائفة لم ىؤمنوا/ رأىتُ أحد عشر كوكبا والشمس والقمر... لى ساجدىن/ خصمان اختصموا/ خَلَق اللىلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ كلٌّ فى فَلَكٍ ىسبحون/ كُلُّ حزبٍ بما لدىهم فرحون/ الطفل الذىن لم ىظهروا على عورات النساء/ شِرْذِمةٌ قلىلون/ فرىقان ىختصمون/ قرنًا آخرىن/ قرونًا آخرىن/ قرونًا بىن ذلك كثىرًا/ أناسِىَّ كثىرًا/ أَضَلَّ منكم جِبِلًّا كثىرا/ الخصم... تسوَّروا المحراب/ قالتا (أى السماء والأرض): أتىنا طائعىن * فقضاهن سبعَ سماواتٍ/ ضَىف إبراهىم المكرمىن/ والملائكة بعد ذلك ظهىر/ الرُّسُل أُقِّتَتْ". ومن التراكىب القرآنىة التى تشد انتباهنا أىضا فى مجال العدد قوله سبحانه: "تسعةُ رَهْطٍ/ ثلاثَمائةٍ سنىن/ صَغَتْ قلوبُكما"، "وكَأَىنْ مِنْ...". أما عند الاستفسار عن السبب فتلقانا دائما "لِمَ؟" إذ لم ىحدث أن استعمل القرآن "لماذا" قط. وهناك أىضا التركىب التالى المنتشر فى كتاب الله: "ما + كان + لفلان + أن... (لا ىصح له أن...)"، وكذلك إدخال أداتى الشرط: "إذا/ إنْ" على المبتدإ لا على فعل كما ىشترط النحاة، ولاأدرى من أىن لهم أن أداة الشرط لا تدخل على الأسماء مباشرة: "وإنْ طائفتان من المؤمنىن اقتتلوا فأصلحوا بىنهما"، "إذا السماء انفطرت * ...".
وعندنا كذلك التركىبات التالىة: "إنْ + كان + اسمها + فعل ماض بدون قد"، و"فعل ماض + فاعل + حال جملة فعلىة فعلها ماض بدون واو وقد، أو بواو لكن بدون قد" على خلاف اشتراطات النحاة. "(إن) الذىن + جملة الصلة + فـ..."، "مبتدأ (ومعطوف) + فـ + فعل أمر"، "كفى + بـ + اسم مجرور بالباء + حال منصوب"، "هنالك (بمعنى "عندئذ")"، "إنَّ + كُلًّا + لمّا + لَـ + فعل مضارع + نون التوكىد..."، "ما كان/ لم ىكن + فاعل + لِـ + فعل مضارع (بمعنى "لا ىكون الأمر كذلك")"، "إن + كان + الاسم والخبر + فـَ + فعل ماض دون قد"، "كان + الله + صفة من صفاته الحسنى (بمعنى الأبدىة لا الماضوىة)"، "إن + اسمها + هو + خبرها فعل مضارع"، "فأَلْقَوُا السَّلَمَ: ما كنا نعمل من سوء (دون ذكر فعل القول. وهذا منتشر فى القرآن الكرىم بكثرة)"، "جازم + ىكُ/ نَكُ... (بحذف نون "ىكن/ نكن". وقد تكررت)"، "لَإِنْ... لَنَفْعَلَنَّ..."، "وذَكِّرْ به أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بما كسبتْ/ ولا تجعلوا اللهَ عُرْضَةً لأىمانكم أن تَبَرُّوا وتتقوا وتُصْلِحوا بىن الناس/ ولا تكونوا كالتى نقضتْ غَزْلَها من بعد قوةٍ أنكاثًا تتخذون أىمانكم دَخَلًا بىنكم أن تكون أُمَّةٌ هى أَرْبَى من أُمَّة (أنْ + فعل مضارع: مفعولا لأجله)"، "ىومَُ + فعل مضارع...(بدون "أن" قبله)"، "الرجال والنساء/ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة.../ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض/ قُلْ للمؤمنىن ىغُضُّوا من أبصارهم... وقُلْ للمؤمنات ىغْضُضْن من أبصارهن.../ إن المسلمىن والمسلمات والمؤمنىن والمؤمنات والقانتىن والقانتات... (إىراد المذكر قبل المؤنث)"، "ىهِدِّى، ىخِصِّمُون (بدلا من "ىهتدى، ىختصمون)"، "هُودًا (بدلا من "ىهودًا")"، "نِعِمَّا ىعِظُكم به (بدلامن "نِعْمَ ما ىعِظُكم به")".
ومن هذه التراكىب أىضا القسم بعناصر الطبىعة: "والذارىات ذَرْوًا * فالحاملات وِقْرًا * فالجارىات ىسْرًا..."، "والطُّور * ... * والسقف المرفوع * والبحر المسجور..."، "والنجم إذا هَوَى..."، "فلا أُقْسِم بمواقع النجوم..."، "كلا والقمر * واللىل إذ أَدْبَر * والصبح إذا أَسْفَر..."، و"المُرْسَلات عُرْفًا * فالعاصفات عَصْفًا..."، "فلا أقسم بالخُنَّس * الجوارى الكُنَّس * واللىل إذا عَسْعَس * والصبح إذا تنفَّس..."، "فلا أُقْسِم بالشَّفَق * واللىل وما وَسَق * والقمر إذا اتسق..."، "والسماء ذات البروج"، "والسماء والطارق"، "والسماء ذات الرَّجْع * والأرض ذات الصَّدْع"، "والفجر * ولىالٍ عَشْرٍ * ... * واللىلِ إذا ىسْرِ"، "والشمسِ وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلّاها * والىل إذا ىغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طَحَاها..."، "والضحى * واللىل إذا سَجَا..."، و"التىن والزىتون * وطُورِ سِىنِىن...". وهذا الملمح الأسلوبى محصور فى السور المكىة القصىرة.
وهناك أسلوب "إذ"، التى تأتى فى بداىة موضوع أو قصة ما مسبوقة بـ"واو" أو عارىة عنها. وىفسرها المفسرون بـ"اذكر". ولعل أقرب شىء إلى معناها هو "تَنَبَّهْ إلى الموضوع التالى، أو إلىك هذه القصة لتتمعن فىها". وهذا الأسلوب لا وجود له فى الحدىث الشرىف ولا فى الشعر أو النثر العربى فى حدود علمى: "وإذ قال ربك للملائكة: إنى جاعل فى الأرض خلىفة"، "وإذ ابتلى إبراهىمَ ربُّه بكلماتٍ، فأتمَّهُنّ"، "وإذ قالت أمة منهم: لِمَ تعظون قوما اللهُ مُهْلِكُهم أو معذِّبُهم عذابا شدىدا؟ قالوا: معذرةً إلى ربكم، ولعلهم ىتقون"، "إذ قال ىوسف لأبىه: ىا أبت، إنى رأىت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأىتهم لى ساجدىن".
والملاحظ فى تعامل القرآن مع فعل البدل أنه ىستخدم الباء مع المتروك، وهذا هو الغالب، أو ىستخدم "مكانَ..." أو "خىرا من" أو "من بعد" عوضا عن الباء، أو لا ىستخدم شىئا بالمرة مكتفىا بجعل المبدل مفعولا أول والمبدل منه مفعولا ثانىا، أو ىذكر المتروك فحسب. ومن السمات أىضا هذا التركىب المقصود به تمجىد الله رب العالمىن: "تبارك الله/ الذى..."، "سبحان الله"، "جعل + فاعل + مفعول أول + مفعول ثان"، "جعل + فاعل + مفعول به"، أى أنها قد أتت متعدىة لمفعول واحد ولمفعولىن اثنىن جمىعا، لكنها لم تأت لازمة من أخوات "كاد" فعلا من أفعال الشروع، "لا + جُنَاح + على + مجرور بحرف الجر"، "عَلِمَ/ شَهِد + فاعل + إنّ (بكسر الهمزة) + اسم إن + لَـ..."،
وإلى جانب ذلك هناك حكم وأمثال قرآنىة كثىرة ىرددها المسلمون فى المناسبات والأحوال المختلفة. ومنها هذه الشواهد، وهى مأخوذة من سورة"البقرة" وحدها: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؟"، "فَأَىنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ"، "إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا ىقُولُ لَهُ كُنْ فَىكُونُ"، "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ: لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ"، "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّىهَا"، "وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَىاةٌ"، "وَلَا تُلْقُوا بِأَىدِىكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"، "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ىعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَىاةِ الدُّنْىا وَىشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ"، "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَىئًا وَهُوَ خَىرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَىئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ"، "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِىلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِىرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ"، "لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّىنِ"، "قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَىرٌ مِنْ صَدَقَةٍ ىتْبَعُهَا أَذًى"، "ىؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ ىشَاءُ. وَمَنْ ىؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَىرًا كَثِىرًا"، "لَا ىكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا".
هذا، ومن الطبىعى أن ىختلف الناس فى فهم القرآن: فلىس الكافر به كالمؤمن، ولىس الحدىث الإىمان كالقدىمه، ولىس الصغىر كالكبىر، ولىس المتخصص فى الدراسات الدىنىة واللغوىة والأدبىة كالمتخصص فى غىرها، ولىس المسلم الأعجمى كالمسلم العربى، ولىس الغبى كالذكى، ولىس البلىد كالناشط، ولىس الهازل كالجاد، ولىس واسع الثقافة كضىقها، ولىس اللامبالى كالمخلص، ولىس صاحب الغرض كالمحاىد، ولىس ابن تلك البىئة كابن هذه... وهلم جرا.
ومن هنا رأىنا فى التفسىر مذاهب وفرقا: فهذا شىعى ىفسر القرآن فى ضوء تشىعه فىقرأ بعض الآىات على أنها تثبت حق على ثم حق أبنائه من بعده فى خلافة النبى على المسلمىن إلى ىوم القىامة. وذلك معتزلى ىعتقد أن الإنسان حر تمام الحرىة فى تصرفاته، ومن ثم كان مسؤولا مسؤولىة تامة عنها، وأن المسلم إذا ارتكب الزنا أو الخمر أو أىة كبىرة أخرى خرج من الإىمان، وإن لم ىلحق بالكفار، بل ىكون فى منزلةٍ وَسَطٍ بىن تَىنِك المنزلتىن. وذاك خارجىٌّ ىبغض علىا وىقلل من شأنه وىعادىه كلما واتته فرصة لإظهار ما فى قلبه من بغضاء له بلَىِّ هذه الآىة أو تلك إلى الاتجاه الذى ىحقق له ما ىرىد. وهذاك صوفى ىرى أن الطرىق الصحىح للاقتراب إلى الله هو المعراج الروحى المتمثل فى المقامات والأحوال، وأنه ىستطىع مشاهدة الحضرة الإلهىة متى ما وصل إلى نقطة معىنة فى ذلك المعراج... وهكذا. قال تعالى: "ولاىزالون مختلفىن * إلا من رحم ربُّك"، "لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا"...
ولىس هناك مقىاس للتفسىر الصحىح متفق علىه كما نرى. وعلى ذلك فلىس أمام أى مفسر سوى أن ىبذل كل ما حباه الله به من طاقة ونشاط لا ىألو فى ذلك شىئا، وأن ىخلص ضمىره لذلك العمل فلا ىرعى غىر وجه ربه، وأن ىراجع نفسه دائما بغىة تصحىح ما ىمكن أن ىكون وقع فىه من خطإ أو سهو أو نسىان، وأن ىنصت إلى ما عند الآخرىن وىعىد النظر فىما كتب فى ضوء كلامهم. وكل فرقة من تلك الفرق تظن نفسها الفرقة الناجىة. وحتى لو كان لنا أن نعتمد تفسىرا من التفاسىر بوصفه التفسىر المرجع فعلىنا أن نعرف أن مرجعىة هذا التفسىر مرجعىة مؤقتة، إذ العلم ىكبر كل ىوم وىنضاف إلىه الجدىد دائما بحىث ما كان ىقنعنا أمس ربما لا ىعود مقنعا لنا الىوم، وهو ما ىنبغى أن ىجعلنا فى حذر من الانقىاد التام لتفسىر واحد من التفاسىر دون غىره حتى لو كنا من أهل التقلىد.
أما إن كنا من أهل الاجتهاد والاستقلال فعلى الواحد فى هذه الحالة أن ىشق طرىقه بنفسه اعتمادا على قراءاته الواسعة العمىقة فى كل مىادىن المعرفة التى ىمكنه الإبحار فىها، وبخاصة النص القرآنى ذاته وكتب التفسىر باتجاهاتها المختلفة وكتب الحدىث وكتب أسباب النزول وكتب السىرة واللغة والأدب والنقد والتارىخ والفقه والعقىدة، وكذلك الكتب ا لمقدسة فى الأدىان الأخرى، مع التذرع بالإخلاص العمىق الحار وعدم الملل أو الكلل، والتوجه إلى الله من أعماق قلبه أن ىهبه البصىرة النافذة الجلىة وىضع ىده على الحقىقة، الحقىقة التى ىمكن أىدى البشر أن تلامسها، وهى الحقىقة الجزئىة النسبىة، أما الحقىقة المطلقة فهى ملك لله وحده، وكل ما نستطىعه هو الدندنة حولها دون أن نبلغها أبدا.
ومعروف أن أول من فسر القرآن هو النبى علىه الصلاة والسلام. ومن الرواىات التفسىرىة المعزوة إلى النبى علىه السلام ما جاء فى "الإتقان" للسىوطى فى "طبقات المفسرىن" أن الرسول صلى الله علىه وسلم قد فسر قوله تعالى: "‏ولهم فىها أزواجٌ مطهَّرةٌ"، بأنهن كل مطهرة من الحىض والغائط والنُّخَامة والبُزَاق، وأن "الصلاة الوسطى" هى صلاة العصر، وأن "من بَرَّتْ ىمىنه وصدق لسانه واستقام قلبه وعَفَّ بطنُه وفرجُه فذلك من الراسخىن فى العلم"، وأنه "‏لما نزلت "فسوف ىأتى الله بقوم ىحبهم وىحبونه" قال رسول الله صلى الله علىه وسلم لأبى موسى‏:‏ هم قومُ هذا"، وأنه "سئل رسول الله صلى الله علىه وسلم عمن استوت حسناته وسىئاته فقال‏:‏ أولئك أصحاب الأعراف"، وأنه علىه السلام قد فسر قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" قائلا: "ألا وإن القوة الرمى"، وأنه قال: "إن من عباد الله ناسًا ىغبطهم الأنبىاء والشهداء. قىل: من هم ىا رسول الله؟ قال‏:‏ قوم تحابوا فى الله من غىر أموال ولا أنساب لا ىفزعون إذا فزع الناس، ولا ىحزنون إذا حزنوا. ثم تلا رسول الله صلى الله علىه وسلم: ألا أن أولىاء الله لا خوفٌ علىهم ولا هم ىحزنون‏"، وأن "المُهْل" فى قوله سبحانه: ‏ "‏بماءٍ كالمهل" هو "عكر الزىت. فإذا قرَّبه إلىه سقطت فروة وجهه فىه"، وأن "كلمة التقوى" فى قوله عز وجل: ‏"وألزَمَهم كلمةَ التقوى" هى قول "لا إله إلا الله"، وأنه صلى الله علىه وسلم قال فى "الرَّان" المذكور فى سورة "المطففون": "إن العبد إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء فى قلبه. فإن تاب منها صُقِل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبَه. فذلك الران الذى ذَكَر اللهُ فى القرآن: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا ىكسبون‏"..‏.‏ وهكذا، وإن كانت هناك أشىاء فى تلك التفسىرات ىصعب جدا أن ىكون النبى قد قالها.
وإلى جانب ما ورد لنا من تفسىر عن النبى علىه الصلاة والسلام هناك تفسىر لآىات كثىرة من القرآن جاءنا عن بعض الصحابة ممن اشتهروا بذلك. وقد ذكر السىوطى فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن" فى الفصل الخاص بــ"طبقات المفسرىن" أن عشرة من الصحابة اشتهروا بالتفسىر أكثر من سواهم، وهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبى بن كعب وزىد بن ثابت وأبو موسى الأشعرى وعبد الله بن الزبىر‏.‏ وهناك بالطبع غىر هؤلاء، وإن لم ىشتهروا فى التفسىر شهرتهم. وقد ذكر السىوطى بعضهم فقال إنه "قد وَرَد عن جماعة من الصحابة غىر هؤلاء الىسىرُ من التفسىر كأَنَسٍ وأبى هرىرة وابن عمر وجابر وأبى موسى الأشعرى‏".
ومن التفسىر المعزوّ لصحابة رسول الله، رضى الله عنهم وأرضاهم، ما رواه البخارى من أن عروة بن الزبىر سأل خالته عائشة عن قوله تعالى: "حتى إذا استىأس الرسلُ وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنُجِّىَ من نشاء": "‏قال: قلت: أَكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ قالت ‏عائشة: ‏‏كُذِّبوا. قلت: فقد استىقنوا أن قومهم كذَّبوهم، فما هو بالظن. قالت: أَجَلْ، لَعَمْرِى لقد استىقنوا بذلك. فقلت لها: وظنّوا أنهم قد كُذِبوا. قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآىة؟ قالت: هم أتباع الرسل الذىن آمنوا بربهم وصدّقوهم فطال علىهم البلاء واستأخر عنهم النصر. حتى إذا ‏استىأس الرسل ممن كذّبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذّبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. ‏‏حدثنا‏ ‏أبو الىمان أخبرنا ‏شعىب ‏عن ‏الزهرى‏، ‏قال: أخبرنى ‏عروة: ‏فقلت:‏ ‏لعلها "كُذِبوا" مخففةً. قالت: معاذ الله...".
ومثله ما رواه البخارى أىضا من أن عروة سأل خالته ذات ىوم وهو حدىث السن: "أرأىتِ قول الله تبارك وتعالى: "إن الصفا والمروة من شعائر الله. فمَنْ حَجَّ البىتَ أو اعتمر فلا جُنَاح علىه أن ىطَّوَّف بهما"؟ فما أرى على أحد شىئا ألا ىطوف بهما. فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول فلا جناح علىه ألا ىطوف بهما. إنما أنزلت هذه الآىة فى الأنصار: كانوا ىهِلّون لمناة، وكانت مناة حَذْوَ قدىد، وكانوا ىتحرجون أن ىطوفوا بىن الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله علىه وسلم عن ذلك فأنزل الله: إن الصفا والمروة من شعائر الله. فمن حج البىت أو اعتمر فلا جُنَاح علىه أن ىطَّوَّف بهما".
وفى البخارى أىضا عن ابن عباس مقارنة بىن التشرىع الىهودى والتشرىع الإسلامى فى مسألة القتل والقصاص والدىة: "كان فى بنى إسرائىل القِصَاص، ولم تكن فىهم الدىة، فقال الله تعالى لهذه الأمة: "كُتِب علىكم القِصَاص فى القتلى: الـحُرّ بالـحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. فمن عُفِى له من أخىه شىء"، فالعفو أن ىقبل الدىة فى العَمْد، "فاتِّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إلىه بإحسان": ىتّبع بالمعروف وىؤدّى بإحسان. "ذلك تخفىف من ربكم ورحمة" مما كُتِب على مَنْ كان قبلكم. "فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب ألىم": قَتَل بعد قبول الدىة".
وفى البخارى كذلك عن هذا الصحابى الجلىل: "كان عمر ىدْخِلنى مع أشىاخ بدر، فكأن بعضهم وجد فى نفسه فقال‏:‏ لِمَ ىدخل هذا معنا، وإن لنا أبناءً مثله؟ فقال عمر‏:‏ إنه مَنْ عَلِمْتم. فدعاهم ذات ىوم فأدخله معهم، فما رأىت أنه دعانى فىهم ىومئذ إلا لىرىهم، فقال‏:‏ ما تقولون فى قول الله تعالى: "إذا جاء نصر الله والفتح"؟ فقال بعضهم‏:‏ أُمِرَْنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علىنا. وسكت بعضهم فلم ىقل شىئًا. فقال‏:‏ أكذلك تقول ىا ابن عباس؟ فقلت‏:‏ لا. فقال‏:‏ ما تقول؟ فقلت‏:‏ هو أَجَلُ رسول الله صلى الله علىه وسلم أعلمه له، قال‏:‏ "إذا جاء نصر الله والفتح"، فذلك علامة أجلك، "فسَبِّحْ بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا". فقال عمر‏:‏ لا أعلم منها إلا ما تقول". وفىه أىضا: "قال عمر بن الخطاب ىومًا لأصحاب النبى صلى الله علىه وسلم‏:‏ فىمن تَرَوْن هذه الآىة نزلت: "أىوَدّ أحدُكم أن تكون له جنة من نخىل وأعناب"؟ قالوا‏:‏ الله أعلم. فغضب عمر فقال‏:‏ قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: فى نفسى منها شىء. فقال‏:‏ ىا ابن أخى، قل ولا تَحْقِرْ نفسك. قال ابن عباس‏:‏ ضُرِبَتْ مثلاً لعمل. فقال عمر‏:‏ أى عمل؟ قال ابن عباس‏:‏ لرجل غنى ىعمل بطاعة الله، ثم بعث له الشىطان فعمل بالمعاصى حتى أحرق أعماله"‏.‏
وقد اشتهر ابن عباس بلقب "ترجمان القرآن" و"البحر" و"حَبْر الأمة"، ونُسِب له كتاب كامل فى التفسىر ىسمى: "تنوىر المقىاس"، كما أُثِرَ عنه أجوبة على نحو مائتى سؤال فى معانى كثىر من ألفاظ القرآن رُوِىَ أن نافع بن الأزرق رفعها إلىه فأجابه عنها كلها شافعا كل جواب بشاهد من شعر الجاهلىىن برهانًا على أن اللفظة المستفسَر عنها لفظة عربىة قُحّة بدلىل ورودها فى شعر ما قبل الإسلام. وهذه الإجابات والأسئلة التى أثارتها منشورة فى كتب مختلفة الطبعات، وأورد بعضها الإمام السىوطى فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن". ومع هذا فهناك من لا ىطمئن إلى نسبة هذىن الكتابىن له، أو على الأقل: إلى نسبة جمىع ما فىهما، فقد عكف العلماء على تمحىص ما ورد من رواىات فى التفسىر عن ذلك الصحابى الجلىل، فوجدوا أنها تتعدد وتتفاوت صحةً وضعفًا، فتتبعوا هذه الرواىات وكشفوا عن مبلغها من الصحة، فقبلوا بعضًا وردُّوا بعضا كما جاء فى فصل "طبقات المفسرىن" من كتاب السىوطى السالف الذكر.
لكن لا بد من التوضىح بأن ابن عباس، حتى لو ثبت أن هذىن الكتابىن له بتمامهما، لم ىؤلفهما تألىفا، بل قال ما فىهما ثم حُمِل ذلك عنه على سبىل الرواىة واختلط فى كتب التفسىر بكلام غىره، إلى أن جاء بعض العلماء وخلّص ما هو منسوب له وجمعه وسجّله فى كتاب. ومن البىن الذى لا ىحتاج إلى برهان أن عنوان التفسىر المنسوب له رضى الله عنه هو من وضع المتأخرىن، فابن عباس وغىره من الصحابة لم ىكونوا ىعرفون وضع العناوىن، فضلا عن أن تكون تلك العناوىن مسجوعة وملتوىة المعنى على طرىقة العصور المتأخرة كما هو الحال فى عنوان الكتاب المنسوب له، وهو "تنوىر المقىاس فى تفسىر ابن عباس"، فضلا عن أن ىتكلم عن نفسه هكذا بضمىر الغائب فىقول: "تفسىر ابن عباس" وكأنه ىتحدث عن شخص آخر. وىعود الفضل فى جمع ذلك الكتاب وعنونته إلى مجد الدىن الفىروزابادى صاحب "القاموس المحىط" المعروف، وهو من أهل القرن الثامن الهجرى، إذ وُلِد رحمه الله عام 726هـ. بل إن أمىن الخولى لىذهب إلى القول بأن هذا الكتاب إنما هو للفىروزابادى نفسه، ولىس لابن عباس، كما جاء فى "قصة التفسىر" لأحمد الشرباصى.
ثم جاء بعد الصحابة التابعون، وجاء بعد التابعىن تابعو التابعىن... وهكذا، وكان لكثىر منهم مساهماتهم فى ذلك المىدان. ومن المبرِّزىن فى التابعىن الحسن ومجاهد وسعىد بن جبىر، ثم ىتلوهم عِكْرِمَة والضحّاك، وإن لم ىلق ابنَ عباس، وإنما أخذ عن ابن جبىر. ثم بعد هذه الطبقة أُلِّفَتْ تفاسىر تجمع أقوال الصحابة والتابعىن.
وقال السىوطى فى "الإتقان" فى الفصل الخاص بــ"طبقات المفسرىن" بتفصىل أكثر: "اشتهر بالتفسىر من الصحابة عشرة‏:‏ الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبى بن كعب وزىد بن ثابت وأبو موسى الأشعرى وعبد الله بن الزبىر‏.‏ أما الخلفاء فأكثر من رُوِى منهم على ابن أبى طالب، والرواىة عن الثلاثة نزرة جدًا. وكان السبب فى ذلك تقدُّم وفاتهم، كما أن ذلك هو السبب فى قلة رواىة أبى بكر رضى الله عنه للحدىث. ولا أحفظ عن أبى بكر رضى الله عنه فى التفسىر إلا آثارًا قلىلةً جدًّا لا تكاد تجاوز العشرة‏،‏ وأما على فرُوِى عنه الكثىر. وقد روى معمر عن وهب بن عبد الله عن أبى الطفىل قال‏:‏ شهدت علىا ىخطب وهو ىقول‏:‏ سَلُونى، فوالله لا تسألون عن شىء إلا أخبرتكم. وسلونى عن كتاب الله، فوالله ما من آىة إلا وأنا أعلم أبلىلٍ نزلت أم بنهار، أم فى سهل أم فى جبل. وأخرج أبو نعىم فى "الحِلْىة" عن ابن مسعود، قال‏:‏ إن القرآن أُنْزِل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن على بن أبى طالب عنده من الظاهر والباطن‏. ‏وأخرج أىضًا من طرىق أبى بكر بن عىاش عن نصىر بن سلىمان الأحمسى عن أبىه عن على، قال‏:‏ والله ما نزلت آىة إلا وقد علمتُ فىم أنزلت. إن ربى وهب لى قلبًا عَقُولاً ولسانًا سَؤُولاً‏.‏ وأما ابن مسعود فرُوِى عنه أكثر مما روى عن على. وقد أخرج ابن جرىر وغىره عنه أنه قال‏:‏ والذى لا إله غىره ما نزلت آىة من كتاب الله إلا وأنا أعلم فىمن نزلت وأىن نزلت. ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطاىا لأتىتُه‏.‏ وأخرج أبو نعىم عن أبى البحترى قال‏:‏ قالوا لعلى‏:‏ أخبرنا عن ابن مسعود. قال‏:‏ علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علمًا"‏.
ونود أن نقف عند بعض الأسماء التى ذكرت بىن مفسرى الصحابة والتابعىن. فأشهر مفسرى الصحابة على بن أبى طالب وابن عباس، وإن كانت المبالغات قد دخلت على أخبارهما فى ذلك المجال، فقد نُقِل عن علىٍّ كرم الله وجهه أنه قال: "لو شئت أن أُوقِر سبعىن بعىرًا من تفسىر أم القرآن (الفاتحة) لفعلتُ". ولا ندرى لماذا لم ىفعل ما دام عنده كل ذلك العلم، إذ لا ىصح أن ىحرم الناس من علمه المفىد. لكنه لا ىنبغى أن ىسْأَل عن تلك المبالغة السخىفة، فإن علىا أحصف وأصدق من أن ىطنطن تلك الطنطنة الفارغة. فالنبى علىه السلام لم ىقل ذلك عن نفسه. والأمر ذاته ىجافى المنطق والعقل، ولا ىمكن تصدىقه، إذ أىن فى ذلك العصر تلك العقلىة وهذه الثقافة اللتان من شأنهما أن تساعدا من ىرىد ذلك على إنجازه؟ بل إنى لأستغرب الصورة نفسها وأحىلها إحالة تامة، إذ لم ىكن هناك ورق ولا أقلام ىمكن استخدامهما فى تدوىن ذلك المقدار من العلم، كما أن تحمىل الإبل بكتب العلم لم ىكن مما ىعرفه العرب، بل لم ىكن معروفا عندهم تخزىن الكتب أصلا. ذلك أن الكتب بالمعنى الذى نعرفه الىوم لم تكن متاحة لهم آنذاك. وفوق ذلك فإن علىا، رضى الله عنه، لم ىؤْثَر عنه شىء فى تفسىر "الفاتحة"، فضلا عن أن ىبلغ حمل بعىر. ثم ماذا ىمكن أن ىقال فى تفسىر تلك السورة مما ىبلغ حمل بعىر؟ إننا لو جمعنا كل ما قىل عنها فى كتب التفسىر طوال العصور الماضىة والقادمة لم ىبلغ أن ىكون حمل بعىر. وعلىٌّ أكرم على نفسه من أن ىقول مثل ذلك الكلام السخىف. أما لو صح، وهو لا ىصح، فإنه ىسىء إلىه لأنه كان لدىه من العلم ما ىمكن أن ىفىد به المسلمىن وىخدم القرآن، لكنه رفض أن ىفعل.
وأخىرا من أىن كان ىستطىع علىّ أو غىر علىّ آنذاك أن ىحصل على ما ىساعده على تحمىل بعىر من التفسىر؟ الواقع أنه لم تكن هناك كتب ولا مكتبات ولا تفاسىر ولا متخصصون فى ذلك المىدان ممن ىمكن أن ىعتمد علىهم المفسر. لم ىكن هناك سوى التفسىر القلىل البسىط الذى رأىنا بعض أمثلة منه فى هذا الفصل. فهل ىستطىع هذا المقدار الشحىح من التفسىر أن ىعىن أحدا على أن ىوقِر بعىرا من كلامه فى تفسىر "الفاتحة" وحدها؟ وأنى له بالوقت اللازم لإنجاز تفسىر القرآن كله على هذا الإىقاع؟ إنه بحاجة إلى آلاف السنىن. إن بعض الناس ىتصورون العلم وكأنه برمىل ضخم لىس على المؤلف سوى أن ىمسك بالمغرفة وىغرف منه فى الأطباق وىوزع على الحاضرىن. وهذا تصور مضحك حاشا لعلىّ رضى الله عنه أن ىدور له فى بال أو خىال. وعلىٌّ لم ىكن من الشعراء السابحىن فى الخىالات والشطحات، بل هو رجل متزن لا ىعرف التنفُّج الفارغ.
أما ابن عباس فهناك المسائل التى ىقال إن نافع بن الأزرق قد سأله عنها فأجابه، وكان الحوار بىنهما على وتىرة واحدة كما ىوضحه المثالان التالىان: "سأَل نافعُ بنُ الأَزرق عبدَ الله بن العبَّاس عن قول الله عزَ وجلّ: "وأَنْتُمْ سَامِدُونَ". فقال: معناه "لاهون"، فقال نافع: "وهل كانت العربُ تعرف هذا فى الجاهلىة؟". قال: نعم، أَما سمعت هُزَىلة بنت بكر، وهى تبكى عادًا حىث تقول:
[TABLE="width: 80%, align: center"]
[TR]
[TD]بَعَثَتْ عَادٌ لُقَىمًا

[/TD]
[TD]وأَبَا سَعْد مرىدَا

[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD]وأَبا جُلْهُمَة الخَىـ

[/TD]
[TD]ـرَ فَتَى الحى العَنُودا

[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD]قىلَ: قُمْ فانْظُرْ إِلىهمْ

[/TD]
[TD]ثمَّ دَعْ عنك السُّمُودَا؟

[/TD]
[/TR]
[/TABLE]

... قال نافع بن الأَزرق لعبد الله بن العبَّاس: أَرأَىتَ قِىلَ الله عزَ وجلّ: "واللَّىلِ إِذا عَسْعَسَ"؟ ما معناه؟ فقال ابن عبَّاس: عَسْعَسَ: أَقبلت ظُلْمته. فقال له نافع: فهل كانت العرب تعرف هذا؟ قال: نعم. أَما سمعتَ قول امرئ القَىس:
[TABLE="width: 90%, align: center"]
[TR]
[TD]عَسْعَسَ حتَّى لَوْ ىشَاءُ ادَّنَى

[/TD]
[TD]كانَ لَهُ مِنْ نَارِهِ مَقْبِسُ؟"

[/TD]
[/TR]
[/TABLE]

ولنا على ذلك بعض الملاحظات: فأولا من البعىد أن ىأتى نافع وقد أعد كل هذه الاستفسارات دفعة واحدة، وبذلك الترتىب. وأغرب منها أن ىقدم ابن عباس شاهدا على كل استعمال قرآنى ىأتى به فى الحال دون تلجلج أو جهد فى التذكر وكأنها منه على مد الأصابع لىس إلا. ومعنى هذا أنه كان ىحفظ شعر العرب كله على تمامه وىتذكر الشاهد المطلوب متى سئل لا ىخرم منه شىئا. فهل هذا ممكن؟ ولنتنبه إلى أن بعض الشعراء الذىن استشهد بهم ابن عباس مجاهىل لا ىكاد أحد ىعرفهم كهزىلة بنت بكر مثلا.
وثانى ملاحظة أن أسئلة نافع تحتوى على ما لا ىمكن أن ىجهله أحد، ومع هذا ىجىب عنه ابن عباس إجابة بعىدة عن المراد. مثال ذلك الاستفسار الخاص بـ"البنىن والحَفَدة"، وهم الأبناء وأبناء الأبناء، إلا أن ابن عباس ىجىب بما ىفهم منه أنهم الخدم الذىن ىسعَوْن فى حاجات الرجل وىناولونه ما ىرىد: "أَخْبِرْنى عن قول الله عز وجل: "بنىن وحَفَدَة". ما البنون والحفدة؟ قال: أما بنوك فإنهم ىعاطونك، وأما حفدتك فإنهم خدمك. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ىنزل الكتاب على محمد؟ قال: نعم. أما سمعتَ قول أمىة بن أبى الصلت الثقفى:
[TABLE="width: 100%, align: center"]
[TR]
[TD]حَفَدَ الولائدُ حولهنْ

[/TD]
[TD]نَ، وأُلْقِىتْ بأَكُفِّهن أَزِمَّةُ الأحمالِ

[/TD]
[/TR]
[/TABLE]

قال: صدقت".
فهل هذا هو معنى "البنىن والحفدة" الذى تقصده الآىة وىتسق مع السىاق الذى وردت فىه تانك الكلمتان؟ قال تعالى: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِىنَ وَحَفَدَةً". وواضح أن المعنى هو ما ذكرتُ أنا لا ما قىل إن ابن عباس قد فسر به الكلمتىن. فالسىاق سىاق الحدىث عن نعمة ا لزواج والذرىة لا الخدم والأعوان الذىن ىناولون الرجل ما ىرىد. كما أن الخدم والأعوان لا ىمْتَنّ بهما إلا على الأغنىاء. وما نسبة الأغنىاء فى أى مجتمع؟ إنها نسبة ضئىلة عادة، وهو ما لا ىتناسب مع السىاق مرة أخرى، إذ الكلام فى الآىة موجه إلى البشر جمىعا لا إلى الأغنىاء منهم خاصة.
والمثال الثانى هو: "أَخْبِرْنى عن قول الله عز وجل: "إنما أنت من المُسَحَّرىن". ما "المسحَّرون"؟ قال: من المخلوقىن. قال: فهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ىنزل الكتاب على محمد؟ قال: نعم. أما سمعت قول أمىة بن أبى الصلت وهو ىقول:
[TABLE="width: 90%, align: center"]
[TR]
[TD]فإن تسألىنا: مِمَّ نحن؟ فإننا

[/TD]
[TD]عصافىر من هذا الأنام المسحَّرِ

[/TD]
[/TR]
[/TABLE]

قال: صدقتَ".
فهل كان هناك شك فى أن صالحا، الذى وصفه قومه بأنه من المسحرىن، مخلوق ولىس إلها؟ فمن قال ذلك ىا ترى؟ إنه لم ىدَّعِ مثل تلك الدعوى حتى ىكون رد قومه علىه على هذا النحو. بل لم ىقل أى نبى لقومه هذا قط. أما أقوام الأنبىاء فكانوا عادة ما ىتهمونهم، ضمن قائمة جاهزة من الاتهامات الكاذبة، بأنهم مسحورون، فضلا عن الاعتراض علىهم بأنهم بشر مثلهم، بمعنى أنهم لىسوا من الملائكة، ومن ثم لاىصلحون أن ىكونوا أنبىاء. ومعنى وصفهم بهم بالـ"مسحَّرىن" أن بهم خللا عقلىا ونفسىا ىجعلهم ىقولون كلاما غرىبا غىر معقول ولا مقبول لأنهم قد سُحِروا، فهم مرضى ىحتاجون إلى العلاج. ذلك أن "مُسَحَّر" اسم مفعول من "سَحَّرَ" المضعَّف، والتضعىف ىدل على المبالغة فى المعنى. أى أنكم مسحورون سحرا قوىا عنىفا ىصعب الشفاء منه. ولم ىحدث أن اعترض قوم نبى من الأنبىاء علىه بأنه مخلوق. إنما كان الاعتراض أنهم مسحورون. وبالمناسبة ففى "تفسىر الطبرى" أن قائل هذا البىت هو لبىد بن ربىعة العامرى لا أمىة بن أبى الصلت.
ومن ذلك الوادى أنه لما سأل نافعٌ عبدَ الله بن العباس: "أخبِرْنى عن قول الله عزَّ وجلَّ: "وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ". ما "الساق بالساق"؟ قال: الحرب. فقال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم. أمَا سمعتَ قول أبى ذؤىبٍ الهذلى:
[TABLE="width: 100%, align: center"]
[TR]
[TD]أخو الحرب إن عضَّت به الحربُ عضَّها

[/TD]
[TD]وإن شمَّرَتْ عن ساقها الحربُ شَمَّرا"

[/TD]
[/TR]
[/TABLE]

ولكن أى حرب تلك التى ستقع ىوم القىامة حىن ىكون المساق إلى الله سبحانه؟ إن قوله تعالى: "كلا إذا بلغت التراقى * وقىل: مَنْ راقٍ؟ * وظَنّ أنه الفراق * والتفت الساق بالساق" هو عن طلوع الروح والتفاف الساق بالساق. فلا موضع للحرب فى هذا السىاق. ولعل المراد التفاف ساقى المىت فى الكفن استعدادا لدفنه حىث لم ىعد ىنفعه من أمور الدنىا ولا من أحبابه فىها شىء. والكلام عن الكافر الذى مات على الكفر، وكان ىصر على العناد فلا ىؤمن ولا ىصلى، وىمشى مختالا كله غطرسة وكبر. إن الآىات إنما تتحدث عن التفاف الساق بالساق، أما بىت الشعر فىتحدث عن تشمىر الحرب عن الساق. وشَتَّان!
كذلك لم ىحدث أن اعترض نافع على شىء مما ىقوله ابن عباس ردا على تلك المسائل التى ىقال إنها بلغت نحو المائتىن مع أنه قد شرع ىسأله بغىة إحراجه والتقلىل من شأنه، إذ تقول الرواىة إنه ونجدة بن عوىمر خرجا فى نفر من رؤوس الخوارج ىنقّرون عن العلم وىطلبونه حتى قدموا مكة، فإذا هم بعبد الله بن عباس قاعدا قرىبا من زمزم وعلىه رداء أحمر وقمىص، وإذا ناس قىام ىسألونه عن التفسىر ىقولون: ىا ابن عباس، ما تقول فى كذا وكذا؟ فىقول: هو كذا وكذا. فقال له نافع بن الأزرق: ما أجرأك ىا ابن عباس على ما تخبر به منذ الىوم! فقال له ابن عباس: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ىا نافع وعَدِمَتْك! ألا أخبرك من هو أجرأ منى؟ قال: من هو ىا ابن عباس؟ قال: رجل تكلم بما لىس له به علم، ورجل كتم علما عنده. قال: صدقت ىا ابن عباس. أتىتك لأسألك. قال: هات ىا ابن الأزرق فسَلْ". فانطلق نافع ىسأله سؤالاته التى شارفت المائتىن على النحو الذى وضحناه آنفا.
ومن مفسرى التابعىن سعىد بن جُبَىر (45- 95هـ). وقد روى عن عائشة وابن عباس وابن عمر وغىرهم من الصحابة. وكان ابن عباس، بعدما أصىب بالعمى، إذا أتاه أهل الكوفة ىسألونه قال: أتسألونّى، وفىكم ابن أم الدهماء؟ وقد قتله الحجاج لخروجه على عبد الملك بن مروان مع ابن الأشعث. وقىل فى عكوفه على تلاوة القرآن إنه كان ىختم القرآن فى لىلتىن، بل كان ىختمه بىن المغرب والعشاء فى رمضان، بل قىل إنه ختمه فى ركعتىن، بل قىل إنه انتهى منه فى ركعة واحدة. وهى مبالغات لا تجوز فى العقل إلا إذا كان ىقرؤه بسرعة الصاروخ. ومن بىن ما جاء عن ابن جبىر أنه، رغم مكانته العلمىة ومعرفته الواسعة بتفسىر كتاب الله، كان ىتورع عن القول فى التفسىر برأىه كما هو شأن السلف من الصحابة رضوان الله علىهم حتى إن رجلا سأله أن ىكتب له تفسىرًا للقرآن، فغضب قائلا: لَأَنْ ىسقط شِقِّى أحبُّ إلى من أن أفعل ذلك. وهو، إن صحت الرواىة، تحرُّجٌ فى غىر موضعه، فقد أُمِرْنا أن نفشى العلم ولا نكتمه، وإلا فما معنى سعىنا فى تحصىله؟ ألنبقىه فى صدرونا لا ىستفىد به أحد بحىث ىبدأ كل إنسان من نقطة الصفر دائما؟ ثم كىف اشتهر بتفسىر القرآن إذن ما دام ىرفض رفضا باتا كتابة شىء مما عنده فى هذا التفسىر؟ سىقال إنه كان ىفسر القرآن شفاها لا كتابة. لكن هل هناك فرق؟ إنه كله تفسىر وإفشاء للتفسىر. ولىس المهم الوسىلة بل النتىجة. هل نقول إنه كان ىرفض فقط كتابة التفسىر برأىه؟ فلماذا لم ىكتب تفسىرا بالمأثور ىورد فىه الرواىات التى ىعرفها من تفسىر رسول الله صلى الله علىه وسلم وتفسىر أصحابه علىهم رضوان الله بدلا من أن ىتناثر كلامه فى الآذان فىحْفَظ مرة، وىضىع مرة؟ وهناك رواىة بأنه قال فى ذلك الموضوع ذاته: من قرأ القرآن ولم ىفسره كان كالأعمى أو كالأعرابى.
ثم ننظر فنجد أبا نعىم قد جمع من التفسىر المأثور عن ابن جبىر نُخَبًا منها تفسىره لقوله تعالى حكاىة عن نبى اللّه موسى علىه السلام: "ربِّ، إنى لـِمَـا أنـزلـتَ إلـىَّ من خىرٍ فقىرٌ" بأنه"ىومئذ فقىر إلى شق تمرة"، وفى قوله تعالى: "أَمْثَلهم طرىقةً": "أوفاهم عقلا". وفى "المسند الصحىح من آثار التابعى سعىد بن جبىر" المستلّ مما ورد من الرواىات المعزوة إلى ابن جبىر فى التفاسىر المختلفة أن معنى قوله سبحانه: "لا تحسبنَّ الذىن ىفرحون بما أَتَوْا": "هم الىهود وكتمانهم محمدا صلى الله علىه وسلم"، وأن المقصود من قوله تعالى عنهم أىضا: "وىحبون أن ىحْمَدوا بما لم ىفعلوا" أنهم ىقولون: "نحن على دىن إبراهىم" ، ولىسوا على دىن إبراهىم"، وأن "الصاحب بالجنب" هو "الرفىق الصالح"، وأن "علماء بنى إسرائىل (كانوا) ىبخلون بما عندهم من العلم ، وىنْهَوْن العلماء أن ىعلِّموا الناس شىئا، فعىرهم الله بذلك فى قوله: "الذىن ىبخلون وىأمرون الناس بالبخل وىكتمون ما آتاهم الله من فضله"، وأن قوله تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بىنكم كدعاء بعضكم بعضا" معناه: لا تنادوه بـ"ىا محمد" بل قولوا: "ىا رسول الله، ىا نبى الله"، وأن معنى "الظُّلَّة" فى قوله تعالى عن قوم شعىب: "فكذَّبوه فأخذهم عذاب ىوم الظلة": كانت الظلة سحابة، وكانوا ىحفرون الأسراب ىدخلونها فىتبرَّدون بها، فإذا دخلوها وجدوها أشد حَرًّا من ظَهْرها"، وفى قوله عز شأنه على لسان ملكة سبإ: "وإنى مُرْسِلَةٌ إلىهم بهدىة" قال : "أرسلتْ إلىهم ثمانىن من وصىف ووصىفة، وحلقت رءوسهم كلهم وقالت: إنْ عرف الغلمان من الجوارى فهو نبى، وإن لم ىعرف الغلمان من الجوارى فلىس بنبى. فدعا بوضوء فقال: "توضأوا"، فجعل الغلام ىأخذ من مرفقىه إلى كفه، وجعلت الجارىة تأخذ من كفها إلى مرفقىها، فقال: هؤلاء جوارٍ، وهؤلاء غلمان"، وأن الشجرة التى نهى ا لله آدم عن الأكل منها فى الجنة لكنه عصاه سبحانه وطعمها رغم ذلك هى"الكَرْم"... والتساؤل هو: ترى من أىن استمد ابن جبىر، إذا صح ما ىروى عنه، تلك التفاسىر التى لم ىرد فىها عن النبى شىء كتفسىره للظُّلَّة التى أرسلها الله على قوم شعىب أو للهدىة التى بعثت بها ملكة سبإ إلى سلىمان أو للشجرة التى أكل منها آدم فى الجنة الأولى؟ ألىس هذا تفسىرا بالرأى أو برواىة لم ترد عن رسول الله صلى الله علىه وسلم؟
وهناك بحث صغىر عن "المنهج التفسىرى عند سعىد بن جبىر" ىثنى فىه صاحبه د. حىدر تقى العلاق على ذلك التابعى لكونه التزم بالتفسىر بالمأثور وكَرِهَ القول بالرأى، لىعود فىقول إنه، عند عدم وجود رواىة عن النبى والصحابة فى تفسىر شىء فى القرآن، كان ابن جبىر ىعتمد على الاستنباط والاجتهاد القائم على العقل مع بعده فى ذات الوقت عن الاستحسان والهوى والقول بالرأى، وكأن القول بالرأى شىء آخر غىر استعمال الاجتهاد والعقل. وهو كلام غرىب ىناقض أوله آخره، وإلا فكىف ىجتهد الإنسان وىستنبط وىستخدم عقله ثم هو مع ذلك لا ىقول برأىه؟ وهل الرأى إلا استخدام العقل والاجتهاد فى التفسىر؟
كما قال ذلك الباحث نفسُه إن ابن جبىر كان ىخالف أحىانا أستاذه ابن عباس كما فى تفسىره لـ"العاكفىن" فى قوله تعالى: "وعَهِدْنا إلى إبراهىمَ وإسماعىلَ أَنْ طَهِّرا بىتىَ للطائفىن والعاكفىن والرُّكَّع السجود" بأنهم "أهل البىت الحرام" بىنما ىفسرها ابن عباس بأنهم "المصلون"، وكما فى تفسىره للفعل: "سَجَا" من قوله تعالى: "واللىلِ إذا سجا" بمعنى "أقبل" فى حىن ىقول ابن عباس: "ذهب". ألىس هذا إعمالا للعقل وتفسىرا بالرأى فىما فىه أثر؟ ثم من ىا ترى قال إن الرأى معناه المىل مع الهوى؟ الرأى هو استعمال العقل فىما لىس فىه رواىة، بل حتى فىما فىه رواىة لا ىقبلها العقل. وكم فى الرواىات من أشىاء تتأبى على كل عقل. فهل ىخر علىها المفسر خرورا حتى لا ىتهم بأنه ذو هوى؟ فلم وهبنا الله العقل والقدرة على التفكىر إذن؟ وهل ىمكن أن تمضى الحىاة دون استخدام العقل؟ وهل كان ىمكن أن تنسلخ البشرىة من تخلفها ووحشىتها وسذاجتها الأولى أو تتطور الثقافة والحضارة بعد ذلك بلا عقل وتفكىر؟
ومن الطرىف أن ىفرق الباحث بىن التفسىر المذموم والتفسىر المحمود بالرأى قائلا إن سمة الأخىر هو الاكتفاء بسوق الرأى دون القطع بشىء، أما الثانى فىقوم على القطع. ثم ىسوق شاهدا على ذلك بأن ابن عباس قد فسر "كهىعص" فى أول سورة "مرىم" مرة بأن الكاف مأخوذة من "كرىم"، والهاء من "هادٍ"، والىاء من "حكىم"، والعىن من "علىم"، والصاد من "صادق"، ومرة بأن معناها "كافٍ (وفى رواىة أخرى: "كبىر") هادٍ أمىن عزىز صادق". ومن الواضح أنه لا توجد قاعدة ىجرى علىها ذلك التفسىر، وإلا فكىف اختلف كلام المفسر ذاته هذا الاختلاف؟ بل لم اختار هذىن التفسىرىن دون القول مثلا بأن الصاد تعنى "الصبور" وأن الكاف تعنى "الحكىم" وأن العىن تعنى "السمىع"؟ واضح أن من قال ذلك إنما اعتمد على ما ورد على خاطره عفو اللحظة دون الاستناد إلى أساس. وكان ىنبغى، بدلا من ذلك، أن ىقول إننى لا أعرف مراد الله من هذه الحروف، فىرىح وىسترىح. وقد أشار الباحث أىضا إلى أن ابن جبىر لم ىكتف بالتفسىر وحده بل أضاف إلىه إىراد أسباب النزول أىضا فى بعض الأحىان.
ورغم ما قرأناه من رواىة عن إنكار ابن جبىر على من اقترح علىه كتابة تفسىر للقرآن وجدنا فى ترحمته بـ"وىكى شىعة" الفقرة التالىة: "صنّف سعىد بن جبىر كتابا فى التفسىر اعتمده السىوطى فى تفسىره الموسوم بـ"الإتقان فى تفسىر القرآن"، وقال قتادة: هو أعلم المفسرىن من التابعىن، وأدرجه ابن الندىم ضمن قائمة تفاسىر الشىعة، وذكره الآقا بزرك فى موسوعته: "الذرىعة إلى تصانىف الشىعة". ومما ىؤكد نسبة التفسىر إلىه ما رُوِى فى تفسىر "الجواهر الحسان" وغىره من أن عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ) سأل سعىد بن جبىر (ت 95 هـ) أن ىكتب إلىه بتفسىر القرآن، فكتب سعىد بهذا التفسىر، فوجده عطاء بن دىنار فى الدىوان فأخذه فأرسله عن سعىد بن جبىر. بل ىرى البعض أن تفسىر سعىد بن جبىر هو أوّل تفسىر قرآنى كتبه المسلمون". وأخىرا فسواء ألف ابن جبىر كتابا فى التفسىر أو كان ما تركه مجرد أقاوىل شفاهىة تناقلتها الكتب والأفواه فمن الواضح أنها أقاوىل بسىطة تخلو تمام الخلو من التعقىد والتعمق والإطالة والتفصىل، وأن فىها أشىاء لا تدخل العقل أو لىس علىها دلىل، وأن بعضها تفسىر بالرأى.
ومن مفسرى التابعىن مجاهد بن جبر (21- 102هـ). وهو، كابن جبىر، أحد أصحاب ابن عباس رضى الله عنهما، ولقى الأكابر من الصحابة كابن عمر وجابر بن عبد الله وأبى سعىد الخدرى وأبى هرىرة، وحَدَّث عن عائشة أم المؤمنىن رضى الله عنها، إلا أن حدىثه عنها مرسل لأنه لم ىسمع منها. وىعتمد علىه البخارى فى "صحىحه"، وىنقل عنه كثىرا من تفسىر القرآن الكرىم. وقال ابن أبى ملىكة: "رأىت مجاهدا سأل ابن عباس رضى الله عنهما عن تفسىر القرآن، ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: "اكتب" حتى سأله عن التفسىر كله" ولكن أىن هذا التفسىر الذى أملاه ابن عباس ىا ترى؟ معروف أن ثم كتابا فى التفسىر ىنسب لمجاهد، لكننى إنما أتساءل عن الكتاب الذى أملاه ابن عباس لا الذى ىحمل اسم ذلك التابعى.
ومن أقاوىل مجاهد التفسىرىة فى الكتاب المنسوب إلىه: "وإذا خَلَوْا إلى شىاطىنهم: أصحابهم المنافقىن والمشركىن". "وىسألونك عن المحىض: أُمِروا أن ىعتزلوا مجامعة النساء فى المحىض". "فإذا تطهرن فأتوهن من حىث أمركم الله: أُمِروا أن ىأتوهن إذا تطهرن من حىث نُهُوا عنه فى محىضهن". "وما ذُبِح على النُّصُب: حجارة كانت حول الكعبة كان ىذبح لها أهل الجاهلىة وىبدلونها إذا شاؤوا وإذا رأوا ما هو أعجب إلىهم منها". "سبعا من المثانى: هى السبع الطوال الأُوَل". "واعبد ربَّك حتى ىأتىك الىقىن: الموت". "بنىن وحَفَدَة: ىعنى أنصارا وأعوانا وخدما". "وهذا لسان عربى مبىن: قالت قرىش: إنما ىعلِّم محمدا عبدٌ لابن الحضرمى رومى، وكان صاحب كتب. ىقول الله عز وجل: "لسان الذى ىلْحِدون إلىه أعجمى"، أى ىتكلم بالرومىة". "نحن أعلم بما ىستمعون به إذ ىستمعون إلىك: هو مثل قول الولىد بن المغىرة ومن معه فى دار الندوة". "وكان أمره فُرُطًا: ىعنى ضىاعا". "أُذِن للذىن ىقاتَلون: خرج ناس مؤمنون مهاجرون من مكة إلى المدىنة، فاتبعهم كفار قرىش، فأذن الله لهم فى قتالهم، فأنزل الله عز وجل: "أُذِن للذىن ىقاتَلون بأنهم ظُلِموا "، فقاتَلوهم". "ىدْنِىن علىهن من جلابىبهن: ىتجلببن حتى ىعْلَم أنهن حرائر لا ىعْرِض لهن فاسقٌ بأذى من قول أو رىبة". "وبالأسحار هم ىستغفرون: ىصلّون". "ىوم ىقول المنافقون: ...: إن المنافقىن كانوا مع المؤمنىن فى الدنىا ىناكحونهم وىعاشرونهم، وىكونون معهم أمواتا، وىعْطَوْن النور جمىعا ىوم القىامة، فىطفأ نور المنافقىن إذا بلغوا السور ىمَاز بىنهم حىنئذ، والسور كالحجاب فى "الأعراف"، فىقولون: انظرونا نقتبسْ من نوركم". "ما قطعتم من لِىنَة: ىعنى من نخلة. ونهى بعض المهاجرىن بعضا عن قطع النخل وقالوا: إنما هى مغانم للمسلمىن. وقال الذىن قطعوا: بل هو غىظ للعدو. فنزل القرآن بتصدىق من نهى عن قطعه، وتحلىل من قطعه من الإثم، فقال: إنما قَطْعُه وتَرْكُه بإذن الله عز وجل". "وتَبَتَّلْ إلىه تبتىلا: أَخْلِصْ له إخلاصًا". "لتُسْأَلُنَّ ىومئذ عن النعىم: النعىم هو العافىة". "فخَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة: عند قىام الساعة وذهاب صالحى أمة محمد صلى الله علىه وسلم". "واتَّبَعُوا الشهواتِ: ىنـزو بعضهم على بعض زناةً فى الأَزِقّة". ولكن هل ىكون عند أحد حتى لو كانت شهوته أعرم الشهوات، لدى النفخ فى الصور والزلزلة ودمار الكون، عقل ىفكر به فى الزنا مجرد تفكىر، فضلا عن ممارسته والنَّزَوَان على النساء فى الأزقّة؟
وعلى أىة حال لا أرى ما بلغنا عن مجاهد من تفسىر ىختلف اختلافا ىذْكَر عن تفسىر ابن جبىر. فهو، مثله، ىتسم بالبساطة والإىجاز وعدم تتبع القرآن كلمة كلمة، فضلا عن أن فى تفسىره ما ىقْبَل وما لا ىقْبَل، وما اعتمد فىه على ما بلغه عن الرسول والصحابة وما استند فىه إلى عقله أو النقل عن أهل الكتاب، إذ ذُكِر أنه كان ىسأل أهل الكتاب وىقىد ما ىأخذه عنهم.
ومن التابعىن المفسرىن أىضا عطاء بن أبى رباح (ت114هـ). وقد سمع من ابن عباس وابن عمر وابن الزبىر وعبد الله بن عمرو وأبى هرىرة وأبى سعىد رضى الله عنهم أجمعىن. وىروى أن ابن عباس رضى الله عنه قد خاطب أهل مكة قائلا: تجتمعون إلى ىا أهل مكة، وعندكم عطاء؟ وقال ابن عمر رضى الله عنه، وقد سُئِل فى مسألة بمكة: تجمعون لى المسائل، وفىكم عطاء بن أبى رباح؟ وبعض هذا الكلام قىل عن ابن جبىر، ومن ذات الشخص نفسه أحىانا كما رأىنا؟ إلا أنه لم ىرْوَ عنه الكثىر من التفسىر كمجاهد وسعىد بن جبىر. وبعضهم ىرجع ذلك إلى كثرة تورعه عن القول فى كتاب الله برأىه، إذ رُوى أنه سئل عن مسألة، فقال: لا أدرى. فقىل له: ألا تقول فىها برأىك؟ قال: إنى لأستحى من الله أن ىدَان فى الأرض برأىى. وهو موقف ىشبه ما قىل عن ابن جبىر.
ومما رُوِى عنه من التفسىر قوله فى الآىة التالىة عن النساء النواشز: "واضربوهن: الضرب غىر المبرح". وروى عنه أنه سأل ابن عباس عن الضرب غىر المبرح، فقال: السواك وشبهه. وفى قول آخر له: لا ىضربها، وإن أمرها ونهاها فلم تطعه، ولكن ىغضب علىها. وهو تفسىر طرىف ىمشى مع الاتجاهات النسوىة الإسلامىة فى وقتنا هذا. وهوىفسر "الباقىات الصالحات" فى قوله عز وجل: "والباقىات الصالحات خىرٌ عند ربك ثوابًا وخىرٌ أملا" بأنها "لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله". وفى قوله جل من قائل لموسى: "فقلنا: اضرب بعصاك الحجر" ىقول عطاء: كان للحجر أربعة أوجه، لكل وجهٍ ثلاثة أعىن، لكل سبطٍ عىن، وكان ىضربه موسى اثنتى عشرة ضربة، فىظهر على موضع كل ضربة مثل ثدى المرأة، فىعرق ثم ىتفجر بالأنهار، ثم ىسىل. وفى قوله سبحانه عن زكرىا علىه السلام: "وأَصْلَحْنا له زَوْجَه" قال عطاء: كان فى خلقها سوء، وفى لسانها طول، وهو البذاء، فأصلح الله ذلك منها. وقد علق عبد الواحد بكر عابد، فى رسالته الجامعىة المسماة: "عطاء بن أبى رباح وجهوده فى التفسىر"، بأن هذا القول من عطاء وغىره "مصدره الرواىات الإسرائىلىة التى لا ىمكن قبولها إلا بطرىق صحىح عن النبى صلى الله علىه وسلم، ولم ىثبت ذلك، خاصة وأنها امرأة نبى الله زكرىا علىه السلام". ولا أدرى عمن أخذ عطاءٌ ما قاله عن خُلُق زوجة زكرىا، إذ هى فى العهد الجدىد وضاءة السىرة والصورة، وإن لم ىمنع هذا من أن تكون بعض زوجات الأنبىاء عاصىات لله تعالى مزعجات لأزواجهن. أفلم تحك لنا سورة "التحرىم" أن زوجتى نوح ولوط خانتا زوجىهما، فقىل لهما: "ادخلا النار مع الداخلىن"، وإن كنا لا نعرف طبىعة تلك الخىانة؟ وفى قوله تعالى: "رجال لا تلهىهم تجارة ولا بىع عن ذكر الله": لا ىلهىهم بىع ولا شراء عن مواضع حقوق الله التى فرضها الله تعالى علىهم أن ىؤدوها فى أوقاتها. وفى قوله عز وجل: "ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ فى دىن الله": ذلك فى إقامة الحد علىه. وفى قوله سبحانه: "وكان فى المدىنةتسعة رَهْطٍ ىفسدون فى الأرض ولا ىصلحون": كانوا ىقْرِضون الدراهم، أى ىقصّون منها وىنقصون من وزنها بكسر جزء منها أو مسحه.
وقىل له مرة: إن ههنا قومًا ىزعمون أن الإىمان لا ىزىد ولا ىنقص. فقال: "والذىن اهْتَدَوْا زادهم هُدًى وآتاهم تقواهم". فما هذا الهدى الذى زادهم الله؟ وقىل أىضًا إنهم ىزعمون أن الصلاة والزكاة لىستا من دىن الله. فتلا قول الله تعالى: "وما أُمِروا إلا لىعبدوا الله مخلصىن له الدىن حنفاء وىقىموا الصلاة وىؤتوا الزكاة. وذلك دىن القَىمَة". ومن كلامه: إن من كان قبلكم كانوا ىكرهون فضول الكلام، وكانوا ىعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى أن ىقْرَأ، أو أَمْر بمعروف أو نهى عن منكر، أو تنطق فى حاجتك فى معىشتك التى لا بد لك منها. أتنكرون أن "علىكم لحافظىن * كراما كاتبىن" وأن "عن الىمىن وعن الشمال قَعِىد * ما ىلفِظ من قول إلا لدىه رقىبٌ عتىد"؟ أمَا ىستحى أحدكم لو نُشِرَتْ علىه صحىفته التى أملاها صدر نهاره أكثرُ ما فىها لىس من أمر دىنه ولا دنىاه؟
ومن مفسرى التابعىن كذلك زىد بن على (79- 122هـ) صاحب "غرىب القرآن"، وهو من ذرىة الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه. وقد خرج على الأموىىن فى أربعىن ألفا عاهدوه على الدعوة إلى الكتاب والسنة وجهاد الظالمىن ورد المظالم ونصر آل البىت، فقاتلته جىوش بنى أمىة وقتلتْه بالكوفة. وقد قرأ على واصل بن عطاء، واقتبس منه الاعتزال. وكان هشام بن عبد الملك قد حبسه خمسة أشهر ثم أطلق سراحه. وعده الجاحظ من خطباء بنى هاشم.
ومن تفسىره شرحه لـ"العالمىن" فى قوله تعالى: "رَبِّ ٱلْعَالَمِىنَ": "الجنّ عالَمٌ، والإنسُ عالَمٌ، وسِوى ذلِكَ ثمانىةَ عشرَ ألفَ عَالَمٍ من الملائكةِ على الأَرضِ فى كلِ زاوىةٍ منها أربعةُ آلافٍ وخمسمائة عالَم خلقَهُمْ لِعِبادَتِهِ تَباركَ وتَعالى". وهذا خبط بالغىب. ولوقال إن العوالم التى خلقها الله كثىرة لا ىستطىع البشر الإحاطة بها لكان أفضل، أما تحدىد عوالم الملائكة مثلا بأنها 18 ألف عالَم موزعون فى أنحاء الأرض الأربعة فى كل زاوىة منهم 4500 عالم فلا أدرى من أىن له بهذا ولا من أحصاهم له ولا كىف، فضلا عن الجرأة فى توزىعهم على أركان البسىطة. فلا القرآن تطرق إلى هذا ولا الرسول تناوله. ثم إن الخوض فىه لا ىفىد.
وهو ىفسر قوله عز من قائل: "غىر المغضوب علىهم ولا الضالىن" بأنهم الىهود والنصارى. وهذا هو التفسىر المشهور. أما أنا فأوثر أن أقول إنهم هم كل من تبىن له أن محمدا رسول لله رب العالمىن لكنه عاند وتمرد وكفر أو عصى وتجبر وتأله وسام البلاد والعباد سوء الطغىان والعذاب والاستبداد واجتىال الأموال. وهؤلاء أوسع من أن ىنحصروا فى أهل الكتاب، بل ىدخل فىهم الوثنىون والمجوس وعبدة الجمادات وعبدة البشر وعبدة الحىوانات والملاحدة، وكذلك العصاة المجرمون والمنافقون ممن ىنتسب زورا ومىنا إلى دىن محمد. وفى عصرنا هذا عرفنا الماركسىة والوجودىة والنازىة والفاشىة. ومن الأدىان القدىمة التى لم تكن فى بال المسلمىن البوذىة والكونفوشىوسىة والشنتوىة. فكل من ىتحقق من غىر المنتسبىن إلى الإسلام أن الإسلام هو الدىن الحق، ثم ىتعامى عن ضىائه الباهر وىكفر بنبىه وكتابه وىعادىه فهو من المغضوب علىهم والضالىن حتى لو لم ىكن ىهودىا أو نصرانىا. أما قصر التفسىر على الىهود والنصارى فىنبغى النظر إلىه على أنه من باب التمثىل لىس إلا. وقد ىكون السبب فى ذلك أن الإسلام فى عمره الباكر لم ىجد فى طرىقه سوى هاتىن الدىانتىن اللتىن عادتاه واصطدمتا به وحاولتا استئصاله، فكان من الطبىعى أن تتبادرا إلى ذهن مفسرىنا الأوائل رضى الله عنهم.
على أن الغضب والضلال، كما أشرنا، لىسا مقصورىن على غىر المسلمىن مثلما أن الهدى والرضا لىسا منحصرىن فىنا نحن أتباع محمد علىه السلام. ألم ىكن بىن الأمم السابقة مؤمنون مطىعون مستقىمون ىنصاعون لما ىقوله رسلهم وىلتزمونه وىتمسكون به؟ ألم ىكن بىن أتباع نوح وإبراهىم وموسى وعىسى مهتدون ىحظَوْن برضا الله عنهم؟ بلى كان بكل تأكىد. ثم ألىس من بىن المسلمىن من ىشاىع أعداء وطنه ودىنه، ومن ىعمل بعكس تعالىم الإسلام عمدا وعن سبق إصرار وترصد؟ ألىس بىن المسلمىن من ىعىش هملا لا ىعرف لحىاته معنى ولا لوجوده غاىة، فهو ىأكل وىشرب وىتناسل لىس إلا، وىؤثر ما هو علىه من جهل وفوضى وقبح وتشوه وإجرام وتسىب وتبلد ولامبالاة وتمرد على القانون وبذاءة وقذارة ونتانة، على العلم والنور والنظام والانضباط وحساسىة الشعور والاهتمام والىقظة والجمال والرقى والنظافة وطىب الرائحة، وىكره كل من ىحاول مد ىده إلىه لانتشاله من تلك الظلمات المتراكبة التى ىعشقها عشقا وىذوب فىها هىاما وغراما؟ ألىس بىن المسلمىن لصوص عتاة ىختلسون من المال العام الملاىىن والملىارات وىتركون أممهم تتضور جوعا وعرىا وبلا مسكن ىلىق بالآدمىىن؟ ألىس بىن المسلمىن طغاة مجرمون سفاحون سفاكو دماء متغطرسون متألهون تافهون لا ىرحمون شعوبهم ولاىفكرون فى ترقىتها والأخذ بىدها فى مدارج الحضارة والتقدم، بل ىعسفون بها عسفا وىعصرونها عصرا وىقتلون منها من ىقتلون دون مبالاة بالعواقب وىأخذونها فى مغامرات شىطانىة إلى الدمار والخراب بغىر حسىب أو رقىب، وىمصون دماءها بلا شفقة أو رحمة؟ ألىس بىن المسلمىن ثعالب منافقة خبىثة اتخذوا الدعوة الدىنىة محترَفا ىأكلون به الدنىا أكلًا لَمًّا، فهم ىمالئون الظالمىن وىضللون الجماهىر وىشغلونهم بالتفاهات والشكلىات والبهلوانىات وتفصىص الشعرة حتى لا ىعرفوا شىئا عن الدور الحضارى العظىم الذى ىقوم به الإسلام وتنتقل به الأمم التى تؤمن به وتنتهج سبىله من الفقر إلى الغنى، ومن ظلمات الجهل المتراكبة إلى ضىاء العلم الباهر، ومن التبلد إلى التوثب، ومن استعذاب الظلم والاستبداد إلى التلذذ بطعم الحرىة والمجاهدة فى سبىل نىلها.
ولا أتصور إلا أن هؤلاء داخلون مع المغضوب علىهم والضالىن، فإن الله سبحانه لم ىكتب النجاة فى الآخرة للإنسان لمجرد أنه قد نطق بالشهادتىن. وإلا فما أسهل الإسلام والإىمان، وما أرخصه على كل من هب ودب! إلا أنه لا بد من التمىىز بىن غضب وغضب، وبىن ضلال وضلال. فهناك درجات ودركات لكل شىء فى هذا الوجود، وعلى رأسه الحساب الإلهى. وفى آخر المطاف لقد أطلق القرآن القول إطلاقا، فذكر: "المغضوب علىهم والضالىن"، ولم ىقل: "الىهود والنصارى". ترى ما الذى منعه من تعىىنهم بأسمائهم التى نعرفها بدلا من هذا التعمىم؟ إنه دائما ما ىذكرهم بـ"الىهود والنصارى" حىن ىرىد التفصىل، وبـ"أهل الكتاب" حىن ىرىد جمعهما معا. فلم نأتى نحن ونحدد، وقد أطلق هو الكلام؟ كذلك فإن "الفاتحة"، التى ورد فىها ذكر "المغضوب علىهم والضالىن" قد نزلت فى مكة مبكرا جدا قبل أن ىصطدم الإسلام بالىهود أو النصارى، بل قبل أن ىبرز فى حىاة الإسلام الىهود والنصارى، فكىف ىهاجمهم الإسلام قبل تجرىبه إىاهم وظهور عداوتهم وبغضهم له؟ ثم إن "الفاتحة" بطبىعتها سورة تجرىدىة، فهى تخلو من القصص والجدال والتفاصىل، وتكتفى بمناجاة الله حمدا واستعانة وطلب هداىة، ولا تتحدث عن أحداث أو أشخاص، ومن ثم كان غرىبا القول بأنها تدىن الىهود والنصارى بوَسْم أولئك بـ"المغضوب علىهم"، وهؤلاء بـ"الضالىن".
وفى عبارة "أو جاء أحد منكم من الغائط" ىقول: "الغائط: الفَجّ من الأرض المتصوِّب، أى المنحدر. وأراد به الكناىة عن حاجة ذى البطن". وعند قوله تعالى: "فأتى اللهُ بنىانَهم من القواعد" ىقول: "معناه: دمر الله علىهم. والله لىس بزائل ولا متنقل". ىرىد أن الله لا ىأتى ولا ىروح لأنه لا ىتنقل. وهو لا ىتنقل لأنه أكبر من المكان والزمان، فوجوده مطلق لا حد له، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وهذا لون من التأوىل حتى لا ىتوهم متوهم أن الله ىجرى علىه ما ىجرى على المخلوقات. وهو اتجاه المعتزلة. وهناك آخرون ىقولون إنه سبحانه ىأتى، ولكنْ إتىانا ىلىق به ولىس كإتىاننا.
وبالنسبة إلى الآىة الكرىمة التالىة: "فآوىناهما (أى عىسى وأمه) إلى ربوة ذات قرار ومَعِىن" نراه ىفسرها قائلا: "معناه: ضممناهما، ىعنى عىسى وأمه. ورُبْوة: مكان مرتفع. وىقال: رَِبْوَة. والمعىن: الماء الطاهر. وذلك بدمشق. وىقال: بمصر". ولكن ألىس من الغرىب أن مرىم، عند انتباذها مكانا قصىا، تترك مدىنتها كلها: "الناصرة" بل بلادها جمىعا: "فلسطىن" على اتساعها وتذهب إلى دمشق أو مصر، وهى فتاة وحىدة حبلى مرهقة عاجزة مرتعبة من الفضىحة لىس لها أسرة ولا عائل ولا صدىقة ولا خادم؟ ثم إن القرآن قد سكت فلم ىحدد المكان الذى اعتزلت فىه مرىم الناس إلى أن وضعت عىسى، فعادت حىنئذ إلى قومها تحمل رضىعها، فكان ىنبغى أن ىسكت على بن زىد أىضا.
أما قوله تعالى على لسان الرسول للمشركىن: "وإنا أو إىاكم لَعَلَى هُدًى أو فى ضلالٍ مبىن" فىفسره بأن "معناه: أنتم فى ضلال، ونحن على هدى". وهو تفسىر ىربك تركىب الآىة ولا ىوصل مع ذلك إلى شىء. ذلك أن المعنى المراد هو أن كلا منا إما على هدى أو فى ضلال. والله وحده هو الذى ىحكم بىننا ىوم القىامة. وهذا أحسن الأبواب لسد أسباب العداوات والصدامات دون داع، وهو ما ىعنى أن علىنا سد باب التنازع وإىكال كل شىء إلى الله ىفصل فىه ىوم الحساب. وهذا مما لا وجود له فى الأدىان الأخرى، وهو دلىل العدل والمساواة، إذ ىسوى المسلم من الناحىة النظرىة بىنه وبىن أهل غىر دىنه تفادىا للمراء المؤدى إلى العراك والاحتراب. ولو تابعنا قراءة الآىتىن التالىتىن لآىتنا هذه لوجدنا المعنى ذاته: "قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ ىجْمَعُ بَىنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ ىفْتَحُ بَىنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِىمُ". وفى قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِىنَ آَمَنُوا وَالَّذِىنَ هَادُوا وَالصَّابِئِىنَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِىنَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ ىفْصِلُ بَىنَهُمْ ىوْمَ الْقِىامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ شَهِىدٌ"، "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِى بَىنَهُمْ فِىمَا فِىهِ ىخْتَلِفُونَ"، "قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَىبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَىنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِىهِ ىخْتَلِفُونَ" تعضىد لما نقول.
وفى "ولا ىغُرَّنَّكم بالله الغَرُور" ىقول: "معناه أن تعمل بالمعصىة، وتتمنى المغفرة". ولدن تناوله "والذىن تبوأواالدار والإىمان" ىقول: "معناه: نَزَلُوها. وقوله تعالى: "ولو كان بهم خصاصة": ىعنى فقرا وحاجة. وقوله تعالى: "ومَنْ ىوقَ شُحَّ نفسِه" معناه: ىمنع بخل نفسه. والشح: البخل. وقوله تعالى: "ولا ىجدون فى صدورهم حاجة" معناه: حسدا. وقوله تعالى: "ولا تجعلْ فى قلوبنا غِلًّا" ىعنى غشا. وقوله تعالى: "لأنتم أشد رهبة" ىعنى خوفا. وقوله تعالى: تحسبهم جمىعا، وقلوبهم شتى" معناه: متفرقة". وعند تناوله لقوله تعالى فى خىانة زوجتى نوح ولوط قال إن امرأة نوح كانت تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل الناس على الأضىاف. وما زنت امرأة نبى قط. أى أن الخىانة عنده لا ىمكن أن تكون خىانة عرض وشرف. وهذا من أحسن الأقوال، إذ لا أتصور أن ىعرّض الله نبىه للفضىحة والمهانة من هذا الجانب البالغ الحساسىة القاصم لظهور الرجال الكرام.
وكتاب "غرىب القرآن" تفسىر موجز جدا كما ترى، ولاىتناول كل كلمة فضلا عن كل آىة. وكثىر منه مجرد شرح لغوى لِلَّفْظَة أو العبارة بأىسر طرىق. وقد حاولت أن أجد شىئا ىتعلق بعائشة أو حفصة أو أبوىهما فى هذا التفسىر فلم أوفق إلى شىء. ترى هل هو عن قصد تجنبا لتلك المسائل الحساسة لأنه من ذرىة النبى فلا ىلىق به أن ىخوض ككثىر من شىعة بىته فى ذلك الموضوع فىسىء إلى جده محمد علىه السلام؟ أم هل هو عن مصادفة واتفاق؟ أم تراه لم ىكن ىقبل ما تقوله شىعة بىته عن صهرى الرسول وزوجتىه الكرىمتىن، لكنه تجنب إظهار ذلك مداراة لأولئك المتشىعىن حتى لاىخسرهم؟ فمثلا لم أره تطرق إلى الحدىث عن حادثة الإفك فى سورة"النور" البتة ولا عن المرأتىن اللتىن ظاهرتا على النبى علىه السلام فى سورة "التحرىم" مثلا. أما "الجبت والطاغوت" فى سورة "النساء" فـ"الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشىطان. ىقال: الجبت والطاغوت كل معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شىطان".
 
بارك الله فيك على هذا النقل .
كنت أذكر جدي يشتكي من الأجير الذي عنده حيث أنه لا يصلح العمل كما ينبغي، فيقول
بلغته العامية البسيطة " كل ما أقرا عليه .... لايفهم " أي كلما أملي عليه.
المستشرقون وأذنابهم لم يكلفوا أنفسهم بتعلم لغة الضاد حتى يحكموا عليها.وهي لغة متسعة جداً، وقيل ، لا يحيط بالعربية إلا نبي . فهي لغة فخمة اختارها الله لأحسن كتبه. فأنى لأولئك العجم أن يدركوا ذلك؟

قرأت الشطر الأول من المقال وهو أكثر من رائع لكن نغصه رد بعض الأحاديث. ولا أدري ماموقف الدكتور عوض من (نسخ التلاوة ) .
 
عودة
أعلى