[align=justify]
فرعون وقارون .. استبداد السلطان وبغي المال ..
اسمين لمجمع النقائض وملتقى الأضداد ..
الرفعة والعلو في موازن الأرض , والانحطاط والإسفاف في موازين السماء
القوة والسلطان في موازين الأرض , والضعف والصغار في موازين السماء
الملك والغنى في موازين الأرض , والافتقار والعوز في موازين السماء
العزة والوجاهة في موازين الأرض , والذلة والهوان في موازين السماء
[align=center]* * *[/align]
هما طبيعتان من طبائع النفس السقيمة الممرورة , طبيعتان أطول عمرا من صاحبيهما , وأكبر جرما من شخوصهما , إذ أغرق الله الأول وخسف الأرض بالثاني , فانتهت الشخوص , وسطرت المسميات في صفحات التاريخ السحيق , وبقيت طبائعهم السقيمة الممرورة حية مكرورة في كل جيل .. وفي كل زمن .. وفي كل أمة..
نعم .. لم تخل أمة من الأمم على مر التاريخ من فرعون مستبد ومن قرون باغ , تتغير المسميات والشخوص , وتتقلب الأعصار وتتبدل الأمصار , وتبقى الطبائع هي هي حاضرة شاخصة سافرة , حتى كأن فرعون ما ابتلعته لجة اليم الغامرة , وكأن قارون ما خسف به تحت طباق الأرض .. ومن ذلك كان أبو جهل فرعون هذه الأمة !! .
ولذلك خلد الله ذكر فرعون وقارون في كتابه العزيز , وما تخليد أسمائهم إلا معنى من معاني تخليد طبائعهم السقيمة الممرورة , وما تخليد طبائعم في القرآن الكريم إلا إخبارا من القرآن لهذه لأمة في كل جيل من أجيالها أنها قد تبتلى بحاكم مستبد فيه بقية من فرعون , ومترف باغ على قومه فيه بقية من قارون , إذ ما دامت الحياة ماضية على الأرض , وما دامت أمم ومجتمعات وشعوب , ففي الأرض إذن فرعون مستبد .. وفيها قارون باغ !! فكان حقا أن يكون فرعون آية لمن خلفه
[align=center]{فاليوم ننجيك بدنك لتكون لمن خلفك آية}[/align]
ولكن الله غالب على أمره , وسنة الله باقية في خلقه لا تتبدل , وما كان الله ليذر المفسدين في الأرض يفسدوا ويهلكوا الحرث والنسل , نعم .. ما دامت أمم ومجتمعات فثمة فرعون مستبد وقارون باغ , ولكن ثمة موسى يبعثه الله لفرعون وقارون على حين فترة من الجور والبغي , يبعثه الله لتستقيم به كفة الحياة وقد اختلت , وتستوي به الموازين وقد اضطربت , يبعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور , يبعثه الله وقد بلغ الفساد في الأرض مبلغه الذي لا مبلغ بعده .. وكل بقدره المقدور ..
[align=center]{ثم جئت على قدر يا موسى}[/align]
وتلك سنة الله الباقية في خلقه .. ولن تجد لسنة الله تبدلا .. ولن تجد لسنة الله تحويلا ..
[align=center]* * *[/align]
وتعال نلم بشيء من خبر قارون الباغي على قومه .. ونضرب الذكر عن فرعون المستبد فليس المقام مقامه ..
كان قارون من قوم موسى عليه السلام , ويقال انه كان ابن عم موسى فهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام , أما موسى فهو وموسى ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ..
وكان قارون هذا حسن الصورة جميل الطلعة وكان أقرا بني إسرائيل للتوراة , حتى أنهم كانوا يلقبونه بالمنوّر..
ويبدو انه كان سيء الطوية تجاه ابن عمه موسى , فقد قيل أنه حسد موسى وهارون , وذلك حين جاوز موسى ببني إسرائيل البحر, وصارت الرسالة لموسى وصارت الحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأسا فيهم –وكان القربان من قبل لموسى فجعله إلى أخيه هارون- فقال لهم قارون: الأمر لكما ولست على شيء !! إلى متى أصبر ؟؟!.
فقال موسى : هذا صنع الله .
فقال قارون: والله لا أصدقك حتى تأتي بآية !!
فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد منهم بعصاه فيحزمها ثم يلقيها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها , وكانوا يحرسون عصيهم بالليل , فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر !!! وكانت من شجر اللوز.
فقال قارون حينئذ , والله ما هو بأعجب مما تصنع من السحر!! ويبدو أن ذلك الموقف كان بداية بغي قارون على قومه عموما وعلى موسى خصوصا ..
وللإمام أبي محمد الفراء المعروف بالبغوي قول آخر في بداية بغيه على قومه فقد كان أول بغيه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربع في كل طرف خيط أزرق كلون السماء يذكروني به إذا نضروا إليها ويعلمون أني منزل منها كلامي , فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم إن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط . فقال له ربه: يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير , فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في لأمر الكبير , فدعاهم موسى عليه السلام وقال: إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها . ففعلت بنوا إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم , فكان هذا بدء عصيانه وبغيه .. وكان هذا الحدث قبل عبور موسى البحر ببني إسرائيل .
وسواء كان بغي قارون قبل عبور بني إسرائيل البحر أم بعده , فالثابت انه بغى على قومه وأنه كان كثيرا ما يؤذي ابن عمه موسى عليه السلام ..
ويذكر الإمام الزمخشري صاحب الكشاف: أنه كان اعلم بني إسرائيل بالتوراة , وقيل أنه كان قد استوفى علم الكيمياء , بعد أن خدع يوشع بن نون وقالب بن يوفنا , فأخذ منهما ما كان موسى قد علمهما إياه من دقائق هذا العلم فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا ..
فكان أن أسبغ الله عليه من نعمته وفتح عليه من خزائن رحمته , وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة كما أخبر القرآن بذلك , حتى كانت تحمل مفاتح خزائنه ستون بغلا لكل خزانة مفتاح ولا يزيد المفتاح على الإصبع .
وقيل في وصف غناه أنه كان يخرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلاثمائة غلام وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج . وقيل: في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وكان ذلك أول ما رؤي فيه المعصفر ..
ولكن يبدو أن بسطة النعيم الوارفة تلك لم تكن لتصرف قارون عن حسده ابن عمه موسى والكيد له , فقد كان يؤذي موسى كل ما وجد لذلك سبيلا , وكان موسى يداريه للرحم التي بينهم ..
حتى إذا شرع الله الزكاة على بني إسرائيل , صالحه موسى على دينار عن كل ألف دينار ودرهم عن كل ألف درهم فاستكثرها قارون وشحت بها نفسه .
ثم ما لبث قارون أن جمع بني إسرائيل وقال: إن موسى أرادكم على كل شيء وهو يريد أن يأخذ أموالكم !! فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا فمر بما شئت . ففكر .. ثم نظر .. ثم قدر .. فقتل كيف قدر .. فكان الرأي أن يبرطل فلانة البغي حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنوا إسرائيل !! فجعل لها ألف دينار . وقيل طستا من ذهب.. وقيل: طستا مملوءا ذهبا .
فلما كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه , ومن افترى جلدناه , ومن زنى وهو غير محصن جلدناه , وإن أحصن رجمناه , فقال قارون: وإن كنت أنت ؟! قال: وإن كنت أنا . قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة!! فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق , فتداركها الله فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك لنفسي , فخر موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي , فأوحى إليه: أن اأمر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك !!
فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل , فاعتزلوا جميعا غير رجلين , ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشده بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال: خذيهم فانطبقت عليهم ..
وقيل إن الله أوحى لموسى: يا موسى استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم , أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.
فأصبحت بنوا إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه !! فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله.
وعن قتادة: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة .. وتلك كانت خاتمة قارون .
[align=center]* * *[/align]
كانت هذه وقفة يسيرة مع قصة قارون بسردها القصصي المجرد , بعيدا عن روح القصة , وبعيدا عن مضمونها الأصيل , ولنا أوبة جديدة إلى القصة , نكشط عنها رغوة الشخوص والمسميات والأحداث لنخلص إلى اللبن السائغ النافع للمجتمع المسلم .
وقبل الحديث عن قصة قارون يستحسن أن نتناول سورة القصص بعجالة سريعة , نخلص منها لمضمون السورة العام وخطوطها الأساسية , إذ كان فهم السورة مجملة بخطوطها الأساسية باب لفهم القصة لتي وردت في السورة , لأن القصة التي ترد في السورة إن هي إلا حلقة من حلقاتها , تدور حيث تدور قطاعات السورة , وتتناول ما تناولته السورة .
فسورة القصص سورة مكية , نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة , والقوة والسلطان والمال في المشركين , نزلت والناس تتنازعهم قيم الحياة الزائفة منها والأصيلة , قيمة الإيمان الثابتة الأصيلة , تقابلها قيمة الملك والسلطان ممثلة في فرعون وجنده , وقيمة المال والغنى ممثلة في قارون وهي قيم زائفة من قيم الحياة.
فمن الناس من استعز بالمال والملك , حتى نزت به البطنة , فطغى به غناه كالوليد ابن المغيرة المخزومي الذي كان يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير وهو الذي أنزل الله فيه
{ذرني ومن خلقت وحيدا* وجعلت له مالا ممدودا* وبنين شهودا* ومهدت له تمهيدا* ثم يطمع أن أزيد}
ومنهم من استقوى بالسلطان والنفوذ كأبي جهل وأبي لهب وغيرهم من سادة المشركين وكبرائهم .
ومنهم من استعلى بالإيمان واستقوى بالله , وتلك هي الثلة المؤمنة التي التفت حول النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة من الدعوة في مكة , فنزلت سورة القصص تتناول هذه القيم بأسلوب قصصي مؤثر , نزلت لتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله , وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان , فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه , ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة , ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى , ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله , ومن استحب العمى على الهدى فليس بنافعه شيء في الأرض ..
ولذلك تناولت السورة قصتي فرعون وقارون , لتقرر في الأولى أن قيمة الإيمان أثبت وأقوى من قيمة الملك والسلطان , وتقرر في الثانية أن قيمة الإيمان أغنى لصاحبها من قيمة المال حتى ولو بلغ ما بلغه مال قارون.
وبين القصتين يوجه القرآن أبصار المشركين وبصائرهم للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم , يبصرهم وهو يريهم آيات الله المبثوثة في مشاهد الكون تارة , ويبصرهم وهو ينبئهم عاقبة الغابرين تارة , ويبصرهم وهو يسوق بعض مشاهد القيامة تارة , وكلها تدور حول مضمون السورة الأصيل , وكلها تتوالى على القلب لتقرر فيه تلك القيمة الثابتة الأصيلة .. قيمة الإيمان.
ونجد السورة تقرر هذه القيمة –قيمة الإيمان-مرة أخرى حين تعقب على قول المشركين
[align=center]{وقالوا عن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}[/align]
فتجيء قصة فرعون تقول لهم إن القوة إنما هي قوة الله , فمن كان مع الله فإنما هو في الجناب الآمن ولو كان في شعاب الهلاك , وأن الطغيان والاستبداد وإن انتفش في الحياة وكبر , فإنما هو شجرة خبيثة ما لها من قرار , تذهب بها قصفة من قصفات الرحمن .[align=center]
{فأخذناه هو وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين[/align]}
ثم يذكرهم الله تعالى ردا على تخوفهم الموهوم , يذكرهم انه سبحانه هو الذي جعل لهم هذا الحرم أمنا
[align=center]{أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شي رزقا من لدنا ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون}[/align]
وهكذا نجد أن السورة تدور حول تقرير قيم الحياة العارضة من قيم الحياة الأصيلة بأسلوب قصصي حي متحرك , وهذه هي خطوطها الأساسية ..
[align=center]* * *[/align]
والآن .. نرجع لقارون بعد هذه العجالة ..
فقصة قارون حلقة من حلقات السورة المجملة , تتناول ما كانت السورة بصدده , وإذا كانت السورة قد تناولت مع فرعون قيمة الملك والسلطان إزاء قيمة الإيمان , فهي مع قارون تتناول قيمة المال والغنى إزاء قيمة الإيمان , ويدور حول هاتين القيمتين ثلاث أصناف من الناس .
فصنف أعمى البصيرة , ضعيف النفس , قد حجبه المال عن الله تعالى , فختم الله على قلبه , ومده في طغيانه , ومكر به من حيث لا يحتسب , فلم يفق من سكرته إلا والأرض تلتقمه شيئا فشيئا وذاك هو قارون الذي بغى
[align=center]{فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}[/align]
ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من هذا الصنف من الناس ممن ينعم الله عليه ويمدده بأموال وبنين ويجعل له جنات ويجعل له انهارا فتستحوذ عليه هذه القيمة الزائفة العارضة –قيمة المال-ويحسب أن لن يقدر عليه أحد , فإذا بفؤاده قد فرغ من الله , وإذا بالمال يكون حجابا لقلبه عن الله , وإذا به عبد لأمواله وإن تزيى بزي الأسياد .
[align=center]* * *[/align]
وإن الله تعالى ليبتلي الغني بالغنى ابتلاءه الفقير بالفقر , لا بل لعل فتنة الغنى أشد على النفس من فتنة الفقر , لأن المرء مع الغنى يمسك عن النفس هواها وهو مستطيع له قادر عليه , بينما يكف النفس حين فقره وهي عاجزة عن إتيان مرادها لا تستطيع بلوغه , ومن ذلك كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر .
وقد يخسف الله بهذا الصنف من الناس من حيث لا يشعرون , وليس بالضرورة أن يكون الخسف خسفا حسيا تراه العين كخسف قارون , إذ كم من مترف خسف الله به فهو في ظلمات ليست ظلمات الأرض بأشد منها .. وهو لاه لا يدري .
فقد يبتلي الله الغني الباغي بانحطاط في خلقه ودناءة في طبعه , وفي انحطاط الأخلاق ودناءة الطبع معنى من معاني الخسف .
وقد يبتلي الله الغني الباغي إذ يسلط عليه حب الدنيا والتهالك عليها فيملأ من خزانته بقدر ما يُفرغ من فؤاده , وتشبع نفسه بقدر ما تجوع روحه , وفي فراغ الفؤاد من الله وفي مخمصة الروح معنى من معاني الخسف .
وقد ينعم الله على الفقير بالعافية والقوة ويحرمها الغني الباغي , فيجمع الله عليه عذابين , عذاب في جسمه أمراضا وأسقاما وآلاما , وعذاب في ماله التياعا وحسرة أن حرم التنعم به , وفي ذلك معنى من معاني الخسف .
وقد يكون المال في بعض أحواله أداة للتباغض والخصام , ومادة القطيعة والفصال , وباعثا للأنانية المفرطة التي توهم الغني أن دنياه غير دنيا الناس وأن الناموس الذي يجري عليه غير الناموس الذي يجري على الناس , وأنه .. وأنه .. وهذا معنى من معاني الخسف .
وقارون كان قد خُسف به خسفا معنويا باطنا قبل أن يخسف به خسفا حسيا ظاهرا وهو لا يدري ..
وحسبك معنى من معاني الخسف أنه حُجب عن الله , وعميت بصيرته , حتى جحد نعمة الله عليه وأنكر فضله تعالى
[align=center]{قال إنما أوتيته على علم عندي}[/align]
وهي كلمة نسمعها من المحجوبين عن الله من أهل الترف والغنى , ممن لا يرون في أموالهم للمساكين والفقراء حق , بل لعلهم يتمادون في غيهم في بعض الأحيان فيرون أن لا حق لله في أموالهم ولسان حالهم يقول ..
أموالنا نحن الذين جمعناها .. فلسا فلسا !!
ونحن الذين سهرنا عليها !!
ونحن الذين رعينا مصالحنا وسعينا ليل نهار واحتفرنا الصخر وقطعنا القفر !!
ومهما اختلف القول , وتعددت أساليبه فهو آخر الأمر مندرج تحت معنى
{إنما أوتيته على علم عندي}
[align=center]* * *[/align]
وقبل أن ننتقل إلى الصنف الثاني من الناس في القصة نقف وقفة يسيرة عند قوله تعالى
[align=center] {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله غليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}[/align]
فنحن هنا أمام وسطية المنهج الإسلامي الذي يضع الأمور مواضعها اللائقة بها .
إن المال في التصور الإسلامي وسيلة لا غاية , وسيلة لغاية إنسانية أرفع منه وأسمى , وهو قبل ذلك أمانة يستخلف الله عليها الغني ليرى ماذا يكون منه
[align=center]{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}[/align]
فالمال –مال المسلم-موقوف بالدرجة الأولى للدار الآخرة , ثم يأتي بعد ذلك نصيب الإنسان من الحياة الدنيا , والإسلام لا يحرم على المسلم أن يتمتع بماله الذي جعل الله له قياما , والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده , وقد أمر سبحانه أن يأخذ المسلم زينته عند كل مسجد , على أن تكون هنالك أولويات يراعيها المسلم في ماله , وأولويات الآخرة في المنهج الإسلامي مقدمة على أولويات الدنيا..
والخروج عن هذا النهج الإلهي في الأموال إنما هو ضرب من ضروب الفساد في الأرض وقد قال قوم قارون لقارون
[align=center]{وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}[/align]
وأي اضطراب في هذا الميزان الإلهي يجر وراءه أذى على المسلم في جانب من جوانبه وأذى على المجتمع المسلم في الجانب المقابل .
فحيث لا يراعي المسلم في ماله إلا الدار الآخرة فإنه منفق كل ماله في سبيلها , وهذا يضر بمصلحة المسلم نفسه أو يضر بأهله وعياله وفي الأثر الشريف ((عن عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله إنه بلغ بي ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي ؟؟ قال: لا . قلت : أفأتصدق بشطره ؟؟ قال : لا الثلث والثلث كثير فإنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك..))
وحين يستولي المال على قلب صاحبه , وتستولي عليه أثرة النفس , فلا يراعي إلا خاصة أمره , فإن هذا يجر إلى ضر كبير على المجتمع المسلم إذ سيهضم حق المسكين الفقير في مال الغني الذي أقره الله
[align=center]{وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}[/align]
فالمنهج الإسلامي إذن قد توسط في توظيف المال بين الآخرة والدنيا , فلا هو للآخرة بكله , ولا هو للدنيا بكله , وإنما هي الوسطية التي أخذت من الآخرة بطرف ومن الدنيا بطرف , مع مراعاة الأولويات طبعا , فكان من هذا المنهج الاعتدال واليسر والاستقامة ..
[align=center]* * *[/align]
ونرجع إلى الصنف الثاني من الناس في القصة ..
وهذا الصنف أيضا نراه رأي العين قائم في كل جيل وفي كل مجتمع , وهو صنف ضعيف الإيمان , يؤخذ بالمظهر البراق , ولضعفه نراه تخدعه مظاهر العز والوجاهة والترف في الأغنياء الموسرين , فتتحرك في نفسه الأهواء , ويتطلع لهذا النعيم الظاهر , ويتمنى أن لو أن الأقدار حبته بما حبتهم .
{وخرج على قومه في زنته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم}
وهذا الصنف من الناس لا تجده في الغالب إلا متأرجحا بين هاتين القيمتين –قيمة العلم والإيمان وقيمة الغنى والمال- يتمنى -وقد تلبدت على قلبه الغفلة- غنى الغني ونعيمه , ثم ما يلبث -وقد تداركته رحمة ربه- أن يستفيق من غفلته فيرى بنور الإيمان , ليعرف أن أمانيه بالأمس إن هي إلا شعبة من شعاب الخسران والضياع والحجاب عن الله ..
[align=center]{فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكانه لا يفلح الكافرون}[/align]
ولكن هل نريد أن المسلم لا يجوز له أن يتمنى الغنى ؟؟!!
وهل على المسلم أن يعيش فقيرا بائسا معدما ؟؟!!
والجواب عن ذلك أن للمسلم أن يتمنى الغنى ويطلبه بل ويحرص عليه متى ما وجد المسلم في نفسه حصانة إيمانية تقيه الانزلاق في مهوى هذه القيمة العارضة –قيمة المال- لأن المال بطبيعته زينة من زينة الحياة , وإن القلب لينصرف لهذه الزينة حين لا يكون ثمة إيمانا فيه يقي ويحفظ , وللمسلم أيضا أن يحرص على الغنى متى ما وجد في نفسه همة صادقة خالصة لإنفاق هذا المال في وجوه الخير والصلاح .. حينئذ يكون المال غاية تطلب ومقصدا يراد وقد قال سليمان
[align=center]{رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}[/align]
ثم إن الغنى ضرب من ضروب القوة , والقوة مرادة للمسلم , إذ المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف ولهذا الاعتبار أيضا يستقيم للمسلم أن يحرص على الغنى .
ويبدو أن الثلة المؤمنة من قوم موسى قد أحسوا في نفوس إخوانهم انصرافا كاملا لهذه القيمة فجاء كلامهم على هذا النحو, فيه معنى الشدة والزجر.
[align=center]* * * [/align]
وبعد .. بقي الصنف الثالث من الناس ..
وهو الآخر صنف قائم في كل جيل وفي كل أمة , إلا أنه لا يكون إلا قليلا في الناس , ولكن من شأن هذه القلة من المؤمنين –إذا تجردت لله- أن تقوّم موازين المجتمع وأن تزيل الغبش عن أفهام الناس وأن تصحح في الحياة طبيعة القيم التي يدور المجتمع في فلكها.
[align=center]{وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون}[/align]
إن الغنى هو غنى الإيمان , هو غنى القلب , هو غنى النفس الراضية المطمئنة بالله تعالى المستغنية به سبحانه عن كل شيء , هو غنى النفس التي وقر فيها أن الإيمان رصيد لا ينفد وملك لا يبيد لأنه صلة بالله تعالى الغني القوي القادر , ولهذا المعنى الجميل كان بعض السلف يدعو "اللهم اغـننا بافتقارنا إليك ولا تفقرنا باستغنائنا عنك" .
وأن الفقر إنما هو فقر الفؤاد من الإيمان , هو الإفلاس في عالم الضمير , هو فقر النفس التي لم يملأها الإيمان , فراحت تطلب من الحياة ما يشبع نهمها , والنفس متى فرغت من الإيمان فرغت من كل شيء , ولو كان للنفس المحجوبة عن الله واد من ذهب لما رضيت ولو كان لها واديان ما رضيت ولن يملأها إلا الإيمان وهي حية .. ولن يملأها إلا التراب وقد توفها الله ..
[align=center]* * *[/align]
جملة القول ..
الله تعالى هو الغنى مالك الملك , والله تعالى هو القوي القادر , ومن استغنى بالله عن إيمان راسخ ويقين ثابت أغناه الله عن غيره وكفاه , ومن استقوى بالله عن إيمان ويقين أمده الله بجنود من عنده , وتلك هي قيمة الحياة الثابتة الأصيلة .
والإنسان خلق ضعيف , ولضعفه تحجبه القيم الزائفة العارضة .. النافشة في الحياة بغير جذور , قيمة العلم والمال حين يوظفان توظيفا خاطئا وقيمة السلطان والرياسة حين توظف هي الأخرى توظيفا خاطئا , فيتعلق المرء بها , ويركن إليها , ويريه الشيطان أنه كبير .. قوي .. قدير , وهو -لو تنبه- خلق ضعيف جد ضعيف أمام مقادير الله , فما هي إلا أن ينزل به أمر الله فكأن لم يغن بالأمس , وما هي إلا أن يحق عليه القول فكأن لم يك شيئا , وما هي إلا أن يقضي الله القوي فيه قضاءه فإذا السلطان المتجبر العاتي لقمة سائغة تلوكها لجج اليم الغامر , وإذا الغني المتغطرس وقد كان يتعالى على الناس فوق الأرض إذا به خاسئ مهين تحت طباق الأرض ودون مواطئ الأقدام ..
وذلك جزاء المتعالين المفسدين في الأرض
[align=center]{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}[/align]
[align=center]* * *[/align][/align]
فرعون وقارون .. استبداد السلطان وبغي المال ..
اسمين لمجمع النقائض وملتقى الأضداد ..
الرفعة والعلو في موازن الأرض , والانحطاط والإسفاف في موازين السماء
القوة والسلطان في موازين الأرض , والضعف والصغار في موازين السماء
الملك والغنى في موازين الأرض , والافتقار والعوز في موازين السماء
العزة والوجاهة في موازين الأرض , والذلة والهوان في موازين السماء
[align=center]* * *[/align]
هما طبيعتان من طبائع النفس السقيمة الممرورة , طبيعتان أطول عمرا من صاحبيهما , وأكبر جرما من شخوصهما , إذ أغرق الله الأول وخسف الأرض بالثاني , فانتهت الشخوص , وسطرت المسميات في صفحات التاريخ السحيق , وبقيت طبائعهم السقيمة الممرورة حية مكرورة في كل جيل .. وفي كل زمن .. وفي كل أمة..
نعم .. لم تخل أمة من الأمم على مر التاريخ من فرعون مستبد ومن قرون باغ , تتغير المسميات والشخوص , وتتقلب الأعصار وتتبدل الأمصار , وتبقى الطبائع هي هي حاضرة شاخصة سافرة , حتى كأن فرعون ما ابتلعته لجة اليم الغامرة , وكأن قارون ما خسف به تحت طباق الأرض .. ومن ذلك كان أبو جهل فرعون هذه الأمة !! .
ولذلك خلد الله ذكر فرعون وقارون في كتابه العزيز , وما تخليد أسمائهم إلا معنى من معاني تخليد طبائعهم السقيمة الممرورة , وما تخليد طبائعم في القرآن الكريم إلا إخبارا من القرآن لهذه لأمة في كل جيل من أجيالها أنها قد تبتلى بحاكم مستبد فيه بقية من فرعون , ومترف باغ على قومه فيه بقية من قارون , إذ ما دامت الحياة ماضية على الأرض , وما دامت أمم ومجتمعات وشعوب , ففي الأرض إذن فرعون مستبد .. وفيها قارون باغ !! فكان حقا أن يكون فرعون آية لمن خلفه
[align=center]{فاليوم ننجيك بدنك لتكون لمن خلفك آية}[/align]
ولكن الله غالب على أمره , وسنة الله باقية في خلقه لا تتبدل , وما كان الله ليذر المفسدين في الأرض يفسدوا ويهلكوا الحرث والنسل , نعم .. ما دامت أمم ومجتمعات فثمة فرعون مستبد وقارون باغ , ولكن ثمة موسى يبعثه الله لفرعون وقارون على حين فترة من الجور والبغي , يبعثه الله لتستقيم به كفة الحياة وقد اختلت , وتستوي به الموازين وقد اضطربت , يبعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور , يبعثه الله وقد بلغ الفساد في الأرض مبلغه الذي لا مبلغ بعده .. وكل بقدره المقدور ..
[align=center]{ثم جئت على قدر يا موسى}[/align]
وتلك سنة الله الباقية في خلقه .. ولن تجد لسنة الله تبدلا .. ولن تجد لسنة الله تحويلا ..
[align=center]* * *[/align]
وتعال نلم بشيء من خبر قارون الباغي على قومه .. ونضرب الذكر عن فرعون المستبد فليس المقام مقامه ..
كان قارون من قوم موسى عليه السلام , ويقال انه كان ابن عم موسى فهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام , أما موسى فهو وموسى ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ..
وكان قارون هذا حسن الصورة جميل الطلعة وكان أقرا بني إسرائيل للتوراة , حتى أنهم كانوا يلقبونه بالمنوّر..
ويبدو انه كان سيء الطوية تجاه ابن عمه موسى , فقد قيل أنه حسد موسى وهارون , وذلك حين جاوز موسى ببني إسرائيل البحر, وصارت الرسالة لموسى وصارت الحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأسا فيهم –وكان القربان من قبل لموسى فجعله إلى أخيه هارون- فقال لهم قارون: الأمر لكما ولست على شيء !! إلى متى أصبر ؟؟!.
فقال موسى : هذا صنع الله .
فقال قارون: والله لا أصدقك حتى تأتي بآية !!
فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد منهم بعصاه فيحزمها ثم يلقيها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها , وكانوا يحرسون عصيهم بالليل , فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر !!! وكانت من شجر اللوز.
فقال قارون حينئذ , والله ما هو بأعجب مما تصنع من السحر!! ويبدو أن ذلك الموقف كان بداية بغي قارون على قومه عموما وعلى موسى خصوصا ..
وللإمام أبي محمد الفراء المعروف بالبغوي قول آخر في بداية بغيه على قومه فقد كان أول بغيه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربع في كل طرف خيط أزرق كلون السماء يذكروني به إذا نضروا إليها ويعلمون أني منزل منها كلامي , فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم إن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط . فقال له ربه: يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير , فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في لأمر الكبير , فدعاهم موسى عليه السلام وقال: إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها . ففعلت بنوا إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم , فكان هذا بدء عصيانه وبغيه .. وكان هذا الحدث قبل عبور موسى البحر ببني إسرائيل .
وسواء كان بغي قارون قبل عبور بني إسرائيل البحر أم بعده , فالثابت انه بغى على قومه وأنه كان كثيرا ما يؤذي ابن عمه موسى عليه السلام ..
ويذكر الإمام الزمخشري صاحب الكشاف: أنه كان اعلم بني إسرائيل بالتوراة , وقيل أنه كان قد استوفى علم الكيمياء , بعد أن خدع يوشع بن نون وقالب بن يوفنا , فأخذ منهما ما كان موسى قد علمهما إياه من دقائق هذا العلم فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا ..
فكان أن أسبغ الله عليه من نعمته وفتح عليه من خزائن رحمته , وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة كما أخبر القرآن بذلك , حتى كانت تحمل مفاتح خزائنه ستون بغلا لكل خزانة مفتاح ولا يزيد المفتاح على الإصبع .
وقيل في وصف غناه أنه كان يخرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلاثمائة غلام وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج . وقيل: في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وكان ذلك أول ما رؤي فيه المعصفر ..
ولكن يبدو أن بسطة النعيم الوارفة تلك لم تكن لتصرف قارون عن حسده ابن عمه موسى والكيد له , فقد كان يؤذي موسى كل ما وجد لذلك سبيلا , وكان موسى يداريه للرحم التي بينهم ..
حتى إذا شرع الله الزكاة على بني إسرائيل , صالحه موسى على دينار عن كل ألف دينار ودرهم عن كل ألف درهم فاستكثرها قارون وشحت بها نفسه .
ثم ما لبث قارون أن جمع بني إسرائيل وقال: إن موسى أرادكم على كل شيء وهو يريد أن يأخذ أموالكم !! فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا فمر بما شئت . ففكر .. ثم نظر .. ثم قدر .. فقتل كيف قدر .. فكان الرأي أن يبرطل فلانة البغي حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنوا إسرائيل !! فجعل لها ألف دينار . وقيل طستا من ذهب.. وقيل: طستا مملوءا ذهبا .
فلما كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه , ومن افترى جلدناه , ومن زنى وهو غير محصن جلدناه , وإن أحصن رجمناه , فقال قارون: وإن كنت أنت ؟! قال: وإن كنت أنا . قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة!! فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق , فتداركها الله فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك لنفسي , فخر موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي , فأوحى إليه: أن اأمر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك !!
فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل , فاعتزلوا جميعا غير رجلين , ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشده بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال: خذيهم فانطبقت عليهم ..
وقيل إن الله أوحى لموسى: يا موسى استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم , أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.
فأصبحت بنوا إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه !! فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله.
وعن قتادة: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة .. وتلك كانت خاتمة قارون .
[align=center]* * *[/align]
كانت هذه وقفة يسيرة مع قصة قارون بسردها القصصي المجرد , بعيدا عن روح القصة , وبعيدا عن مضمونها الأصيل , ولنا أوبة جديدة إلى القصة , نكشط عنها رغوة الشخوص والمسميات والأحداث لنخلص إلى اللبن السائغ النافع للمجتمع المسلم .
وقبل الحديث عن قصة قارون يستحسن أن نتناول سورة القصص بعجالة سريعة , نخلص منها لمضمون السورة العام وخطوطها الأساسية , إذ كان فهم السورة مجملة بخطوطها الأساسية باب لفهم القصة لتي وردت في السورة , لأن القصة التي ترد في السورة إن هي إلا حلقة من حلقاتها , تدور حيث تدور قطاعات السورة , وتتناول ما تناولته السورة .
فسورة القصص سورة مكية , نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة , والقوة والسلطان والمال في المشركين , نزلت والناس تتنازعهم قيم الحياة الزائفة منها والأصيلة , قيمة الإيمان الثابتة الأصيلة , تقابلها قيمة الملك والسلطان ممثلة في فرعون وجنده , وقيمة المال والغنى ممثلة في قارون وهي قيم زائفة من قيم الحياة.
فمن الناس من استعز بالمال والملك , حتى نزت به البطنة , فطغى به غناه كالوليد ابن المغيرة المخزومي الذي كان يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير وهو الذي أنزل الله فيه
{ذرني ومن خلقت وحيدا* وجعلت له مالا ممدودا* وبنين شهودا* ومهدت له تمهيدا* ثم يطمع أن أزيد}
ومنهم من استقوى بالسلطان والنفوذ كأبي جهل وأبي لهب وغيرهم من سادة المشركين وكبرائهم .
ومنهم من استعلى بالإيمان واستقوى بالله , وتلك هي الثلة المؤمنة التي التفت حول النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة من الدعوة في مكة , فنزلت سورة القصص تتناول هذه القيم بأسلوب قصصي مؤثر , نزلت لتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله , وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان , فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه , ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة , ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى , ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله , ومن استحب العمى على الهدى فليس بنافعه شيء في الأرض ..
ولذلك تناولت السورة قصتي فرعون وقارون , لتقرر في الأولى أن قيمة الإيمان أثبت وأقوى من قيمة الملك والسلطان , وتقرر في الثانية أن قيمة الإيمان أغنى لصاحبها من قيمة المال حتى ولو بلغ ما بلغه مال قارون.
وبين القصتين يوجه القرآن أبصار المشركين وبصائرهم للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم , يبصرهم وهو يريهم آيات الله المبثوثة في مشاهد الكون تارة , ويبصرهم وهو ينبئهم عاقبة الغابرين تارة , ويبصرهم وهو يسوق بعض مشاهد القيامة تارة , وكلها تدور حول مضمون السورة الأصيل , وكلها تتوالى على القلب لتقرر فيه تلك القيمة الثابتة الأصيلة .. قيمة الإيمان.
ونجد السورة تقرر هذه القيمة –قيمة الإيمان-مرة أخرى حين تعقب على قول المشركين
[align=center]{وقالوا عن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}[/align]
فتجيء قصة فرعون تقول لهم إن القوة إنما هي قوة الله , فمن كان مع الله فإنما هو في الجناب الآمن ولو كان في شعاب الهلاك , وأن الطغيان والاستبداد وإن انتفش في الحياة وكبر , فإنما هو شجرة خبيثة ما لها من قرار , تذهب بها قصفة من قصفات الرحمن .[align=center]
{فأخذناه هو وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين[/align]}
ثم يذكرهم الله تعالى ردا على تخوفهم الموهوم , يذكرهم انه سبحانه هو الذي جعل لهم هذا الحرم أمنا
[align=center]{أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شي رزقا من لدنا ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون}[/align]
وهكذا نجد أن السورة تدور حول تقرير قيم الحياة العارضة من قيم الحياة الأصيلة بأسلوب قصصي حي متحرك , وهذه هي خطوطها الأساسية ..
[align=center]* * *[/align]
والآن .. نرجع لقارون بعد هذه العجالة ..
فقصة قارون حلقة من حلقات السورة المجملة , تتناول ما كانت السورة بصدده , وإذا كانت السورة قد تناولت مع فرعون قيمة الملك والسلطان إزاء قيمة الإيمان , فهي مع قارون تتناول قيمة المال والغنى إزاء قيمة الإيمان , ويدور حول هاتين القيمتين ثلاث أصناف من الناس .
فصنف أعمى البصيرة , ضعيف النفس , قد حجبه المال عن الله تعالى , فختم الله على قلبه , ومده في طغيانه , ومكر به من حيث لا يحتسب , فلم يفق من سكرته إلا والأرض تلتقمه شيئا فشيئا وذاك هو قارون الذي بغى
[align=center]{فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}[/align]
ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من هذا الصنف من الناس ممن ينعم الله عليه ويمدده بأموال وبنين ويجعل له جنات ويجعل له انهارا فتستحوذ عليه هذه القيمة الزائفة العارضة –قيمة المال-ويحسب أن لن يقدر عليه أحد , فإذا بفؤاده قد فرغ من الله , وإذا بالمال يكون حجابا لقلبه عن الله , وإذا به عبد لأمواله وإن تزيى بزي الأسياد .
[align=center]* * *[/align]
وإن الله تعالى ليبتلي الغني بالغنى ابتلاءه الفقير بالفقر , لا بل لعل فتنة الغنى أشد على النفس من فتنة الفقر , لأن المرء مع الغنى يمسك عن النفس هواها وهو مستطيع له قادر عليه , بينما يكف النفس حين فقره وهي عاجزة عن إتيان مرادها لا تستطيع بلوغه , ومن ذلك كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر .
وقد يخسف الله بهذا الصنف من الناس من حيث لا يشعرون , وليس بالضرورة أن يكون الخسف خسفا حسيا تراه العين كخسف قارون , إذ كم من مترف خسف الله به فهو في ظلمات ليست ظلمات الأرض بأشد منها .. وهو لاه لا يدري .
فقد يبتلي الله الغني الباغي بانحطاط في خلقه ودناءة في طبعه , وفي انحطاط الأخلاق ودناءة الطبع معنى من معاني الخسف .
وقد يبتلي الله الغني الباغي إذ يسلط عليه حب الدنيا والتهالك عليها فيملأ من خزانته بقدر ما يُفرغ من فؤاده , وتشبع نفسه بقدر ما تجوع روحه , وفي فراغ الفؤاد من الله وفي مخمصة الروح معنى من معاني الخسف .
وقد ينعم الله على الفقير بالعافية والقوة ويحرمها الغني الباغي , فيجمع الله عليه عذابين , عذاب في جسمه أمراضا وأسقاما وآلاما , وعذاب في ماله التياعا وحسرة أن حرم التنعم به , وفي ذلك معنى من معاني الخسف .
وقد يكون المال في بعض أحواله أداة للتباغض والخصام , ومادة القطيعة والفصال , وباعثا للأنانية المفرطة التي توهم الغني أن دنياه غير دنيا الناس وأن الناموس الذي يجري عليه غير الناموس الذي يجري على الناس , وأنه .. وأنه .. وهذا معنى من معاني الخسف .
وقارون كان قد خُسف به خسفا معنويا باطنا قبل أن يخسف به خسفا حسيا ظاهرا وهو لا يدري ..
وحسبك معنى من معاني الخسف أنه حُجب عن الله , وعميت بصيرته , حتى جحد نعمة الله عليه وأنكر فضله تعالى
[align=center]{قال إنما أوتيته على علم عندي}[/align]
وهي كلمة نسمعها من المحجوبين عن الله من أهل الترف والغنى , ممن لا يرون في أموالهم للمساكين والفقراء حق , بل لعلهم يتمادون في غيهم في بعض الأحيان فيرون أن لا حق لله في أموالهم ولسان حالهم يقول ..
أموالنا نحن الذين جمعناها .. فلسا فلسا !!
ونحن الذين سهرنا عليها !!
ونحن الذين رعينا مصالحنا وسعينا ليل نهار واحتفرنا الصخر وقطعنا القفر !!
ومهما اختلف القول , وتعددت أساليبه فهو آخر الأمر مندرج تحت معنى
{إنما أوتيته على علم عندي}
[align=center]* * *[/align]
وقبل أن ننتقل إلى الصنف الثاني من الناس في القصة نقف وقفة يسيرة عند قوله تعالى
[align=center] {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله غليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}[/align]
فنحن هنا أمام وسطية المنهج الإسلامي الذي يضع الأمور مواضعها اللائقة بها .
إن المال في التصور الإسلامي وسيلة لا غاية , وسيلة لغاية إنسانية أرفع منه وأسمى , وهو قبل ذلك أمانة يستخلف الله عليها الغني ليرى ماذا يكون منه
[align=center]{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}[/align]
فالمال –مال المسلم-موقوف بالدرجة الأولى للدار الآخرة , ثم يأتي بعد ذلك نصيب الإنسان من الحياة الدنيا , والإسلام لا يحرم على المسلم أن يتمتع بماله الذي جعل الله له قياما , والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده , وقد أمر سبحانه أن يأخذ المسلم زينته عند كل مسجد , على أن تكون هنالك أولويات يراعيها المسلم في ماله , وأولويات الآخرة في المنهج الإسلامي مقدمة على أولويات الدنيا..
والخروج عن هذا النهج الإلهي في الأموال إنما هو ضرب من ضروب الفساد في الأرض وقد قال قوم قارون لقارون
[align=center]{وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}[/align]
وأي اضطراب في هذا الميزان الإلهي يجر وراءه أذى على المسلم في جانب من جوانبه وأذى على المجتمع المسلم في الجانب المقابل .
فحيث لا يراعي المسلم في ماله إلا الدار الآخرة فإنه منفق كل ماله في سبيلها , وهذا يضر بمصلحة المسلم نفسه أو يضر بأهله وعياله وفي الأثر الشريف ((عن عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله إنه بلغ بي ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي ؟؟ قال: لا . قلت : أفأتصدق بشطره ؟؟ قال : لا الثلث والثلث كثير فإنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك..))
وحين يستولي المال على قلب صاحبه , وتستولي عليه أثرة النفس , فلا يراعي إلا خاصة أمره , فإن هذا يجر إلى ضر كبير على المجتمع المسلم إذ سيهضم حق المسكين الفقير في مال الغني الذي أقره الله
[align=center]{وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}[/align]
فالمنهج الإسلامي إذن قد توسط في توظيف المال بين الآخرة والدنيا , فلا هو للآخرة بكله , ولا هو للدنيا بكله , وإنما هي الوسطية التي أخذت من الآخرة بطرف ومن الدنيا بطرف , مع مراعاة الأولويات طبعا , فكان من هذا المنهج الاعتدال واليسر والاستقامة ..
[align=center]* * *[/align]
ونرجع إلى الصنف الثاني من الناس في القصة ..
وهذا الصنف أيضا نراه رأي العين قائم في كل جيل وفي كل مجتمع , وهو صنف ضعيف الإيمان , يؤخذ بالمظهر البراق , ولضعفه نراه تخدعه مظاهر العز والوجاهة والترف في الأغنياء الموسرين , فتتحرك في نفسه الأهواء , ويتطلع لهذا النعيم الظاهر , ويتمنى أن لو أن الأقدار حبته بما حبتهم .
{وخرج على قومه في زنته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم}
وهذا الصنف من الناس لا تجده في الغالب إلا متأرجحا بين هاتين القيمتين –قيمة العلم والإيمان وقيمة الغنى والمال- يتمنى -وقد تلبدت على قلبه الغفلة- غنى الغني ونعيمه , ثم ما يلبث -وقد تداركته رحمة ربه- أن يستفيق من غفلته فيرى بنور الإيمان , ليعرف أن أمانيه بالأمس إن هي إلا شعبة من شعاب الخسران والضياع والحجاب عن الله ..
[align=center]{فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكانه لا يفلح الكافرون}[/align]
ولكن هل نريد أن المسلم لا يجوز له أن يتمنى الغنى ؟؟!!
وهل على المسلم أن يعيش فقيرا بائسا معدما ؟؟!!
والجواب عن ذلك أن للمسلم أن يتمنى الغنى ويطلبه بل ويحرص عليه متى ما وجد المسلم في نفسه حصانة إيمانية تقيه الانزلاق في مهوى هذه القيمة العارضة –قيمة المال- لأن المال بطبيعته زينة من زينة الحياة , وإن القلب لينصرف لهذه الزينة حين لا يكون ثمة إيمانا فيه يقي ويحفظ , وللمسلم أيضا أن يحرص على الغنى متى ما وجد في نفسه همة صادقة خالصة لإنفاق هذا المال في وجوه الخير والصلاح .. حينئذ يكون المال غاية تطلب ومقصدا يراد وقد قال سليمان
[align=center]{رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}[/align]
ثم إن الغنى ضرب من ضروب القوة , والقوة مرادة للمسلم , إذ المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف ولهذا الاعتبار أيضا يستقيم للمسلم أن يحرص على الغنى .
ويبدو أن الثلة المؤمنة من قوم موسى قد أحسوا في نفوس إخوانهم انصرافا كاملا لهذه القيمة فجاء كلامهم على هذا النحو, فيه معنى الشدة والزجر.
[align=center]* * * [/align]
وبعد .. بقي الصنف الثالث من الناس ..
وهو الآخر صنف قائم في كل جيل وفي كل أمة , إلا أنه لا يكون إلا قليلا في الناس , ولكن من شأن هذه القلة من المؤمنين –إذا تجردت لله- أن تقوّم موازين المجتمع وأن تزيل الغبش عن أفهام الناس وأن تصحح في الحياة طبيعة القيم التي يدور المجتمع في فلكها.
[align=center]{وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون}[/align]
إن الغنى هو غنى الإيمان , هو غنى القلب , هو غنى النفس الراضية المطمئنة بالله تعالى المستغنية به سبحانه عن كل شيء , هو غنى النفس التي وقر فيها أن الإيمان رصيد لا ينفد وملك لا يبيد لأنه صلة بالله تعالى الغني القوي القادر , ولهذا المعنى الجميل كان بعض السلف يدعو "اللهم اغـننا بافتقارنا إليك ولا تفقرنا باستغنائنا عنك" .
وأن الفقر إنما هو فقر الفؤاد من الإيمان , هو الإفلاس في عالم الضمير , هو فقر النفس التي لم يملأها الإيمان , فراحت تطلب من الحياة ما يشبع نهمها , والنفس متى فرغت من الإيمان فرغت من كل شيء , ولو كان للنفس المحجوبة عن الله واد من ذهب لما رضيت ولو كان لها واديان ما رضيت ولن يملأها إلا الإيمان وهي حية .. ولن يملأها إلا التراب وقد توفها الله ..
[align=center]* * *[/align]
جملة القول ..
الله تعالى هو الغنى مالك الملك , والله تعالى هو القوي القادر , ومن استغنى بالله عن إيمان راسخ ويقين ثابت أغناه الله عن غيره وكفاه , ومن استقوى بالله عن إيمان ويقين أمده الله بجنود من عنده , وتلك هي قيمة الحياة الثابتة الأصيلة .
والإنسان خلق ضعيف , ولضعفه تحجبه القيم الزائفة العارضة .. النافشة في الحياة بغير جذور , قيمة العلم والمال حين يوظفان توظيفا خاطئا وقيمة السلطان والرياسة حين توظف هي الأخرى توظيفا خاطئا , فيتعلق المرء بها , ويركن إليها , ويريه الشيطان أنه كبير .. قوي .. قدير , وهو -لو تنبه- خلق ضعيف جد ضعيف أمام مقادير الله , فما هي إلا أن ينزل به أمر الله فكأن لم يغن بالأمس , وما هي إلا أن يحق عليه القول فكأن لم يك شيئا , وما هي إلا أن يقضي الله القوي فيه قضاءه فإذا السلطان المتجبر العاتي لقمة سائغة تلوكها لجج اليم الغامر , وإذا الغني المتغطرس وقد كان يتعالى على الناس فوق الأرض إذا به خاسئ مهين تحت طباق الأرض ودون مواطئ الأقدام ..
وذلك جزاء المتعالين المفسدين في الأرض
[align=center]{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}[/align]
[align=center]* * *[/align][/align]