عبد الله الطواله
New member
- إنضم
- 17/08/2010
- المشاركات
- 19
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 3
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} و{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}.
يقول أحد القسس النشطاء : تخرجت من الفاتيكان معقل التنصير في العالم ، وبدأت أتنقل من بلدٍ إلى بلد لتنصير المسلمين وكانت أكثر زياراتنا لمصر فه مصدرٌ من مصادر قوة المسلمين ، ثم جلست يوماً مع مجموعة من القساوسة والمبشرين فقلت لهم : لقد طفنا أكثر بلاد الأرض ولم يبقى إلا جزيرة محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) لم تصل إليها دعوة المسيح ، ولا بد من اقتحامها فهي معقل الإسلام، فخططت للوصول والحصول على طريقة أدخل بها فنجحت في ذلك ، فلما وصلت بدأت أبحث عمن يعطيني نسخةً مترجمةً للقرآن لأبحث فيها عن أخطاء القرآن، ولتكون تلك هي طريقي لتنصير المسلمين ومحاججتهم ، وما زلت أطلب نسخة من القرآن المترجم حتى حصلت عليها ، فأخذتها وأغلقت على نفسي وجلست وحدي .. بدأت أقرأ بتمعن وفي نيتي تتبع الأخطاء واستخراجها .. فإذا بأول صفحة من سورة البقرة تتحداني وتخبرني أن هذا الكتاب خالٍ من الأخطاء .. صعقت من البداية .. فلا يوجد مؤلف في العالم يمتلك الجرأة ليقول هذا الكتاب خالي من الأخطاء ولا ريب فيه .. ولكن القرآن على العكس تماماً يقول لك لا يوجد أخطاء بل ويتحداك {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ..
ومع المتابعة لفت نظري كثرة ذكر أسماء شخصيات قديمة ولمئات المرات ، بينما لم أجد أيّ أسم لأيّ من زوجاته أو بناته أو خلفائة .. بل إن اسمه هو لم يوجد في القرآن كله إلا أربع مرات بينما ذكر موسى عليه السلام باسمه الصريح أكثر من (130) مرة .. وذكر إبراهيم عليه السلام لأكثر من (60) مرة ، وذكر نوح عليه السلام لأكثر من (50) مرة ، وذكر عيسى عليه السلام لأكثر من ثلاثين مرة ، وذكرت مريم عليها السلام مثل ذلك وغيرها من الشخصيات القديمة .. كما لفت نظري أنه لم يذكر أحداث طفولته ولا أي من الأحداث الحزينة التى تأثر بها كموت زوجته وعميه وأبنه وكبار أصحابه .. بينما وجدت أنواعاً من العتاب الموجه له شخصياً صلى الله عليه وسلم وتسآئلت كيف يثبت هذا في القرآن : {عَبَسَ وَتَوَلَّى} {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} .. {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .. وبدأت أقفال الكفر تتحلل .. وبدأ ظلام الشرك ينجلي ، وبدأت أمطار الهداية بالنزول ، وبدأ القرآن يجاوبني على كل الأسئلة والاستفسارات التي تدور في نفسي ، وبدأت أقول لنفسي : من هذا الذي يتحداني ؟ ومن هذا الذي عنده القدرة ليتكلم في ملكوت الأرض والسماوات بكل هذه الثقة والتحدي؟ فجاءني الجواب من أعماق قلبي .. إنه الله جل جلاله ..
يقول : تعمقت أكثر وأكثر، وكلما خطر ببالي سؤال محير وجدت عنده الجواب الشافي ، فلم أملك إلا أن اسلم وأعلن إسلامي .. وسرعان ما انطلق من كان قسيساً وعدواً لدوداً في يومٍ من الأيام .. ليكون داعية موفقاً من أنجح الدعاة إلى الله .. فأسلم على يديه في سنوات قليله عشرات الآلاف من النصارى والأمريكان في كل مكان ، وكان أشد ما أغاض عباد الصليب الأمريكان وجعلهم يتطاولون على القرآن ، ما عبر عنه هذا الداعية الموفق بقوله : أقسم بالله لما جاءت قواتهم إلى جزيرتنا لتحرير الكويت لم يرجعوا إلا وقد أسلم منهم أكثر من سبعة وعشرين ألفاً، ولا زلنا نمدهم بعشرات الآلاف من المصاحف والكتيبات، ولا زلت أستلم منهم يومياً عشرات الرسائل والاستفسارات وأرد عليهم
فدعهم يعضوا على صُم الحَصَى كمداً *** من مات من غيظه فزرعه حصدا
{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }
إنه القرآن الذي صنع خير أمةٍ أخرجت للناس .. القرآن الذي نزل والعرب في أوج قوتهم البيانية والبلاغية شعرا ونثرا ، فتحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، فخفض التحدي: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} فعجزوا، فخفض التحدي أكثر وأكثر : {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فلم يستطيعوا، فنادى عليهم بالعجز إلى قيام الساعة : {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
القرآن الذي خلع أفئدة الكفار، وألقى الهيبة في قلوبهم، فهذا جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل إسلامه وكان من أكابر قريش .. فلما أُخذ في أسرى بدر وربِط في المسجد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} قال: (كاد قلبي أن يطير، وكان ذك أول ما دخل من الإيمان في قلبي). بل إن أكابر مشركي مكة لم يملكوا أنفسهم حين سمعوا قول الله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، لم يملكوا أنفسهم فسجدوا، لقد أرغمتهم هيبة القرآن على السجود. وحتى إن فصحاءهم وكبراءهم لم يستطيعوا إخفاء إعجابهم بالقرآن، حتى قال كبيرهم الوليد بن المغيرة : "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ووالله ما يقول هذا بشر". حتى الأعراب الأقحاح أهل الصحراء القاحلة ،وذوي الطباع القاسية .. رضخوا لفصاحة القرآن وبلاغته وقوة أسلوبه، حتى إن أعرابياً حين سمع قول الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} قال: سجدت لفصاحتها، وسمع آخر قول الله: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} قال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحتى أصحاب الأديان الأخرى من الذين أراد الله بهم خيرًا كانوا يتأثرون عند سماعه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. ثم في النهاية يسلمون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. الله أكبر، يا عباد الله .. إنه القرآن! الذي أدهش العقول، وأبكى العيون، وأحيا القلوب ، وطأطأت له رؤوس أهل الكفر؛ بل لقد أدهش الجنَّ وحرَّك ألبابهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ومن ثم كانت النتيجة كما حكى الله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
الحمد لله وكفى ..
أما بعد: فيقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}
إنها كراهية الحقّ .. فالقرآن العظيم الهادي إلى الصراط المستقيم إذا تليت آياته ورِمَت أنوف الكفار واشتدّ غيظهم، حتى لم يتمالكوا كتم في قلوبهم، فظهر على وجوههم، وهاهو اليوم يظهر جلياً في قنواتهم وتصريحات رموزهم الدينية ..إنها سلسلة ماضية في حلقاتها منذ أن نزل هذا القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
تأملوا ـ مرة أخرى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}، لم يقل المولى سبحانه: "تعرف في وجوههم المنكر" بل قال: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، إذًا هذا هو السبب، وهذه هي العلة (الكفر)، ثم إنه ذكر سبحانه الوجوه وأنه يظهر عليها أثر الكره والبغض ، وفي هذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الغيظ حتى تجاوز فظهَر على وجوههم، قال تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}
معاشر المؤمنين، إذا كانوا يضمرون كل هذا الشرّ لمجرد تلاوة الآيات فماذا يمكن أن يفعلوا لو ظفروا بهذا الكتاب ووقع في أيديهم، أو دارت لهم الدائرة على حملة هذا القرآن، هذا ما يذكره الله عنهم في قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}، ومعنى يَسْطُونَ أي: يبطشون، إنهم يكادون ويقاربون أن يصُولُوا على الذين يتلون هذا الكتاب من شدّة حقدهم وغيظهم من سماع هذا القرآن.
ويحهم! وماذا وجدوا فيه غير سعادة البشرية؟! ماذا وجدوا فيه غير الحق والهدى ؟! ماذا وجدوا فيه حتى تمتلأ قلوبهم بكل هذا الغيظ لمجرد سماع آياته؟! اللأنهم لا يملكون حُجة ولا دليلاً ولا برهانًا، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
عباد الله، عبثُ الصاغرين ضدَّ هذا الكتاب سيبقى ما بقي الخير والشر، ربما تتنوع الأساليب ، ربما تتلون الأقنعة ، لكنهم بإذن الله خاسرون وأمام كلام الله مدحورون .. تأملوا يارعاكم الله مرة أخرى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .. تأملوا تكرار العلة ذاتها .. إنه الكفر .. هو الذي يدفعهم للتواصي والتعدّي على هذا الكتاب، فيقول سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، إنها إذًا وصية الكبراء المنظرين، حملَة القرار لأنفسهم ولجماهيرهم، {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ}، ردٌّ للحق قبل سماعه، بلا حِوار ولا مناقشة، بل بلا سماع بالكلية، ليس هذا فحسب، بل: {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، أتدري ـ أيها المؤمن ـ ما معنى ذلك : معناه الصياح وترديد أقوال لا معنى لها، المهمّ أن تعلوَ أصواتهم فوق صوت القرآن فلا يسمعوه ، ولِما كل هذا {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. لعلكم بصيغة التضعيف فهم يدركون جيداً أن القرآن غالبهم ..
كمن يريد حجب الشمس بغربال .. يريدون إسكات القرآن وحجب هدايته ... مرة بالأغاني والموسيقى .. ومرة بالتمزيق والدوس وإلقائة في الأماكن القذرة .. ومرة بالحرق وغير ذلك من أشكال اللغو .. وكلها صور مكررة ومتنوعة من الهزيمة النكراء .. لكنها في عصر بحسبه. والنتيجة بحول الله دائماً واحدة .. فمن يغالب الله يُغلب ..
هذه هي أساليب الأعداء يا عباد الله ، وذاك هو موقفهم من القرآن، ولن يتغير؛ ووالله لو وجدوا غير ذلك لما ادخروا وسعاً .. فحين أعيتهم الحيلة لجؤوا إلى هذه الأساليب الوضيعة التي لا تدنّس إلا سمعتهم، ولا تحط إلا من أقدارهم.
ومن أعاجيب قضاء الله وأمره .. أنهم في كل مرةٍ يقدمون دليلاً جديدًا على أن الله جلت قدرته هو وحده الحافظ لهذا القرآن العظيم .. أما قال جلت قدرته: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، تأملوا يا عباد الله : سبع كلمات يجتمع فيها ما يقرب من عشر مؤكدات: "إنَّ" و"ن" الخطاب وألفها .. الدالتين على العظمة والقوة، و"نحن" الدالة على الجمع للتفخيم وعـلى التوكيد والحصر أي: نحن وليس غيرنا، "نزلنا" صيغة مبالغة من "أنزلنا" فهي أبلغ وأوكد ، ثم "ن" الخطاب وألفها مرة ثانية ولكن هذه المرة مع الجمع للتفخيم .. الدال على القدرة والعظمة، ثم أختار من أسماء القرآن "الذكر" .. وفي ذلك ما يشعر بأنه رفيع القدر عالي المكانة .. ثم تكرار لـ"إنا" وبعدها "له" ضمير يعود على القرآن .. ثم لام التوكيد في "لحافظون"، فكل هذه المؤكدات المتتالية تمنح المؤمنين ثقة وطمأنينة بحفظ الله لهذا الكتاب العزيز . الحفظ الشامل الكامل .. العام التام ،
فعلى سبيل المثال حين نزل القرآن منجّمًا حسب الحوادث، لم يوكل أحداً ليجمعه بل تولى ذلك بنفسه تبارك وتعالى قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، فالمولى جل وعلا هو الذي تكفّل بجمع القرآن وتكفل بحفظه وتكفل بطريقة قراءته وتكفل ببيانه وتوضيحه، وتلك بعض صور الحفظ الشاملة التي تجعل المسلم اليوم يقرأ القرآن وهو مطمئنّ أنه يقرأه غضاً طرياً ، كما كان يقرؤه المصطفى صلى الله عليه وسلم ..
وبعد كل هذه الضمانات من الحفظ فلن يجرؤ أحد على مغالبة هذا الكتاب إلا سفيه أو معتوه ، قد حكم على نفسه بالسقوط والهوان. {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .. فهذا القرآن سيبقى عزيزًا مكرمًا رغم أنوف الأعداء، ولن يستطيع أحد أن ينال منه شيئاً؛ لأن القرآن قد انتصر في معركته مع جميع أعدائه وعلى جميع الأصعدة والأزمنة ، انتصر بنصّه فلم يتغيَّر ولم يتبدّل، وانتصر بآياته وعلمه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } وانتصر بنوره وهديه فما زالت القلوب تهفو إليه، وما زال تأثيره يزداد وشأنه يعلو ويصعد ..
يا أيها الكرام، تأملوا معي هذا المثل: لو أنّ الناس كلهم انقلبوا إلى كناسين لتراب الأرض ليلوّثوا به صفحة السماء النقية أو يلطخوا به وجه الشمس البهية ، فلن يغبّروا إلا على رؤوسهم ، ولن يؤذوا إلاّ أنفسهم وأنفاسهم، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ..
وما مثل هؤلاء الحاقدين الصاغرين والقرآن إلا كمثل ذباب أحمق زعم أنه يريد أن يقتل صقراً ، فلما أقترب منه جاءته قصفة من طرف ريشة من أطراف جناح الصقر فشتت أوصال الذباب وجعلته شذر مذر .. وما علم به الصقر ولا شعر بوجوده من أصله ..
فاطمئن أيها المؤمن بربه، فهم الذين سيزدادون صغارًا على صغارهم وذلاً على ذلهم، وسيزداد القرآن وأهله سموا وعلوا ..
إلا أن علينا واجباً عظيماً تجاه القرآن الكريم .. فلنتقي الله ونؤديه على الوجه المطلوب .. فوالله ما تطاول عليه الأعداء إلا لما ضعف قدره عند أهله، فاحذروا أن يكون أحد منا قد تسبب في ذلك.
أولا يوجد من المسلمين اليوم من لا يُنزل القرآن منزلته اللائقة به؟! فهو لا يقرؤه، ولا يعمل به، ولا يعيره أدنى اهتمام، يهمله إهمالا كاملا، وربما أكثر من ذلك ..
أيها المسلمون، أنزل الله القرآن الكريم ليُخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ولم ينزله تبارك وتعالى ليُتْلَى باللسان تلاوة مجردة عن التدبر والعمل، ولا ليكتب على لوحات مزخرفة تزين بها جدران البيوت والمجالس، ولم ينزله سبحانه ليُكتب في حُجُب وتمائم تعلق في الرقاب؛ ليدفَع العين والأذى، وما أنزل القرآن ليُقرأ على الموتى والأضرحة، أو في مناحات العزاء، ولا لتُفتتح وتغلق به برامج الإعلام المريء والمسموع .. ثم يكون بين ذلك ما يكون من المعاصي والمنكرات ! إنما أُنزِل ليُقرأ وليُتدبَّر، وليتذكر به مَن يتذكر، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ..
لقد تكفّل سبحانه لمن قرأ القرآن واتبع ما جاء فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، قال تعالى : {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} كما أنذر من أعرض عنه بأشد الوعيد وأخطره فقال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ..
أيها الفضلاء، ليكن ما تعرض له القرآن العظيم دافعاً ليحاسب كل منا نفسه محاسبة دقيقة وليعرف كل منا منزلة القرآن عنده .. فكل مسلم في هذا المجتمع صغر أو كبر عليه جزء من المسؤولية تجاه كتاب الله جل وعلا .. لنعد إلى الوراء قليلاً .. ولنتأمل علاقتنا مع القرآن : ما شأنها؟! أهي على ما يريد الله أم أن الأمر بخلاف ذلك؟!
و والله إن أبلغ رد على أعداء القرآن أن نكون من أهل القرآن .. المعظمين له حق تعظيمه .. القائمين بحقوقه على الوجه الصحيح .. المجتهدين على خدمته ورفع شأنه بين العالمين بكل ما نستطيع ..
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} اللهم اجعلنا خدّامًا لكتابك، عاملين بما فيه، مقيمين لحدوده وحروفه، برحمتك يا أرحم الرحمين .. اللهم رد كيد الكائدين في نحورهم، واجعله مسمارًا في نعش حضارتهم. ..
يقول أحد القسس النشطاء : تخرجت من الفاتيكان معقل التنصير في العالم ، وبدأت أتنقل من بلدٍ إلى بلد لتنصير المسلمين وكانت أكثر زياراتنا لمصر فه مصدرٌ من مصادر قوة المسلمين ، ثم جلست يوماً مع مجموعة من القساوسة والمبشرين فقلت لهم : لقد طفنا أكثر بلاد الأرض ولم يبقى إلا جزيرة محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) لم تصل إليها دعوة المسيح ، ولا بد من اقتحامها فهي معقل الإسلام، فخططت للوصول والحصول على طريقة أدخل بها فنجحت في ذلك ، فلما وصلت بدأت أبحث عمن يعطيني نسخةً مترجمةً للقرآن لأبحث فيها عن أخطاء القرآن، ولتكون تلك هي طريقي لتنصير المسلمين ومحاججتهم ، وما زلت أطلب نسخة من القرآن المترجم حتى حصلت عليها ، فأخذتها وأغلقت على نفسي وجلست وحدي .. بدأت أقرأ بتمعن وفي نيتي تتبع الأخطاء واستخراجها .. فإذا بأول صفحة من سورة البقرة تتحداني وتخبرني أن هذا الكتاب خالٍ من الأخطاء .. صعقت من البداية .. فلا يوجد مؤلف في العالم يمتلك الجرأة ليقول هذا الكتاب خالي من الأخطاء ولا ريب فيه .. ولكن القرآن على العكس تماماً يقول لك لا يوجد أخطاء بل ويتحداك {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ..
ومع المتابعة لفت نظري كثرة ذكر أسماء شخصيات قديمة ولمئات المرات ، بينما لم أجد أيّ أسم لأيّ من زوجاته أو بناته أو خلفائة .. بل إن اسمه هو لم يوجد في القرآن كله إلا أربع مرات بينما ذكر موسى عليه السلام باسمه الصريح أكثر من (130) مرة .. وذكر إبراهيم عليه السلام لأكثر من (60) مرة ، وذكر نوح عليه السلام لأكثر من (50) مرة ، وذكر عيسى عليه السلام لأكثر من ثلاثين مرة ، وذكرت مريم عليها السلام مثل ذلك وغيرها من الشخصيات القديمة .. كما لفت نظري أنه لم يذكر أحداث طفولته ولا أي من الأحداث الحزينة التى تأثر بها كموت زوجته وعميه وأبنه وكبار أصحابه .. بينما وجدت أنواعاً من العتاب الموجه له شخصياً صلى الله عليه وسلم وتسآئلت كيف يثبت هذا في القرآن : {عَبَسَ وَتَوَلَّى} {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} .. {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .. وبدأت أقفال الكفر تتحلل .. وبدأ ظلام الشرك ينجلي ، وبدأت أمطار الهداية بالنزول ، وبدأ القرآن يجاوبني على كل الأسئلة والاستفسارات التي تدور في نفسي ، وبدأت أقول لنفسي : من هذا الذي يتحداني ؟ ومن هذا الذي عنده القدرة ليتكلم في ملكوت الأرض والسماوات بكل هذه الثقة والتحدي؟ فجاءني الجواب من أعماق قلبي .. إنه الله جل جلاله ..
يقول : تعمقت أكثر وأكثر، وكلما خطر ببالي سؤال محير وجدت عنده الجواب الشافي ، فلم أملك إلا أن اسلم وأعلن إسلامي .. وسرعان ما انطلق من كان قسيساً وعدواً لدوداً في يومٍ من الأيام .. ليكون داعية موفقاً من أنجح الدعاة إلى الله .. فأسلم على يديه في سنوات قليله عشرات الآلاف من النصارى والأمريكان في كل مكان ، وكان أشد ما أغاض عباد الصليب الأمريكان وجعلهم يتطاولون على القرآن ، ما عبر عنه هذا الداعية الموفق بقوله : أقسم بالله لما جاءت قواتهم إلى جزيرتنا لتحرير الكويت لم يرجعوا إلا وقد أسلم منهم أكثر من سبعة وعشرين ألفاً، ولا زلنا نمدهم بعشرات الآلاف من المصاحف والكتيبات، ولا زلت أستلم منهم يومياً عشرات الرسائل والاستفسارات وأرد عليهم
فدعهم يعضوا على صُم الحَصَى كمداً *** من مات من غيظه فزرعه حصدا
{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }
إنه القرآن الذي صنع خير أمةٍ أخرجت للناس .. القرآن الذي نزل والعرب في أوج قوتهم البيانية والبلاغية شعرا ونثرا ، فتحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، فخفض التحدي: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} فعجزوا، فخفض التحدي أكثر وأكثر : {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فلم يستطيعوا، فنادى عليهم بالعجز إلى قيام الساعة : {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
القرآن الذي خلع أفئدة الكفار، وألقى الهيبة في قلوبهم، فهذا جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل إسلامه وكان من أكابر قريش .. فلما أُخذ في أسرى بدر وربِط في المسجد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} قال: (كاد قلبي أن يطير، وكان ذك أول ما دخل من الإيمان في قلبي). بل إن أكابر مشركي مكة لم يملكوا أنفسهم حين سمعوا قول الله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، لم يملكوا أنفسهم فسجدوا، لقد أرغمتهم هيبة القرآن على السجود. وحتى إن فصحاءهم وكبراءهم لم يستطيعوا إخفاء إعجابهم بالقرآن، حتى قال كبيرهم الوليد بن المغيرة : "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ووالله ما يقول هذا بشر". حتى الأعراب الأقحاح أهل الصحراء القاحلة ،وذوي الطباع القاسية .. رضخوا لفصاحة القرآن وبلاغته وقوة أسلوبه، حتى إن أعرابياً حين سمع قول الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} قال: سجدت لفصاحتها، وسمع آخر قول الله: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} قال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحتى أصحاب الأديان الأخرى من الذين أراد الله بهم خيرًا كانوا يتأثرون عند سماعه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. ثم في النهاية يسلمون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. الله أكبر، يا عباد الله .. إنه القرآن! الذي أدهش العقول، وأبكى العيون، وأحيا القلوب ، وطأطأت له رؤوس أهل الكفر؛ بل لقد أدهش الجنَّ وحرَّك ألبابهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ومن ثم كانت النتيجة كما حكى الله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
الحمد لله وكفى ..
أما بعد: فيقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}
إنها كراهية الحقّ .. فالقرآن العظيم الهادي إلى الصراط المستقيم إذا تليت آياته ورِمَت أنوف الكفار واشتدّ غيظهم، حتى لم يتمالكوا كتم في قلوبهم، فظهر على وجوههم، وهاهو اليوم يظهر جلياً في قنواتهم وتصريحات رموزهم الدينية ..إنها سلسلة ماضية في حلقاتها منذ أن نزل هذا القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
تأملوا ـ مرة أخرى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}، لم يقل المولى سبحانه: "تعرف في وجوههم المنكر" بل قال: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، إذًا هذا هو السبب، وهذه هي العلة (الكفر)، ثم إنه ذكر سبحانه الوجوه وأنه يظهر عليها أثر الكره والبغض ، وفي هذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الغيظ حتى تجاوز فظهَر على وجوههم، قال تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}
معاشر المؤمنين، إذا كانوا يضمرون كل هذا الشرّ لمجرد تلاوة الآيات فماذا يمكن أن يفعلوا لو ظفروا بهذا الكتاب ووقع في أيديهم، أو دارت لهم الدائرة على حملة هذا القرآن، هذا ما يذكره الله عنهم في قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}، ومعنى يَسْطُونَ أي: يبطشون، إنهم يكادون ويقاربون أن يصُولُوا على الذين يتلون هذا الكتاب من شدّة حقدهم وغيظهم من سماع هذا القرآن.
ويحهم! وماذا وجدوا فيه غير سعادة البشرية؟! ماذا وجدوا فيه غير الحق والهدى ؟! ماذا وجدوا فيه حتى تمتلأ قلوبهم بكل هذا الغيظ لمجرد سماع آياته؟! اللأنهم لا يملكون حُجة ولا دليلاً ولا برهانًا، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
عباد الله، عبثُ الصاغرين ضدَّ هذا الكتاب سيبقى ما بقي الخير والشر، ربما تتنوع الأساليب ، ربما تتلون الأقنعة ، لكنهم بإذن الله خاسرون وأمام كلام الله مدحورون .. تأملوا يارعاكم الله مرة أخرى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .. تأملوا تكرار العلة ذاتها .. إنه الكفر .. هو الذي يدفعهم للتواصي والتعدّي على هذا الكتاب، فيقول سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، إنها إذًا وصية الكبراء المنظرين، حملَة القرار لأنفسهم ولجماهيرهم، {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ}، ردٌّ للحق قبل سماعه، بلا حِوار ولا مناقشة، بل بلا سماع بالكلية، ليس هذا فحسب، بل: {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، أتدري ـ أيها المؤمن ـ ما معنى ذلك : معناه الصياح وترديد أقوال لا معنى لها، المهمّ أن تعلوَ أصواتهم فوق صوت القرآن فلا يسمعوه ، ولِما كل هذا {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. لعلكم بصيغة التضعيف فهم يدركون جيداً أن القرآن غالبهم ..
كمن يريد حجب الشمس بغربال .. يريدون إسكات القرآن وحجب هدايته ... مرة بالأغاني والموسيقى .. ومرة بالتمزيق والدوس وإلقائة في الأماكن القذرة .. ومرة بالحرق وغير ذلك من أشكال اللغو .. وكلها صور مكررة ومتنوعة من الهزيمة النكراء .. لكنها في عصر بحسبه. والنتيجة بحول الله دائماً واحدة .. فمن يغالب الله يُغلب ..
هذه هي أساليب الأعداء يا عباد الله ، وذاك هو موقفهم من القرآن، ولن يتغير؛ ووالله لو وجدوا غير ذلك لما ادخروا وسعاً .. فحين أعيتهم الحيلة لجؤوا إلى هذه الأساليب الوضيعة التي لا تدنّس إلا سمعتهم، ولا تحط إلا من أقدارهم.
ومن أعاجيب قضاء الله وأمره .. أنهم في كل مرةٍ يقدمون دليلاً جديدًا على أن الله جلت قدرته هو وحده الحافظ لهذا القرآن العظيم .. أما قال جلت قدرته: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، تأملوا يا عباد الله : سبع كلمات يجتمع فيها ما يقرب من عشر مؤكدات: "إنَّ" و"ن" الخطاب وألفها .. الدالتين على العظمة والقوة، و"نحن" الدالة على الجمع للتفخيم وعـلى التوكيد والحصر أي: نحن وليس غيرنا، "نزلنا" صيغة مبالغة من "أنزلنا" فهي أبلغ وأوكد ، ثم "ن" الخطاب وألفها مرة ثانية ولكن هذه المرة مع الجمع للتفخيم .. الدال على القدرة والعظمة، ثم أختار من أسماء القرآن "الذكر" .. وفي ذلك ما يشعر بأنه رفيع القدر عالي المكانة .. ثم تكرار لـ"إنا" وبعدها "له" ضمير يعود على القرآن .. ثم لام التوكيد في "لحافظون"، فكل هذه المؤكدات المتتالية تمنح المؤمنين ثقة وطمأنينة بحفظ الله لهذا الكتاب العزيز . الحفظ الشامل الكامل .. العام التام ،
فعلى سبيل المثال حين نزل القرآن منجّمًا حسب الحوادث، لم يوكل أحداً ليجمعه بل تولى ذلك بنفسه تبارك وتعالى قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، فالمولى جل وعلا هو الذي تكفّل بجمع القرآن وتكفل بحفظه وتكفل بطريقة قراءته وتكفل ببيانه وتوضيحه، وتلك بعض صور الحفظ الشاملة التي تجعل المسلم اليوم يقرأ القرآن وهو مطمئنّ أنه يقرأه غضاً طرياً ، كما كان يقرؤه المصطفى صلى الله عليه وسلم ..
وبعد كل هذه الضمانات من الحفظ فلن يجرؤ أحد على مغالبة هذا الكتاب إلا سفيه أو معتوه ، قد حكم على نفسه بالسقوط والهوان. {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .. فهذا القرآن سيبقى عزيزًا مكرمًا رغم أنوف الأعداء، ولن يستطيع أحد أن ينال منه شيئاً؛ لأن القرآن قد انتصر في معركته مع جميع أعدائه وعلى جميع الأصعدة والأزمنة ، انتصر بنصّه فلم يتغيَّر ولم يتبدّل، وانتصر بآياته وعلمه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } وانتصر بنوره وهديه فما زالت القلوب تهفو إليه، وما زال تأثيره يزداد وشأنه يعلو ويصعد ..
يا أيها الكرام، تأملوا معي هذا المثل: لو أنّ الناس كلهم انقلبوا إلى كناسين لتراب الأرض ليلوّثوا به صفحة السماء النقية أو يلطخوا به وجه الشمس البهية ، فلن يغبّروا إلا على رؤوسهم ، ولن يؤذوا إلاّ أنفسهم وأنفاسهم، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ..
وما مثل هؤلاء الحاقدين الصاغرين والقرآن إلا كمثل ذباب أحمق زعم أنه يريد أن يقتل صقراً ، فلما أقترب منه جاءته قصفة من طرف ريشة من أطراف جناح الصقر فشتت أوصال الذباب وجعلته شذر مذر .. وما علم به الصقر ولا شعر بوجوده من أصله ..
فاطمئن أيها المؤمن بربه، فهم الذين سيزدادون صغارًا على صغارهم وذلاً على ذلهم، وسيزداد القرآن وأهله سموا وعلوا ..
إلا أن علينا واجباً عظيماً تجاه القرآن الكريم .. فلنتقي الله ونؤديه على الوجه المطلوب .. فوالله ما تطاول عليه الأعداء إلا لما ضعف قدره عند أهله، فاحذروا أن يكون أحد منا قد تسبب في ذلك.
أولا يوجد من المسلمين اليوم من لا يُنزل القرآن منزلته اللائقة به؟! فهو لا يقرؤه، ولا يعمل به، ولا يعيره أدنى اهتمام، يهمله إهمالا كاملا، وربما أكثر من ذلك ..
أيها المسلمون، أنزل الله القرآن الكريم ليُخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ولم ينزله تبارك وتعالى ليُتْلَى باللسان تلاوة مجردة عن التدبر والعمل، ولا ليكتب على لوحات مزخرفة تزين بها جدران البيوت والمجالس، ولم ينزله سبحانه ليُكتب في حُجُب وتمائم تعلق في الرقاب؛ ليدفَع العين والأذى، وما أنزل القرآن ليُقرأ على الموتى والأضرحة، أو في مناحات العزاء، ولا لتُفتتح وتغلق به برامج الإعلام المريء والمسموع .. ثم يكون بين ذلك ما يكون من المعاصي والمنكرات ! إنما أُنزِل ليُقرأ وليُتدبَّر، وليتذكر به مَن يتذكر، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ..
لقد تكفّل سبحانه لمن قرأ القرآن واتبع ما جاء فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، قال تعالى : {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} كما أنذر من أعرض عنه بأشد الوعيد وأخطره فقال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ..
أيها الفضلاء، ليكن ما تعرض له القرآن العظيم دافعاً ليحاسب كل منا نفسه محاسبة دقيقة وليعرف كل منا منزلة القرآن عنده .. فكل مسلم في هذا المجتمع صغر أو كبر عليه جزء من المسؤولية تجاه كتاب الله جل وعلا .. لنعد إلى الوراء قليلاً .. ولنتأمل علاقتنا مع القرآن : ما شأنها؟! أهي على ما يريد الله أم أن الأمر بخلاف ذلك؟!
و والله إن أبلغ رد على أعداء القرآن أن نكون من أهل القرآن .. المعظمين له حق تعظيمه .. القائمين بحقوقه على الوجه الصحيح .. المجتهدين على خدمته ورفع شأنه بين العالمين بكل ما نستطيع ..
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} اللهم اجعلنا خدّامًا لكتابك، عاملين بما فيه، مقيمين لحدوده وحروفه، برحمتك يا أرحم الرحمين .. اللهم رد كيد الكائدين في نحورهم، واجعله مسمارًا في نعش حضارتهم. ..