جاء في كتاب "التعبير القرآني" للدكتور فاضل السامرائي في سر التقديم والتأخير في كلمة "فجاجا" في قوله تعالى : ( وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ) - الأنبياء 31 وقوله تعالى:( لتسلكو منها سبلا فجاجا)- نوح 20 . كتب الدكتور: "فقدم الفجاج في الآية الأولى ، وأخرها عنها في آية نوح وذلك أن الفج في الأصل هو الطريق في الجبل او بين الجبلين، فلما تقدم في آية الأنبياء ذكر الرواسي وهي الجبال قدم الجبال لذلك، بخلاف آية نوح فانه لم يرد فيها ذكر للجبال . فوضع كل لفظة في الموضع الذي تقتضيه " انتهى
والحقيقة انني أرى اختلافا في المعنى بين "فجاجا سبلا" و "سبلا فجاجا ". فالفجاج هي جمع " فج" وهو كما قال ابن منظور " الطريق الواسع بين جبلين ، وقيل في جبل، وهو اوسع من الشعب ". وقال الراغب :" الفج شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع وجمعه فجاج " .
فالفج في آية الأنبياء هو الطريق الطبيعي بين جبلين او هو ما تكون باذن الله بفعل العوامل الطبيعية وعوامل التعرية . فيكون المعنى في آية الأنبياء ان الله جعل في الأرض جبالا وجعل في الأرض طرقا طبيعية تتخذونها سبلا ، وذلك باعادة الضمير "ها" في " فيها" على الأرض . او تكون بمعنى ان الله جعل في الأرض جبالا وجعل في الجبال طرقا طبيعية تتخذونها سبلا ، باعادة الضمير على الجبال. وهذا لاظهار نعم الله على الانسان حيث ان الجبال لو خلت من الفجاج لكانت كالسدود تفصل ارجاء الأرض بعضها عن بعض .ويكون المعنى ان الله جعل لنا سبلا في الجبال او فيها بتكوين الفجاج الطبيعية . فتعرب سبلا مفعولا به وفجاجا حالا منها.
اما بالنسبة لآية نوح ، فللنظر اولا الى الآية التي سبقتها (والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا) فكيف تكون الأرض منبسطة ويكون فيها فجاج ؟ وماذا تعني كلمة " لتسلكوا " ؟ ولماذا عوض عن حرف الجر " فيها" ب "منها" ؟ وهل لسياق سورة نوح اثر في هذا التوجيه ؟
ولنبدأ بالاجابة من حيث انتهت الأسئلة . فسياق سورة نوح واضح جدا في ربط النتائج بالأسباب . ونسبة بعض الأفعال الى الانسان وبيان أن الانسان مخير في بعض الأمور وفيما يلي نعرض لبعض الأمثلة:
- (أن اعبدوا الله واتقوه واطيعون * يغفرلكم من ذنوبكم ويؤخركم الى أجل مسمى )
فقد بين عز وجل ان سبب المغفرة هو العبادة والتقوى وطاعة النبي . وجعل الأمر للأنسان للاختيار.
-(فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا* يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا)
وربط الغيث والامداد بالبنين والأموال والجنات والأنهار بالاستغفار أمر واضح جدا لا يحتمل تاويلا . وجعل الأمر ايضا للانسان ليختار .
-(والله أنبتكم من الأرض نباتا)
وهنا نجد تضمينا خفيا جميلا في استخدام " نباتا" بدلا من "انباتا" بمعنى انبتكم من الرض فنبتم . وفيها ايضا تكريم للانسان بأن له ارادة وأنه لس مسيرا في كل شيء . بينما قال ( ثم يعيدكم فيها ويخرجكم اخراجا ) ولم يقل خروجا حيث لا مشيئة للانسان حينئذ.
-(وقد أضلوا كثيرا)
وهنا نسب عز وجل الاضلال الى الذين كفروا .
-( ولا تزد الظالمين الا ضلالا)
"الظالمين" اسم فاعل بمعنى الذين يظلمون وهذا سبب استحقاق زيادة الضلال .
-(مما خطيئاتهم اغرقوا فادخلو نارا فلم يجدوا لهم من دون الله انصارا )
بين الله عز وجل انه وكنتيجة لخطيئات قوم نوح فقد اغرقوا وادخلوا نارا ولم يجدوا لهم من دون الله انصارا. وانظر الى جمال استخدام كلمة " خطيئات " بدلا من "خطايا".
-(انك ان تذرهم يضلوا عبادك )
وهنا دعا نوح ربه باهلاك قومه مبررا ذلك ان بقاءهم سبب في ضلال عباد الله . فربط النتيجة بالسبب.
ومما ورد أعلاه فان السورة الكريمة تبين ان الانسان قادر على الاختيار واالفعل ، طبعا بمشيئة الله .
اما كلمة" تسلكوا" فقد قال الراغب " السلوك النفاذ في الطريق يقال سلكت الطريق وسلكت كذا في طريقه " انتهى
وسلك الطريق تعني سار فيه . وتعني أدخل (ما سلككم في سقر ) .وتعني ايضا تسيير شيء في طريقه (الم تر ان الله انزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) الزمر21 .
وعند التمعن في سياق سورة نوح وفي معاني كلمة " سلك" في القرآن الكريم نوجه تفسيرنا لمعنى الآية الكريمة (لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) اي لتفتحوا او لتشقوا فيها سبلا كأنها الفجاج ، وهي الطرق التي يبنيها الانسان . واستخدام " منها" بدلا من "فيها" يفيد معنى جميلا جدا حيث ان بناء الطرق هو فعليا قطع المرتفع من الأرض وردم المنخفض منها ،وجميع المواد المستخدمة في بناء الطرق انما هي من الأرض .
وعليه يكون معنى "فجاجا سبلا" في آية الأنبياء هو الطرق الطبيعية بين الجبال او في الجبال . بينما تكون "سبلا فجاجا" في آية نوح هي الطرق التي يبنيها الانسان والله اعلم .
يقول د. محمد صافي المستغانمي في( لمسات بيانية - التقديم والتأخير في القرآن الكريم 1):
سؤال: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا (31) الأنبياء) (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) نوح) ما دلالة التقديم والتأخير؟ وما اللمسة البيانية فيه؟
الآية الأولى في سورة الأنبياء (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)) الرواسي هي الجبال جعلها الله تعالى وثبّتها في الأرض لكي لا تميد بأهلها (تميد بمعنى تنحرف وتتحرك) ولا تتزلزل تحت أقدام أهلها. الفِجاج جمع فجّ (مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج) الفَجّ هو الطريق بين جبلين والسبيل هو طريق وهي طريق - يقال هذا طريق وهذه طريق ولكن التأنيث أجمل والقرآن استعملها- (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ (108) يوسف). السبيل هو الطريق الواضح والفج هو الطريق بين جبلين وهنا في السياق (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) الأنبياء) الأولى أن يذكر فجاجاً قبل سُبلاً لأن الفجّ هو طريق بين السبيلين والشبيه يقرّب من الشبيه في اللغة وهذه من الكلمات المتصاحبة، الكلمات المتصاحبة في اللغة أن تستعمل كلمة تلك الكلمة تقتضي زميلتها، ونحن نقرأ الشعر العربي نقول أحياناً الشطر الأول يجيزه الثاني، هو يعلم ما يتوقع، توقع في محله من كثرة الكلام الفصيح. وهنا يقول (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) الفجاج تتناسب مع الجبال، هذه الملاءمة وهي المناسبة وهي التناسق، التقديم من أجل التناسق. بينما في الآية الثانية (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) وردت في سورة نوح ونقرأ سياق السورة ما قبلها وما بعدها، كل آية تمسك بعنق الأخرى وهذا إحكام رباني، سيدنا نوح قال (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿١٠﴾ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴿١١﴾ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴿١٢﴾ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴿١٣﴾ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴿١٤﴾ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ﴿١٥﴾ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴿١٦﴾ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿١٧﴾ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴿١٨﴾ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ﴿١٩﴾ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴿٢٠﴾) بساطاً ممهدة مذللة، سبلا فجاجاً لأن كلمة السبيل هي طريق ممهدة تناسبها كلمة بساطاً التي سبقت. كثير من علماء التفسير يقولون التقديم والتأخير من أجل مراعاة للفاصلة، صحيح أنه مطلوب ومراعى في القرآن لكن الجانب المعنوي مرعي أكثر، (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)) السبل مقدمة من أجل أن الأرض ممهدة منبسطة وفجاجاً مؤخرة لهذا السبب وللفاصلة القرآنية (نَبَاتًا - إِخْرَاجًا - بِسَاطًا - فِجَاجًا) وهذا هو الإيقاع القرآني. الضابط هو السياق ولا تتحكم الفاصلة وإنما تتحكم بالشعراء الذين تنقصهم الألفاظ أما القرآن الكريم فمنزّه وكلام رب العالمين محكم دقيق، الذي يتحكم هو المعنى ثم تراعى الفاصلة وتكون الكلمة أحسن ما تكون في موقعها. سؤال: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) قال لتسلكوا منها وليس لتسلكوا فيها مع أنه ورد في القرآن الكريم (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ (32) القصص)؟ وما معنى سلك؟
سلك بمعنى أخذ طريقاً له، (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) يعني أدخلها في جيبك، أٌسلك يعني ادخل بين شيئين. (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) من بين سبلها، من بين طُرُقها. أما في سورة النحل جاء فعل اسلك متعدي (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً (69) النحل). الأفعال قد تكون لازمة وقد تكون متعدية سواء يكون التعدي بدون حرف جر ويكون التعدي بحرف من الحروف (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) الفاتحة) بدون حرف جر، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) الشورى) الفعل قد يعدى بحرف وقد يعدى بدون حرف لظروف معينة ولمعاني يقصدها القرآن. (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) علم النحو يقول هذا الكلام، سلك هنا متعد بغير حرف جر وهنا متعد بـ (من) وقد نجد (اسلك في) وهناك كتاب عظيم ضخم إسمه "تعدي الأفعال وتنوع الحروف". هناك من درس الفعل وتعديه في القرآن الكريم والغرض البلاغي منه، هناك كتاب ألفه دكتور مصري أزهري بعنوان "الأفعال وطريقة تعديها في القرآن الكريم" كتاب رائع جداً. والدكتور إبراهيم الشمسان كان له بحث رسالة دكتوراه في هذا الموضوع والذي فتح الباب هو الرماني في حروف المعاني وعلماء كثيرون والزمخشري في كشّافه وعبد القاهر الجرجاني في كتبه كلهم تحدثوا لكن من جمعه وأفرده قليل لكن موجود.. سؤال: إذا نظرنا إلى ترتيب (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) و(لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) هل هما طريقان مختلفان؟ أو صفة؟ ولماذا لم يأت بالعطف والعطف يقتضي المغايرة؟ هل فجاجا وصف للسبل؟
(لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) هنا الواضح لغوياً ونحوياً أنها صفة وليس فيها حرف عطف والعطف يفيد المغايرة والأولى أيضاً صفة ومن حق المتكلم البليغ أن يصف بما يشاء. أقول مثلاً "جاء إلى المدرسة محمد الشاعر الخطيب الكاتب"، في هذا السياق يهمني الصفة الأولى من صفات محمد وهي الشاعر، الصفة الأولى (بحسب قاعدة سيبويه العرب يقدمون من الكلام ما هم به أعنى) ثم إنه خطيب ثم إنه كاتب. وفي هذا السياق (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) سبلاً ووصف بأن بعضاً منها يكون فجاجاً بين جبال. في السياق الأول (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ (31) الأنبياء) والجبال من أهم وظائفها تثبيت الكرة الأرضية حتى لا تتزلزل تحت أقدام أهلها. فهنا ينبغي الحديث عن الفِجاج التي هي عبارة عن طُرُق داخل الحبال وهي بذات الوقت سُبُل ممهّدة لأصحابها ونحن بعيدون كل البعد عن العطف وهذا واضح من خلال الآية. سؤال: الفجّ طريق له وصف معين والسبيل طريق له وصف معين، فلماذا هذا الرابط؟ وأيهما يصف الآخر؟
هذا يصف هذا وهذا يصف هذا. في الموقع الأول السبيل يصف الفجّ رغم أنها كانت في جبال إلا أنها كانت ممهدة وقد تجد بين الجبال طرقاً. والثاني رغم أنها كانت سبلاً لكن كان بعض منها فجاج بين بعض الجبال، وأيضاً اقتضت الفاصلة القرآنية الرائعة واقتضى التقديم لكلمة بساطاً.
شكر الله لكم اخي ابو عمر الهلالي واخي تيسير واخي صلاح الدين الجراح .
اما بعد،
فان ما قاله الدكتور المستغانمي يدور حول ذات ما قاله الدكتور فاضل السامرائي من ان التقديم والتأخير بين الآيتين جاء على هذا الحال للتناسق . بمعنى انه لما تقدم ذكر الجبال في آية الأنبياء قدمت كلمة (فجاجا) . ولما تقدم ذكر الانبساط في الأرض قدمت كلمة (سبيلا) . اي أن التقديم والتأخير لفظي . وانا ارى والله أعلم ان اختلافا في المعنى قد اريد بالتقديم والتأخير . ويمكن ان نفسر هذا الاختلاف بالاضافة الى ما كتبت سابقا بتوجيه اعراب الكلمتين في الآيتين .
( وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون )
سبلا مفعول به وفجاجا حال منها . بمعنى ان الله قد جعل لنا سبلا في الجبال على هيئة وحال الفجاج .
(لتسلكوا منها سبلا فجاجا )
"سبلا" مفعول به و " فجاجا " صفة لسبلا . بمعنى لتشقوا ولتبنوا في الأرض سبلا مثل الفجاج . وذلك على ان تكون فجاجا اسم وهي جمع كلمة فج .
ولو قلنا ان المصدر من فَجَّ فجَّاً و فِجاجاً . على وزن فَرَّ فَرّاً وفِراراً بكسر الفاء . فيكون المعنى "لتسلكوا سبلاً تفجونها فجاجاً) على ان فجاجاً في الآية تعرب نائباً لمفعول مطلق .والله اعلم .
فما رأيكم اخواني . ارجو المناقشة لتتم الفائدة ولتقويم الأخطاء .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي برهان، أذكر نفسي أولا ثم أذكرك أنت والأخوة في هذا الملتقى الطيب بأهمية التأني والبحث قبل الكتابة، والتركيز على نوع المشاركة أكثر من كمها، والإنضباط بأصول السلف في التفسير والرجوع لأقاويلهم مما تجده في(تفسير ابن كثير)و(تفسير الطبري)، وأنصحك في باب أصول التفسير بكتب الشيخ الفاضل مساعد الطيار-حفظه الله-،ونصحا لكل من يقرأ فقد كتبت ما سترى سائلا الله جل في علاه أن يوفقني للصواب وأن يجعله خالصا لوجهه، غيرمشوب برياء أو حظ نفس. *أخطأت أخي في نقل نص كلام السامرائي فنقلته:( ...فلما تقدم في آية الأنبياء ذكر الرواسي وهي الجبال قدم الجبال لذلك...) وقال الأستاذ فاضل السامرائي: (..فلما تقدم في آية الأنبياء ذكر الرواسي وهي الجبال قدم الفجاج لذلك،بخلاف آية نوح...) *أخطأت في تفريقك بين معنى الفج في الآيتين بقولك: (فالفج في آية الأنبياء هو الطريق الطبيعي) وقولك أن الفج في آية سورة نوح: (هي الطرق التي يبنيها الانسان) فمن قال بهذا من السلف أوالمفسرين أو أهل اللغة، لا أحد، وكذلك تفسيرك (لتسلكوا) :( اي لتفتحوا او لتشقوا فيها سبلا كأنها الفجاج) كذلك لم يفسر هذه الآية بما قلته أحد من السلف، فكيف يمتنّ الله على الإنسان بأنه جعل له جبالا يشقها لينفذ فيها طرقا، بل الإمتنان بما جعله الله من فُرج(جمع فرجة) واسعة بين الجبال ليسير فيها الناس بيسر، ففي لسان العرب(فجج: الفَجُّ الطريق الواسع بين جَبَلين؛ وقيل: في جبَل أَو في قُبُلِ جَبَل، وهو أَوسع من الشِّعْبِ. الفَجُّ: المَضْرِب البعيد، وقيل: هو الشِّعْب الواسع بين الجبَلين، وقال ثعلب: هو ما انخفض من الطرُق، وجمعه فِجاج وأَفِجَّةٌ، الأَخيرة نادرة؛... والفَجُّ في كلام العرب: تفريجُك بين الشيئين). وكذلك إعرابك ل(فجاجا) بأنها (نائب مفعول مطلق) غلط لم يقل به أحد من المعربين والمفسرين على اختلافهم كما سترى، وهو مما بنيت عليه قولك بأنها الطريق التي يشقها الإنسان. وكذلك بنيته على قولك: (واستخدام " منها" بدلا من "فيها" يفيد معنى جميلا جدا حيث ان بناء الطرق هو فعلياقطع المرتفع من الأرض وردم المنخفض منها ،وجميع المواد المستخدمة في بناء الطرقانما هي من الأرض) في قوله تعالى:(لتسلكوا منها سبلا فجاجا)، وهذا منك أيضا غلط محض. فهذه الطرق التي امتنّ الله بها علينا هو سبحانه الذي سلكها(شقها) لنا، فتأمل قوله تعالى حكاية عن موسى: (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)) طه قال البيضاوي في تفسيره ):لتسلكوا فيها (سبلا فجاجا) واسعة جمع فج و(من) لتَضمُّن الفعل معنى الاتخاذ) وفي (تفسير أبي السعود): (و(من) متعلقة بما قبلها لما فيه من معنى الاتخاذ او بمضمر هو حال من (سبلا) أي كائنة من الارض ولو تاخر لكان صفة)
*أما بالنسبة لموضوع التقديم والتأخير في الآيات الكريمة، فمن أحسن ما رأيت في هذا الباب كتاب(دلالات التقديم والتأخير في القرآن الكريم دراسة تحليلية) تأليف: منير المسيري، حيث قال في ص491عن آية الأنبياء): قدم (فجاجا) وهو وصف حيث أن أصل التركيب (سبلا فجاجا) أي واسعة فلما قدم صار حالا ليدل على أنه حين خلقها خلقا كذلك)إنتهى. ومما قاله المفسرون في تفسير هذه الآيات وإعرابها وسر التقديم والتأخير فيها: قال العلامة ابن عاشور في (التحريروالتنوير): (وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ فِجَاجًا. وَلَمَّا كَانَ فِجاجاً مَعْنَاهُ وَاسِعَةٌ كَانَ فِي الْمَعْنَى وَصْفًا لِلسَّبِيلِ، فَلَمَّا قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ انْتُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ إِتْمَامُ الْمِنَّةِ بِتَسْخِيرِ سَطْحِ الْأَرْضِ لِيَسْلُكُوا مِنْهَا طُرُقًا وَاسِعَةً وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَسَالِكَ ضَيِّقَةٍ بَيْنَ الْجبَال كَأَنَّهَا الأودية. وَالْفِجَاجُ: جَمْعُ فَجٍّ. وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ. وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ: الطَّرِيقُ مُطْلَقًا. وَجُمْلَةُ (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) مُسْتَأْنَفَةٌ إِنْشَاءً رَجَاءَ اهْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ مُشَاهَدَةٌ لَهُمْ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بالاهتداء الاهتداء فِي السَّيْرِ، أَيْ جَعْلِنَا سُبُلًا وَاضِحَةً غَيْرَ مَحْجُوبَةٍ بِالضِّيقِ إِرَادَةَ اهْتِدَائِهِمْ فِي سَيْرِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى وَهُوَ تَدْبِيرُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى نَحْوٍ مَا يُلَائِمُ الْإِنْسَانَ وَيُصْلِحُ أَحْوَالَهُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) مِنَ الْكَلَام الموجه.) قال البيضاوي في تفسيره): وإنما قدم فجاجا وهو وصف له ليصير حالا فيدل على أنه حين خلقها كذلك أو ليبدل منها سبلا فيدل ضمنا على أنه خلقها ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد). وقال الزمخشري في (الكشاف) : (فإن قلت : في الفجاج معنى الوصف ، فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً)؟ قلت : لم تقدّم وهي صفة ، ولكن جعلت حالا كقوله : لعزّة موحشا طلل قديم إن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت : أحدهما : الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة. والثاني : بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة ، فهو بيان لما أبهم ثمة)
وفي (تفسير النسفي): ((وجعلنا فيها فجاجا) أي طرقا واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع ونصب على الحال من (سبلا) متقدمة فإن قلت أي فرق بين قوله تعالى (لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) وبين هذه قلت الاول للاعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة والثاني لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثم لعلهم يهتدون ليهتدوا بها إلى البلاد المقصدوة)
وفي (روح المعاني ): (وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين مع ما فيه من الإشارة إلى كمال الإمتنان أو في الرواسي على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ويؤيده أنها المحتاجة لأن يجعل سبحانه فيها فجاجا جمع فج قال الراغب هو شقة يكتنفها جبلان وقال الزجاج كل مخترق بين جبلين فهو فج وقال بعضهم هو مطلق الواسع سواء كان طريقا بين جبلين أم لا ولذا يقال جرح فج والظاهر أن فجاجا نصب على المفعولية لجعل وقوله سبحانه سبلا بدل منه فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقا وقال في الكشاف ( هو حال من سبلا) ولو تأخر لكان صفة كما في قوله تعالى في سورة نوح (لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) وإنما لم يؤت به كذلك بل قدم فصار حالا ليدل على أنه في حال جعلها سبلا كانت واسعة ولو أتى به صفة لم يدل على ذلك وأوجب بعضهم كونه مفعولا وكون سبلا بدلا منه وكذا أوجب في قوله تعالى لتسلكوا الخ كون سبلا مفعولا وكون فجاجا بدلا قائلا أن الفج اسم لا صفة لدلالته على ذات معينة وهو الطريق الواسع والاسم يوصف ولا يوصف به ولذا وقع موصوفا في قوله تعالى من كل فج عميق والحمل على تجريده عن دلالته على ذات معينة لا قرينة عليه. وتعقب بأنا لا نسلم أن معناه ذلك بل معناه مطلق الواسع وتخصيصه بالطريق عارض وهو لا يمنع الوصفية ولو سلم فمراد من قال أنه وصف أنه في معنى الوصف بالنسبة إلى السبيل لأن السبيل الطريق وهو الطريق الواسع فإذا قدم عليه يكون ذكره بعد لغوا لو لم يكن حالا وظاهر كلام الفاضل اليمنى في المطلق أن سبلا عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة فقد يكون الفج غير نافذ وقدم هنا وأخر في آية سورة نوح لأن تلك الآية وإرادة الإمتنان على سبيل الإجمال وهذه للإعتبار والحث على إمعان النظر وذلك يقنضي التفضيل ومن ثم ذكرت عقب قوله تعالى كانتا رتقا الخ انتهى وأنت تعلم أن الأظهر نصب فجاجا هنا على المفعولية لجعل ووجه التغاير بين الآيتين لا يخفى فتأمل لعلهم يهتدون 31 إلى الإستدلال على التوحيد وكمال القدرة والحكمة وقيل إلى مصالحهم ومهماتهم ورد ما تقدم بأنه يغني عن ذلك قوله تعالى فيما بعد وهم عن آياتها معرضون وبأن خلق السبل لا تظهر دلالته على ما ذكر انتهى وفيه ما فيه وجوز أن يكون المراد ما هو أعم من الإهتداء إلى الإستدلال والإهتداء إلى المصالح )
*أصبت برأيي في انتقادك للدكتور السامرائي عندما قلت: (ما قاله الدكتور فاضل السامرائي من ان التقديم والتأخير بين الآيتين جاء على هذا الحال للتناسق . بمعنى انه لماتقدم ذكر الجبال في آية الأنبياء قدمت كلمة (فجاجا) . ولما تقدم ذكر الانبساط فيالأرض قدمت كلمة (سبيلا) . اي أن التقديم والتأخير لفظي . وانا ارى والله أعلم اناختلافا في المعنى قد اريد بالتقديم والتأخير) أما الدكتور المستغانمي فأرى بصراحه أنه كالمتردد في دافع التقديم والتأخير في الآيتين بين دافع (مراعاة الترتيب-الطيّ والنشر-) وبين دافع (التقديم لبيان الحال)، فالأسطر الأخيرة من كلامه تخالف الظاهر من أوله. -مثال على دافع (مراعاة الترتيب-الطيّ والنشر-):قوله تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَلِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)القصص:73 ومما قيل في إعراب الآيات أيضا: قال العكبري في ( التبيان في إعراب القرآن): (و (فجاجا) حال من سبل وقيل سبلا بدل أي (سبلا فجاجا ) كما جاء في الاية الاخرى). قال الدرويش في (إعراب القرآن الكريم وبيانه) ج17ص27:(وفجاجا حال لأنه كان صفة لسبلا، وتقدم عليه، وسبلا مفعول به) قال الزركشي في (البرهان في علوم القرآن) : (القسم الاول: التوكيد الصناعي وهو قسمان لفظي ومعنوي فاللفظي تقرير معنى الاول بلفظ او مرادفه فمن المرادف ( فجاجا سبلا) ( ضيقا حرجا) في قراءة كسر الراء (وغرابيب سود))
أخي الجراح بارك الله فيك ونفع بك وجزاك عنا خيراً
في البدء اشكر لك حرصك عل عدم التهاون والرياء والمجاملة في تفسير كتاب الله عز وجل. وأحرص كل الحرص على اتخاذ امثالك صديقاً لي ان هم قبلوا . فمثل اخلاصك وحرصك هو ما ينقص العديد منا في هذا الزمان . فأثبت أخي صداحاً بالحق لا تلمك فيه لائمة . الّا أن لي عليك بعض الملاحظات فليتسع صدرك لها :
أولاً : لتعلم يا أخي ان هذه أول مشاركة لي بكتابة رأيٍ في تفسير آية على الاطلاق . وما سبق لا يعدوا كونه سؤالاً أو شكراً . وهي مجتمعة لا تتعدى العشر. فأنا لست ممن يكثرون الكتابة . ولكنني لما دخلت هذا الملتقى الكريم ورأيت تحريكم للصواب وأقوال السلف والنحاة والعقل الذي لا يخرج عن الضوابط في التفسير ارتأيت ان اكتب لكم لعل الله يمن علينا بأجر المدارسة .
فان أصبت فمن الله وان اخطأت فمن نفسي ومن الشيطان . واعوذ بالله من ان نخوض في كتاب الله بما ليس فيه أو أن نحمله ما لايحمل ، أو أن نفسره بغير ظاهره وبغير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم او صحابته وتابعيهم الكرام رضوان الله عليهم .
ولتعلم اخي الكريم أن ما كتبت لا يعدو توجيه المعنى بظاهر الآية تماشياً مع ما فهمته من سياق السورة الكريمة، دون المساس في الضوابط الشرعية للتفسير بل هذا هو سبيل التفسير البياني (البحث في المفردة والجملة ومن ثم السياق وفهمها مجتمعة ) . وحسب هذا النوع أنه يعتمد في التفسير على مقارنة الفاظ القرآن وآياته بعضها ببعض للخروج بمعنى لا يختلف في الأصول مع ما جاء عليه جمهور علماء اهل السنة والجماعة .وهذا انما هو من التدبر المحمود وليس من التأويل المحرم أو المكروه .
واسمح لي الآن أن اعرض لبعض ما كتبته لي مشكوراً ليأخذ حظه من النقاش حتى تتم الفائدة . وما الجدل لأجل الجدل هو ما نريد.
قلت اخي : -(فكيف يمتنّ الله على الإنسان بأنه جعل له جبالا يشقها لينفذ فيها طرقا، بل الإمتنان بما جعله الله من فُرج(جمع فرجة) واسعة بين الجبال ليسير فيها الناس بيسر،) .
وأقول أن الله عز وجل امتن علينا بأن هيأ لنا الأسباب وأمرنا بالأخذ بها فقال (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) والشاهد من هذه الآية الكريمة (ولتبتغوا من فضله ) ، فهل يعقل ان نقول أن الله لا يمتن علينا اذ انه لم يخرج لنا السمك والزينة وما حوى البحر بل امرنا بابتغائها .
قلت اخي الجراح: وكذلك بنيته على قولك: (واستخدام " منها" بدلا من "فيها" يفيد معنى جميلا جدا حيث ان بناء الطرق هو فعلياقطع المرتفع من الأرض وردم المنخفض منها ،وجميع المواد المستخدمة في بناء الطرقانما هي من الأرض) في قوله تعالى:(لتسلكوا منها سبلا فجاجا)، وهذا منك أيضا غلط محض. فهذه الطرق التي امتنّ الله بها علينا هو سبحانه الذي سلكها(شقها) لنا، فتأمل قوله تعالى حكاية عن موسى: (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)) طه قال البيضاوي في تفسيره ):لتسلكوا فيها (سبلا فجاجا) واسعة جمع فج و(من) لتَضمُّن الفعل معنى الاتخاذ) وفي (تفسير أبي السعود): (و(من) متعلقة بما قبلها لما فيه من معنى الاتخاذ او بمضمر هو حال من (سبلا) أي كائنة من الارض ولو تاخر لكان صفة) وأقول : وليس لنا أن نقول أن الانسان لم يبنِ الطرقات محتجين بفهمنا المحدود لمعنى الآية الكريمة من سورة طه . بل الحق أن الله قد خلق فجاجاً طبيعية لنتخذها سبلاً ، وأمرنا بالبناء واعمار الأرض ومنها الطرقات .وأنا لا أجد ما ينفي ذلك .
كما ان تضمين معنى تتخذوا في الفعل تسلكوا لا يغير معناه . فكيف تفهم " تسلكوا منها " و "تتخذوا منها " . وهل تحس بفرق بين " تتخذوا منها سبلأ فجاجاً" و " تتخذوا فيها سبلاً فجاجاً " . بل التضمين يكون لاضافة معنى جديد للفعل . وأنا لا ارى فرقاً فهلا اوضحته لي.
قلت أخي: *أصبت برأيي في انتقادك للدكتور السامرائي عندما قلت: (ما قاله الدكتور فاضل السامرائي من ان التقديم والتأخير بين الآيتين جاء على هذا الحال للتناسق . بمعنى انه لماتقدم ذكر الجبال في آية الأنبياء قدمت كلمة (فجاجا) . ولما تقدم ذكر الانبساط فيالأرض قدمت كلمة (سبيلا) . اي أن التقديم والتأخير لفظي . وانا ارى والله أعلم اناختلافا في المعنى قد اريد بالتقديم والتأخير وأنا اتعجب اخي الجراح : كيف وافقتني في انتقادي للدكتور السامرائي من حيث أن هناك اختلافاً في المعنى نتيجة التقديم والتأخير الا أنك لم تذكره لنا .واكتفيت بسرد ما في الكتب دون تعليق . فكيف اذاً حكمت بخطأ الدكتور ؟ وهلّا علقت ؟ .
أما بالنسبة لسر التقديم والتأخير فكل من ذكرت لم يزيدوا عن الدندنة حول قول صاحب الكشاف رحمه الله . ولنقرأه مجدداً ان قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت : أحدهما : الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة. والثاني : بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة ، فهو بيان لما أبهم ثمة) " خلقها على تلك الصفة " اي أنها طرق طبيعية ! وهذا صحيح . اما في توجيه المعنى في سورة نوح فالمعنى يتضح اكثر بالسياق . اذ أن ما قاله الزمخشري صحيح اذا اخذت الآية لوحدها .
قلت أخي: وكذلك إعرابك ل(فجاجا) بأنها (نائب مفعول مطلق) غلط لم يقل به أحد من المعربين والمفسرين على اختلافهم كما سترى، وهو مما بنيت عليه قولك بأنها الطريق التي يشقها الإنسان.
وأقول : انا ما بنيت قولي على الاعراب ولا يؤخذ المعنى من الاعراب ، بل تعرب الجملة تبعاً للمعنى . وأنا لم أخرج في الوجه الأول من اعراب (سبلاً فجاجاً ) عن الذي قاله النحاة في أن فجاجاً صفة . ولكني قلت بامكانية اعرابها مفعولاً مطلقاً اذا اتفقنا أن فجاجاً مصدر والقول في ذلك لاصحاب الصرف . وليس جديداً او غريباً احتمال كلمةٍ ما في القرآن الكريم لاكثر من وجه في الاعراب يوجه حسب المعنى المفهوم وهذا باب من توسع المعنى ، وحسبنا مثلاً (فادعوه خوفاً وطمعاً ) ، وقد أُعربت خوفاً مفعولاً لأجله وأُعربت حالاً وأعربت مفعولاً مطلقاً والثلاثة صحيحة اريدت معناً.
وفي الختام أرجو من الله أن يمن عليك وعلينا بالرحمة والمغفرة وأن يجعل هذا الكلام لنا لا علينا .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخي العزيز سليم برهان
وأنت بارك الله فيك ونفع بك وجزاك عنا خيراً، ويسرني غاية السرور أن أكون-إن شاء الله- صديقا لك.
وأحسبك مما قرأت لك ممن يحظى بأدب جمّ، والله حسيبك، فوالله إني لأحبك في الله.
أشكرك كل الشكر على إهتمامك بنقد ما كتبته، وقد كتبته في وقت متأخر من الليل ففاتني أشياء لعجلتي، فاعذرني أخي، ولعلي أعود في وقت لاحق للمناقشة، تتميما لما تعاونا عليه من النصح، حتى يستفيد كل زائر نتيجة طيبة إذا قرأ هذا الموضوع. وأسأل الله التوفيق لنا جميعا.
حول أهم ما سبق بحثه فقد وجهت للإخوة المختصين في هذا الملتقى السؤال التالي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو من الإخوة أهل الإختصاص إجابتي على الأسئلة التالية؟
*ما معنى (لتسلكوا) في قوله تعالى: ( لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)؟
*وهل يصح القول بأن كلمة (لتسلكوا) معناها (لتشقوا)؟
*وما معنى قول البيضاوي في تفسيره: (و(من) لتضمّن الفعل معنى الإتخاذ)؟
وجزاكم الله كل خير
فتفضل الشيخ الفاضل عبدالعزيز الداخل بهذه الأجابة القيّمة:
قوله تعالى: {لتسلكوا} اللام للتعليل، وتسلكوا أي تسيروا فيها.
وأصل السلوك هو الدخول في الشيء والمضيُّ فيه، كما تقول: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها وأنفذته، ولذلك سمي الخيط سِلْكاً لأنه يسلك في الإبر. قال الله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض} أي أدخله في مسالك الماء في الأرض حتى ينبع منها. وقال رجل من تميم فيما أورده المبرد وغيره: ألبان إبل تَعِلَّةَ بنِ مسافرٍ = ما دام يملكها عَليَّ حرام وطعام عمران بن أوفى مثلها = ما دام يَسْلُكُ في البطون طعام إنَّ الذين يسوغ في أعناقهم = زادٌ يمنُّ عليهمُ لَلِئامُ
ولما كان السائر في الطريق داخلاً فيه سمي سالكاً، وسمي الطريق مَسْلَكاً لأنه يُسلك فيه.
والمشهور في (سَلَك) أنها تتعدى بنفسها، وتتعدى بحرف (في)
فمن الأول قول أعشى باهلة في رثائه المنتشرَ الباهلي: إمَّا سلكتَ سبيلاً أنت سالكُه = فاذهبْ فلا يبعدنْك اللهُ منتشر
وقول لبيد بن أبي ربيعة العامري رضي الله عنه: والشاعرون الناطقون أراهم = سلكوا سبيل مرقِّش ومهلهل
ومن الثاني قول عمر بن أبي ربيعة: ولو سلك الناس في جانب = من الأرض واعتزَلَت جانبا لأتبعتُ طِيَّتها إنني = أرى دونها العجب العاجبا
وقول جرير بن عطية الخطفي: إنَّ الطريقَ إذا تبيَّن رشده = سَلَكَتْ طُهَيّةُ في الطريقِ الأخيبِ
ولبعض العلماء مذهبان مشهوران في تعدية الفعل بحرف على خلاف المشهور في استعماله: أحدهما: القول بالتعاقب؛ أي أن بعض الحروف تنوب عن بعض؛ فيقولون في مثل هذه الآية: (المعنى: لتسلكوا فيها سبلاً فجاجاً). وعلى هذا تفسير ابن كثير رحمه الله لهذه الآية.
والمذهب الآخر: القول بالتضمين، أي أن الفعل متضمن لمعنى فعل آخر يناسب الحرف الذي عُدِّي به كما قال البيضاوي هنا : ({ لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } واسعة جمع فج، و(مِن) لتضمن الفعل معنى الاتخاذ). أي أن تعدية الفعل (تسلكوا) بحرف (مِن) لتضمنه معنى الاتخاذ، فكأن المعنى ولتتخذوا منها سبلاً فجاجاً. وقد تبعه على ذلك أبو السعود والألوسي.
والقول بالتضمين وتعيين الفعل المضمَّن مرجِعُه إلى موافقة المعنى المراد، وهذه مسألة قد تكون ظاهرة في بعض الأمثلة، وقد يدقُّ مأخذها في أمثلة أخرى. فمن الظاهر فيها قول عمر بن أبي ربيعة: خطَرَتْ لذاتِ الخالِ ذِكْرَى بعدَما = سلكَ المطيُّ بنا عَلَى الأنصاب
فعدى الفعل بحرف (على) لتضمنه معنى (مَـرَّ)
وأما في هذه الآية فالأظهر أن (مِن) بيانية ؛ فلا حاجة إلى القول بالتضمين ولا التعاقب، والله تعالى أعلم.
وهي مشاركة موجودة في الملتقى العلمي بعنوان:ما معنى (لتسلكوا) في قوله تعالى: ( لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)؟
لو عدنا مرة أخرى الى الآيتين : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ) - الأنبياء 31 وقوله تعالى:( لتسلكو منها سبلا فجاجا)- نوح 20
نلاحظ في الآية الأولى قال سبحانه: وجعلنا فيها سبلاً . والثانية قال: لتسلكوا منها سبلاً .
فما معنى منها؟؟ اليس مِنْ هنا للتبعيض؟؟ فإذا كانت للتبعيض فالعامل في تسلكوا لا يمنع الإشارة فيه الى بعض المعالجة وهي تسليك السبل أي أنكم تعالجون بعضها فتعملوا سبلاً وتسلكونها. ولو قال لتسلكوا فيها سبلاً . لكان المعنى يوحي بأنها جاهزة للمشي كما في الآية الأولى.وعلى ذلك فالمعنى الذي ذهب اليه الأخ سليم لا تمتنع فيه اللغة ولا يتنافى مع المعنى العام الذي ذهبت اليه الآية.أما إذا أردنا أن نعرف أن من هنا للتبعيض فقد ورد ما يشبهها في موضع آخر في القرآن في قوله تعالى: { ويُنزل من السماء مِنْ جبال فيها مِن بَرَدٍ } فالأُولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض والثالثة للتفسير والبيان كما قال الرازي في مختار الصحاح.
والله أعلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الجبال من السمات الكونية الظاهرة للأرض؛ ومن السمات الكونية للأرض أيضا " الأودية"، وتتكون الأودية من فتحات بين الجبال تتسع شيئا فشيئا بتأثير مياه الأمطار المتدفقة من تلك الفتحات (في الأزمنة السحيقة الماضية) لتصير "أدوية" جافة تمتد للآلاف الكيلومترات في بعض المناطق، و"الأودية" هي في حقيقتها اللغوية "فجاجا" أي فتحات في الأرض واسعة؛ وقد اتخذ الإنسان من هذه الفجاج أي "الأودية" طرقا في تاريخ هجراته المختلفة بين أنحاء الأرض، كما أن الأودية كعلامات لسطح الأرض تعتبر علامات "أرضية" يهتدي بها الناس في هجراتهم وتنقلاتهم؛ ولذلك فإن الآية : وجعلنافيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) - الأنبياء 31) تعنى بشكل عام الأودية (التي تبدأ بفتحة في الجبال أو بين الجبال)، ولذلك اتخذت بعض الحضارات من هذه الأودية "العميقة" قرى تعيش فيها أثناء سير أسلافها في دروب وسبل تلك الأودية. وكلمة "سبلا" هي صفة لهذه الأودية؛ أما قوله تعالى:لتسلكو منها سبلا فجاجا)- نوح 20)؛فإن المعنى يشمل ما ذهب إليه الأخ سليم من اتخاذ الناس سبلا فجاجا أي طرقا واسعة، وفجاجا هنا هي صفة للسبل؛ والسبل الفجاج أي الطرق الواسعة لا تكون إلا في أرض منبسطة وهو ما يناسب قول الله تعالى :"والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا"؛ فترى الناس لا يسلكون من الأرض إلا ما هو منبسط؛ أي أن بسط الله الأرض للناس هو سبب اتخاذهم "منها" سبلا واسعة ولو لم تكن الأرض منبسطة لما كانت الطرق فجاجا أي واسعة، و كلمة "منها" تعنى أيضا أن الناس يتخذون من "بعض" منبسط الأرض سبلا، فالحرف من هو للتبعيض كما هو معروف؛وانبساط الأرض أوسع وأكبر مما يحتاجه الناس ليكون طريقا لهم ولذلك فإن الناس يتخذون من "بعض" منبسط الأرض سبلا يسلكونها، والخلاصة أن هناك فرقا كبيرا بين الوديان والطرق المنبسطة على سطح الأرض وهذا هو الفرق بين الآيتين والله تعالى أعلم.
السلام عليكم ورحمة الله بركاته
بالنسبة لمسألة رعاية الفاصلة فقد كتبت عنه مبحثاً صغيرا في بحث عن التقديم والتأخير والذي جعلني أفرد هذا المبحث بين أغراض وأسباب التقديم والتأخير الاختلاف الكبير بين من يؤيد وقوعه لرعاية الفاصلة وبين من يؤيد وقوعه للإختصاص ، أرجو أن يكون هذا المبحث ذا فائدة وجزاكم الله خير الجزاء
رعاية الفاصلة
إنَّ تخصيصي لهذا الغرض أو السبب في أسلوب التقديم والتأخير له ما يبرره، فقد وجدت آراء كثيرة متناقضة سأحاول عرضها بإختصار لنتوصل في النهاية إلى رأي هو الأكثر رجوحاً نعرضه مع سلسلة النتائج في الخاتمة .
إنَّ الدارس لتقديم المفعول به يجد أنَّ أغلب حالتها تفيد الإختصاص وهذا ما يؤكده الدكتور بسيوني عبد الفتاح أنَّ الاختصاص يستلزم التوكيد وهذا أمر لا محالة منه ( )
وبدأت بهذا الغرض لأجد أن تقديم المفعول به في قوله تعالى { ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ }الحاقة31 قد تباين فيه العلماء من اهل اللغة والمفسرين فالزمخشري ممن يميل إلى الإختصاص فيفسرها (ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاه النار . انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر)( ) وكذلك جاءت في تفسير ابي السعود ( ) في تفسير الجحيم صلوه تقديم السلسلة كتقديم الجحيم للدلالة على الاختصاص والاهتمام بذكر الوان ما يعذب الوان ما يعذب به وفي تفسير روح البيان دل التقديم على التخصيص والمعنى لا تصلوه أي لا تدخلوه إلا الجحيم ولا تحرقوه إلافيها وهي النار العظمى ليكون الجزاء على وفق المعصية حيث كان يتعظم على الناس ( ).
ومن المحدثين ممن يرفضون هذا الأمر وبشدة وجدت الدكتور رجاء عيد يبدي رأيه ( ) قائلاً (كذلك نرفض ما زعموه من أن التقديم قد يكون لرعاية الفاصلة ويذكرون له قوله تعالى (خذوه فغلوه،ثم الجحيم صلوه) فذلك تسطيح لفكرة البلاغة ، ومعناه على زعمهم أنَّ الحرص على السجع دفعه الى تفتيت التركيب الاصلي . وإنما –في رأينا- أن التقديم هنا له دلالة بلاغية للتأثير على النفس في سرعة بيان المصير السيء الذي يتربص لهذا الذي (أخذ) فـ (غل) .
وقد يرد البعض ، لم أختار حرف العطف (ثم) وهو للتراخي،ولم يختر الفاء كما في قوله
(فغلوه) وهي للتعقيب . ومن السهل الرد بأن الآية تريد ابراغز موقفين : الموقف الأول ( أخذ
وغل) سريع . ثم إطالة لهذا الموقف المهين لمزيد من الإذلال والتحير وسوء المصير .
الموقف الثاني: يأتي بعد إمتلاء الموقف الاول ، ويكمل ما يثيره الاخذ والفعل، يأتي سريعا بتقديم المفعول (الجحيم) أي أن الآية بها حركة بطيئة تناسب موقفاً، وحركة سريعة تناسب موقفاً).
ومن الذين وقفوا موقفاً محايداً أي أنهم رجحوا التقديم لرعاية الفاصلة أو للإختصاص نذكر الزركشي في كتابه البرهان حيث وضع 25 مقتضى من مقتضيات التقديم جعل آخرها مسألة رعاية الفاصلة وجاء بالآية الكريمة شاهدنا في هذا الحديث أنموذجاً مع آيات أخر ولكن لم يتزمت لهذا الرأي وقال ( ) وقيل فائدته الإختصاص وتبعه في ذلك بعض المحدثين منهم الدكتور توفيق الفيل الذي يرى في ( إياك نعبد) لا يمنع أن يكون المراد في الآية الكريمة أيضاً الاختصاص . فالآية بالنسق الذي جاءت عليه تقصر العبادة عليه سبحانه ،وتقصر الاستعانة عليه أيضاً ، ومعناه لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك . وإذا كان التناسب بين رؤوس الآيات يستدعي تجاوز بعض الأمور الشكلية ، أو يلجئ إلى بعض الأمور دون بعض ،فإنه لا يتم على حساب المعنى ( ).
ولم يكن ثمة حاجة هنا إلى خلق خلاف شكلي . فالآية الكريمة تشتمل على الأمرين ، أي أنهال تجمع بين إفادة الإختصاص ، وتحقيق التناسب بين رؤوس الآيات .
ومن الذين جعلوا غرض رعاية الفاصلة هو سبب التقديم فعلى رأسهم ابن الأثير حيث رد على الزمخشري في تفسيره لتقديم المفعول به (اياك) على فعله نعبد فقال( وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن التقديم في هذا الموضع قصد به الاختصاص ، وإنما قدم لمكان نظم الكلام ، لأنه لو قال نعبدك ونستعينك ، لم يكن له من الحسن ما لقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين }فجاء بعد ذلك قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين }وذلك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النون ، ولو قال نعبدك ونستعينك لذهبت تلك الطلاوة ، وزال ذلك الحسن ، وهذا غير خاف على أحد من الناس ، فضلاً عن أرباب البيان أنتهى كلام ابن الاثير) ( )
وهكذا جاء رأي السكاكي حيث قال سورة طه " أمنا برب هرون وموسى " وفي الشعراء "
رب موسى وهرون " للمحافظة على الفاصلة ( ). ويتبعه في هذا من المحدثين الدكتور محمود
السيد شيخون ففي رؤيته لقوله تعالى {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى }طه70 وفي سورة الشعراء { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين 47، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }الشعراء48 قدم (هارون) في الولى رعاية للفاصلة لأن قبله : (ولا يفلح الساحر من حيث أتى ) طه69 وبعده ( لتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ) بخلاف الثانية فإنه جاء على الأصل( ) ومما يجعلني أكاد أرجح هذا الرأي الإحصاء الذي قمت به لاسمي سيدنا موسى وهارون في القرآن الكريم حيث وجدت أنهما جاءا في سبع مواطن بورود اسم موسى قبل هارون وهذا هو الترتيب المنطقي لأن سيدنا موسى أفضل من هارون ولكن في موطن واحد ورد هاورن قبل موسى {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } طه70 لرعاية الفاصلة حيث جاء قبلها في آخر الآي { ... وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى{69} } وبعدها {...وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى{71} }.
ويجعل عبد الرحمن الميداني دواعي ثمان لتقديم متعلقات الفعل يجعل في آخرها مراعاة النسق الجمالي للفظ ،في قوافي الشعر وسجع النثر و وفواصلِ رؤوس الآيات في القرآن ويأتي بمثال الآية الكريمة (جاء في هذا النص تقديم المعمول مرّتين، لمراعاة الجمال في رؤوس الآيات في السورة، مع ما في الموطنين من البدء بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين المجرمين)( )
السلام عليكم ورحمة الله بركاته
بالنسبة لمسألة رعاية الفاصلة فقد كتبت عنه مبحثاً صغيرا في بحث عن التقديم والتأخير والذي جعلني أفرد هذا المبحث بين أغراض وأسباب التقديم والتأخير الاختلاف الكبير بين من يؤيد وقوعه لرعاية الفاصلة وبين من يؤيد وقوعه للإختصاص ، أرجو أن يكون هذا المبحث ذا فائدة وجزاكم الله خير الجزاء
رعاية الفاصلة
إنَّ تخصيصي لهذا الغرض أو السبب في أسلوب التقديم والتأخير له ما يبرره، فقد وجدت آراء كثيرة متناقضة سأحاول عرضها بإختصار لنتوصل في النهاية إلى رأي هو الأكثر رجوحاً نعرضه مع سلسلة النتائج في الخاتمة .
إنَّ الدارس لتقديم المفعول به يجد أنَّ أغلب حالتها تفيد الإختصاص وهذا ما يؤكده الدكتور بسيوني عبد الفتاح أنَّ الاختصاص يستلزم التوكيد وهذا أمر لا محالة منه ( )
وبدأت بهذا الغرض لأجد أن تقديم المفعول به في قوله تعالى { ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ }الحاقة31 قد تباين فيه العلماء من اهل اللغة والمفسرين فالزمخشري ممن يميل إلى الإختصاص فيفسرها (ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاه النار . انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر)( ) وكذلك جاءت في تفسير ابي السعود ( ) في تفسير الجحيم صلوه تقديم السلسلة كتقديم الجحيم للدلالة على الاختصاص والاهتمام بذكر الوان ما يعذب الوان ما يعذب به وفي تفسير روح البيان دل التقديم على التخصيص والمعنى لا تصلوه أي لا تدخلوه إلا الجحيم ولا تحرقوه إلافيها وهي النار العظمى ليكون الجزاء على وفق المعصية حيث كان يتعظم على الناس ( ).
ومن المحدثين ممن يرفضون هذا الأمر وبشدة وجدت الدكتور رجاء عيد يبدي رأيه ( ) قائلاً (كذلك نرفض ما زعموه من أن التقديم قد يكون لرعاية الفاصلة ويذكرون له قوله تعالى (خذوه فغلوه،ثم الجحيم صلوه) فذلك تسطيح لفكرة البلاغة ، ومعناه على زعمهم أنَّ الحرص على السجع دفعه الى تفتيت التركيب الاصلي . وإنما –في رأينا- أن التقديم هنا له دلالة بلاغية للتأثير على النفس في سرعة بيان المصير السيء الذي يتربص لهذا الذي (أخذ) فـ (غل) .
وقد يرد البعض ، لم أختار حرف العطف (ثم) وهو للتراخي،ولم يختر الفاء كما في قوله
(فغلوه) وهي للتعقيب . ومن السهل الرد بأن الآية تريد ابراغز موقفين : الموقف الأول ( أخذ
وغل) سريع . ثم إطالة لهذا الموقف المهين لمزيد من الإذلال والتحير وسوء المصير .
الموقف الثاني: يأتي بعد إمتلاء الموقف الاول ، ويكمل ما يثيره الاخذ والفعل، يأتي سريعا بتقديم المفعول (الجحيم) أي أن الآية بها حركة بطيئة تناسب موقفاً، وحركة سريعة تناسب موقفاً).
ومن الذين وقفوا موقفاً محايداً أي أنهم رجحوا التقديم لرعاية الفاصلة أو للإختصاص نذكر الزركشي في كتابه البرهان حيث وضع 25 مقتضى من مقتضيات التقديم جعل آخرها مسألة رعاية الفاصلة وجاء بالآية الكريمة شاهدنا في هذا الحديث أنموذجاً مع آيات أخر ولكن لم يتزمت لهذا الرأي وقال ( ) وقيل فائدته الإختصاص وتبعه في ذلك بعض المحدثين منهم الدكتور توفيق الفيل الذي يرى في ( إياك نعبد) لا يمنع أن يكون المراد في الآية الكريمة أيضاً الاختصاص . فالآية بالنسق الذي جاءت عليه تقصر العبادة عليه سبحانه ،وتقصر الاستعانة عليه أيضاً ، ومعناه لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك . وإذا كان التناسب بين رؤوس الآيات يستدعي تجاوز بعض الأمور الشكلية ، أو يلجئ إلى بعض الأمور دون بعض ،فإنه لا يتم على حساب المعنى ( ).
ولم يكن ثمة حاجة هنا إلى خلق خلاف شكلي . فالآية الكريمة تشتمل على الأمرين ، أي أنهال تجمع بين إفادة الإختصاص ، وتحقيق التناسب بين رؤوس الآيات .
ومن الذين جعلوا غرض رعاية الفاصلة هو سبب التقديم فعلى رأسهم ابن الأثير حيث رد على الزمخشري في تفسيره لتقديم المفعول به (اياك) على فعله نعبد فقال( وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن التقديم في هذا الموضع قصد به الاختصاص ، وإنما قدم لمكان نظم الكلام ، لأنه لو قال نعبدك ونستعينك ، لم يكن له من الحسن ما لقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين }فجاء بعد ذلك قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين }وذلك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النون ، ولو قال نعبدك ونستعينك لذهبت تلك الطلاوة ، وزال ذلك الحسن ، وهذا غير خاف على أحد من الناس ، فضلاً عن أرباب البيان أنتهى كلام ابن الاثير) ( )
وهكذا جاء رأي السكاكي حيث قال سورة طه " أمنا برب هرون وموسى " وفي الشعراء "
رب موسى وهرون " للمحافظة على الفاصلة ( ). ويتبعه في هذا من المحدثين الدكتور محمود
السيد شيخون ففي رؤيته لقوله تعالى {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى }طه70 وفي سورة الشعراء { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين 47، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }الشعراء48 قدم (هارون) في الولى رعاية للفاصلة لأن قبله : (ولا يفلح الساحر من حيث أتى ) طه69 وبعده ( لتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ) بخلاف الثانية فإنه جاء على الأصل( ) ومما يجعلني أكاد أرجح هذا الرأي الإحصاء الذي قمت به لاسمي سيدنا موسى وهارون في القرآن الكريم حيث وجدت أنهما جاءا في سبع مواطن بورود اسم موسى قبل هارون وهذا هو الترتيب المنطقي لأن سيدنا موسى أفضل من هارون ولكن في موطن واحد ورد هاورن قبل موسى {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } طه70 لرعاية الفاصلة حيث جاء قبلها في آخر الآي { ... وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى{69} } وبعدها {...وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى{71} }.
ويجعل عبد الرحمن الميداني دواعي ثمان لتقديم متعلقات الفعل يجعل في آخرها مراعاة النسق الجمالي للفظ ،في قوافي الشعر وسجع النثر و وفواصلِ رؤوس الآيات في القرآن ويأتي بمثال الآية الكريمة (جاء في هذا النص تقديم المعمول مرّتين، لمراعاة الجمال في رؤوس الآيات في السورة، مع ما في الموطنين من البدء بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين المجرمين)( )
بسم الله الرحمن الرحيم
لعل هذه النقاشات العلمية على صفحات الملتقى في توجيه تقديم وتأخير لتدل على عظيم شأن القرآن في النفوس، ومدى العناية العظيمة في معرفة مراد الله تعالى من كلامه، وعوداً على بدء في توجيه التقديم والتأخير بين فجاجاً وسبلاً في آيتي الأنبياء ونوح، أقول: لو نظرنا في الآيتين نظرة أخرى ثم أعدنا الكرة لوجدنا أن الآيتين بينهما اختلاف، فآية الأنبياء: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}، هي من امتنان الخالق على المخلوق، وآية نوح: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}، هي من بيان نوح في امتنان الله تعالى على قومه، والفرق بين الامتنانين أن منة الله تعالى تعيدنا إلى ما خلقه الله تعالى وجعله في هذا الكون للإنسان قبل أن يخلقه، وبيان نوح في منة الله على قومه جاءت بعد خلق الله الإنسان واستخلافه في الأرض، فمن حيث الزمان الآيتان مختلفتان، وعليه نستطيع أن نجلي الفرق بين الآيتين، فآية الأنبياء تتحدث عن إرساء الجبال بقصد الاستقرار، ولما علم الله أن إرساءها سيؤدي إلى عثرة الناس فيها، جعل في الجبال فجاجاً لإزالة هذه العثرة تكريماً لبني آدم، وهو من معين قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، فصُيرت الفجاج فجاجاً بعد أن لم تكن بدليل: {وجعلنا} ومعنى الجعل هاهنا التصيير، فهي في البداية فجاج والمقصد من جعلها فجاجاً أن تكون سبلاً، إذن تقديم الفجاج لملاحظة بعدين اثنين: 1- البعد الزماني وبيان مراحل خلق الأرض. 2- البعد التكريمي للإنسان، فالله سبحانه وتعالى إنما صيرها فجاجاً تكريماً للإنسان وإزالةً للمشاق عنه، ومن تدبر سياق الآيات في سورة الأنبياء اتضح له القول في ذلك. أما آية نوح التي جرت على لسان نبي الله عليه السلام، فالأمر فيها يختلف، فنوح عليه السلام يمتن على قومه بأن الله تعالى قد جعل هذه الأرض بساطاً لمقصد واضح وبيِّن وهو {لتسلكوا فيها سبلاً}، ولما كان الأمر كذلك أصبحت هذه السبل - سواء التي في الجبال أم التي في غيرها - فجاجاً، وهذا أمر نلاحظه أن الأرض تكون منبسطة وتكون السبيل قد صنعت شقاً فيها، ولذلك قدمت السبل على الفجاج. وخلاصة ما تقدم أن الله تعالى امتن على الإنسان بما لم يشاهده في أصل الخلق، وهو أنه صير الفجاج فجاجاً لتكون سبلاً، ولما امتن نوح عليه السلام امتن بما يعرفه هؤلاء المنكرون للنبوة من أمر السبل، التي يعرفونها سبلاً قبل أي شيء آخر، ثم ذكر الفجاج إذ إن هذه السبل على شكل فجاج وشقوق في الأرض، وبالفعل هذا مشاهد معروف في كل زمان، هذا ما أداني إليه اجتهادي حول التقديم والتأخير والله أعلم بالصواب وحده.
والفرق بين الامتنانين أن منة الله تعالى تعيدنا إلى ما خلقه الله تعالى وجعله في هذا الكون للإنسان قبل أن يخلقه، وبيان نوح في منة الله على قومه جاءت بعد خلق الله الإنسان واستخلافه في الأرض، فمن حيث الزمان الآيتان مختلفتان،
وجاء ايضاً:
إذن تقديم الفجاج لملاحظة بعدين اثنين: 1- البعد الزماني وبيان مراحل خلق الأرض.
ارجو منك اخي الكريم شرح هذه الفكرة أكثر . وهل تعني أن زمن خلق الفجاج في سورة الأنبياء اقدم منه في سورة نوح . أم ان زمن التمنن هو الذي اختلف .؟ .
رداً على تساؤل الأخ سليم برهان، عن اختلاف الزمانين أو الامتنانين؟
خلق الفجاج من حيث هو خلق بلا شك حصل مرة واحدة في زمان واحد، لكن الله سبحانه وتعالى عندما يمتن على العباد بخلق الفجاج لهم يذكرهم بأن هذه السبل في أصلها فجاج، فتقديم الفجاج لهذا الملحظ، إذن الموصوف الفجاج والصفة التي حصلت فيما بعد هي السبل.
أما آية نوح التي حصلت على لسانه عليه السلام، فإنه سيخاطب قومه بما يشاهدونه من نعم السبل، فتقديم السبل على الفجاج باعتبار حضور نعمة السبيل في ذهن المخاطب وهذا هو الأنسب، وهو الأدنى للامتنان، والله أعلم.
أخي الكريم الدكتور المثنى حفظه الله
أرجو أن تعذرني لكثرة أسئلتي ، وأن يتسع صدرك لبعض النقاش. قلت أخي: أما آية نوح التي جرت على لسان نبي الله عليه السلام، فالأمر فيها يختلف، فنوح عليه السلام يمتن على قومه بأن الله تعالى قد جعل هذه الأرض بساطاً لمقصد واضح وبيِّن وهو {لتسلكوا فيها سبلاً}، والسؤال المطروح في هذا النقاش اصلاً يدور حول ما هو هذا المقصد الواضح ؟ بمعنى هل تسلكوا تعني تسيروا فقط وان كانت كذلك فما معنى سبلاً فجاجاً . أي الا يكتمل المعنى ب "لتسلكوا منها " فقط .
ام هل معنى تسلكوا تتخذوا ؟ وان كانت كذلك فهل يقتصر معنى الاتخاذ على السير أم أن معنى بناء الطرق وشقها داخل فيه ؟
وهل يتساوى معنى "تسلكوا فيها" مع "تسلكوا منها"؟
ثم قلت اخي: ولما كان الأمر كذلك أصبحت هذه السبل - سواء التي في الجبال أم التي في غيرها - فجاجاً، وهذا أمر نلاحظه أن الأرض تكون منبسطة وتكون السبيل قد صنعت شقاً فيها، ولذلك قدمت السبل على الفجاج. كيف اصبحت السبل التي في الجبال ام التي في غيرها فجاجاً؟ هل أصبحت كذلك دون تدخل الانسان ؟
واذا كانت الأرض منبسطة فلماذا نسير في السبل التي قد صنعت شقاً فيها؟ وهل نترك الأرض المنبسطة ونعمد الى الشق نسير فيه؟
وهل أفهم من ما قلت ان معنى "فجاجاً" واسعة فقط؟
وأرجو مجدداً استاذي الكريم ان لا اكون قد أكثرت من الأسئلة .
وجزاك الله خيراً.
الأخ الفاضل سليم برهان، زادك الله علماً ودقة فهم، هناك فرق بين لتسلكوا فيها ولتسلكوا منها، ولا يصح أن تحل واحدة مكان الأخرى، فلو قال: لتسلكوا فيها لأفادت معنى واضحاً وهو السير، أما لما قال: {لتسلكوا منها} ضُمِّن لفظ تسلكوا معنى تتخذوا، والقول بالتضمين في كتاب الله تعالى أولى من القول بتناوب الحروف، لأن فيه إيجازاً وتكثير معنى، والناس لا يتخذون الأرض كل الأرض بأمتارها وأشبارها ودقائق مساحاتها سبلاً، وإنما يتخذون ما هو مهيء لذلك، وعليه فآية نوح تبين أمراً زائداً من خلال التقديم والتأخير على ما بينته آية الأنبياء، وبالتالي تكون السبل نوعين:
النوع الأول: السبل التي لها أصل من طبيعة هذا الخلق، كفجاج الجبال.
النوع الثاني: السبل التي يصنعها الإنسان في الأرض البساط سواء فوقها أم تحتها كالأنفاق.
وعليه يكون خطاب نوح عليه السلام في امتنانه على قومه بأنكم قد اتخذتم هذه السبل في الأرض واستطعتم الانتقال والارتحال وبلوغ حاجتكم، عبر ما صنعتموه لأنفسكم وما خلقه الله لكم، ويكون على ذلك إعراب {فجاجاً} صفة لسبل، لأن السبل عندما صنعت كانت طرقاً واسعة في الأرض.
وبالنسبة للسبل هل تكون دون تدخل الإنسان؟ نعم قد تكون كذلك! ومن ذهب في الجبال علم أن هذا الأمر حاصل لهذا اليوم! فهناك من الطرق في الجبال ما زالت كما خلقها الله فجاجاً، ولكن بطبيعة الحال غالب الطرق التي يسلكها الناس هي من تدخلهم وصنعهم، والآية تقر هذا وتمتن به على الناس، حيث إنهم لا يستطيعون اتخاذها سبلاً إلا بعد أن هيأ الله لهم ذلك، إما عبر فجاج الجبال، أو بسط الأرض وتمهيدها، وعليه نعرب فجاجاً في قوله تعالى: {فجاجاً سبلاً} مفعولاً به، و{سبلاً} عطف بيان، والله تعالى أعلم بما ينزل.