بسم الله الرحمن الرحيم
فتوى الشيخ محمود شلتوت في إنكار نزول المسيح عليه السلام
وما تلاها من سجال مع معاصريه
وإنما ظهرت هذه المقالة في العصر الحديث من جهتين :
من جهة القاديانية : أتباع ميرزا غلام أحمد ( ت : 1908 م ) ، الذي ظهر في شبه القارة الهندية ، وادعى النبوة ، وأنه هو المسيح الذي ينزل في آخر الزمان ، وادعى أن الأحاديث التي فيها إخبار بنزول عيسى إنما المقصود بها نزول مثيله ، وأنه هو ذلك المثيل ، وأن عيسى عليه السلام قد مات ودفن في كشمير !
وقد تصدى لدعاويه علماء تلك البلاد ، ومن المؤلفات التي كُتبت في الرد عليه في هذه المسألة على وجه الخصوص كتاب «الحق الصريح في إثبات حياة المسيح» للشيخ محمد بشير السهسواني ( ت: 1326 هـ = 1908م ) ، وكتاب «التصريح بما تواتر في نزول المسيح» للشيخ محمد أنور شاه الكشميري ( ت : 1352 هـ = 1933م ) .
وظهرت هذه المقالة في مصر - في فترة مقاربة لظهور القاديانية في الهند - ، على يد ما يسمى بالمدرسة العقلية الحديثة وهي مدرسة محمد عبده وتلاميذه .
وكل مقالة بدعية لا بد من النظر فيها من جهتين :
من جهة الأصل الذي أنتجها وأوجب القول بها ، ويكون في الغالب ذا منشأ غير إسلامي .
ومن جهة كيفية تعامل المبتدع مع أدلة الكتاب والسنة التي تصادامها .
ويبيِّنُ الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله تعالى (ت : 1392هـ = 1972 م ) - وهو من تلاميذ الشيخ رشيد – الأصل الذي أوجب قول هذه المدرسة بإنكار نزول المسيح فيقول : " تخرج الشيخ رشيد رحمه الله تعالى على أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده ، الذي تمهَّر في فلسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر ورضعا جميعاً لبان فلسفة جوستاف لوبون وكانت ونتشه وسبنسر وغيرهم من أساطين الفلسفة المادية التي تقول بجبرية الأسباب والمسببات ، وأن العالم يسير بنواميس لا يمكن أن تتخلف أو أن ينفك مسبب عن سببه عقلاً .
فلم تتسع الفلسفة المادية في تفكيرهما للإيمان بالمعجزات والخوارق من انشقاق البحر لموسى والعصا له وآيات عيسى بن مريم ورفعه للسماء ونزوله وخروج الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وانشقاق القمر وغيرهما من الآيات .
ولما لم تتسع فلسفتهما – فلسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر – لهذه الخوارق والآيات والمعجزات ، أخذا في تأويلها في القرأن والشك في أحاديثها .
ولو عاش الإمامان الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا رحمهما الله إلى منتصف القرن العشرين وعلما فلسفته التي نفت الجبرية ، وأنها ذهبت إلى غير رجعة ، وأن العالم مُسيَّرٌ بحكمة فاعل مختار لا جبرية حتمية ... لكان لهما رأي آخر في آيات الأنبياء وخوارقهم ومعجزاتهم، ولكان لهم إيمان وفرح بأحاديث أشراط الساعة والخوارق ولاستفادا منها علوماً نفسية من الوحي الإلهي " ( 1).
أما كيفية تعامل هذه المدرسة مع ما يصادم مقالتها من أدلة فسيأتي ذكره إن شاء الله .
وتشكيك رشيد رضا في نزول عيسى عليه السلام ذكره في مجلة المنار ، عدد يناير 1928م ، في جواب على سؤال من تونس، ونقل فيه كلاماً له في تفسيره ، وهو هناك ينقل كلاماً لشيخه محمد عبده في ذلك.
ولا يبدو أن هذه الفتوى أحدثت ضجة حال صدورها ، ولم أجد أحداً كتب في الرد عليها أو نقضها حينئذ (2 ) .
غير أنه بعد ذلك بزمن ، وبعد وفاة رشيد رضا ، صدرت عن الأزهر فتوى أشاعت هذه المقالة ، وأحدثت ضجة كبيرة أدت إلى سجالات حادَّة بين صاحب هذه الفتوى ومعاصريه من العلماء .
وقصة هذه الفتوى : أنه ورد استفتاء إلى الأزهر في سنة 1942 م من رجل قادياني يريد أن يستخرج من الأزهر فتوى يقوي بها مذهبه ، يسأل فيها : هل عيسى حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة ؟ وما حكم المسلم الذي ينكر أنه حي ؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض انه عاد إلى الدنيا مرة أخرى ؟
وكان شيخ الأزهر حينئذ الشيخ محمد مصطفى المراغي (ت:1364 هـ = 1945م ) ، وهو كما لا يخفى من تلاميذ محمد عبده ومن أعلام مدرسته ، فأحالها حينئذ على شيخ موافق له في مذهبه وهواه ، وهو الشيخ محمود شلتوت (ت: 1383 هـ = 1963 م ) .
فكتب شلتوت جواباً على الاستفتاء ، خلص فيها إلى ما يأتي :
" 1 - أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستندٌ يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رُفِع بجسمه إلى السماء ، وأنه حي إلى الآن فيها ، وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض .
2 - أن كل ما تفيد الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه أجله ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا ، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ، ولكن وفاه الله اجله ورفعه إليه .
3 - أن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء ، وأنه فيها حي إلى الآن ، وأنه سينزل منها آخر الزمان فإنه لا يكون بذلك مُنكراً لما ثبت بدليل قطعي ، فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه ، ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة ، بل هو مسلم مؤمن ، إذا مات فهو من المؤمنين يصلي عليه كما يصلى على المؤمنين ، ويدفن في مقابر المؤمنين ، ولا شية في إيمانه عند الله ، والله بعباده خبير بصير " .
ونشرت هذه الفتوى في مجلة الرسالة ، العدد : 462 ، بتاريخ 11/5/1942 م .
وما إن صدرت هذه الفتوى حتى فرح بها القاديانية ونشروها في مجلتهم التي كانت تصدر في بيروت ، " وأخذوا يطوفون بها على المسلمين الذين كانوا يسفهون أحلامهم ، ويخطئون آرائهم وهم فرحون مستبشرون يقولون بلهجة الظافر المنتصر ، ها هو ذا الأزهر يوافقنا ويخالفكم ، فليس عيسى بحي ولا هو مرفوع ولا هو نازل فأين تذهبون ؟! " (3 ) .
وقد تصدى للرد على فتوى الشيخ محمود شلتوت جماعة من أهل العلم في مصر :
1- كان الشيخ مصطفى صبري التوقادي (ت:1373 هـ = 1954 م ) آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية ، وصديقه الشيخ محمد زاهد الكوثري ( ت: 1371 هـ = 1952 م ) وكيل المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية ، إذ ذاك مقيمَين في مصر - بلد الحرية(4 )- ، و قد قدما إليها إبّأن سيطرة الكماليين على الحكم في تركيا سنة 1922 م ، وهما ينتسبان إلى المدرسة الكلامية الماتريدية ، التي تُشكِّل المدرسة العقلية الحديثة خصماً من خصومها ، وحسبك في معرفة قدر الخصومة بينهما قول مصطفى صبري في رموزها الثلاثة : محمد عبده ورشيد رضا والمراغي : " هؤلاء الشخصيات الثلاثة ينتهي إليهم كل شذوذ وزيغ في الدين بمصر في عصر التجديد " (5 ) .
وكتب الشيخ مصطفى صبري كتاب «القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون»(6 ) ، وهو كتاب خصصه للرد على قول المدرسة العقلية في مسألة المعجزات ، من خلال الرد على كتاب عبقرية محمد لمحمد حسين هيكل ( ت : 1376 هـ = 1956 م) الذي قدم له المراغي ورشيد رضا ، وينكر فيه صاحبه معجزات النبي صلى الله عليه وسلم سوى القرآن .
والشيخ مصطفى صبري يرى السبب في ذهاب المدرسة العقلية هذا المذهب هو إيمانهم بالفلسفة الغربية المادية ، كما نقلته لك آنفاً عن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة .
يقول : " وأصل المسألة أن للمتعلمين العصريين من الكتاب عقيدة راسخة أرسخها في أذهانهم العلم الحديث المادي الذي يؤمنون به فوق إيمانهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهي إنكار الأمور الغيبية مثل المعجزات والنبوة بمعناها المعروف عند المليين فلو لم يكن فيهم هذه العقيدة ونظروا إلى قول الله ورسوله نظر المحايد غير المقيد بعقيدة مانعة من قبول ما يخالفها لأمكننا وقفهم في حدود قول الله ورسوله " (7 ).
وخلال بحوثه ومناقشاته في الكتاب المذكور ذكر الشيخ مصطفى فتوى شلتوت التي أنكر فيها نزول عيسى على السلام نموذجاً عن إنكار هذه المدرسة للمعجزات ، وناقشه في بعض استدلالته فيها ( 8).
وأكد خلال ذلك أن هناك سبباً خفياً لقول شلتوت بنفي نزول عيسى ، وهو إيمانه بالفلسفة المادية الغربية ( 9) .
2- أما الشيخ محمد زاهد الكوثري فقد شارك أيضاً في صد هذه الهجمة التي تولاها شلتوت على العقيدة الإسلامية ، وذلك بتقديمه لكتاب إقامة البرهان الآتي ذكره .
يقول في تلك المقدمة : " ومما يؤسف له أن يوجد بين صفوف حراس الدين من تتغلب عليه شهوة الظهور بالتجرؤ على العقيدة المتوارثة جرياً وراء الاستبعاد العقلي المجرد مما لا يحيله العقل مع توارد الكتاب والسنة وإجماع علماء أهل السنة والجماعة على تحتم الأخذ بها ولا يكون ذلك إلا تزندقاً مكشوفاً في سبيل التجدد " (10) .
3 – وكان الشيخ عبد الله بن محمد الصديق الغماري المغربي (ت: 1413 هـ = 1993 م ) إذ ذاك مقيماً في مصر أيضاً ، وهو شاب في أول الثلاثينات من عمره ، فكتب ثلاث مقالات في مجلة الإسلام رد فيها على فتوى شلتوت ، يقول الغماري : " وقد عالجنا تلك الفتوى الخاطئة بردود ثلاثة نشرت في مجلة الإسلام حازت بحمد الله رضاء الخاص والعام وكانت على كبد العلماء برداً وسلاماً بل أعجب بها المردود عليه نفسه وصرح لي أنها دلت على علم واطلاع ، ظن من أجلهما أنني شيخ مسن بحيث لما رآني استغرب لكون سني لا يتناسب مع تلك الردود ، غير أنه ذكر أني في الردين الثاني والثالث عدلت عن جادة الصواب وانتحيت ناحية السخرية والسباب فقلت : هذا شيء ما أردته ولا قصدته ، وإنما هي قسوة اقتضاها بعد فتواك عن الحق ، مع اعترافي بذكائك ونبلك ، وقد ذكر النووي في المجموع أنه يبالغ في تضعيف الأقول الضعيفة وتقبيحها تحذيراً من الاغترار بها ، ولا يقصد الطعن في أصحابها ، ومع هذا فأنا متنازل عما تراه فضيلتك شتما وغضاً من قدرك ، ومتمسك في الوقت نفسه بتخطئة فضيلتك . قال : أنت حر في رأيك ، وأنا أرحب بالنقد العلمي الخالي من الغمز واللمز . قلت : كلنا ذلك الرجل ، وأنا لا أحب أن أشتم عالماً خصوصاً من كان مثل فضيلتك له شخصيته ومكانته " (11) .
ثم أتبع الغماري هذه المقالات بكتاب بعنوان : «إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان» ، وقدم له الكوثري – كما تقدم - ، حشد فيه الأحاديث الواردة في نزول عيسى ، وآثار الصحابة ، وأقوال العلماء في ذلك ، ليرد على شلتوت دعواه أن الحديث حديث آحاد ، وأن المسألة ليست إجماعية ، وتتبعه في فتواه فقرة فقرة ، وطبع الكتاب في مطبعة للإخوان المسلمين ، وهو كتاب قيم .
4 – أما المدرسة السلفية في مصر التي كانت متمثلة إذ ذاك في جماعة أنصار السنة المحمدية ، فقد كانت علاقتها بالشيخ محمود شلتوت علاقة جيدة ، بل علاقة الجماعة المذكورة بالمدرسة العقلية كانت علاقة احترام وتأثُّر ، ولم تكن علاقة خصومة ومفاصلة ، كما الحال بالنسبة لشيوخ المدرسة الكلامية المتقدمة .
يقول أحد شيوخ هذه الجماعة في ترجمة شلتوت : " تمتد جذور صلته بأنصار السنة منذ أن حقق الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله كتابه أبي سعيد الدارمي في الرد على بشر المريسي ، حيث قامت قائمة الأزهر الشريف في ذلك الوقت ، وشكل لجنة من بين علمائه للنظر في الكتاب وفي المقدمة التي كتبها الشيخ حامد قريباً من عام 1360 هـ 1940 م ، وقدمت اللجنة تقريرين في غير صالح الكتاب ، وكذا محققه ، فرد شيخ الأزهر في ذلك الوقت الأمر إلى الشيخ محمود شلتوت عضو لجنة كبار العلماء ، فكتب جزاه الله خيرًا تقريرًا مفصلاً أنصف فيه الدارمي وكتابه وكذا دافع فيه عن المقدمة التي كتبها الشيخ حامد الفقي دفاعاً يحسب له ويكون في ميزان حسناته(12) .
وكانت صلته بأنصار السنة تتمثل في محاضرات يلقيها في دار الجماعة أو مقالات يكتبها في مجلة الهدي النبوي ، فقد كان من كتابها في أول وقت صدورها " (13) .
ولذلك نجد الردود على فتوى شلتوت التي كتبها مؤسس الجماعة الشيخ محمد حامد الفقي (ت : 1378 هـ = 1959 م ) ونشرها في مجلته الهدي النبوي ردوداً هادئة خالية من العبارات الشديدة الواردة في ردود المشايخ المتقدمين (14) .
وهكذا ، نجد أن فتوى الشيخ شلتوت لاقت معارضة شديدة ، مما جعله يسوِّد خمس مقالات أخرى في الدفاع عن فتواه ، والرد على من رد عليه .
كتب المقال الأول في العدد (514) من مجلة الرسالة المنشور بتاريخ 10/5/1943 م ، أي بعد عام كامل من إصدار فتواه .
وهو بالإضافة إلى ركوبه متن الغي وإصراره على ضلالته ، بالغ في هذا المقال من الحط من قدر من رد عليه ، فيصفهم بقوله : "لهم من شبه العلماء الزي واللَّقب " ، ويعير الشيخ مصطفى صبري بقوله : " شيخ الإسلام الذي كفرت به تركيا " (15 ) ، ويقول عن الغماري: " أحد المتمرنين على طريقتهم " إشارة إلى صغر سنه .
ويؤكد في هذا المقال على أن موافقته للقاديانية في فتواه لا يلزم منه أن صاحب الفتوى يكتب بروح قاديانية ويؤيد القاديانيين الذين يرون فيما يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس خاتم النبيين ، وأن غلام أحمد نبي يوحى إليه .
ثم يقول مخاطباً لهم : " لا ، لا ، إنكم أيها المموهون لا تريدون بذلك إلا أن تجاروا سلفاً لكم ضعفوا عن الحجة والبرهان ، ولم يتعودوا الإخلاص للحق ، فراحوا يردون الآراء بتشويهها والتنفير منها ، كانوا يقولون : هذا رأي المعتزلة ، وهذا يتفق مع قول الفلاسفة ، وذاك رأي ابن تيمية .. الخ " .
وأنت ترى من خلال هذا التقسيم ، أنه إنما يعني بالمموهين مشايخ الأشعرية والماتريدية الذين ردوا عليه ، لأن المعتزلة والفلاسفة وابن تيمية هم خصومهم التقليديون الذين ينفرون من موافقتهم .
ولا نرى في هذا المقال ولا ما بعده ذكراً للشيخ الفقي ولا لرده .
إذاً ، كانت هذه المساجلة بين مدرستين : المدرسة الكلامية الماتريدية الأشعرية ، والمدرسة العقلية الحديثة .
ولم أجد شلتوت في مقالاته جميعها يلتفت لكلام مصطفى صبري في أن مردَّ إنكاره لنزول عيسى وإنكاره للمعجزات والخوارق هو إيمانه بالفلسفة الغربية المادية ، بل سكت عن ذلك ، ولم يتعرض له بنفي ولا إثبات( 16) .
ونجده يبحث عن كل ما يراه مفيداً في غرضه في التشكيك في حجية مصادر تلقي الوحي ، حتى يهوِّن من شأن الإيمان بنزول عيسى عليه السلام ، فشكك في يقينية نصوص الوحي ، وشكك في حجية أخبار الآحاد ، وشكك في حجية الإجماع ، وجعل الخلافات العقدية من جنس الخلافات الفقهية .
ومن الطريف أن بعض هذه الأدوات أدوات كلامية ؛ استعملها المتكلمون في تأييد أقوالهم المخالفة لاعتقاد أهل السنة .
فهو يقول : " الأدلة النقلية قد ذهب كثير من العلماء إلى إنها لا تفيد اليقين ولا تحصل الإيمان المطلوب، ولا تثبت بها وحدها عقيدة".
وهذا كما لا يخفى من المقالات الموجودة لدى المتكلمين الأشعرية .
ويقول بعد أن أورد نصوصاً لجمع من الأصوليين يقول : "وهكذا نجد نصوص العلماء من متكلمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين " .
ومن الأسئلة المفيدة هنا : ماذا كان جواب المدرسة الكلامية في الرد عليه ، وقد استعمل أصولها في نقض مقالة يقولون بها : وهي نزول عيسى عليه السلام ؟
دعني أخي القارىء أرجىء جواب هذا السؤال حتى أحدثك عن الردود التي كتبها المشايخ المنتسبون لهذه المدرسة على مقالات الشيخ شلتوت المذكورة .
1 – كتب الكوثري رحمه الله كتاباً بعنوان «نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه السلام قبل الآخرة» ، أبدع فيه وأجاد ، وتتبع مقالات شلتوت مقالاً مقالاً فتركها قاعاً صفصفاً ، وبدا فيه تمكن الكوثري من العلوم المخلتفة ، بإزاء تخليط شلتوت .
2- وكتب الغماري رحمه الله كتاباً بعنوان «عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام» ، واشتد فيه على شلتوت – بخلاف رده السابق - وسماه بالمبتدع ، وكتابه مفعم بنبرة التحدي ، وقد أجاد في الرد على مقالاته أيضاً ، لكن كتاب الكوثري أحسن منه ترتيباً .
وختمه بنقل فتوى في مسألة نزول عيسى عليه السلام للشيخ محمد بخيت المطيعي ( ت : 1354 هـ = 1935 م ) مفتي الديار المصرية ، كان قد كتبها سنة 1350 هـ .
3 - أما الشيخ مصطفى صبري رحمه الله فلم يكتب كتاباً منفصلاً اكتفاء بما كتبه العلماء الأعلام في نقض تلك المقالات – كما يقول ( 17) –، لكنه كتب أوراقاً في الرد على بعض ما جاء في المقالات وهي مطبوعة في موقف العقل ( 4 / 228 -280) تحت عنوان : ما بعد القول الفصل ، وقد كرر فيها ما ذكره في رده الأول ، أن السبب الحقيقي لإنكار شلتوت نزول عيسى عليه السلام هو إيمانه بالعلم الحديث المنافي للإيمان بالخوارق والمعجزات يقول : " فحقيقة الأمر التي لا يبوح بها الشيخ أن مستنده في إنكار عقيدتنا بشأن رفع عيسى ونزوله هو العلم الحديث الذي يستند إليه منكروا المعجزات وسائر المغيبات ، على حين كان مستندنا في عقيدتنا الآيات والأحاديث القديمة التي لا يقيم لها العلم الحديث وعلماؤه وزناً غير وزن الأساطير ! " (18).
وقد تعرض الشيخ فيها لمسألة تكفير شلتوت وبين أنه لا فائدة من تكفيره ، لأنه لا أسهل في هذا الزمان من أن يكفر أحد ثم يقول : ما كفرت ، فإن كان الشيخ كفر لما أنكر وجود الشيطان كائناً حياً عاقلاً ، وكفر لما أنكر رفع عيسى ونزوله ولم يعترف بأنه كفر ، فماذا يحصل من تكفيره ؟ (19)
ومن طالع هذه الردود يجد تبديداً لشبهات من ينكر نزول عيسى عليه السلام ، بالإضافة إلى ما حوته من بحوث أصولية وحديثية وتفسيرية ، ولا يرتاب أن هذا السجال ظهر فيه الحق وزهق الباطل .
أما جواب السؤال الذي طرحته آنفاً فأقول :
يقول الكوثري في كتابه المذكور : " وأما الدليل اللفظي فيفيد اليقين عند توارد الأدلة على معنى واحد بطرق متعددة وقرائن منضمة عند الماتريدية كما في إشارات المرام للبياضي وغيره ، وإلى هذا ذهب الآمدي في الأبكار والسعد في شرح المقاصد والتلويح والسيد في شرح المواقف .
وعليه جرى المتقدمون من أئمة هذه الأمة وجماهير أهل العلم من كل مذهب ، بل الأشعري يقول : إن معرفة الله لا تكون إلا بالدليل السمعي ، ومن يقول هذا يكون بعيداً عن القول بأن الدليل السمعي لا يفيد إلا الظن ، فيكون من عزا المسألة إلى الأشعرية مطلقاً متساهلاً بل غالطاً غلطاً غير مستساغ .
والواقع أن القول بأن الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عن تيقن أمور عشرة ودون ذلك خرط القتاد ، تقعُّر من بعض المبتدعة وقد تابعه بعض المتفلسفين من أهل الأصول وجرى وراءه بعض المقلدة من المتأخرين ، وليس لهذا القول أي صلة بأي إمام من أئمة أهل الحق وحاشاهم أن يضعوا أصلاً يهدم به الدين ، ويتخذ معولاً بأيدي المشككين ، والدليل القطعي الثبوت ، يكون قطهي الدلالة في مواضع مشروحة في أصول الفقه .
وأما ما أجمله الفخر الرازي في المحصل فقد أوضحه في المحصول ونهاية العقول واعترف فيهما بأن القرائن قد تعين المقصود فيفيد الدليل اللفطي اليقين فيفلت بذلك من أيدي المشككين إمكان التمسك بقول الرازي في المحصل في باب التشكيك في القرآن الحكيم بل القول بمجرد الدليل العقلي في علم الشريعة بدعة وضلالة " (20) .
وتقرير الغماري في عقيدة أهل الإسلام مثل تقرير الكوثري واعترف فيه بأن طائفة من الأشعرية انخدعوا بهذا القول غير مدركين لما يلزم عليه من الخطر العظيم (21) .
فأنت تجدهما قد تبرَّءا أشد البراءة من هذا الأصل ، وهذا أمر طيب لو التزمه الأشعرية والماتريدية .
هل تاب الشيخ محمود شلتوت رحمه الله من فتواه ؟
يذكر صاحب كتاب «كبرى اليقينيات الكونية» عن بعض علماء الأزهر ممن كانوا يلازمون الشيخ محمود شتوت في أخريات أيامه أنه كان يعاني في بيته من شلل في جسمه ، يروون بأنه أحرق جميع ما كان يحتفظ به من الكتب والأوراق التي سجل فيها بعض الآراء الشاذة وفي مقدمتها مسألة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وأشهدهم بأنه تاب إلى الله من الاعتقاد بها وأنه قد رجع إلى عقيدة جمهور المسلمين أهل السنة والجماعة (22) .
وأنا أرجو أن تكون هذه الرواية صحيحة ، وأن يكون الشيخ محمود رحمه الله قد تاب من تلك المقالة الخطيرة .
وأنبه في إلى أن للشيخ كتاباً بعنوان : «أسباب البدع ومضارها»، وهو جمعٌ لمقالات كان يكتبها في مجلة الهدي النبوي الصادرة عن جماعة أنصار السنة المحمدية ، وقد جاء في الطبعة التي اعتنى بها علي الحلبي لهذا الكتاب في بيان أسباب الابتداع ، وأن منها تحسين الظن بالعقل في الشرعيات ص30 : " وقد وقع كثير من الابتداع بهذا الطريق، فبحكم العقل القاصر رُدَّت كثير من الأمور الغيبية التي صحت بها الأحاديث: كالصراط، والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم والعذاب الجسمي، ورؤية الباري وما إلى ذلك مما لم يدركه العقل ولا ينهض على إدراكه ، ومن ذلك نزول عيسى عليه السلام الذي صحت به الأحاديث " (23) .
وهذه الجملة الأخيرة : " ومن ذلك نزول عيسى عليه السلام الذي صحت به الأحاديث " انتابني شك في أصالتها ، وقد رجعت إلى طبعة عبد الآخر حماد فلم أجدها ، ورجعت إلى موقع جماعة أنصار السنة المحمدية فوجدت المقال منشوراً فيها دون وجود هذه الزيادة ، فيبدو أنها من صنيع المعتني المذكور بالكتاب !
والله ولي التوفيق .
كتبه محمد براء ياسين
18 / رمضان المبارك / 1433 هـ
18 / رمضان المبارك / 1433 هـ
_______________________
(1) «ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمدية » (ص236- 237) .
( 2) كتب بعد ذلك بزمان طويل ( سنة 1969 م ) الشيخ محمد خليل هراس رداً على هذه الفتوى في كتابه «فصل المقال في نزول المسيح وقتله الدجال» (ص53 – 64) ، أغلظ فيها على الشيخ رشيد ، وهو موضع يستحق الإغلاظ .
(3) «إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان » (ص21) .
(4) كما يصفها الشيخ محمد منير آغا الدمشقي في كتابه «نموذج أعمال خيرية » .
(5) «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين » (4/129) .
(6) طبع الكتاب منفرداً سنة 1942م ، وهي السنة التي أصدر شلتوت فيها فتواه، ثم ضمنه مؤلفه في المجلد الرابع من «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين » وألحق به ردوده على شلتوت .
(7) «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين » (4/23) .
(8) انظر «موقف العقل » (4/174 – 182) .
(9) انظر «موقف العقل » (4/176) .
(10)«إقامة البرهان» (ص4)، وهذه المقدمة موجودة في« مقالات الكوثري» ص(257-260 ).
(11) «إقامة البرهان » (ص21) .
(12) مساهمة الشيخ شلتوت في نشر كتاب الدارمي استثارت المدرسة الكلامية التقليدية ، فكتب الكوثري مقالات في إنكار ذلك ، يبين أنه عدول عن منهج الأزهر ، ولعل الكوثري رأى في إنكار شلتوت لنزول عيسى عليه السلام فرصة لإسقاطه .
انظر في «مقالات الكوثري» ص(261 – 263 ) مقالاً بعنوان : إنكار نزول عيسى وإقرار عقيدة التجسيم ، وما بعده من مقالات .
(13)ترجمة للشيخ محمود شلتوت بقلم فتحي عثمان ، منشورة في النت .
(14) لم يتيسر لي الاطلاع على الردود كاملة وإنما قرأت ما نقله منها الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله في كتابه «فصل المقال» (ص66 – 70 ) ، وقد أتبع الشيخ محمد خليل هراس رد الفقي بأشياء من كتاب الغماري واستحسنه .
(15) يقول الشيخ مصطفى صبري رحمه الله : " التي تبرأت مني هي حكومة تركيا الجديدة اللادينية ، وهذا التبرؤ الذي أتشرف أنا به ، وقد تبرأت أنا منها قبل تبرؤها مني " . «موقف العقل » (4/263) .
(16) على أنني وجدت له كلاماً صريحاً في «تفسيره» (ص80 ) في إثبات المعجزات ، وهو إما قول متأخر له أو يكون مصطفى صبري قد ظلمه في اتهامه بإنكار المعجزات ، لكن يبقى السؤال – بناء على هذا الاحتمال الثاني - لماذا لم ينف ذلك عن نفسه وقد تعرض في مقالاته لنفي ما هو أقل خطورة من هذه التهمة ؟ وهذا على كل حال يدل على اضطرابه في المسألة .
(17) «موقف العقل » (4/228) .
(18) «موقف العقل » (4/252) .
(19) «موقف العقل » (4/257 -258) .
(20) «نظرة عابرة » (ص81-82) .
(21) «عقيدة أهل الإسلام » (ص67) .
(22) «كبرى اليقينيات الكونية » (ص331) .
(23) «البدعة أسبابها ومضارها » ت : علي الحلبي (ص30) .
مقالات الشيخ شلتوت كاملة .
القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون لمصطفى صبري ( المجلد الرابع من موقف العقل ) .
نظرة عابرة في مزاعم من ينزل نزول عيسى عليه السلام قبل الآخرة للكوثري .
إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان للغماري .
عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام للغماري .
فصل المقال في نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال لمحمد خليل هراس .