محمد محمود إبراهيم عطية
Member
قال الإمام الغزالي تحت عنوان ( بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب ) من ( الإحياء ) ما خلاصته :
اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ، ومن أذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالبًا ، فإن تيسرت له نعمة ، فلا يمكنك أن لا تكرهها حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله ، ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له ، فإن قوي ذلك فيك حتى أظهرت الحسد بقول أو فعل ، فأنت حسود عاصٍ بحسدك ، وإن كففت ظاهرك بالكلية ، إلا أنك تحب بباطنك زوال النعمة ، وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة ، فأنت - أيضًا - حسود عاص ، لأن الحسد صفة القلب ، لا صفة الفعل ، قال الله تعالى : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } [ النساء : 89 ] ، وقال : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] .
أما الفعل فهو غيبة أو كذب ، وهو عمل صادر عن الحسد ، وليس عين الحسد .
نعم ؛ هذا الحسد - أي الذي في القلب فقط - ليس مظلمة يجب الاستحلال منها ، بل هو معصية بينك وبين الله تعالى ، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح .
أما إذا كففت ظاهرك ، وألزمت قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة ، حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها ، فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع ، فقد أديت الواجب عليك ، ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا ، لأن تلك الكراهة تمنعك من البغي والإيذاء .
وصفوة القول أن لك مع أعدائك ثلاثة أحوال :
أحدها : أن تحب مساءتهم بطبعك ، وتكره حبك لذلك وميل قلبك إليه بعقلك ، وتمقت نفسك عليه ، وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك ، وهذا معفو عنه قطعًا ؛ لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر من ذلك .
الثاني : أن تحب ذلك ، وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك ، فهذا هو الحسد المحظور قطعًا .
الثالث : وهو بين الطرفين : أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك ، ومن غير إنكار منك على قلبك ، ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد ، وهذا في محل الخلاف ، والظاهر أنه لا يخلو من إثم بقدر قوة هذا الحب وضعفه .
وجميع ما ورد من أخبار في ذم الحسد يدل ظاهرها على أن كل حاسد آثم ، لكن الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال ، فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد ، فكونه آثما بمجرد حسد القلب من غير فعل في محل الاجتهاد ، والأظهر ما ذكرناه ، من حيث ظواهر الآيات والأخبار ، ومن حيث المعنى ، إذ يبعد أن يُعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم ، واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة ؛ والعلم عند الله تعالى ( 1 ) .
يريد الشيخ - رحمه الله - أن يقول : إن الحسد إذا لم يتجاوز ما يعتمل في القلب وهو له كاره ، ولم يخرج تجاه المحسود بسعي بإيذاء قولا أو فعلا ، فهو في مرتبة العفو ، لأنه ليس في مقدور الإنسان أكثر من ذلك ، وقد قال الله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ، أَوْ تَكَلَّمْ " ( 2 ) .
_____________
[1] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 171 .
[2] - البخاري ( 5269 ) ، ومسلم ( 127 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه
اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ، ومن أذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالبًا ، فإن تيسرت له نعمة ، فلا يمكنك أن لا تكرهها حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله ، ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له ، فإن قوي ذلك فيك حتى أظهرت الحسد بقول أو فعل ، فأنت حسود عاصٍ بحسدك ، وإن كففت ظاهرك بالكلية ، إلا أنك تحب بباطنك زوال النعمة ، وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة ، فأنت - أيضًا - حسود عاص ، لأن الحسد صفة القلب ، لا صفة الفعل ، قال الله تعالى : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } [ النساء : 89 ] ، وقال : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] .
أما الفعل فهو غيبة أو كذب ، وهو عمل صادر عن الحسد ، وليس عين الحسد .
نعم ؛ هذا الحسد - أي الذي في القلب فقط - ليس مظلمة يجب الاستحلال منها ، بل هو معصية بينك وبين الله تعالى ، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح .
أما إذا كففت ظاهرك ، وألزمت قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة ، حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها ، فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع ، فقد أديت الواجب عليك ، ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا ، لأن تلك الكراهة تمنعك من البغي والإيذاء .
وصفوة القول أن لك مع أعدائك ثلاثة أحوال :
أحدها : أن تحب مساءتهم بطبعك ، وتكره حبك لذلك وميل قلبك إليه بعقلك ، وتمقت نفسك عليه ، وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك ، وهذا معفو عنه قطعًا ؛ لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر من ذلك .
الثاني : أن تحب ذلك ، وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك ، فهذا هو الحسد المحظور قطعًا .
الثالث : وهو بين الطرفين : أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك ، ومن غير إنكار منك على قلبك ، ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد ، وهذا في محل الخلاف ، والظاهر أنه لا يخلو من إثم بقدر قوة هذا الحب وضعفه .
وجميع ما ورد من أخبار في ذم الحسد يدل ظاهرها على أن كل حاسد آثم ، لكن الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال ، فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد ، فكونه آثما بمجرد حسد القلب من غير فعل في محل الاجتهاد ، والأظهر ما ذكرناه ، من حيث ظواهر الآيات والأخبار ، ومن حيث المعنى ، إذ يبعد أن يُعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم ، واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة ؛ والعلم عند الله تعالى ( 1 ) .
يريد الشيخ - رحمه الله - أن يقول : إن الحسد إذا لم يتجاوز ما يعتمل في القلب وهو له كاره ، ولم يخرج تجاه المحسود بسعي بإيذاء قولا أو فعلا ، فهو في مرتبة العفو ، لأنه ليس في مقدور الإنسان أكثر من ذلك ، وقد قال الله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ، أَوْ تَكَلَّمْ " ( 2 ) .
_____________
[1] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 171 .
[2] - البخاري ( 5269 ) ، ومسلم ( 127 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه