أكثر مدة الحمل عند الفقهاء
الفقهاء كلهم مجمعون على أن لا دليل من الكتاب أو السنة على أكثر مدة الحمل، إلا أنهم اجتهدوا في تحديد أكثر مدة الحمل وتشعبت أقوالهم إلى تسعة أقوال:
فأصحاب المذهب الظاهري ذهبوا إلى أن أقصى مدة الحمل هي المدة المعهودة وهي تسعة أشهر. واختار ابن رشد قول محمد بن عبد الحكم الذي يرى أن أقصى مدة الحمل سنة واحدة. أما الأحناف فيرون أن أكثر مدة الحمل سنتان. وقال الليث بن سعد: ثلاث سنين. أما مذهب الشافعية، والحنابلة، وأشهر القولين عند المالكية فأربع سنين. وفي رواية عن الإمام مالك خمس سنين. وفي رواية عن الزهري، ومالك ست سنين. وفي رواية أخرى عن الزهري ومالك سبع سنين وبه قال ربيعة الرأي.
وذهب أبو عبيد والشوكاني إلى القول بأنه لا حد لأكثر مدة الحمل. وتبعهم في هذا الرأي من المعاصرين كل من الشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: أما أكثر أمد الحمل فلم يرد في تحديده شيء من كتاب ولا سنة، والعلماء مختلفون فيه، وكلهم يقول بحسب ما ظهر له من أحوال النساء. فذهب الإمام أحمد والشافعي إلى أن أقصى أمد الحمل أربع سنين، وهو إحدى الروايتين المشهورتين عن مالك، والرواية المشهورة الأخرى عن مالك خمس سنين. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن أقصاه سنتان، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الثوري، وبه قالت عائشة رضي الله عنها وعن الليث: ثلاث سنين. وعن الزهري: ست وسبع. وعن محمد بن الحكم سنة لا أكثر. وعن داود تسعة أشهر.
وقال ابن عبد البر: هذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء. وقال القرطبي: روى الدار قطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين وكانت تسمى حاملة الفيل.
ويمكن تقصي هذه الأقوال وأدلتها في: "المحلى" لابن حزم ( 10 / 316 )، " المُغني " لابن قُدامة المقدسي (9 / 116 )، " أضواء البيان " ( 2 / 227).
والروايات التي استندوا إليها في البرهنة على أقوالهم في تحديد أكثر مدة الحمل أقرب إلى قصص الخيال، وأبعد ما تكون عن الواقع، مثال ذلك القصة المروية عن امرأة محمد بن عجلان التي سميت بحاملة الفيل، كونها تحمل وتضع حملها كل أربع سنوات!!! والأجدر بنا القفز عن هذه القصص وتجاوزها، لأنها مجرد قصص تناقلها الناس ولا تثبت شيئاً، وليس لها أي مستند علمي أو طبي أو واقعي. ويعلل الفقهاء رأيهم في إمكانية استمرار الحمل لمدة أربع سنوات أو سبع سنوات أو عشرين سنة، بما يطلقون عليه نظرية الحمل الراكد أو المستكين، وبموجب هذه النظرية يفترضون أنه قد يحدث أمرٌ ما للمرأة يؤدي لتوقف الحمل (الجنين) عن النمو ويركد حملها أو يستكين لفترة قد تطول أو تقصر، ثم فجأة تعود الأمور لطبيعتها ويتواصل نمو الجنين من جديد!!!! ويمكن الاستماع للشيخ ناصر الدين الألباني وهو يشرح نظرية الحمل الراقد (المستكن) في هذا الرابط[1]
ومهما قال الشيخ الألباني، والذين سبقوه، فلا يمكن أن يكون قولهم معقولاً، ولا علمياً، ولا عملياً، ولا يمكن أن نبني عليه أحكاماً. وأي حكمٍ ينبني على الآراء التي تصرح بإمكانية استمرار الحمل لسنوات فهي أحكامٌ ظاهرة البطلان وتتناقض مع أحكام الإسلام، ولا تحتاج المسألة إلا قليلاً من التدبر للتأكد من بطلانها.
فلو أخذنا الآيات التي تتحدث عن فترة العدة للمرأة المطلقة، أو المرأة التي انقطع حيضها أو لم تحض أصلاً:
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ).
(وَالَّلائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَالَّلائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
أليس في هذه الآيات إبطالٌ لنظرية الحمل المستكين أو الراكد التي استندوا إليها في تسويغ قصص الخرافة عن مدد الحمل الطويلة، والتي بموجبها جعلوا مدة الحمل تمتد لسنوات؟ فنحن حسب الآيات نستطيع التيقن من وجود الحمل أو عدمه بعد مرور ثلاثة أشهر. وينبني على هذا اليقين أحكام، مثل إباحة الزواج للمرأة التي انقضى على طلاقها ثلاثة شهور.
وهم يقولون إن الحكمة من تشريع العدة هي التأكد من براءة الرحم من الحمل، حتى لا تختلط الأنساب. فلو كان احتمال الحمل المستكين قائما لغدا تشريع مدة العدة باطلاً، وبما أن تشريع العدة تشريعٌ قرآني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كان لا بد وأن يكون هذا التشريع حقاً، وأن تكون نظرية الحمل المستكين نظرية باطلة، وكان لا بد أن تكون أية محاولة للتمسك بهذه النظرية محاولة ظاهرة في إعلاء وتقديم كلام البشر على كلام الله.
لنتخيل سوياً امرأة انقضى على طلاقها سنتان أو ثلاثة، ثم تزوجت من رجلٍ آخر، وبعد سنتين من عمر الزواج الثاني وضعت مولوداً.
بناء على النص القرآني الذي جعل عدة المطلقة ثلاثة شهور للتأكد من براءة الرحم، نكون متيقنين من نسبة المولود للزوج الثاني. وبناء على نظرية الحمل المستكين فإن احتمال أن يكون المولود من الزوج الأول يظل قائماً بنفس درجة احتمال أن يكون من الزوج الثاني. وعنادٌ وتعصبٌ أن نتجاوز آيات الله المبينات ونقدم عليها أقوال البشر وتخرصاتهم التي عبروا عنها بنظرية الحمل المستكين.
علماً أن القصص التي يسوقونها للتدليل على نظرية الحمل المستكين، مثل قصة حاملة الفيل تتحدث – خلافاً للنظرية نفسها- عن مواليد وضعتهم أمهاتهم غلماناً، فالنساء في هذه القصص يلدن أطفالاً بأحجامٍ وأشكالٍ غير معهودة، قصصٌ واضح فيها أن الجنين لم يكن مستكيناً وإنما كان في حالة نموٍ دائمٍ، أي أن القصص التي أخذوا منها نظرية الحمل المستكين تناقض النظرية نفسها وتنقضها. وينقل لنا الشنقيطي بعضاً من هذه الروايات:
روي أنه بينما مالك بن دينار يوماً جالسٌ، إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى، ادع لامرأتي، حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد. فغضب مالك وأطبق المصحف، ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء. ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاماً، فإنك تمحو وتثبت وعندك أم الكتاب. ورفع مالك يده ورفع الناس أيديهم. وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت سراره.
وروي أيضاً أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إني غبت عن امرأتي سنتين، فجئت وهي حبلى. فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتى تضع، فتركها فوضعت غلاماً قد خرجت ثنيتاه، فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة. فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر .
وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتان وقيل ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطراباً شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه. وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرماً لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين وقد طلعت سنه فسمي ضحاكاً. وعن عباد بن العوام قال: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاماً شعره إلى منكبيه فمر به طير فقال له كش. انتهى النقل عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن 2/227
استناداً لهذه القصص والروايات وأمثالها قال من قال إنه لا حد لأكثر أمد الحمل. لأن كل تحديد بزمن معين لا أصل له ولا دليل عليه حسب زعمهم. والاستنتاج منطقي فما دام المستند هذه القصص التي تناقلها الرواة والقصاصون فليس فيها ما يفيد تحديد أمد لأكثر مدة الحمل، لأنها مجرد روايات وليست دراسات علمية ولا حتى تحقيق مناط، وقبل ذلك ليست نصوصاً دينية منسوبةً للوحي، فلا هي قرآن ولا هي رواية حديث. فما الذي يُلزمنا باعتماد رأيٍ وحفظه والاستمرار في ترديده جيلا بعد جيل؟ السبب بكل بساطة أننا دوماً نسعى وراء ما أسميناه رواية الثقات، والعقل يقضي بالسعي وراء الرواية الموثقة لا رواية الثقات، خاصةً حين تكون رواية الثقة مستحيلة التوثيق. فما قيمة رواية الثقة إذا لم يكن لها مؤيد من القرآن؟ وما قيمة رواية الثقة إذا لم يكن لها سند من الواقع؟ وما قيمة رواية الثقة التي تناقض العقل ونتائج الأبحاث العلمية؟ لقد أهلكنا الوقت في الجري وراء رواية الثقات فغابت عنا حقائق القرآن، وزاغت أعيننا عن ملاحظة الوقائع، وعميت بصائرنا عن مدارك العقول، ولم نجهد أنفسنا في تتبع نتائج الأبحاث العلمية.
ويسهل علينا ملاحظة غياب العقل في تحديد أقصى أمد لمدة الحمل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كل من خاضوا في المسألة مجمعون على قبول برهان علي بن أبي طالب في موضوع أقل مدة الحمل، كلهم تبعوا علياً في الأخذ بقول الله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) الذي ينطق صراحة بأن مدة الحمل والرضاعة لا تزيد عن ثلاثين شهراً ، وبما أن الفصال محدد بعامين وفقاً لقوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) فإن أقل مدة الحمل ستة شهور.
الآن لو وضعنا أي رقم مكان الرقم 30 فلن تكون أقل مدة الحمل ستة شهور أي لو جاءت الآية على النحو التالي: (وحمله وفصاله واحد وثلاثون شهراً) فإننا بربطها بالآية الأخرى (وفصاله في عامين) سنصل لنتيجة أن أقل مدة الحمل هي سبعة أشهر، أي كلما تبدل الرقم 30 تتبدل مدة أقل الحمل. وبما أن الرقم 30 ثابت فإن أقل مدة الحمل حسب كتاب الله هي ستة شهور والذين يقولون بأن أقل مدة للحمل يمكن أن تكون أربعة أشهر -على سبيل المثال- إنما يبطلون الاستدلال الذي قال به علي وتبعه المسلمون من بعده ويهدمونه من أساسه.
والذين يقولون إن الحمل يمكن أن يستمر لمدة سنتين (24 شهراً)، فهذا يعني أن فترة الرضاع ستكون ستة أشهر استناداً لقوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا). وهذا ما يناقض قوله تعالى: (وَفِصالُهُ فِي عَامَينِ). فمدة الرضاعة حسب كتاب الله 24 شهراً.
وكيف نجمع بين القول بإمكانية استمرار الحمل لمدة أربع سنوات (48 شهراً) -على سبيل المثال- وقوله تعالى: (وَفِصالُهُ فِي عَامَينِ) دون أن ننقض قولنا الثابت بأن أقل مدة الحمل ستة شهور؟؟ ذلك أننا حين أخذنا بالآيات معاً: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)، (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ). توصلنا بما لا خلاف عليه أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور، ولكن عند قبولنا إمكانية استمرار الحمل لمدة أربع سنوات فإن الحمل والرضاع سيكونان 48+24 = 72 شهراً خلافاَ لقوله تعالى بأن مدتهما 30 شهراً، أي أن الحمل والرضاع سوف يتعدى ما فرضه الله في كتابه وهو 30 شهراً
(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)، فبدليل هذه الآية يُفترض ألا يزيد الحمل والرضاع عن الثلاثين شهراً، وأنه لو زاد يكون خلافاً لما جاء في كتاب الله صراحة، ويُبطل استنباط علي -رضي الله تعالى عنه- وهو ما وافقوه جميعهم عليه. فهم بهذا الإجماع –مع اختلاف الأقوال- الذي يقبلون فيه أن تزيد مدة الحمل عما هو معهود عند كل البشر ويحصل واقعياً وتقره نتائج الأبحاث العلمية، يضعون أنفسهم بين خيارين: فإما أن يخالفوا كتاب الله ويرجعوا عن موافقتهم لعلي، وإما أن يكونوا جميعهم مخطئون في جعل أقصى أمد للحمل يزيد عن سنة ويصل إلى سنتين أو ثلاثة أو أربعة وما شابه ذلك من الأقوال. لأننا أمام إجماعين متناقضين، إجماع على أن الحمل والفصال في حدهما الأعلى ثلاثون شهراً وإجماع على أن الحمل والفصال يمكن أن يزيد عن ثلاثين شهراً إذا أخذنا بأقوالهم في أكثر مدة الحمل.
رابط الكتاب:
https://drive.google.com/file/d/1WvDej2mK-X9xUDnMcY4jMrppg9jW1fld/view
[1] تسجيل للشيخ الألباني على اليوتيوب بعنوان: ما مدة الحمل ؟ الالباني
https://youtu.be/7OZTeTdaozA