غريب القرآن الكريم ليس بغريب

إنضم
14/05/2012
المشاركات
1,111
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الأردن
بتدبر معاني القرآن الكريم يظهر العالم المثابر الباحث، ويتحقق تفضيل الذين أوتو العلم، وفيه شحذ البصيرة على أسس وقواعد، تكون تمريناً له على القيام بالبحث والاستقصاء والاستنباط، وإعداده للقيام بواجب عمارة الأرض، ورحمة للناس بإظهار أهل العلم من أدعيائه.
" فلو كان القرآن كله محكماً لا يحتاج إلى تأويل، لسقطت المحنة وبطل التفاضل، واستوت منازل الخلق ". [1]
وأجاب القرطبي عن سؤال: كيف لم يجعل الله تعالى كل القرآن واضحاً ؟
" قيل له: الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن يظهر فضل العلماء، لانه لو كان كله واضحاً لم يظهر فضل بعضهم على بعض. وهكذا يفعل من يصنف تصنيفاً يجعل بعضه واضحاً وبعضه مشكلاً، ويترك للجثوة موضعاً؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه ". [2]
وتنبغي الإشارة هنا أنه لا يوجد في القرآن الكريم أسرار لاهوتية ككثير من الأديان، " وليس من شيء ذكره الله تعالى، إلا ومعناه معروف وإليه سبيل. وإنْ جَهِلهُ.. مَن لا إغراق له في البحث والتأمل ". [3]
كما أنه لا يوجد في القرآن الكريم عبارات مشكِلة، لا يمكن تفسيرها بحال، قال النورسي: " تأمَّل في الآيات التي زعموها مشكلة ! تجد اختلافاً بينهم في عددها، وقضية إشكالها. فكل إشكال هو في فهم صاحبه؛ لقلة علمه، وضعف وسيلته. وإن القرآن بريء من إغلاق اللفظ، وتعقيد العبارة ". [4]
بل من إعجاز القرآن الكريم، ودليل ربانية مصدره أنَّ: " القرآن لا يبلغه عقلٌ، ولا يقصر عنه فهم ". [5]

مقارنة مع غريب كلام العرب والكتاب المقدس لليهود والنصارى:

إن كان ما في القرآن الكريم من غريب لبعض الناس، فإنه لا يقارن بالغريب الوحشي المبثوث في شعر عرب الجاهلية ونثرها، بل وحتى أسماء ملبوساتها ومطعوماتها.. تأمل مثلاً أسماء المطعومات التالية:
" - السخينة: تتخذ من الدقيق، دون العصيدة في الرقة، وفوفق الحساء..
- الحريقة: أن يذر الدقيق على ماء ـ أو لبن حليب ـ فيحسى وهي أغلظ من السخينة..
- الصحيرة: اللبن يغلى ثم يذر عليه الدقيق.
- العذيرة: دقيق يحلب عليه لبن ثم يحمى بالرضف.
- العكيسة: لبن تصب عليه الإهالة ـ وهي الشحم المذاب ـ.
- الفريقة: حلبة تضم إلى اللبن والتمر وتقدم إلى المريض والنفساء.
- الرغيدة: اللبن الحليب يغلى، ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق.
- الآصية: دقيق يعجن بلبن وتمر.
- الرهية: بُر يطحن بين حجرين، ويصب عليه لبن..
- اللويقة: ما لُين من طعام.
- الخزيرة: شحمة تذاب ويصب عليها ماء ثم يطرح عليه دقيق فيلبك به..
- الرغيغة: حسو من دقيق وماء، وليست في رقة السخينة.
- الربيكة: طعام يتخذ من بر وتمر وسمن..
- التلبينة: حساء يتخذ من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل ". [6]
فلو خيرك صديقك ( أو صاحب مطعم ) بكل الأنواع السابقة من المطعومات، فهل كنت ستعرف أياً منها بمجرد ذكر اسمها ؟! مع التنبيه إلى أن هذا لا يُعَد طعناً في اللغة، بل دليل ثرائها وغِناها.

أما الغريب في الكتاب المقدس لليهود والنصارى، فبيان معناه وتوضيحه غير قائم على أسس علمية منهجية، إنما هو التحزير والتخمين.
مثال ذلك، جاء في سفر الأمثال [30/29-30]: " " ثلاثة هي حسنةُ التخطِّي وأربعةٌ مشيها مستحسن، الأسد جبَّارُ الوحوشِ ولا يرجع من قدام أحدٍ، ضامر الشاكِلةِ والتَّيسُ والمَلِكُ الذي لا يُقاوَمُ ".
جاء في دائرة المعارف الكتابية (4/537): " وضامر الشاكلة معناها: ضامر الخاصرتين، ولا يُعلم بالضبط المقصود بها. والكلمة في العبرية هي (زرزير: זַרְזִיר מָתְנַיִם) وهي قريبة من الكلمة العربية "زرزور"، مما دعا البعض إلى الظن أن المقصود بها: طائر الزرزور. بينما تُرجمت في بعض الترجمات الإنجليزية إلى: "الكلب السلوقي" وهو أحد أنواع كلاب الصيد. ويظن آخرون أنه الجواد الخارج إلى الحرب. ويظن غيرهم أنه المصارع المتمنطق للقتال. وفي الترجمة العربية الموحَّدة، وفي بعض الترجمات الإنجليزية الأخرى يُترجم إلى: "ديك" ".
لكن في نسخة العهد القديم المطبوع مع التفسير التطبيقي: هو الطاووس المختال، أما التفسير (لا شيء!).
وهنالك جملة في سفر أشعيا [64/5] لم يعرف أحد لها معنى: " تلاقي الفرح الصانع البر الذين يذكرونك في طرقك ها أنت سخطت إذ أخطأنا هي إلى الأبد فنخلص ".
ومن الغريب الذي لا يمكن معرفته، تلك النجوم التي وضعوها كأنهم يقولون: " أكمل الجملة بالعبارة المناسبة".
مثلاً ما ورد في سفر حزقيال [23/43]: " فقلت عن البالية في الزنا الآن يزنون زنى معها وهي * * * * ". وُضعت نجوم محل الكلمة الناقصة !! أين ذهب بقية كلام الرب ؟
وفي المزامير [137/ 5]: " إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني* * * * ".
ومن عجيب سفر الملوك الثاني [10/2]، أن النجوم كانت في بداية الفقرة !!: " * * * * فالآن عند وصول هذه الرسالة إليكم إذ عندكم بنو سيدكم وعندكم مركبات وخيل ومدينة محصنة وسلاح ".
(وانظر: الملوك الثاني 5/6، والأخبار الأول 4/17، وصموئيل الأول 12/14، وصموئيل الثاني 5/8، وعزرا 1/3، وزكريا 6/15).

ولا يجوز السؤال عنها، فقد قال بولس في رسالته إلى فيليبي [2/14]: " افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة "، فللكنيسة أسرارها اللاهوتية !!
ومثال ذلك الركن الأساس في العقيدة النصرانية: التثليث.
- قال القس (توفيق جيد) في كتابه: (سر الأزل): " إن الثالوث سر يصعب فهمه وإدراكه، وإن كل من يحاول إدراك سر الثالوث تمام الإدراك كمن يحاول وضع ماء المحيط في كفه ".
- وقال (باسيليوس إسحاق) في كتابه: (الحق): " هذا التعليم عن التثليث فوق إدراكنا ".


----------------------------------

1) البرهان في علوم القرآن، الزركشي2 /86.
2 الجامع لأحكام القرآن2/394. والجُثوة: جماعة الناس. انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير1 /680.
3) الانتصار للقرآن، الباقلاني 2 /786.
4) إشارات الإعجاز، النورسي، ص 175.
5) البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي 7 /46 (143). نقلاً عن: الفضل بن سهل. ومثله ما نسبه البهاء العاملي إلى جعفر الصادق في الكشكول، ص388 فقال: " القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق ".
6) فقه اللغة، الثعالبي، ص977. (في تفصيل أطعمة العرب).
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عوداً حميداً أخي الأستاذ الفاضل، الباحث المحترم د. عبدالرحيم الشريف ؛ جزاك الله خيرا على هذا الموضوع الرائع الذي يتناول إحدى أشهر الشبهات: إذا كان القرآن بلسان عربي مبين، فلماذا هو بحاجة إلى تفسير، وتضمين المتشابه؟ أظن أن هذا التساؤل يشبه إلى حد بعيد استفسار المشركين لماذا أرسل الله بشرا رسولا ولم يرسل لهم ملكا من الملائكة، وعليه أظن أن القرآن لا يحتوي على الغريب او المتشابه في ذاته بل المتشابه او الغريب لغيره وهو المتلقي المستهدف من العالمين لان هذا ما يدل عليه التفاوت المشار إليه، وهو في الفهم. ومن ناحية أخرى أرى أن هذا التساؤل صيغ بشكل المصادرة على المطلوب وهو إفتراض التعارض بين البينة والشبهة، وهنا نسأل لماذا لا يكون المتشابه كالمحكم؟ ثم هناك سؤال آخر يتبادر إلى الذهن عند إحداث المقارنة بين كلام الله وكلمة أو خلق الله، بين الكتاب والكون، بين ما يتطلب التدبر وما يتطلب التفكر، بين ما يقرأ وبين ما ينظر إليه: هل ظاهرة من الظواهر الكونية غير واضحة لاننا لم يكشف لنا السر وراءها ولا نعرف العلة؟ المشكلة في إدعاء مكانة خاصة في التعاطي مع هذه الظاهرة، كتوريث علم التنجيم والتنبؤ مثلا، أما عندما يكون الطريق مفتوحا لاكتساب المعرفة، فإن هذا هو المطلوب وهو إعمال الجهد. وفي الدين تكون المشكلة في تحويل البيان أو البلاغ إلى رموز لا يمكن تفكيكها إلا بامتلاك مفاتيح كهنوتية ورهبانية.

[تمت المشاركة باستخدام تطبيق ملتقى أهل التفسير]
 
كان إعمال العلماء المسلمين عقلهم لبيان المقصود بالمتشابه في القرآن الكريم العامل الأساس في تكوين الملَكَة العلمية النقدية عندهم. مما جعل العرب ينتقلون من عقلية التقليد لما عليه الآباء دون فكر وروية، إلى إعمال العقل والفكر في أشرف مقدساتهم. فإن كان من المباح للعقل البحث في القرآن الكريم ـ بضوابط ـ، فإن البحث والنقد لغيره أولى. ولكنهم لما فترت همتهم عن التدبر والتفكير في معاني القرآن الكريم، وركنوا إلى الجمود، وارتاحوا إلى جهد غيرهم من علماء التفسير، كانوا لغيره من العلوم الدنيوية أفتر همة، وأشد كسلاً.. ومن ثم تخلفوا عن رَكبِ المدنية والتقدم التقني.
يريد القرآن الكريم من المسلمين أن يعتادوا البحث والتحري، لا الركون إلى الحصول على المعلومات جاهزة.
هذا المطلوب من المسلمين، تعبُّد الله تعالى بتدبر القرآن الكريم، كما يتعبدون بتلاوته. فيجمع المسلم بين إتقان الرواية، وتذوق بديع الدراية.
" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " [محمد: 24].

قال رجلٌ لإبراهيمَ النَّخعيّ: إني أَختِمُ القران كل ثلاث.
قال: ليتك تَخْتِمه كلَّ ثلاثين وتَدْري أيَّ شيء تقرأ.

ولله در القائل:
تَعَلَّمْ وَكُنْ وَاعِيَاً لِلْعُلُوْمِ
وَمَا قَدْ نَبَا عِلْمُهُ عَنْكَ سَـلْ

فَإنَّ السُّؤَالَ شِفَاءُ العِيِّ
وَكَمْ حِيْرَةٍ نَتَجَتْ عَنْ كَسَلْ
 
لا وجود في القرآن لكلمة واحدة من الغريب ـ الوحشي غير المأنوس ـ حقاً.
فالغريب ـ الذى يعد عيباً في الكلام، وإذا وجد فيه سلب عنه الفصاحـة والبلاغـة ـ هو ما ليس له معنى يفـهم منـه على جهة الاحتمال أو القطع، وما ليس له وجود في المعاجم اللغوية ولا أصل في جذورها. والغريب بهذا المعنى ليس له وجود في القرآن الكريم.
وما يراه بعض الناس غريباً، ما هو في حقيقته إلا غريب نسبي ـ أي بالنسبة لعامة الناس ـ، ولكن بعد التعلم والدراسة يظهر الحق. ولن يخلو عصر من العصور من علماء يبينون للناس ما أشكل عليهم.
لذا فالكتب التي بعنوان " غريب القرآن " فالمقصود بها الغريب النسبي، أي: إنها من الغريب عند بعض الناس وإن كان غيرهم يعرفها. ويجوز أن يكون بعضها مما تفرد به القرآن الكريم وتميز به من لطائف بيانية، فكان اللفظ غريباً من هذا الوجه؛ وإلا لما تميز كلام الله تعالى عن كلام الناس، ولما تحقق الإعجاز.
قال الرافعي في كتابه إعجاز القرآن: " في القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب، وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن الكريم منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة هاهنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس ".
 
عودة
أعلى