عن التجديد الديني المزعوم..و ادعيائه

إنضم
22/02/2006
المشاركات
65
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
أدعياء التجديد الديني
منقول من جريدة العرب القطرية

أحمد خيري العمري *

عندما تقرأ لبعض أدعياء التجديد الديني فإنك تشعر بحنين جارف للشيخ التقليدي بسحنته الغاضبة والمتجهمة وصراخه العالي على المنبر حتى لو كنت تضيق ذرعا به..
يحدث هذا على الأقل معي، إني أشعر بالتعاطف مع التقليديين والتقليديين جدا رغم كثرة مؤاخذتي على ما يطرحونه عندما أقارنه بما يطرحه أدعياء التجديد هؤلاء، وإذا كان هذا يحدث معي، فإنه ولابد يحدث ومن باب أولى مع من لا يمتلك موقفا سلبيا من المؤسسة الدينية التقليدية، وهذا هو المنجز الأهم لمدعي التجديد وأدعيائه حتى الآن، لقد نجحوا نجاحا باهرا في شيء واحد على الأقل حتى الآن: في زيادة رصيد أعداء التجديد من التقليديين وإعطائهم مزيدا من دعم الجماهير لهم ولطروحاتهم.
ولست واثقا من أن هذا سيهم أدعياء التجديد، فقد حصلوا في خضم ذلك -بعضهم على الأقل- على الشهرة.. وبعضهم حصل على الشهرة والمال معها، وبعضهم حصل على سفرات غامضة إلى جامعات غربية هنا وهناك، وحاضر عن (إسلام آخر) غير الذي نعرفه وغير الذي يعرفه الغربيون أيضا، لكنه إسلام يتوافق مع ما يريد الغربيون أن يسمعوه، ويصب هذا كله في صالح «نظرية المؤامرة» العتيدة التي يرد بها التقليديون أصلا على كل من يجرؤ على مخالفتهم، وبشكل آلي.
وفي أسوأ الأحوال وحتى إن لم يحصل هؤلاء على شيء من هذا كله فإن بإمكانهم التباكي على كونهم قد سبقوا زمانهم، وبأن الواحد منهم يعد «فولتير العرب» الذي تحاربه «كنيسة» المسلمين كما تصرح بالفعل «كويتبة» لم يصدر لها كتاب واحد حتى الآن!!
والنتيجة النهائية لكل هذا ومحصلته أن الجمهور الذي ربما لديه ملاحظات وانتقادات -خافتة وسرية ولكنها موجودة- ضد مشايخه ووعاظه التقليديين سيفضل حتما المشايخ على هؤلاء، لقد أَلِف مشايخه وأسلوبهم وعرف خيرهم من شرهم، نشأ وكبر على مواعظهم وصراخهم وتناقضاتهم وبكائهم، وهو يعرف أين سيذهب معهم (إلى لا مكان طبعا)، لكن مع هؤلاء الذين يلقبون بالتجديديين فالأمر يبدو أسوأ، إذ إنهم يقودونه إلى مكان مجهول، مكان قد يكون أسوأ مما هو فيه، بعبارة أخرى قد يتصور أنهم سيخرجونه من دينه.
لا يحمل هؤلاء التجديديون سمت رجل الدين التقليدي الذي يفرض الاحترام والهيبة على العامة، وهذا ليس سيئا جدا في حد ذاته، إلا أن الأمر أسوأ بكثير عندما يرى المتلقي العادي أن كل ما أنتجوه من تجديد لا يخرج عن كونه قراءة للنص تنتج إلغاء للنص، هذا كل شيء!
في كل موضوع خاض فيه هؤلاء التجديديون -وكلها مواضيع حساسة- قاموا بإلغاء النص وتعطيل الحكم الوارد فيه بحجة تاريخية النص التي صارت معها النصوص الدينية بمثابة «شواهد تاريخية» خلف واجهة زجاجية (فترينة) نتفرج عليها من خلال الزجاج ونقول: كان زمان..
تاريخية النص هذه شملت أمورا متعددة، من لباس المرأة إلى المواريث مرورا بالجهاد وبأحكام الزواج وغيره.. وهكذا لم يبق «شيء على شيء» مما ألفناه وتعودنا عليه، فلباس المرأة المسلمة اختزل إلى تغطية الرقبة عند البعض، وتغطية الصدر عند البعض الآخر، وتغطية ما هو أقل من ذلك عند بعض آخر.
الزواج ذلك الميثاق الغليظ لم يعد ميثاقا ولا غليظا، بل صار من الممكن له أن يكون تجريبيا في مرحلة ما، ولا يشترط إلا شيئين: أن يعرف به الأهل، أهل البنت طبعا، أما أهل الشاب فلا داعي لذلك على ما يبدو، الشرط الثاني أن تكون البنت على دراية بوسائل منع الحمل.. انتهى!
أما أحكام الإرث طبعا ومن باب أولى فاقرأ عليها الفاتحة بضمير حاول أن يكون مرتاحا ومعه كل ما يتعلق بالمرأة من أحكام كالعدة مثلا، فلم يعد لها داع ما دامت الأجهزة الطبية قد تطورت وصار بإمكاننا معرفة وجود جنين منذ أسبوعه الأول، ولذلك تستطيع الأرملة أن تكون طروبا منذ اليوم الأول لترملها، والبركة في تقنيات الموجات فوق الصوتية والقراءة التاريخية للنصوص.
تعتمد آلية القراءة (الإلغائية) هذه بعد تجريدها من تفاصيل متشعبة على انتقائية واضحة في التعامل مع النصوص، فهناك نصوص تنتقى بوضوح لكي تصير نصوصا مطلقة لكل زمان ومكان لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ونصوص أخرى تنتقى لكي تصير «تاريخية» زاعمين انتهاء صلاحيتها وكونها محصورة بزمان ومكان..
الطريف أن آلية الانتقاء هذه التي تجعل نصا ما مطلقا وآخر تاريخيا لا تعتمد على شروط علمية واضحة -أو حتى غير واضحة- إلا بقدر ما ينسجم هذا النص مع طروحات معينة يود أدعياء التجديد الوصول إليها بكل وسيلة، وهكذا يمكن أن يكون النص المنتقى نصا مطلقا ولو كان حديث آحاد، والنص المنتقى يصير تاريخا «فات ومات» وإن كان نصا قرآنيا واضح الدلالة والاستدلال. ومن الأمثلة المفضلة لدى هؤلاء على النص الذي يتحول مع قراءتهم ليصير مطلقا وصالحا لكل زمان ومكان حديث «أنتم أعلم بأمر دنياكم» وهو حديث آحاد مرتبط بواقعة شديدة الخصوص هي واقعة تأبير النخل، ويمكن قراءتها في الوقت نفسه على أنها دعوة للتجريب في التقنيات وليس لإلغاء النصوص، ويتعامل مدعو التجديد مع حديث الآحاد هذا ليلغوا نصوصا قرآنية بتفاصيل واضحة بدعوى أنها «تتدخل في أمور الدنيا»، وبما أن الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- قال في حديث آحاد وواقعة مخصصة بأننا أعلم بأمور دنيانا، إذاً لابد لنا أن نلغي الحكم الوارد في القرآن لأنه مجرد نص تاريخي وذلك امتثالا لأمره عليه الصلاة والسلام!! ولأن القراءة التاريخية عندما تبدأ فإنها لا تنتهي باعتبار أن النص القرآني نزل فعلا في مرحلة تاريخية ما، وقسر «تاريخية النص» هذه على قراءته سيكون بمثابة «مفرمة» لا تبقي ولا تذر من الأحكام القرآنية ومن فاعليتها.. وهكذا فإن كل ما يتعلق بالمرأة في القرآن الكريم مرتبط ولابد -حسب نظر هؤلاء- بسياق تاريخي كان المجتمع فيه يعج بالرق وبملك اليمين -ابحثوا عن الربط- وبما أن الرق قد انتهى والحمد لله، فإن أحكام النساء قد انتهت أيضا، والمزيد من الحمد لمستحق الحمد!! سنسألهم جادين لكن غير مصدقين: إن كانت أحكام المرأة قد انتهت بانتهاء مرحلة العبودية التاريخية، ألا يجري ذلك -من باب أولى وبربط أشد وضوحا- في العبودية باعتبارها العلاقة الإسلامية بين الإنسان وخالقه؟ سيقولون نعم بالتأكيد! العبودية انتهت كعلاقة أيضا، صارت الآن «العبادية»، وسيقولونها بمنتهى الجدية..!
هكذا، مع أدعياء التجديد هؤلاء لا خط أحمر من أي نوع لا عقائدي ولا فقهي ولا نص قرآني ولا حديث متواتر، وهو الأمر الذي يجعل الناس عموما يسيؤون الظن بالتجديد برمته، وعندما لا يكون هناك خطوط حمراء فيما تقول: إنه تجديد، ويكون تجديدا بلا ضابط ولا رابط فإنك تضع خطا أحمر وعلامة (X) عليك وعلى كل نتاجك، في الوقت نفسه فإن الشيخ التقليدي سيكون أكثر انسجاما مع طروحاته ومع مجتمعه.. وستزيد مصداقيته بالمقارنة مع تهريج يلقب بالتجديد كهذا، وسيواجه أي تجديد «حقيقي» بنفس سوء الظن من باب التعميم المعتاد،
ومن أجل ذلك قلت: إنك قد تشعر بالحنين إلى الشيخ التقليدي عندما تقرأ ما ينتجه هؤلاء، بل إنك قد تشعر بالحنين ليس إلى الشيخ التقليدي فحسب، بل إلى مُلا الكتاتيب القديمة الذي كان يقوم بتحفيظ القرآن بواسطة الفلقة.. بالذات ستشتاق إلى الفلقة وإلى استعمالها مع أولئك المجددين الجدد!
*كاتب عراقي مقيم قي سوريا

23/11/2007
 
قال الأستاذ العمري أعلاه: "حدث هذا على الأقل معي، إني أشعر بالتعاطف مع التقليديين والتقليديين جدا رغم كثرة مؤاخذتي على ما يطرحونه"

...

تفسير القرآن بين عصر الحضارة وعصر الانهيار
“التساؤل الإبراهيمي نموذجاً”


د.أحمد خيري العمري
نوفمبر 2012
د.أحمد خيري العمري » تفسير القرآن بين عصر الحضارة وعصر الانهيار “التساؤل الإبراهيمي نموذجاً”


على الرغم من إيماننا المطلق بتعالي النص القرآني عن تغيرات الزمان والمكان، إلا أننا نؤمن ولا بد، بأن بشرية القراءة لهذا النص (أو التفسير) ليست منزهة عن تغيرات الزمان والمكان، وأن التفاعل الإنساني مع هذا النص محكوم بشروط تحدد نتائجه وتتحكم بمنطلقاته ومعطياته.. وهي شروط مرتبطة ببوتقة التفاعل وبيئته العامة.. وليس المقصود هنا ببوتقة التفاعل وبيئته تفاصيله الصغيرة، بل الاتجاه المجتمعي العام الذي يتحكم بآليات التفكير واتجاهاته، وبالتالي يتحكم بالتفاعل مع هذا النص.. وبطريقة قراءته.. وهكذا فإن النص القرآني نفسه قد يفسر، في مرحلة معينة ما، مرحلة نهضة وازدهار ونمو حضاري واجتماعي، فإذا بالقراءة الناتجة تتسق مع ما في هذه المرحلة من نهضة ونمو وعقلانية قرآنية، وقد يفسر النص نفسه في مرحلة لاحقة، مرحلة انحدار وجمود وصولاً إلى انحطاط على كافة المستويات، فينتج قراءة تعكس الواقع المتردي الجامد، قراءة قد تصل إلى رفض القراءة الأولى باعتبارها تهمة لا بد أن ترد، وقد تصل إلى الخرافة الممجوجة في بعض الأحيان.. ليس أدلَّ من هذا وجود نص واحد، وقراءات مختلفة بحسب طبيعة المحيط الثقافي، من الآيات الكريمة التي تتحدث عن التجربة الإبراهيمية، أولاً في سورة الأنعام: {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (*) فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ (*) فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذا رَبِّي هَذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (*) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 6/76-79] وثانياً في سورة البقرة: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 2/260]..

يمكن تمييز خطين تفسيريين في القراءة لهذه الآيات:

التفسير الأول: يتمثل في قراءة أنتجت في عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ممثلة على الأقل في قراءة ابن إسحاق (المتوفى 151هـ) وابن جرير الطبري(المتوفى 224هـ)..

والتفسير الثاني: يتمثل في قراءة أنتجت في عصر تآكل الحضارة العربية الإسلامية وانهيارها ونشوء الدويلات المختلفة، وممثلة في (علماء أجلاء لهم كل الاحترام، لكن الاحترام لن يلغي حقيقة أن قراءاتهم أنتجت في عصر انهيار وتأثرت ولا بد بذلك) هذا الخط ممثلاً في (القرطبي المتوفى 671هـ)، وابن كثير (المتوفى 774هـ).. أي بعد حدوث ما حدث من قواصم للدولة العربية الإسلامية من الصليبيين والمغول وانهيار الدولة المركزية ونشوء الدويلات.. خمس أو ست قرون تفصل بين القراءتين، وهي قرون حدث فيها ما حدث وكان لا بد لذلك أن يؤثر على المناخ الثقافي الفكري الذي يتعامل مع النص..

فلنرَ كيف اختلفت القراءتان بشكل مباشر، خاصة وأن موضع الخلاف الأساسي كان في سورة الأنعام، هو هل كان إبراهيم في موضع (النظر)، أي البحث في الكون عن الإله الحق، أو كان في موضع (المناظرة) مع قومه، حيث كان يؤدي ما يؤديه كي يستدرجهم إلى الإيمان بالله عز وجل؟

التفسير الأول يحسم الأمر بشكل واضح باتجاه “النظر”، أي إن إبراهيم عليه السلام كان يبحث فعلاً عن الحق والحقيقة، وذلك قبل مرحلة النبوة والوحي.. ينقل ابن كثير عن ابن إسحاق (توفي 151هـ) اختياره النظر على المناظرة، بينما يستفيض الطبري في شرح ذلك.. حيث قال في تفسير: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}تفسيراً مسنداً لابن عباس جاء فيه: (فَعَبَدَهُ – الكوكب- حَتَّى غَابَ, فَلَمَّا غَابَ قَالَ: لَا أُحِبّ الْآفِلِينَ ; فَلَمَّا رَأَى الْقَمَر بَازِغًا قَالَ : هَذَا رَبِّي! فَعَبَدَهُ حَتَّى غَابَ ; فَلَمَّا غَابَ قَالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَن مِنْ الْقَوْم الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَة قَالَ: هَذَا رَبِّي, هَذَا أَكْبَر! فَعَبَدَهَا حَتَّى غَابَتْ; فَلَمَّا غَابَتْ قَالَ: يَا قَوْم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ) ورد على الأقوال التي تعارض ذلك بعد أن استعرضها قائلاً: (وَفِي خَبَر اللَّه تَعَالَى عَنْ قِيل إِبْرَاهِيم حِين أَفَلَ الْقَمَر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَن مِنْ الْقَوْم الضَّالِّينَ} الدَّلِيل عَلَى خَطَأ هَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي قَالَهَا هَؤُلَاءِ الْقَوْم، وَأَنَّ الصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ : الْإِقْرَار بِخَبَرِ اللَّه تَعَالَى الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ وَالْإِعْرَاض عَمَّا عَدَاهُ…)

التفسير الثاني: يحسم الأمر بشكل لا لبس فيه، نحو “المناظرة”، بل إنه يرد بشدة على التفسير الأول باعتبار أن النظر هنا تهمة يجب دفعها، وأنها تمس مقام النبوة.. حيث يستفيض ابن كثير والقرطبي في ذلك.. ويذكر ابن كثير: (والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام… وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} الآيات.. كيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين ناظراً في هذا المقام بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة السجية المستقيمة بعد رسول الله r بلا شك ولا ريب ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى..) أما القرطبي فينقل: قال قوم: هذا لا يصح؛ وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} [إبراهيم:35] وقال جل وعز: {إذ جاء ربه بقلب سليم} [الصافات:84] أي لم يشرك به قط.

ومن الواضح من خلال الخطين أن سؤال النظر والمناظرة كان موجوداً في المرحلتين. لكن الفرق أنه كان محسوماً تماماً باتجاه (النظر) في قراءة الخط الأول، وكان محسوماً بالعكس، في الاتجاه الآخر في قراءة الخط الثاني..

الاختلاف ذاته ينتج مرة أخرى في آية سورة البقرة: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]..

فقراءة الخط الأول، على الأقل الطبري، أنتجت تفسيراً تعامل مع النص القرآني دون محاولة للهروب إلى الأمام أو إلى الخلف، بل يقرر الطبري – بعقلانية وواقعية – بعد أن عرض لمجموعة من الأقوال، أن يقول بعد أن عرض مختلف الأقوال: (وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال بِتَأْوِيلِ الْآيَة مَا صَحَّ بِهِ الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه r أَنَّهُ قَالَ, وَهُوَ قَوْله: “نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيم, قَالَ: رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى , قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِن؟” وَأنْ تَكُون مَسْأَلَته رَبّه مَا سَأَلَهُ أَنْ يُرِيه مِنْ إحْيَاء الْمَوْتَى لِعَارِضٍ مِنْ الشَّيْطَان عَرَضَ فِي قَلْبه”.

أما قراءة الخط الثاني، فهي ترفض قراءة الطبري تماماً، وتعتبر أن هذا لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [الحجر: 15/42]، وقال اللعين: {إلا عبادك منهم المخلصين} وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم..

وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين.. القرطبي.. انتهى..

أما ابن كثير فمضى في تأويل حديث البخاري، الذي اعتمده الطبري: (فيه نفي للشك عنهما يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بألا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس)..

قد يتبادر إلى الذهن أن الأمر مجرد مسألة خلافية، وهي قد تكون كذلك فعلاً، لكن هناك مياه كثيرة مرت تحت الجسر خلال القرون الستة الفاصلة بين القراءتين، وهي المياه التي بررت هذا الاختلاف..

فبغداد، حاضرة الحضارة العباسية، التي أنتجت قراءة الطبري، كانت عاصمة النهضة والنماء، وكان التيار العقلاني فيها شديد الرسوخ والوضوح، لذلك فإن حسم (الطبري) هو نتيجة طبيعية لهذه البيئة، على العكس من القراءة الأخرى، التي نتجت في عصر أفول هذه الحضارة، والجمود على موجوداتها، فعكست هذا الأفول والجمود، وأبرزت الخوف الكامن في نمط التفكير من كل ما يتصور أنه يمس هذه الموجودات..

ولم يكن الطبري، أو ابن إسحاق، وهما الأقرب لعصر النبوة، أقل حرصاً على مقام النبوة، لكن مقام النبوة، عندما يكون المناخ نهضوياً ومرتفعاً، يكون مناخ الاقتداء بهذا المقام هو الأساس، والاقتداء يتطلب الإيمان بإنسانية هذا المقام في الدرجة الأولى، وهو اقتداء لن يخدشه أن إبراهيم بحث عن الحق قبل الوحي، بل سيعززه ويعزز مكانة العقل في الإسلام ككل، كما أنه مقام لن يخدشه حقيقة أن سيدنا إبراهيم كان إنساناً قد يكون وقع له ما يقع على البشر..

أمران مهمان يجب ألا ننساهما هنا:

الأول: سيكون من الخطأ وضع التراكم الفقهي والتفسيري كله في سلة واحدة، فما نتج في عصر النهضة الإسلامية الأولى مختلف تماماً عما نتج في عصور أخرى، خاصة إذا كان هذا النتاج الأخير مكرساً لما ترسخ في المجتمع من جمود وتقليد، لذا فإن الحديث عن “القطيعة” أو عن “التواصل” مع “التراث” لا ينبغي أن يكون بمعزل عن البيئة التي أنتجت هذا التراث، هل كانت بيئة النهضة والحضارة والنمو؟.. أو كانت بيئة النكوص والجمود؟..

الثاني: لا يعني هذا أبداً أن كل ما أنتج في قرون الجمود جامداً.. فهناك قراءة استطاعت أن تخرج من إطارها الحضاري وكانت تقصد النهضة والبناء، ابن تيمية وابن خلدون والعز بن عبد السلام والشاطبي، كلهم أمثلة على قراءات أنجزت في عصر لا يمكن اعتباره مقارباً لعصر النهضة الأولى، ولكنها كانت تنزع إلى غير ما هو سائد في المجتمع، ولذلك نرى أن هذه القراءات لم تكرس ولم ترسخ في أذهان عموم الناس.. لم تدخل في صلب ما هو “مؤسس” في أذهان الناس..

اللافت هنا أن السائد والمهيمن حتى الآن، والذي يجري تداوله، هو قراءة الخط الثاني، بحسم تام أحياناً، وحتى دون أن يذكر وجود تفسير آخر، وهو أمر لا يجب أن يكون مستغرباً.. فعصرنا الحالي بالتأكيد هو أقرب إلى القرن السابع الهجري، عصر الانهيار والدويلات، من عصر الطبري، عصر النهضة والبزوغ و الحضارة..
 
عودة
أعلى