بسم1
علي الطنطاوي و العام الجديد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وسلم تسليما كثيرا
هذه مقتطفات من كتاب صور و خواطر للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
وكتب هذا الفصل بعنوان ( عام جديد ) في أول محرم من عام 1386 هـ
تمضي السنة وتجيء أخرى بعدها فمن لم يعمل خيراً فيها عمله في التي تليها .
إن فاتك عمل الخير في النهار فعندك الليل (خِلْفَةٌ) منه فاعمل الخير فيه .
مواسم متتابعة
إن أضعت الموسم فلم تزرع فيه ، فازرع الذي يليه .
وإن رسبت في الامتحان في دورة حزيران ، فعندك دورة أيلول .
هي خِلْفَةٌ لك ما بقيت حياً ، ولكن هل تعلم كم تبقى حياً ؟
ينقضي العام فتظن أنك عشته ، وأنت في الحقيقة قد مِتّه ،
لا تعجبوا من هذا المقال ودعوني أوضح الفكرة بالمثال .
أنت كالموظف الذي منح إجازته السنوية شهراً كاملاً ،
إذا قضى فيها عشرة أيام يكون قد خسر منها عشرة أيام فصار الشهر عشرين ،
فإذا مر عشرون صار الشهر عشراً ،
فإذا تم الشهر انقضت الإجازة فكأنها لم تكن .
أتظنون أني (أتفلسف) ؟
لا والله ، بل أصف الواقع .
نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العدِّ ، نقصت من عمره سنة في الحقيقة ،
حتى ينفد العمر ، ويأتي الأجل ، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت .
فنحن نوسع المستقبل بالأمل .
وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه ، ونكدّ من أجله ؟
لمّا كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة ،
فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة .
فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار ، وإنسال الولد ،
فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحفَدة ،
صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدخر ،
وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات ، فلما تم لي بفضل الله ذلك كله ،
لم يبق لي مستقبل أفكر فيه ، إلاّ أن ينوِّر الله بصيرتي ،ويريني طريقي ،
فأعمل للمستقبل الباقي ، للآخرة ، وإني لفي غفلة منها .
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له ،
إنه يوم لن يأتي أبداً لأنه إن جاء صار ( حاضراً(
وطفق صاحبه يفتش عن (مستقبل) آخر ، يركض وراءه .
إنه (كما قلت مرة) مثل حزمة الحشيش المعلقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس
تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها ،
وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً .
إن المستقبل الحق في الآخرة ،
فأين منا من يعمل له ؟
بل أين من يفكر فيه ؟
وقد يكون هذا الذي أقوله (فلسفة) ، ولكنها فلسفة واقعية ،
إنها حقائق لا يفكر فيها أحد منها .
نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة ، همُّه الغرفة الجميلة ، أو المقعد المريح ،
يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ،
ويتصفح الجرائد والمجلات وينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد
ولكن هذا كله لأيام في السفر ، وأيام السفر معدودة ،
أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه ؟
أما كان أنفع له لو تحمَّل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة ،
ووفر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة ؟
أم قد شغلته متعة السفر عن التفكير في سبب السفر ،
وجمال الطريق عن غاية الطريق ؟
الحياة سفر ، فكم من الناس يسأل نفسه لِمَ السفر ؟وإلى أين الرحيل ؟
كم منا من يسأل ما الحياة ؟
ولماذا خلقنا ؟ وإلامَ المصير ؟
إننا نقطع الوقت من الصباح إلى المساء ، في مشاغل نخترعها لننسى بها أنفسنا ، ونبدد بها أعمارنا ،
من أحاديث تافهة ، ومجالس فارغة ، ومطالعات في كتب لا تنفع ، أو نظرات في مجلات لا تفيد ،
فإن خلا أحدنا بنفسه ، ثقلت عليه صحبة نفسه ، وحاول الهرب منها ،
كأن نفسه عدو له لا يطيق مجالسته ، فهو يضيق بها ، ويفتش عما يشغله عنها ،
وكأن عمره عبء عليه ، فهو يحاول أن يلقيه عن عاتقه ، وأن يتخلص منه .
نفرّ من نفوسنا ونبدد أعمارنا ، في لذائذ نتوهمها ، ونسعى وراءها ولكننا لا ننالها .
إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها ، فأرانا كموكب من السيارات ،
تمضي مجنونة مسرعة ، متسابقة ، همّ كل واحدة أن تسبق الأخرى ،وتخلفها وراءها ،
ولكن لو سألت سواقها إلى أين يسيرون ولماذا يسرعون ؟
لما وجدت عندهم جواباً .
سباق إلى المال ، سباق إلى اللذات ، سباق إلى الوظائف ،
سباق في كل طريق من طرق الحياة .
ثم ينتهي العمر ، فنترك كل ما استبقنا إليه ، ونمضي !
فلنقف لحظات في مطلع كل عام ،
لنسائل أنفسنا ما الذي نربحه من هذا السباق ؟
أو ليس (الربح) الحق من جهة أخرى ، غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها ،
ويحسبون أن الربح المقصود فيها ؟
إن هذا اليوم نذير لنا ، بأن السنة المقبلة ستمضي كما مضت السنة المودعة ،
وإن كل واحدة منها تحمل معها جزءاً من أعمارنا ،
حتى تنفد أعمارنا فلنتدارك ما بقي ،
ولنكن يوماً واحداً في السنة من المتناصحين ومن المتواصين بالحق ،
والمتواصين بالصبر .
إنكم تقرؤون في المجلات كلاماً جليلاً يزيد ثقافة عقولكم وكلاماً جميلاً
يدخل البهجة على قلوبكم وكل هذا خير ،
ولكن خيراً منه أن تسمعوا كلمة تذكركم أخراكم ، وتنفعكم يوم العرض على ربكم .
وما أصلح والله لأن أقول أنا هذه الكلمة ،
وأنا إلى أن أُوعظَ فأتَّعظ ، أحوج مني إلى أن أَعِظَ ،
أفلا نستعد للسفرة التي لا بد منها ،
ونتزود لها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها ؟
أم نحن نتناسى الموت وهو أمامنا نظنه أبعد شيء عنا ، وهو أقرب الأشياء منا ،
نصلي على الأموات ونشيع الجنائز ، ونحن نفكر في أمور الدنيا ،
كأنا مخلدون فيها ، وكأن الموت كتب على الناس كلهم إلاّ علينا ؟
يا إخوتي القراء .
إننا نعيش الأيام كلها في غفلة ،
فلننتبه اليوم ، ولنقف كما يقف المسافر على المحطة ،
ينظر كم قطع من الطريق وكم بقي عليه منه ؟
ولنفتح دفاترنا كما يفتح دفاتره التاجر ،
لنرى ماذا ربحنا في سنتنا التي مضت وماذا خسرنا ؟
ولنمد أيدينا ، فنقول : يا ربنا ، اغفر لنا ما سلف ، ووفقنا فيما بقي .
اللهم إذا كتبت لنا ، أن نعيش إلى مثل هذا اليوم من قابل ،
فاجعل ما يأتي خيراً لنا وللمسلمين مما ذهب
وإلا فاكتب لنا بفضلك وكرمك حسن الخاتمة
واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
جمع وإعداد
علي سعد لجهر
منسق الدعوة بمحافظة أحدرفيدة منطقة عسير جنوب السعودية
حسابي على التويتر
@alilajhar
علي الطنطاوي و العام الجديد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وسلم تسليما كثيرا
هذه مقتطفات من كتاب صور و خواطر للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
وكتب هذا الفصل بعنوان ( عام جديد ) في أول محرم من عام 1386 هـ
تمضي السنة وتجيء أخرى بعدها فمن لم يعمل خيراً فيها عمله في التي تليها .
إن فاتك عمل الخير في النهار فعندك الليل (خِلْفَةٌ) منه فاعمل الخير فيه .
مواسم متتابعة
إن أضعت الموسم فلم تزرع فيه ، فازرع الذي يليه .
وإن رسبت في الامتحان في دورة حزيران ، فعندك دورة أيلول .
هي خِلْفَةٌ لك ما بقيت حياً ، ولكن هل تعلم كم تبقى حياً ؟
ينقضي العام فتظن أنك عشته ، وأنت في الحقيقة قد مِتّه ،
لا تعجبوا من هذا المقال ودعوني أوضح الفكرة بالمثال .
أنت كالموظف الذي منح إجازته السنوية شهراً كاملاً ،
إذا قضى فيها عشرة أيام يكون قد خسر منها عشرة أيام فصار الشهر عشرين ،
فإذا مر عشرون صار الشهر عشراً ،
فإذا تم الشهر انقضت الإجازة فكأنها لم تكن .
أتظنون أني (أتفلسف) ؟
لا والله ، بل أصف الواقع .
نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العدِّ ، نقصت من عمره سنة في الحقيقة ،
حتى ينفد العمر ، ويأتي الأجل ، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت .
فنحن نوسع المستقبل بالأمل .
وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه ، ونكدّ من أجله ؟
لمّا كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة ،
فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة .
فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار ، وإنسال الولد ،
فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحفَدة ،
صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدخر ،
وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات ، فلما تم لي بفضل الله ذلك كله ،
لم يبق لي مستقبل أفكر فيه ، إلاّ أن ينوِّر الله بصيرتي ،ويريني طريقي ،
فأعمل للمستقبل الباقي ، للآخرة ، وإني لفي غفلة منها .
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له ،
إنه يوم لن يأتي أبداً لأنه إن جاء صار ( حاضراً(
وطفق صاحبه يفتش عن (مستقبل) آخر ، يركض وراءه .
إنه (كما قلت مرة) مثل حزمة الحشيش المعلقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس
تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها ،
وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً .
إن المستقبل الحق في الآخرة ،
فأين منا من يعمل له ؟
بل أين من يفكر فيه ؟
وقد يكون هذا الذي أقوله (فلسفة) ، ولكنها فلسفة واقعية ،
إنها حقائق لا يفكر فيها أحد منها .
نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة ، همُّه الغرفة الجميلة ، أو المقعد المريح ،
يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ،
ويتصفح الجرائد والمجلات وينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد
ولكن هذا كله لأيام في السفر ، وأيام السفر معدودة ،
أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه ؟
أما كان أنفع له لو تحمَّل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة ،
ووفر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة ؟
أم قد شغلته متعة السفر عن التفكير في سبب السفر ،
وجمال الطريق عن غاية الطريق ؟
الحياة سفر ، فكم من الناس يسأل نفسه لِمَ السفر ؟وإلى أين الرحيل ؟
كم منا من يسأل ما الحياة ؟
ولماذا خلقنا ؟ وإلامَ المصير ؟
إننا نقطع الوقت من الصباح إلى المساء ، في مشاغل نخترعها لننسى بها أنفسنا ، ونبدد بها أعمارنا ،
من أحاديث تافهة ، ومجالس فارغة ، ومطالعات في كتب لا تنفع ، أو نظرات في مجلات لا تفيد ،
فإن خلا أحدنا بنفسه ، ثقلت عليه صحبة نفسه ، وحاول الهرب منها ،
كأن نفسه عدو له لا يطيق مجالسته ، فهو يضيق بها ، ويفتش عما يشغله عنها ،
وكأن عمره عبء عليه ، فهو يحاول أن يلقيه عن عاتقه ، وأن يتخلص منه .
نفرّ من نفوسنا ونبدد أعمارنا ، في لذائذ نتوهمها ، ونسعى وراءها ولكننا لا ننالها .
إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها ، فأرانا كموكب من السيارات ،
تمضي مجنونة مسرعة ، متسابقة ، همّ كل واحدة أن تسبق الأخرى ،وتخلفها وراءها ،
ولكن لو سألت سواقها إلى أين يسيرون ولماذا يسرعون ؟
لما وجدت عندهم جواباً .
سباق إلى المال ، سباق إلى اللذات ، سباق إلى الوظائف ،
سباق في كل طريق من طرق الحياة .
ثم ينتهي العمر ، فنترك كل ما استبقنا إليه ، ونمضي !
فلنقف لحظات في مطلع كل عام ،
لنسائل أنفسنا ما الذي نربحه من هذا السباق ؟
أو ليس (الربح) الحق من جهة أخرى ، غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها ،
ويحسبون أن الربح المقصود فيها ؟
إن هذا اليوم نذير لنا ، بأن السنة المقبلة ستمضي كما مضت السنة المودعة ،
وإن كل واحدة منها تحمل معها جزءاً من أعمارنا ،
حتى تنفد أعمارنا فلنتدارك ما بقي ،
ولنكن يوماً واحداً في السنة من المتناصحين ومن المتواصين بالحق ،
والمتواصين بالصبر .
إنكم تقرؤون في المجلات كلاماً جليلاً يزيد ثقافة عقولكم وكلاماً جميلاً
يدخل البهجة على قلوبكم وكل هذا خير ،
ولكن خيراً منه أن تسمعوا كلمة تذكركم أخراكم ، وتنفعكم يوم العرض على ربكم .
وما أصلح والله لأن أقول أنا هذه الكلمة ،
وأنا إلى أن أُوعظَ فأتَّعظ ، أحوج مني إلى أن أَعِظَ ،
أفلا نستعد للسفرة التي لا بد منها ،
ونتزود لها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها ؟
أم نحن نتناسى الموت وهو أمامنا نظنه أبعد شيء عنا ، وهو أقرب الأشياء منا ،
نصلي على الأموات ونشيع الجنائز ، ونحن نفكر في أمور الدنيا ،
كأنا مخلدون فيها ، وكأن الموت كتب على الناس كلهم إلاّ علينا ؟
يا إخوتي القراء .
إننا نعيش الأيام كلها في غفلة ،
فلننتبه اليوم ، ولنقف كما يقف المسافر على المحطة ،
ينظر كم قطع من الطريق وكم بقي عليه منه ؟
ولنفتح دفاترنا كما يفتح دفاتره التاجر ،
لنرى ماذا ربحنا في سنتنا التي مضت وماذا خسرنا ؟
ولنمد أيدينا ، فنقول : يا ربنا ، اغفر لنا ما سلف ، ووفقنا فيما بقي .
اللهم إذا كتبت لنا ، أن نعيش إلى مثل هذا اليوم من قابل ،
فاجعل ما يأتي خيراً لنا وللمسلمين مما ذهب
وإلا فاكتب لنا بفضلك وكرمك حسن الخاتمة
واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
جمع وإعداد
علي سعد لجهر
منسق الدعوة بمحافظة أحدرفيدة منطقة عسير جنوب السعودية
حسابي على التويتر
@alilajhar