محمد جابري
New member
علوم دراية الحديث النبوي في ضوء السنن الإلهية
- دراسة نموذجية -
روى البخاري في صحيحه :
حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْد ِاللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ .ح. وحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ :
" إِنَّ ثَلاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ : فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا فَقَالَ : أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : الْإِبِلُ -أَوْ قَالَ : الْبَقَرُ- هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا : الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ : الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ : يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ هذا عَنِّي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ : فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : الْبَقَرُ قَالَ : فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا وَقَالَ : يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ : فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ - بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ- بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ به فِي سَفَرِي فَقَالَ لَهُ : إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ : كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ : لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْت،َ وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ هذا فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلاغَ الْيَوْمَ إِلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي وقَالَ له : قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فَوَ اللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ : أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ. 1
1- لماذا وقع الاختيار على هذا الحديث بالضبط؟
حينما قعد الشاطبي قواعده للفقه المقاصدي تحداه المحدثون بأن تستجيب قواعده لدراسة الحديث السابق ذكره؛ فكان جوابه لهم كالنالي:
" يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : حيث قلنا أن الكتاب دال على السنة وأن السنة إنما جاءت مبينة له، فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك, وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف.
وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين:
أحدهما : أن يقع في السنة موقع التفسير فهذا لا نظر في أنه بيان له...
الثاني : أن لا يقع موقع التفسير ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن لأنه أمر زائد على مواقع التكليف وإنما أنزل القرآن لذلك.
فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج، وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح، كحديث أبرص وأقرع وأعمى، وحديث جريج العابد ووفاة موسى، وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم قبلنا مما لا ينبني عليه عمل, ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآني وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب فهو خادم للأمر والنهي ومعدود في المكملات لضرورة التشريع ... 2
هكذا يتوقف الفكر المقاصدي عاجزا عن دراسة الأحاديث من القسم الثاني وهو باب انسد مسده على فقيهنا الكبير. وجئت به هنا لنتبين بأن هذا الإعضال يذوب أمام قوانين السنن الإلهية.
شرح ابن حجر للألفاظ الحديث:
قَوْله 1: ( بَدَا لِلَّهِ )
بِتَخْفِيفِ الدَّال الْمُهْمَلَة بِغَيْرِ هَمْز أَيْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه فَأَرَادَ إِظْهَاره ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْد أَنْ كَانَ خَافِيًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَال فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ شَيْبَانَ بْن فَرُّوخ عَنْ هَمَّام بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظِ " أَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ " ، فَلَعَلَّ التَّغْيِير فِيهِ مِنْ الرُّوَاة ، مَعَ أَنَّ فِي الرِّوَايَة أَيْضًا نَظَرًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا وَالْمَعْنَى أَظْهَر اللَّه ذَلِكَ فِيهِمْ . وَقِيلَ : مَعْنَى أَرَادَ قَضَى . وَقَالَ صَاحِب " الْمَطَالِع " ضَبَطْنَاهُ عَلَى مُتْقِنِي شُيُوخنَا بِالْهَمْزِ أَيْ اِبْتَدَأَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ ، قَالَ : وَرَوَاهُ كَثِير مِنْ الشُّيُوخ بِغَيْرِ هَمْز وَهُوَ خَطَأ اِنْتَهَى . وَسَبَقَ إِلَى التَّخْطِئَة أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ مُوَجَّه كَمَا تَرَى ، وَأَوْلَى مَا يُحْمَل عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَاد قَضَى اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ ، وَأَمَّا الْبَدْء الَّذِي يُرَاد بِهِ تَغَيُّر الْأَمْر عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا .
قَوْله : ( قَذِرَنِي النَّاس )
بِفَتْحِ الْقَاف وَالذَّال الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة أَيْ اِشْمَأَزُّوا مِنْ رُؤْيَتِي ، وَفِي رِوَايَة حَكَاهَا الْكَرْمَانِيُّ " قَذِرُونِي النَّاس " وَهِيَ عَلَى لُغَة أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث .
قَوْله : ( فَمَسَحَهُ )
أَيْ مَسَحَ عَلَى جِسْمه .
قَوْله : ( فَقَالَ وَأَيّ الْمَال )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ بِحَذْفِ الْوَاو .
قَوْله : ( الْإِبِل ، أَوْ قَالَ الْبَقَر ، هُوَ شَكّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْرَص وَالْأَقْرَع قَالَ أَحَدهمَا الْإِبِل وَقَالَ الْآخَر الْبَقَر )
وَقَعَ عِنْد مُسْلِم عَنْ شَيْبَانَ بْن فَرُّوخ عَنْ هَمَّام التَّصْرِيح بِأَنَّ الَّذِي شَكَّ فِي ذَلِكَ هُوَ إِسْحَاق بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة رَاوِي الْحَدِيث .
قَوْله : ( فَأُعْطِيَ نَاقَة عُشَرَاء )
أَيْ الَّذِي تَمَنَّى الْإِبِل ، وَالْعُشَرَاء بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَفَتْح الشِّين الْمُعْجَمَة مَعَ الْمَدّ هِيَ الْحَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي حَمْلهَا عَشْرَة أَشْهُر مِنْ يَوْم طَرَقَهَا الْفَحْل ، وَقِيلَ : يُقَال لَهَا ذَلِكَ إِلَى أَنْ تَلِد وَبَعْدَمَا تَضَع ، وَهِيَ مِنْ أَنْفَس الْمَال .
قَوْله : ( يُبَارَك لَك فِيهَا )
كَذَا وَقَعَ " يُبَارَك " بِضَمِّ أَوَّله . وَفِي رِوَايَة شَيْبَانَ " بَارَكَ اللَّه " بِلَفْظِ الْفِعْل الْمَاضِي وَإِبْرَاز الْفَاعِل .
قَوْله : ( فَمَسَحَهُ )
أَيْ مَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهِ .
قَوْله : ( شَاة وَالِدًا )
أَيْ ذَات وَلَد وَيُقَال حَامِل .
قَوْله : ( فَأَنْتَجَ هَذَانِ )
أَيْ صَاحِب الْإِبِل وَالْبَقَر
( وَوَلَّدَ هَذَا )
أَيْ صَاحِب الشَّاة ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّام ، وَأَنْتَجَ فِي مِثْل هَذَا شَاذّ وَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة نُتِجَتْ النَّاقَة بِضَمِّ النُّون وَنَتَجَ الرَّجُل النَّاقَة أَيْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْفَحْل ، وَقَدْ سُمِعَ أَنْتَجَتْ الْفَرَس إِذَا وَلَدَتْ فَهِيَ نَتُوج .
قَوْله : ( ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَص فِي صُورَته )
أَيْ فِي الصُّورَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَمَّا اِجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ أَبْرَص لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِقَامَة الْحُجَّة عَلَيْهِ .
قَوْله : ( رَجُل مِسْكِين )
زَادَ شَيْبَان وَابْن سَبِيل
( تَقَطَّعَتْ بِهِ الْحِبَال فِي سَفَره )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " بِي الْحِبَال فِي سَفَرِي " وَالْحِبَال بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة بَعْدهَا مُوَحَّدَة خَفِيفَة جَمْع حَبْل أَيْ الْأَسْبَاب الَّتِي يَقْطَعُهَا فِي طَلَب الرِّزْق ، وَقِيلَ الْعَقَبَات ، وَقِيلَ الْحَبْل هُوَ الْمُسْتَطِيل مِنْ الرَّمْل . وَلِبَعْضِ رُوَاة مُسْلِم " الْحِيَال " بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّة جَمْع حِيلَة ، أَيْ لَمْ يَبْقَ لِي حِيلَة ، وَلِبَعْضِ رُوَاة الْبُخَارِيّ " الْجِبَال " بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَة وَهُوَ تَصْحِيف . قَالَ اِبْن التِّين قَوْل الْمَلَك لَهُ " رَجُل مِسْكِين إِلَخْ " أَرَادَ أَنَّك كُنْت هَكَذَا ، وَهُوَ مِنْ الْمَعَارِيض وَالْمُرَاد بِهِ ضَرْب الْمَثَل لِيَتَيَقَّظ الْمُخَاطَب .
قَوْله : ( أَتَبَلَّغ عَلَيْهِ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " أَتَبَلَّغ بِهِ " وَأَتَبَلَّغ بِالْغَيْن الْمُعْجَمَة مِنْ الْبُلْغَة وَهِيَ الْكِفَايَة وَالْمَعْنَى أَتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُرَادِي .
قَوْله : ( لَقَدْ وَرِثْت لِكَابِرِ عَنْ كَابِر )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " كَابِرًا عَنْ كَابِر " وَفِي رِوَايَة شَيْبَانَ " إِنَّمَا وَرِثْت هَذَا الْمَال كَابِرًا عَنْ كَابِر " أَيْ كَبِير عَنْ كَبِير فِي الْعِزّ وَالشَّرَف .
قَوْله : ( فَقَالَ إِنْ كُنْت كَاذِبًا فَصَيَّرَك اللَّهُ )
أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الْفِعْل الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَة فِي الدُّعَاء عَلَيْهِ .
قَوْله : ( فَخُذْ مَا شِئْت )
زَادَ شَيْبَان " وَدَعْ مَا شِئْت " .
قَوْله : ( لَا أَجْهَدُك الْيَوْم بِشَيْء أَخَذْتَهُ لِلَّهِ )
كَذَا فِي الْبُخَارِيّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمِيم ، كَذَا قَالَ عِيَاض إِنَّ رُوَاة الْبُخَارِيّ لَمْ تَخْتَلِف فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ، وَالْمَعْنَى لَا أَحْمَدك عَلَى تَرْك شَيْء تَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ مَالِي ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر وَلَيْسَ عَلَى طُول الْحَيَاة تَنَدُّم أَيْ فَوْت طُول الْحَيَاة ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأَكْثَر رِوَايَات مُسْلِم " لَا أُجْهِدك " بِالْجِيمِ وَالْهَاء أَيْ لَا أَشُقّ عَلَيْك فِي رَدّ شَيْء تَطْلُبهُ مِنِّي أَوْ تَأْخُذهُ ، قَالَ عِيَاض : لَمْ يَتَّضِح هَذَا الْمَعْنَى لِبَعْضِ النَّاس فَقَالَ لَعَلَّهُ " لَا أَحُدّك " بِمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الدَّال بِغَيْرِ مِيم أَيْ لَا أَمْنَعك ، قَالَ : وَهَذَا تَكَلُّف اِنْتَهَى . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون قَوْله : " أُحَمِّدك " بِتَشْدِيدِ الْمِيم أَيْ لَا أَطْلُب مِنْك الْحَمْد ، مِنْ قَوْلهمْ فُلَان يَتَحَمَّد عَلَى فُلَان أَيْ يَمْتَنّ عَلَيْهِ ، أَيْ لَا أَمْتَنّ عَلَيْك .
قَوْله : ( فَإِنَّمَا اُبْتُلِيتُمْ )
أَيْ اُمْتُحِنْتُمْ .
قَوْله : ( فَقَدْ رَضِيَ عَنْك )
بِضَمِّ أَوَّله عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ فِي رَضِيَ وَسَخِطَ ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ مَا مُحَصَّله : كَانَ مِزَاج الْأَعْمَى أَصَحّ مِنْ مِزَاج رَفِيقَيْهِ ، لِأَنَّ الْبَرَص مَرَض يَحْصُل مِنْ فَسَاد الْمِزَاج وَخَلَل الطَّبِيعَة وَكَذَلِكَ الْقَرَع ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِم ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُون مِنْ أَمْر خَارِج فَلِهَذَا حَسُنَتْ طِبَاع الْأَعْمَى وَسَاءَتْ طِبَاع الْآخَرَيْنِ . وَفِي الْحَدِيث جَوَاز ذِكْر مَا اِتَّفَقَ لِمَنْ مَضَى لِيَتَّعِظ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَكُون ذَلِكَ غِيبَة فِيهِمْ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَرْك تَسْمِيَتهمْ ، وَلَمْ يُفْصِح بِمَا اِتَّفَقَ لَهُمْ بَعْد ذَلِكَ ، وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْأَمْر فِيهِمْ وَقَعَ كَمَا قَالَ الْمَلَك . وَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ كُفْرَان النِّعَم وَالتَّرْغِيب فِي شُكْرهَا وَالِاعْتِرَاف بِهَا وَحَمْد اللَّه عَلَيْهَا ، وَفِيهِ فَضْل الصَّدَقَة وَالْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَآرِبهمْ ، وَفِيهِ الزَّجْر عَنْ الْبُخْل ، لِأَنَّهُ حَمَلَ صَاحِبه عَلَى الْكَذِب ، وَعَلَى جَحْد نِعْمَة اللَّه تَعَالَى .
سبيل الدراسة السننية للحديث
من المعلوم بأن الحديث النبوي تطرق العلماء لدراسته من جانبين:
1- جانب علم الرواية ويتناول علم الرجال الذين نقلوا الحديث، وهو أمر انتهى منه السلف الصالح ولم يبق منه إلا مراجعة قواعدهم وضوابط تطبيقها.
2- جانب علم دراية الحديث ويتناول متن الحديث أي نصه ومضمونه، وهذا العلم من أغمض العلوم وأصعبها عند المحدثين.
وهو ما جاءت الدراسة السننية لتتبعه كشفا لأغواره وبيانا لثغراته، وتقعيدا ضوابطه كي لا يبق معرضا للأخذ والرد. وهنا تبدو جلية أهمية السنن الإلهية لدراسة الحديث.
وتعمد الدراسة السننية للحديث إلى نموذجين للدراسة :
1- عرض الحديث على القواعد الكبرى للسنن الإلهية؛
2- الدراسة المفصلة لكل سنة على حده.
ونقتصر في هذا العرض الأولي على دراسة الحديث وعرضه على القواعد الكلية للسنن الإلهية:
ما هي القواعد الكلية للسنن الإلهية؟[/color]
1- دراسة لدقة ألفاظ القصة لفظا لفظاً.
2- الدراسة الإجمالية للحديث على ضوء القواعد الكلية : وتشمل:
أ -. القواعد الكلية :
ب- من حيث الضوابط الكلية ؛
ج- من حيث خصائص السنن الإلهية :
أ -. القواعد الكلية : وتشتمل على الضوابط التالية:
اليسر
التخفيف
رفع الحرج
التدرج
النطهر
إتمام النعمة
إحقاق الحق
قطع دابر الكافرين
البيان التام
الهداية لسنن السابقين
التوبة
نصرة المستضعفين
العاقبة للمتقين
ب- من حيث الضوابط الكلية :
الربانية؛
الشمولية؛
الثبات؛
الاطراد؛
الأجل؛
مبدأ استمرارية الحياة؛
الواقعية.
ج- من حيث خصائص السنن الإلهية :
- مواصفات كلمات الله :
- الصدق
- العدل؛
- الثبات .
- علو كلمة الله.
مع السنن الإلهية في دراسة متن الحديث
رغم أن الحديث صحيح في عرف المحدثين فهل ينضبط بضوابط السنن الإلهية ؟
أ- تأتي السنن الإلهية عنوانا للقصة :
- قوله عز وجل:{ ... وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِين} المؤمنون : 30.
أو: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ...} محمد 38.
ب- تــفــاصــيــل الــقــصــة :
1- ما تنطوي عليه دلالة الألفاظ :
في القصة جزء محذوف تقديره : أنه كان في بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع " شاكرين الله "، إذ سنن الله تقتضي أن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ولما كانوا شاكرين ابتلاهم الله بالخير فتنة لهم ودليل ذلك قوله عز من قائل : {... أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ...}. الأنعام : 53.؟
فرد عليهم سبحانه وتعالى :
{... أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين} الأنعام : 53..
وتبدأ القصة بلفظ " بدا لله " والبداء لا يجوز في حقه تعالى بل كل شيء عنده بقدر ويرد القول بالبداء قوله تعالى :
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }[الأنعام : 96
ولا يمكن الكلام بالبداء في حق المولى جل وعلا ؛ إذ البداء يبدو لجاهل والله بكل شيء عليم. وقد يمس المطهرون اللوح المحفوظ، فما بالك بخالق اللوح والقلم ؟
ويرحم الله المحدثين الذين قعدوا بأنه عند اختلاف ألفاظ البخاري ومسلم، فإن ألفاظ مسلم أدق لكونه كان يكتب عند السماع بينما كان البخاري يعتمد الحفظ ثم يكتب.3
وفي رواية مسلم4: " إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم ...".
فالله جل جلاله يفعل في ملكه ما يشاء لكنه جل وعلا لا يخلف الميعاد، فهو يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، ومواصفاته جل جلاله لا تحول، ولا تزول، ورغم ذلك فهو كل يوم في شأن، وهكذا تنكشف صفة البداء لكونها من مواصفات الجاهل، والله عنده كل شيء بقدر. ونلاحظ هنا عدم استساغة الدراسة السننية للفظ البداء في حقه سبحانه وتعالى.
2- الـمَــلَــكُ للــنــفــر الــثــلاث :
إن القصة توحي أيضا بالحالة الربانية التي كان عليها النفر الثلاث، فقد كانوا ربانيين في تعاملهم قبل الابتلاء، ويكشف عن هذا السر، الملك الذي بعثه الله إليهم والرسول يكون من جنس المرسل إليهم بمقتضى حكمة الحكيم جل جلاله.
وضابط ذلك السنن الإلهية التالية :
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}الشورى : 51.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُون}الأنعام : 9.
وهكذا يأتي الحديث منضبطا بضوابط السنن الإلهية : ملك يأتي على صفة بشر ويكلم الناس، وما ذلك إلا لعظم قدرهم عند الله ومحبته لهم.
3- بــدء الابــتــلاء :
يأتي الملك للأبرص ويسأله عن أي شيء أحب إليه، فيجيب لون حسن وجلد حسن ويذهب الله عني الذي قد قذرني الناس، قال : فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، ثم سئل عن المال المحبوب لديه فقال : الإبل أو البقر( شكّاً من الراوي).
تأتي الملائكة البشر بأمر ربها، وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وضابط ذلك من السنن الإلهية :
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّك} مريم : 64..
{..لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}التحريم : 6.
أما شفاء الأبرص فكل ذلك بإذن الله فقد أذن الله في ذلك لسيدنا عيسى عليه السلام :
{... وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي...} المائدة : 110.
وأما الرزق الذي ساقه الله لكل من الثلاثة فهو منضبط بما قيل قبل من كونهم ربانيين في تعاملهم بدليل قوله تعالى : {... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الطلاق : 2-3.
4- الـمـرحـلـة الـثـانـيـة مـن الابـتـلاء :
خالطت بشاشة المال القلوب، وتقلبت أحوال العباد، واستدعت الظروف تذكير العباد بالأحوال وتقلباتها لعل القلوب تصغي، أو يقيم الله حجته على خلقه، ودليل ذلك من السنن الإلهية ما يلي :
{... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء : 15
وإن من العباد من تستقيم حالتهم مع الفقر، ومنهم من لا تستقيم إلا مع الغنى، ومنهم من هو خاضع لجلال الله في كل أحواله.
5- خـلاصــة دراسة الألفاظ :
انضبطت ألفاظ القصة بضابط السنن الإلهية في كل مراحلها اللهم إلا ما اتضح من مخالفة لفظ البداء في حقه جل وعلا. وهكذا نزداد يقينا على ما أصله المحدثون بأن ألفاظ مسلم في صحيحه أدق من ألفاظ البخاري رحمهم الله جميعا.
ج- عرض القصة على القواعد الكلية للسنن الإلهية
* - دراسة الحديث على هدي القواعد الكلية :
1- من حيث قاعدة اليسر :
تجلت سنة اليسر بضابط الآية :
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الليل : 5-7.
وعكسه انضبط بضابط الآية :
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[/} الليل : 8- 10.
تأكد لنا من خلال الحديث أن الأقرع والأعمى والأبرص لما اتقوا كانوا أهلا لتكريم الله ولما بخلا الأقرع والأبرص حصدا ما جنته يداهما فكانا أهلا للعسرى، بحيث رجعا إلى ما كانا فيه قبل التكريم.
والملاحظ تطابق القصة مع السنن الإلهية في هذه القاعدة، وتندرج تحت قوله تعالى :
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة : 185
2- من حيث قاعدة التخفيف :
ويتضح لنا من خلال سؤال الملك أنه لم يكن متعسفا في سؤاله ولم يطلب منهم المستحيل ، فمن كان له واديا من الإبل طلب له ناقة، ومن كان له واديا من البقر طلب له بقرة، ومن كان له واديا من الشياه طلب له شاة، وليس في الطلب إجحاف ولا حرج ولا مشقة.
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} التغابن : 16.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} النساء : 28.
تنساق ألفاظ الحديث مع مدلول هذه القاعدة ولا تتعارض معها بحال من الأحوال، بل هي أخف بكثير من ضوابط الزكاة عند المسلمين.
3- من حيث قاعدة رفع الحرج :
تجلى رفع الحرج في القصة حينما انكشف عن كل واحد منهم ما ألم به حتى استقذرهم الناس وذلك لما كانوا أهلا لتكريم الله باليسر ورفع الحرج.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} الحج : 78.
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} المائدة : 60.
ولما أضحى الأقرع والأبرص أهلا للعسر أرجعا إلى ما كانا فيه قبل رفع الحرج. فالشرع يريد رفع الحرج عنا وتأبى المخالفات الشرعية إلا الارتكاس والانتكاس والوقوع في المصائب.
4- من حيث قاعدة التدرج :
انضبطت القصة بضابط سنة التدرج فلم تأت بخيال ولا بما يناقض الواقع، حيث ينتقل كل واحد منهم من حالة إلى أخرى وفق ضوابط عوامل الصراع : أعطي الأعمى شاة حاملا وانتقل بها من فقر إلى غنى واسع، فاقتضى ذلك برهة زمنية حتى تنجب الشاة واديا من الشياه، وأدام الله عليه غناه بإنفاقه. بينما تحول الأقرع والأبرص من فقر إلى غنى واسع ومنه إلى الحالة الأولى : الفقر، كل ذلك عبر مراحل زمنية.
وهكذا تنضبط القصة بضوابط عوامل الصراع حيث تنتقل من النقيض إلى النقيض عبر مراحل زمنية إذا توفرت لها المؤثرات والعوامل المغيرة لواقعها.
5- من حيث قاعدة التطهير :
وتجلت هذه القاعدة بتطهير الله لهم مما أصابهم من أمراض ظاهرة حتى تستوي لديهم طهارة الحس ظاهرا وباطنا.
واستمر الحال على ذلك حتى رفض الأقرع والأبرص الطهارة الحسية بالإنفاق فجلب البخل قذارة الظاهر، كما جلبت طهارة الباطن طهارة الظاهر قبل ذلك، واستمر فضل الله على الأعمى لما استمرت طهارة باطنه.
{يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} المائدة : 6.
كما يقصد أيضا الحث على الزكاة والطهارة لكون وقاية الشح فلاحا :
{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} الأحزاب : 33.
6- من حيث قاعدة إتمام النعمة :
يتم الله نعمته على صنفين من الناس :
- الذين لا يخشون في الله لومة لائم.
- الشاكرين.
وتنضبط القصة بضابط إتمام النعمة لما كان كل منهم أهلا لذلك :
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} القمر : 35
فلما تنكر الأقرع والأبرص كانا أهلا لزوال النعم لما حل بهما عامل الكفر فانقلبا على عقبهما خاسرين.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال : 53
7- من حيث قاعدة إحقاق الحق :
قانون الله عدل مطلق لا حيف فيه ولا ظلم، وسننه مضت على نفس السبيل ؛ إذ لا تحابي أحدا سواء أكان نبيا رسولا، أو وليا موصولا، أو عبدا جهولا، فكل من خالف سنن الله كان جزاؤها له بالمرصاد.
فما غفر للأقرع والأبرص استكبارهما رغم ما كانا عليه من الاستقامة في السابق. وما جاء العقاب للجميع، بل من استحق شيئا حصل عليه :
{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} آل عمران : 117
8- من حيث قاعدة قطع دابر الكافرين :
غريب أمر هذا الإنسان، فكل الإنذارات المتتالية، والسنن المتعاقبة، والرسائل اليومية التي يتلقاها لم تكن كافية لتشده عن سبيل الغي والكفر والاستكبار.
{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار} الزمر : 8..
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ }الزمر : 49.
{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} البقرة : 211..
ووفقا لهذه السنن أصاب الأقرع والأبرص الفقر والمرض عقابا لهما على تكبرهما وبخلهما، بينما رفل الأعمى في النعيم بسبب إنفاقه وشكره لله جل جلاله الذي أعطى فأنعم، ومن أوفى بعهده من الله ؟
{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} آل عمران : 145؛
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ}القمر : 35؛
ولم يسع المتدبر والمتتبع لهذه القصة إلا متابعة سيدنا سليمان في قوله : {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيم} النمل : 40
9 – من حيث إقامة الحجة بالبيان الواضح :
قال الملك للأبرص : " رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ - بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ- بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ به فِي سَفَرِي ". ثم أضاف : " كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ ". إنه كلام بين واضح وحجة قائمة. كما قال نفس الشيء للأقرع والأعمى على خلاف في صفة كل منهما.
لقد اشتمل البيان على سؤال واضح من أجل الإنفاق في سبيل الله، ولم يقف هناك، بل منّ على كل من الأقرع والأبرص بعطاء الله لهما وشفائهما مما استقذرهما الناس به. إنها حجة الله كافية شافية واضحة بّينة لم تترك مزيدا لمستزيد.
10 – من حيث قاعدة الهداية لسنن السابقين :
والله جل جلاله متم نوره ولو كره الكافرون، فإرادته تجلت بقطع دابر الكافرين بقوله عز وجل :
{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}محمد : 38.
تحقق في الأقرع والأبرص جواب الشرط، وصارا إلى ما كانا عليه في الابتلاء من فقر وابتلاء بعد أن كشف الله الأذى ورزقهما رزقا واسعا. فجاء بخلهما وكذبهما وترفعهما ليرديهما فيما كانا فيه قبل النعيم. وصدق الله العظيم :
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ } غافر : 31
{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} آل عمران : 117
هكذا يتضح انقلاب الشيء إلى أصله، ومن الأصل إلى ضده ؛ لتوفر الدواعي والعوامل المؤثرة لذلك. وكل ما سبق من السنن فهي عبر وعظات تستخلص من هذه القصة ؛ إذ ليست هي أحداثا عابرة يطويها الزمان، بل تتجدد هذه الأحداث كلما توفرت العوامل والدواعي لذلك، من هنا جاء الحديث النبوي : " السعيد من اتعظ بغيره ".5
11- من حيث قاعدة التوبة :
إنما يبتلي الله العباد ليدعوهم إلى باب التوبة والإنابة :
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الروم : 41.
ويأبى الإنسان الظلوم الجهول إلا العناد وركب جموحه :
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} النساء : 27.
فالملك يذكرهم بنعم الله وبما كانوا عليه من فقر ومرض عساهم إلى رشدهم يؤوبون وإلى ربهم يتوبون، ويأبى الإنسان إلا الجحود والكذب كفرا بنعم الله ظنا منه أنها لا تزول ولا تحول.
12- من حيث قاعدة نصرة المستضعفين :
جعل الله لكل شيء قدرا وأبى المستكبرون إلا إهانة المستضعفين علوا في الأرض واستكبار، ووعد الله جل جلاله بنصرة المستضعفين بقوله :
{وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين } القصص : 5.
وهكذا يحكي كل واحد من الثلاثة أن الناس قد استقذروه بما ابتلاه الله به، ومنّ الله عليهم وأثابهم شفاء ورزقا عريضا، وكانوا من الوارثين لولا كفر وجحود كل من الأقرع والأبرص.
13- من حيث قاعدة العاقبة للمتقين :
أنعم الله على الثلاثة ورزقهم رزقا واسعا وأصلح حالهم، فلما كفر الأقرع والأبرص وادعيا بأن المال ورثاه كابرا عن كابر، أذلهم الله وأرجعهم إلى ما كانا عليه قبل فضله عليهم؛ بينما الأعمى الذي اتقى وصدق بالحسنى واستعد للإنفاق في سبيل الله، ولم يجحد فضل الله عليه، فكان بذلك شاكرا شكرا عمليا، أدام الله عليه نعمه وجعل العاقبة للمتقين.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}القصص : 83
- خلاصة دراسة الحديث على ضوء القواعد الكلية :
إنها قصة واحدة تجلت فيها إرادة الله في سننه بشموليتها إذ لم تتخلف إرادة من إراداته بالسنن الإلهية، ولم يكن أبدا باستطاع مخلوق تنسيق كل هذه الإرادات في حدث واحد فسبحان من أتقن كل شيء صنعا.
تأكد لنا في هذه الجولة عبر ألفاظ الحديث صحة مقاطعه مقطعا مقطعاً, ولفظة لفظة, رغم صحتها عند المحدثين فيزيدنا هذا الأسلوب مزيدا يقين ودراسة علمية لكل منعطفات القصة بكل جزئياتها .
ألم يصل بك الأمر أخي الكريم إلى أن تقسم بأن الحديث صحيح لا غبار عليه؟
وهل بقيت مرتبة اليقين على الحديث، على ما كانت عليه عند تصحيح المحدثين؟
فالحديث دققت كلماته كلمة، كلمة، ومعنى، معنى، ووافق كل السنن الإلهية ما يكون هذا إلا من المشكاة النبوة وفق ما جاء عن التشريع الرباني.
------------------------------------
هوامش:
1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، ج7/178-188.
2- الموافقات للشاطبي , ج . 4 / 31-32.
3- قال ابن حجر في نكته على ابن الصلاح ص : 62, أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته, فقد روينا عنه أنه قال : رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخرسان. فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق. فلله ذر ابن حجر على هذه العناية الدقيقة والفائقة حتى بظروف وملابسات الحديث والتي جاءت حلا للإشكال.
4- صحيح مسلم, كتاب الزهد, حديث حدثنا شيبان بن فروخ عن أبي هريرة.
5- المعجم الكبير 3/175، حديث 3038.
- دراسة نموذجية -
روى البخاري في صحيحه :
حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْد ِاللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ .ح. وحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ :
" إِنَّ ثَلاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ : فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا فَقَالَ : أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : الْإِبِلُ -أَوْ قَالَ : الْبَقَرُ- هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا : الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ : الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ : يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ هذا عَنِّي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ : فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : الْبَقَرُ قَالَ : فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا وَقَالَ : يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ : فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ : الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ - بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ- بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ به فِي سَفَرِي فَقَالَ لَهُ : إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ : كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ : لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْت،َ وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ هذا فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلاغَ الْيَوْمَ إِلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي وقَالَ له : قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فَوَ اللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ : أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ. 1
1- لماذا وقع الاختيار على هذا الحديث بالضبط؟
حينما قعد الشاطبي قواعده للفقه المقاصدي تحداه المحدثون بأن تستجيب قواعده لدراسة الحديث السابق ذكره؛ فكان جوابه لهم كالنالي:
" يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : حيث قلنا أن الكتاب دال على السنة وأن السنة إنما جاءت مبينة له، فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك, وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف.
وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين:
أحدهما : أن يقع في السنة موقع التفسير فهذا لا نظر في أنه بيان له...
الثاني : أن لا يقع موقع التفسير ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن لأنه أمر زائد على مواقع التكليف وإنما أنزل القرآن لذلك.
فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج، وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح، كحديث أبرص وأقرع وأعمى، وحديث جريج العابد ووفاة موسى، وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم قبلنا مما لا ينبني عليه عمل, ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآني وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب فهو خادم للأمر والنهي ومعدود في المكملات لضرورة التشريع ... 2
هكذا يتوقف الفكر المقاصدي عاجزا عن دراسة الأحاديث من القسم الثاني وهو باب انسد مسده على فقيهنا الكبير. وجئت به هنا لنتبين بأن هذا الإعضال يذوب أمام قوانين السنن الإلهية.
شرح ابن حجر للألفاظ الحديث:
قَوْله 1: ( بَدَا لِلَّهِ )
بِتَخْفِيفِ الدَّال الْمُهْمَلَة بِغَيْرِ هَمْز أَيْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه فَأَرَادَ إِظْهَاره ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْد أَنْ كَانَ خَافِيًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَال فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ شَيْبَانَ بْن فَرُّوخ عَنْ هَمَّام بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظِ " أَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ " ، فَلَعَلَّ التَّغْيِير فِيهِ مِنْ الرُّوَاة ، مَعَ أَنَّ فِي الرِّوَايَة أَيْضًا نَظَرًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا وَالْمَعْنَى أَظْهَر اللَّه ذَلِكَ فِيهِمْ . وَقِيلَ : مَعْنَى أَرَادَ قَضَى . وَقَالَ صَاحِب " الْمَطَالِع " ضَبَطْنَاهُ عَلَى مُتْقِنِي شُيُوخنَا بِالْهَمْزِ أَيْ اِبْتَدَأَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ ، قَالَ : وَرَوَاهُ كَثِير مِنْ الشُّيُوخ بِغَيْرِ هَمْز وَهُوَ خَطَأ اِنْتَهَى . وَسَبَقَ إِلَى التَّخْطِئَة أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ مُوَجَّه كَمَا تَرَى ، وَأَوْلَى مَا يُحْمَل عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَاد قَضَى اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ ، وَأَمَّا الْبَدْء الَّذِي يُرَاد بِهِ تَغَيُّر الْأَمْر عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا .
قَوْله : ( قَذِرَنِي النَّاس )
بِفَتْحِ الْقَاف وَالذَّال الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة أَيْ اِشْمَأَزُّوا مِنْ رُؤْيَتِي ، وَفِي رِوَايَة حَكَاهَا الْكَرْمَانِيُّ " قَذِرُونِي النَّاس " وَهِيَ عَلَى لُغَة أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث .
قَوْله : ( فَمَسَحَهُ )
أَيْ مَسَحَ عَلَى جِسْمه .
قَوْله : ( فَقَالَ وَأَيّ الْمَال )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ بِحَذْفِ الْوَاو .
قَوْله : ( الْإِبِل ، أَوْ قَالَ الْبَقَر ، هُوَ شَكّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْرَص وَالْأَقْرَع قَالَ أَحَدهمَا الْإِبِل وَقَالَ الْآخَر الْبَقَر )
وَقَعَ عِنْد مُسْلِم عَنْ شَيْبَانَ بْن فَرُّوخ عَنْ هَمَّام التَّصْرِيح بِأَنَّ الَّذِي شَكَّ فِي ذَلِكَ هُوَ إِسْحَاق بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة رَاوِي الْحَدِيث .
قَوْله : ( فَأُعْطِيَ نَاقَة عُشَرَاء )
أَيْ الَّذِي تَمَنَّى الْإِبِل ، وَالْعُشَرَاء بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَفَتْح الشِّين الْمُعْجَمَة مَعَ الْمَدّ هِيَ الْحَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي حَمْلهَا عَشْرَة أَشْهُر مِنْ يَوْم طَرَقَهَا الْفَحْل ، وَقِيلَ : يُقَال لَهَا ذَلِكَ إِلَى أَنْ تَلِد وَبَعْدَمَا تَضَع ، وَهِيَ مِنْ أَنْفَس الْمَال .
قَوْله : ( يُبَارَك لَك فِيهَا )
كَذَا وَقَعَ " يُبَارَك " بِضَمِّ أَوَّله . وَفِي رِوَايَة شَيْبَانَ " بَارَكَ اللَّه " بِلَفْظِ الْفِعْل الْمَاضِي وَإِبْرَاز الْفَاعِل .
قَوْله : ( فَمَسَحَهُ )
أَيْ مَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهِ .
قَوْله : ( شَاة وَالِدًا )
أَيْ ذَات وَلَد وَيُقَال حَامِل .
قَوْله : ( فَأَنْتَجَ هَذَانِ )
أَيْ صَاحِب الْإِبِل وَالْبَقَر
( وَوَلَّدَ هَذَا )
أَيْ صَاحِب الشَّاة ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّام ، وَأَنْتَجَ فِي مِثْل هَذَا شَاذّ وَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة نُتِجَتْ النَّاقَة بِضَمِّ النُّون وَنَتَجَ الرَّجُل النَّاقَة أَيْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْفَحْل ، وَقَدْ سُمِعَ أَنْتَجَتْ الْفَرَس إِذَا وَلَدَتْ فَهِيَ نَتُوج .
قَوْله : ( ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَص فِي صُورَته )
أَيْ فِي الصُّورَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَمَّا اِجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ أَبْرَص لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِقَامَة الْحُجَّة عَلَيْهِ .
قَوْله : ( رَجُل مِسْكِين )
زَادَ شَيْبَان وَابْن سَبِيل
( تَقَطَّعَتْ بِهِ الْحِبَال فِي سَفَره )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " بِي الْحِبَال فِي سَفَرِي " وَالْحِبَال بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة بَعْدهَا مُوَحَّدَة خَفِيفَة جَمْع حَبْل أَيْ الْأَسْبَاب الَّتِي يَقْطَعُهَا فِي طَلَب الرِّزْق ، وَقِيلَ الْعَقَبَات ، وَقِيلَ الْحَبْل هُوَ الْمُسْتَطِيل مِنْ الرَّمْل . وَلِبَعْضِ رُوَاة مُسْلِم " الْحِيَال " بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّة جَمْع حِيلَة ، أَيْ لَمْ يَبْقَ لِي حِيلَة ، وَلِبَعْضِ رُوَاة الْبُخَارِيّ " الْجِبَال " بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَة وَهُوَ تَصْحِيف . قَالَ اِبْن التِّين قَوْل الْمَلَك لَهُ " رَجُل مِسْكِين إِلَخْ " أَرَادَ أَنَّك كُنْت هَكَذَا ، وَهُوَ مِنْ الْمَعَارِيض وَالْمُرَاد بِهِ ضَرْب الْمَثَل لِيَتَيَقَّظ الْمُخَاطَب .
قَوْله : ( أَتَبَلَّغ عَلَيْهِ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " أَتَبَلَّغ بِهِ " وَأَتَبَلَّغ بِالْغَيْن الْمُعْجَمَة مِنْ الْبُلْغَة وَهِيَ الْكِفَايَة وَالْمَعْنَى أَتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُرَادِي .
قَوْله : ( لَقَدْ وَرِثْت لِكَابِرِ عَنْ كَابِر )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " كَابِرًا عَنْ كَابِر " وَفِي رِوَايَة شَيْبَانَ " إِنَّمَا وَرِثْت هَذَا الْمَال كَابِرًا عَنْ كَابِر " أَيْ كَبِير عَنْ كَبِير فِي الْعِزّ وَالشَّرَف .
قَوْله : ( فَقَالَ إِنْ كُنْت كَاذِبًا فَصَيَّرَك اللَّهُ )
أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الْفِعْل الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَة فِي الدُّعَاء عَلَيْهِ .
قَوْله : ( فَخُذْ مَا شِئْت )
زَادَ شَيْبَان " وَدَعْ مَا شِئْت " .
قَوْله : ( لَا أَجْهَدُك الْيَوْم بِشَيْء أَخَذْتَهُ لِلَّهِ )
كَذَا فِي الْبُخَارِيّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمِيم ، كَذَا قَالَ عِيَاض إِنَّ رُوَاة الْبُخَارِيّ لَمْ تَخْتَلِف فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ، وَالْمَعْنَى لَا أَحْمَدك عَلَى تَرْك شَيْء تَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ مَالِي ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر وَلَيْسَ عَلَى طُول الْحَيَاة تَنَدُّم أَيْ فَوْت طُول الْحَيَاة ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأَكْثَر رِوَايَات مُسْلِم " لَا أُجْهِدك " بِالْجِيمِ وَالْهَاء أَيْ لَا أَشُقّ عَلَيْك فِي رَدّ شَيْء تَطْلُبهُ مِنِّي أَوْ تَأْخُذهُ ، قَالَ عِيَاض : لَمْ يَتَّضِح هَذَا الْمَعْنَى لِبَعْضِ النَّاس فَقَالَ لَعَلَّهُ " لَا أَحُدّك " بِمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الدَّال بِغَيْرِ مِيم أَيْ لَا أَمْنَعك ، قَالَ : وَهَذَا تَكَلُّف اِنْتَهَى . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون قَوْله : " أُحَمِّدك " بِتَشْدِيدِ الْمِيم أَيْ لَا أَطْلُب مِنْك الْحَمْد ، مِنْ قَوْلهمْ فُلَان يَتَحَمَّد عَلَى فُلَان أَيْ يَمْتَنّ عَلَيْهِ ، أَيْ لَا أَمْتَنّ عَلَيْك .
قَوْله : ( فَإِنَّمَا اُبْتُلِيتُمْ )
أَيْ اُمْتُحِنْتُمْ .
قَوْله : ( فَقَدْ رَضِيَ عَنْك )
بِضَمِّ أَوَّله عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ فِي رَضِيَ وَسَخِطَ ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ مَا مُحَصَّله : كَانَ مِزَاج الْأَعْمَى أَصَحّ مِنْ مِزَاج رَفِيقَيْهِ ، لِأَنَّ الْبَرَص مَرَض يَحْصُل مِنْ فَسَاد الْمِزَاج وَخَلَل الطَّبِيعَة وَكَذَلِكَ الْقَرَع ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِم ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُون مِنْ أَمْر خَارِج فَلِهَذَا حَسُنَتْ طِبَاع الْأَعْمَى وَسَاءَتْ طِبَاع الْآخَرَيْنِ . وَفِي الْحَدِيث جَوَاز ذِكْر مَا اِتَّفَقَ لِمَنْ مَضَى لِيَتَّعِظ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَكُون ذَلِكَ غِيبَة فِيهِمْ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَرْك تَسْمِيَتهمْ ، وَلَمْ يُفْصِح بِمَا اِتَّفَقَ لَهُمْ بَعْد ذَلِكَ ، وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْأَمْر فِيهِمْ وَقَعَ كَمَا قَالَ الْمَلَك . وَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ كُفْرَان النِّعَم وَالتَّرْغِيب فِي شُكْرهَا وَالِاعْتِرَاف بِهَا وَحَمْد اللَّه عَلَيْهَا ، وَفِيهِ فَضْل الصَّدَقَة وَالْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَآرِبهمْ ، وَفِيهِ الزَّجْر عَنْ الْبُخْل ، لِأَنَّهُ حَمَلَ صَاحِبه عَلَى الْكَذِب ، وَعَلَى جَحْد نِعْمَة اللَّه تَعَالَى .
سبيل الدراسة السننية للحديث
من المعلوم بأن الحديث النبوي تطرق العلماء لدراسته من جانبين:
1- جانب علم الرواية ويتناول علم الرجال الذين نقلوا الحديث، وهو أمر انتهى منه السلف الصالح ولم يبق منه إلا مراجعة قواعدهم وضوابط تطبيقها.
2- جانب علم دراية الحديث ويتناول متن الحديث أي نصه ومضمونه، وهذا العلم من أغمض العلوم وأصعبها عند المحدثين.
وهو ما جاءت الدراسة السننية لتتبعه كشفا لأغواره وبيانا لثغراته، وتقعيدا ضوابطه كي لا يبق معرضا للأخذ والرد. وهنا تبدو جلية أهمية السنن الإلهية لدراسة الحديث.
وتعمد الدراسة السننية للحديث إلى نموذجين للدراسة :
1- عرض الحديث على القواعد الكبرى للسنن الإلهية؛
2- الدراسة المفصلة لكل سنة على حده.
ونقتصر في هذا العرض الأولي على دراسة الحديث وعرضه على القواعد الكلية للسنن الإلهية:
ما هي القواعد الكلية للسنن الإلهية؟[/color]
1- دراسة لدقة ألفاظ القصة لفظا لفظاً.
2- الدراسة الإجمالية للحديث على ضوء القواعد الكلية : وتشمل:
أ -. القواعد الكلية :
ب- من حيث الضوابط الكلية ؛
ج- من حيث خصائص السنن الإلهية :
أ -. القواعد الكلية : وتشتمل على الضوابط التالية:
اليسر
التخفيف
رفع الحرج
التدرج
النطهر
إتمام النعمة
إحقاق الحق
قطع دابر الكافرين
البيان التام
الهداية لسنن السابقين
التوبة
نصرة المستضعفين
العاقبة للمتقين
ب- من حيث الضوابط الكلية :
الربانية؛
الشمولية؛
الثبات؛
الاطراد؛
الأجل؛
مبدأ استمرارية الحياة؛
الواقعية.
ج- من حيث خصائص السنن الإلهية :
- مواصفات كلمات الله :
- الصدق
- العدل؛
- الثبات .
- علو كلمة الله.
مع السنن الإلهية في دراسة متن الحديث
رغم أن الحديث صحيح في عرف المحدثين فهل ينضبط بضوابط السنن الإلهية ؟
أ- تأتي السنن الإلهية عنوانا للقصة :
- قوله عز وجل:{ ... وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِين} المؤمنون : 30.
أو: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ...} محمد 38.
ب- تــفــاصــيــل الــقــصــة :
1- ما تنطوي عليه دلالة الألفاظ :
في القصة جزء محذوف تقديره : أنه كان في بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع " شاكرين الله "، إذ سنن الله تقتضي أن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ولما كانوا شاكرين ابتلاهم الله بالخير فتنة لهم ودليل ذلك قوله عز من قائل : {... أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ...}. الأنعام : 53.؟
فرد عليهم سبحانه وتعالى :
{... أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين} الأنعام : 53..
وتبدأ القصة بلفظ " بدا لله " والبداء لا يجوز في حقه تعالى بل كل شيء عنده بقدر ويرد القول بالبداء قوله تعالى :
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }[الأنعام : 96
ولا يمكن الكلام بالبداء في حق المولى جل وعلا ؛ إذ البداء يبدو لجاهل والله بكل شيء عليم. وقد يمس المطهرون اللوح المحفوظ، فما بالك بخالق اللوح والقلم ؟
ويرحم الله المحدثين الذين قعدوا بأنه عند اختلاف ألفاظ البخاري ومسلم، فإن ألفاظ مسلم أدق لكونه كان يكتب عند السماع بينما كان البخاري يعتمد الحفظ ثم يكتب.3
وفي رواية مسلم4: " إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم ...".
فالله جل جلاله يفعل في ملكه ما يشاء لكنه جل وعلا لا يخلف الميعاد، فهو يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، ومواصفاته جل جلاله لا تحول، ولا تزول، ورغم ذلك فهو كل يوم في شأن، وهكذا تنكشف صفة البداء لكونها من مواصفات الجاهل، والله عنده كل شيء بقدر. ونلاحظ هنا عدم استساغة الدراسة السننية للفظ البداء في حقه سبحانه وتعالى.
2- الـمَــلَــكُ للــنــفــر الــثــلاث :
إن القصة توحي أيضا بالحالة الربانية التي كان عليها النفر الثلاث، فقد كانوا ربانيين في تعاملهم قبل الابتلاء، ويكشف عن هذا السر، الملك الذي بعثه الله إليهم والرسول يكون من جنس المرسل إليهم بمقتضى حكمة الحكيم جل جلاله.
وضابط ذلك السنن الإلهية التالية :
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}الشورى : 51.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُون}الأنعام : 9.
وهكذا يأتي الحديث منضبطا بضوابط السنن الإلهية : ملك يأتي على صفة بشر ويكلم الناس، وما ذلك إلا لعظم قدرهم عند الله ومحبته لهم.
3- بــدء الابــتــلاء :
يأتي الملك للأبرص ويسأله عن أي شيء أحب إليه، فيجيب لون حسن وجلد حسن ويذهب الله عني الذي قد قذرني الناس، قال : فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، ثم سئل عن المال المحبوب لديه فقال : الإبل أو البقر( شكّاً من الراوي).
تأتي الملائكة البشر بأمر ربها، وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وضابط ذلك من السنن الإلهية :
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّك} مريم : 64..
{..لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}التحريم : 6.
أما شفاء الأبرص فكل ذلك بإذن الله فقد أذن الله في ذلك لسيدنا عيسى عليه السلام :
{... وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي...} المائدة : 110.
وأما الرزق الذي ساقه الله لكل من الثلاثة فهو منضبط بما قيل قبل من كونهم ربانيين في تعاملهم بدليل قوله تعالى : {... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الطلاق : 2-3.
4- الـمـرحـلـة الـثـانـيـة مـن الابـتـلاء :
خالطت بشاشة المال القلوب، وتقلبت أحوال العباد، واستدعت الظروف تذكير العباد بالأحوال وتقلباتها لعل القلوب تصغي، أو يقيم الله حجته على خلقه، ودليل ذلك من السنن الإلهية ما يلي :
{... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء : 15
وإن من العباد من تستقيم حالتهم مع الفقر، ومنهم من لا تستقيم إلا مع الغنى، ومنهم من هو خاضع لجلال الله في كل أحواله.
5- خـلاصــة دراسة الألفاظ :
انضبطت ألفاظ القصة بضابط السنن الإلهية في كل مراحلها اللهم إلا ما اتضح من مخالفة لفظ البداء في حقه جل وعلا. وهكذا نزداد يقينا على ما أصله المحدثون بأن ألفاظ مسلم في صحيحه أدق من ألفاظ البخاري رحمهم الله جميعا.
ج- عرض القصة على القواعد الكلية للسنن الإلهية
* - دراسة الحديث على هدي القواعد الكلية :
1- من حيث قاعدة اليسر :
تجلت سنة اليسر بضابط الآية :
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الليل : 5-7.
وعكسه انضبط بضابط الآية :
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[/} الليل : 8- 10.
تأكد لنا من خلال الحديث أن الأقرع والأعمى والأبرص لما اتقوا كانوا أهلا لتكريم الله ولما بخلا الأقرع والأبرص حصدا ما جنته يداهما فكانا أهلا للعسرى، بحيث رجعا إلى ما كانا فيه قبل التكريم.
والملاحظ تطابق القصة مع السنن الإلهية في هذه القاعدة، وتندرج تحت قوله تعالى :
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة : 185
2- من حيث قاعدة التخفيف :
ويتضح لنا من خلال سؤال الملك أنه لم يكن متعسفا في سؤاله ولم يطلب منهم المستحيل ، فمن كان له واديا من الإبل طلب له ناقة، ومن كان له واديا من البقر طلب له بقرة، ومن كان له واديا من الشياه طلب له شاة، وليس في الطلب إجحاف ولا حرج ولا مشقة.
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} التغابن : 16.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} النساء : 28.
تنساق ألفاظ الحديث مع مدلول هذه القاعدة ولا تتعارض معها بحال من الأحوال، بل هي أخف بكثير من ضوابط الزكاة عند المسلمين.
3- من حيث قاعدة رفع الحرج :
تجلى رفع الحرج في القصة حينما انكشف عن كل واحد منهم ما ألم به حتى استقذرهم الناس وذلك لما كانوا أهلا لتكريم الله باليسر ورفع الحرج.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} الحج : 78.
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} المائدة : 60.
ولما أضحى الأقرع والأبرص أهلا للعسر أرجعا إلى ما كانا فيه قبل رفع الحرج. فالشرع يريد رفع الحرج عنا وتأبى المخالفات الشرعية إلا الارتكاس والانتكاس والوقوع في المصائب.
4- من حيث قاعدة التدرج :
انضبطت القصة بضابط سنة التدرج فلم تأت بخيال ولا بما يناقض الواقع، حيث ينتقل كل واحد منهم من حالة إلى أخرى وفق ضوابط عوامل الصراع : أعطي الأعمى شاة حاملا وانتقل بها من فقر إلى غنى واسع، فاقتضى ذلك برهة زمنية حتى تنجب الشاة واديا من الشياه، وأدام الله عليه غناه بإنفاقه. بينما تحول الأقرع والأبرص من فقر إلى غنى واسع ومنه إلى الحالة الأولى : الفقر، كل ذلك عبر مراحل زمنية.
وهكذا تنضبط القصة بضوابط عوامل الصراع حيث تنتقل من النقيض إلى النقيض عبر مراحل زمنية إذا توفرت لها المؤثرات والعوامل المغيرة لواقعها.
5- من حيث قاعدة التطهير :
وتجلت هذه القاعدة بتطهير الله لهم مما أصابهم من أمراض ظاهرة حتى تستوي لديهم طهارة الحس ظاهرا وباطنا.
واستمر الحال على ذلك حتى رفض الأقرع والأبرص الطهارة الحسية بالإنفاق فجلب البخل قذارة الظاهر، كما جلبت طهارة الباطن طهارة الظاهر قبل ذلك، واستمر فضل الله على الأعمى لما استمرت طهارة باطنه.
{يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} المائدة : 6.
كما يقصد أيضا الحث على الزكاة والطهارة لكون وقاية الشح فلاحا :
{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} الأحزاب : 33.
6- من حيث قاعدة إتمام النعمة :
يتم الله نعمته على صنفين من الناس :
- الذين لا يخشون في الله لومة لائم.
- الشاكرين.
وتنضبط القصة بضابط إتمام النعمة لما كان كل منهم أهلا لذلك :
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} القمر : 35
فلما تنكر الأقرع والأبرص كانا أهلا لزوال النعم لما حل بهما عامل الكفر فانقلبا على عقبهما خاسرين.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال : 53
7- من حيث قاعدة إحقاق الحق :
قانون الله عدل مطلق لا حيف فيه ولا ظلم، وسننه مضت على نفس السبيل ؛ إذ لا تحابي أحدا سواء أكان نبيا رسولا، أو وليا موصولا، أو عبدا جهولا، فكل من خالف سنن الله كان جزاؤها له بالمرصاد.
فما غفر للأقرع والأبرص استكبارهما رغم ما كانا عليه من الاستقامة في السابق. وما جاء العقاب للجميع، بل من استحق شيئا حصل عليه :
{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} آل عمران : 117
8- من حيث قاعدة قطع دابر الكافرين :
غريب أمر هذا الإنسان، فكل الإنذارات المتتالية، والسنن المتعاقبة، والرسائل اليومية التي يتلقاها لم تكن كافية لتشده عن سبيل الغي والكفر والاستكبار.
{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار} الزمر : 8..
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ }الزمر : 49.
{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} البقرة : 211..
ووفقا لهذه السنن أصاب الأقرع والأبرص الفقر والمرض عقابا لهما على تكبرهما وبخلهما، بينما رفل الأعمى في النعيم بسبب إنفاقه وشكره لله جل جلاله الذي أعطى فأنعم، ومن أوفى بعهده من الله ؟
{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} آل عمران : 145؛
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ}القمر : 35؛
ولم يسع المتدبر والمتتبع لهذه القصة إلا متابعة سيدنا سليمان في قوله : {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيم} النمل : 40
9 – من حيث إقامة الحجة بالبيان الواضح :
قال الملك للأبرص : " رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ - بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ- بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ به فِي سَفَرِي ". ثم أضاف : " كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ ". إنه كلام بين واضح وحجة قائمة. كما قال نفس الشيء للأقرع والأعمى على خلاف في صفة كل منهما.
لقد اشتمل البيان على سؤال واضح من أجل الإنفاق في سبيل الله، ولم يقف هناك، بل منّ على كل من الأقرع والأبرص بعطاء الله لهما وشفائهما مما استقذرهما الناس به. إنها حجة الله كافية شافية واضحة بّينة لم تترك مزيدا لمستزيد.
10 – من حيث قاعدة الهداية لسنن السابقين :
والله جل جلاله متم نوره ولو كره الكافرون، فإرادته تجلت بقطع دابر الكافرين بقوله عز وجل :
{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}محمد : 38.
تحقق في الأقرع والأبرص جواب الشرط، وصارا إلى ما كانا عليه في الابتلاء من فقر وابتلاء بعد أن كشف الله الأذى ورزقهما رزقا واسعا. فجاء بخلهما وكذبهما وترفعهما ليرديهما فيما كانا فيه قبل النعيم. وصدق الله العظيم :
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ } غافر : 31
{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} آل عمران : 117
هكذا يتضح انقلاب الشيء إلى أصله، ومن الأصل إلى ضده ؛ لتوفر الدواعي والعوامل المؤثرة لذلك. وكل ما سبق من السنن فهي عبر وعظات تستخلص من هذه القصة ؛ إذ ليست هي أحداثا عابرة يطويها الزمان، بل تتجدد هذه الأحداث كلما توفرت العوامل والدواعي لذلك، من هنا جاء الحديث النبوي : " السعيد من اتعظ بغيره ".5
11- من حيث قاعدة التوبة :
إنما يبتلي الله العباد ليدعوهم إلى باب التوبة والإنابة :
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الروم : 41.
ويأبى الإنسان الظلوم الجهول إلا العناد وركب جموحه :
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} النساء : 27.
فالملك يذكرهم بنعم الله وبما كانوا عليه من فقر ومرض عساهم إلى رشدهم يؤوبون وإلى ربهم يتوبون، ويأبى الإنسان إلا الجحود والكذب كفرا بنعم الله ظنا منه أنها لا تزول ولا تحول.
12- من حيث قاعدة نصرة المستضعفين :
جعل الله لكل شيء قدرا وأبى المستكبرون إلا إهانة المستضعفين علوا في الأرض واستكبار، ووعد الله جل جلاله بنصرة المستضعفين بقوله :
{وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين } القصص : 5.
وهكذا يحكي كل واحد من الثلاثة أن الناس قد استقذروه بما ابتلاه الله به، ومنّ الله عليهم وأثابهم شفاء ورزقا عريضا، وكانوا من الوارثين لولا كفر وجحود كل من الأقرع والأبرص.
13- من حيث قاعدة العاقبة للمتقين :
أنعم الله على الثلاثة ورزقهم رزقا واسعا وأصلح حالهم، فلما كفر الأقرع والأبرص وادعيا بأن المال ورثاه كابرا عن كابر، أذلهم الله وأرجعهم إلى ما كانا عليه قبل فضله عليهم؛ بينما الأعمى الذي اتقى وصدق بالحسنى واستعد للإنفاق في سبيل الله، ولم يجحد فضل الله عليه، فكان بذلك شاكرا شكرا عمليا، أدام الله عليه نعمه وجعل العاقبة للمتقين.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}القصص : 83
- خلاصة دراسة الحديث على ضوء القواعد الكلية :
إنها قصة واحدة تجلت فيها إرادة الله في سننه بشموليتها إذ لم تتخلف إرادة من إراداته بالسنن الإلهية، ولم يكن أبدا باستطاع مخلوق تنسيق كل هذه الإرادات في حدث واحد فسبحان من أتقن كل شيء صنعا.
تأكد لنا في هذه الجولة عبر ألفاظ الحديث صحة مقاطعه مقطعا مقطعاً, ولفظة لفظة, رغم صحتها عند المحدثين فيزيدنا هذا الأسلوب مزيدا يقين ودراسة علمية لكل منعطفات القصة بكل جزئياتها .
ألم يصل بك الأمر أخي الكريم إلى أن تقسم بأن الحديث صحيح لا غبار عليه؟
وهل بقيت مرتبة اليقين على الحديث، على ما كانت عليه عند تصحيح المحدثين؟
فالحديث دققت كلماته كلمة، كلمة، ومعنى، معنى، ووافق كل السنن الإلهية ما يكون هذا إلا من المشكاة النبوة وفق ما جاء عن التشريع الرباني.
------------------------------------
هوامش:
1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، ج7/178-188.
2- الموافقات للشاطبي , ج . 4 / 31-32.
3- قال ابن حجر في نكته على ابن الصلاح ص : 62, أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته, فقد روينا عنه أنه قال : رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخرسان. فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق. فلله ذر ابن حجر على هذه العناية الدقيقة والفائقة حتى بظروف وملابسات الحديث والتي جاءت حلا للإشكال.
4- صحيح مسلم, كتاب الزهد, حديث حدثنا شيبان بن فروخ عن أبي هريرة.
5- المعجم الكبير 3/175، حديث 3038.